الاسس المنطقية للاستقراء
445

على المحور الحقيقي يؤدّي إلى خروج المحور المصطنع عن مجالها، إذ يصبح المحور المصطنع في قوّة أحد أطراف العلم الإجمالي نفسه، والمصادرة التي تفترض نشوء اليقين على أساس تجمّع الاحتمالات مختصّة بغير أطراف العلم الإجمالي نفسها كما تقدّم. وأمّا تطبيق المصادرة على المحور المصطنع فهو لا يؤدّي إلى خروج المحور الحقيقي عن مجالها وجعله في قوّة أحد أطراف العلم الإجمالي.

4- الاحتمال الإجمالي يحول دون تطبيق المصادرة:

ويوجد اعتراض رابع، يمكن أن نشرحه بالطريقة التالية:
إنّ المصادرة المفترضة للدليل الاستقرائي تفترض: أنّ تجمّع القيم الاحتمالية الكثيرة ضدّ محور محدّد يؤدّي إلى فناء قيمته الاحتمالية. ولنسلّم- مع المصادرة- بأنّ احتمال عدم سببيّة (أ) ل (ب) يمكن أن يفنى لضآلة قيمته نتيجة لتجمّع قيم احتمالية كثيرة ضدّ عدم السببيّة، ولكنّنا إذا جمعنا كلّ علاقات السببيّة التي تثبت بالدليل الاستقرائي في مختلف المجالات، ولاحظنا إمكانية أن تكون واحدة من هذه العلاقات على الأقلّ غير ثابتة في الواقع، نجد أنّ احتمال ذلك أكبر كثيراً من احتمال النفي في كلّ علاقة من تلك العلاقات السببيّة بالذات؛ لأنّ افتراض أنّ واحدة على الأقلّ من علاقات السببيّة غير ثابتة لا ينفيه أيّ واحد من التجمّعات العديدة في مجالات الاستقراء التي يستهدف كلّ واحد منها إثبات علاقة سببية معيّنة، وإنّما تنفيه قيم تلك التجمّعات بعد ضرب بعضها بالبعض الآخر، وهي عبارة اخرى عن قيمة احتمال أن لا تكون التاء قد وجدت باطراد لا في مجال هذا الاستقراء ولا في مجال ذاك ولا في مجال أيّ استقراء آخر، ونحن نعلم من نظرية الاحتمال: أنّ قيمة الاحتمال تتناقص بالضرب.

444

فإن كان يجعل عدم السببيّة ملازماً للوجود المطرد للتاء فسوف يكون تطبيق المصادرة على المحور الحقيقي وإفناء احتمال عدم السببيّة مؤدياً إلى إفناء الوجود المطرد للتاء، فيصبح التطبيق مستحيلًا؛ لأنّ العلم لا يفني إحدى القيم الاحتمالية المتساوية لأطرافه، وأمّا إذا كان اليقين بعدم اجتماع سببيّة (أ) ل (ب) مع الوجود المطرد للتاء عاجزاً عن جعل عدم السببيّة ملازماً للوجود المطرد للتاء فسوف لن يؤدّي تطبيق المصادرة على المحور الحقيقي إلى نفي العلم لأحد أطراف نفسه.
وهذا هو الصحيح، فإنّ اليقين بعدم اجتماع السببيّة مع التاء المطرد لا يجعلنا نعتقد بأنّ عدم السببيّة ملازم مساوٍ للتاء المطرد؛ لأنّ الاعتقاد بهذا معناه: الاعتقاد بقضية شرطية فحواها: إذا كانت التاء موجودة بصورة مطردة، ف (أ) ليس سبباً ل (ب)، واليقين بعدم اجتماع السببيّة مع اطراد التاء لا يتضمّن يقيناً بقضية شرطية من هذا القبيل؛ لأنّنا قد افترضنا أ نّه يقين استقرائي نشأ على أساس تجمّع الاحتمالات، وقد عرفنا سابقاً أنّ اليقين الاستقرائي بشي‏ء، القائم على هذا الأساس، لا يتضمّن العلم بذلك الشي‏ء على أيّ تقدير يفترض كذب بعض القيم الاحتمالية التي نشأ اليقين نتيجة لتجمّعها، ومن الواضح أنّ اليقين بعدم اجتماع السببيّة مع اطراد التاء نشأ من تراكم احتمالات عدم اطراد التاء وانضمام احتمال عدم السببيّة إليها، وهذا يعني: أنّ تقدير افتراض وجود التاء بصورة مطردة هو افتراض كذب الجزء الأكبر من تلك القيم الاحتمالية المتجمّعة.
والنتيجة التي نخرج بها من ذلك كلّه: أنّ المصادرة المفترضة يمكنها أن تفسّر اختصاصها بالمحور الحقيقي، على أساس أنّ المحور المصطنع لا يمكن أن ينافس المحور الحقيقي في تطبيق المصادرة عليه؛ لأنّ تطبيق المصادرة

443

كان المحوران يملكان درجة واحدة من التجمّع الإيجابي أو السلبي للقيم الاحتمالية، فلا بدّ إذن- لكي تتخلّص المصادرة من التناقض والتهافت- أن تختصّ بالمحور الحقيقي دون المحور المصطنع، وأن تكون قادرة على تفسير ذلك وتبرير هذا التمييز بين المحورين، وهذا ما نوضحه الآن:
إنّ (العلم الإجمالي 2) بقيَمه الاحتمالية التي يضمّها التجمّع في المحور الحقيقي- محور السببيّة سلباً وإيجاباً- يقتضي وفقاً للمصادرة المفترضة إيجاد اليقين بالسببيّة وفناء القيمة الاحتمالية لعدم السببيّة، فإذا حقّق هذا العلم ما يقتضيه فسوف تصبح السببيّة معلومة، وهذا يعني: أنّ احتمال الحادثة المركّبة من وجود التاء في جميع المرّات وعدم سببيّة (أ) ل (ب) غير موجود؛ لأنّ أحد الجزءين في هذه الحادثة قد علم ببطلانه، ويترتّب على ذلك أنّ الاحتمال الثابت فعلًا لوجود التاء في جميع المرّات إنّما هو احتمال وجود التاء في جميع المرّات المقترن بسببيّة (أ) ل (ب)، ويترتّب على هذا أنّ المحور المصطنع قد أصبح بنفسه أحد أطراف (العلم الإجمالي 2)، وفي مثل هذه الحالة لا تنطبق عليه المصادرة، لما تقدّم من أنّ المصادرة لا تنطبق على إفناء العلم الإجمالي لقيمة أحد أطرافه مهما كانت ضئيلة.
وهكذا نعرف أنّ تطبيق المصادرة على المحور الحقيقي يؤدّي إلى خروج المحور المصطنع عن مجالها، إذ يصبح أحد أطراف العلم الإجمالي نفسه. وأمّا إذا افترضنا تطبيق المصادرة المفترضة على المحور المصطنع فلا يؤدّي ذلك إلى خروج المحور الحقيقي عن مجالها؛ لأنّ تطبيق المصادرة المفترضة على المحور المصطنع يؤدّي إلى العلم بانتفاء الحادثة المركّبة من وجود التاء في جميع المرّات، وسببيّة (أ) ل (ب)، ومردّه إلى اليقين بأنّ سببيّة (أ) ل (ب) ووجود التاء بصورة مطردة لم يجتمعا، فهل هذا اليقين يجعل عدم السببيّة ملازماً لوجود التاء المطرد؟

442

ويمكننا أن نعبّر عن المحورين تعبيراً إيجابياً بدلًا من التعبير السلبي المتقدّم، فنفترض أنّ أحدهما: ثبوت السببيّة، وأنّ الآخر: ثبوت أحد أمرين: إمّا أنّ التاء قد عدم ولو مرّة واحدة على الأقلّ، وإمّا أنّ (أ) ليس سبباً ل (ب). وكلّ من هذين المحورين الإيجابيين يواجه تجمّعاً للقيم الاحتمالية لصالحه يساوي التجمّع الذي هو لصالح المحور الآخر، وكلا التجمّعين ينتميان إلى (العلم 2). فإذا افترض في (العلم 2) أ نّه يؤدّي إلى إيجاد اليقين بالمحور الأوّل دون الثاني فهو ترجيح بلا مبرّر، وإذا افترض فيه أ نّه يؤدّي إلى اليقين بكلا المحورين فهو يعني اليقين بأنّ التاء لم توجد في جميع المرّات، وبذلك يكون (العلم 2) قد أفنى قيمة أحد أطرافه.
وقد يتبادر إلى الذهن: الجواب على هذا الاعتراض في ضوء الشرط الثاني الذي وضعناه لتطبيق المصادرة، وهو أن يكون المحور حقيقياً لا مصطنعاً.
ففي هذا الاعتراض قوبل عدم السببيّة بمحور مصطنع وهو الحادثة المركّبة، وقوبلت السببيّة بمحور مصطنع وهو ثبوت أحد أمرين، كالمحور المصطنع الذي تحدّثنا عنه في مثال سقوط الحجر عند محاولة تثبيته على رأس عمود مدبّب.
بينما تتوقّف المصادرة على إيجاد محور حقيقي، وليس هو إلّاالسببيّة سلباً وإيجاباً.
ولكنّ الحقيقة أ نّنا- حينما ربطنا تطبيق المصادرة بمحور حقيقي بدلًا عن محور مصطنع- برهنّا على هذا الارتباط بأنّ تطبيق المصادرة على محاور مصطنعة يؤدّي إلى التناقض، والاعتراض الذي نواجهه فعلًا يحاول أن يبرهن على أنّ المحور الحقيقي كواحد من هذه المحاور المصطنعة، إذ يؤدّي تطبيق المصادرة على المحور الحقيقي والمحور المصطنع معاً إلى تناقض، ويؤدّي تطبيقها على المحور الحقيقي دون المحور المصطنع إلى ترجيح بلا مرجّح، بعد أن‏

441

تجمّع الاحتمالات ضدّ كلّ منهما، أحدهما عدم السببيّة، والمحور الآخر يعبّر عن حادثة مركّبة من سببيّة (أ) ل (ب) ووجود التاء في جميع المرّات، فإنّ هذه الحادثة المركّبة تواجه درجة من التجمّع في القيم الاحتمالية النافية لها تساوي تماماً درجة التجمّع التي يواجهها المحور الأوّل- أي عدم السببيّة-؛ لأنّ كلّ احتمالات عدم التاء تنفي هذه الحادثة المركّبة كماينفي عدم السببيّة، واحتمال وجود التاء في جميع المرّات حيادي تجاهها كما هو حيادي تجاه عدم السببيّة.
وعلى هذا الأساس يصبح من المستحيل فناء القيمة الاحتمالية للمحور الأوّل- أي عدم السببيّة- بسبب ضآلتها وتجمّع القيم الاحتمالية ضدّها؛ لأنّ هذا التجمّع إذا أدّى إلى إفناء القيمة الاحتمالية للمحور الأوّل دون المحور الثاني فظلّت الحادثة المركّبة محتملة فهو ترجيح بدون مرجّح، وتمييز بلا مبرّر بعد تساوي كلا المحورين في درجة التجمّع الذى يضادّه من القيم الاحتمالية ل (العلم الإجمالي 2)، فلا يمكن لهذا العلم أن ينفي إحدى القيمتين دون الاخرى، وإذا أدّى التجمّع إلى إفناء القيمة الاحتمالية لكلّ من المحورين فهذا أيضاً افتراض غير معقول؛ لأنّ معنى إفناء القيمة الاحتمالية للحادثة المركّبة: أ نّنا لا نحتمل السببيّة مع وجود التاء في جميع المرّات معاً، ومعنى إفناء القيمة الاحتمالية لعدم السببيّة: أ نّنا لا نحتمل عدم السببيّة فعلًا، ونتيجة ذلك: العلم بأنّ التاء لم يوجد في جميع المرّات؛ لأنّ وجوده في جميع المرّات إمّا أن يكون مع سببيّة (أ) ل (ب) أو مع عدم السببيّة، والأوّل غير محتمل بحكم فناء القيمة الاحتمالية للحادثة المركّبة، وكذلك الثاني بحكم فناء القيمة الاحتمالية لعدم السببيّة. وبذلك نصل إلى نتيجة غير معقولة للمصادرة الاستقرائية، إذ يكون (العلم الإجمالي 2) مفنياً للقيمة الاحتمالية لأحد أطرافه- أي لاحتمال وجود التاء في جميع المرّات- رأساً.

440

فاليقين الناشئ من تجمّع الاحتمالات في محور واحد لا يمكن أن يعيش إلّا مرتبطاً بتلك الاحتمالات، وأيّ افتراض لزوال بعض هذه الاحتمالات هو في نفس الوقت افتراض لزوال اليقين.

فاليقين بالسببيّة- بوصفه ناشئاً من تجمّع عدد كبير من القيم الاحتمالية لاحتمالات عدم وجود التاء- لا يمكن أن يتضمّن العلم بالسببيّة على تقدير افتراض أنّ تلك القيم الاحتمالية كانت كاذبة، وأنّ التاء كانت موجودة في جميع المرّات.

وهكذا نعرف: أنّ كلّ يقين استقرائي بوجود شي‏ء فعلًا، نتيجةً لتجمّع الاحتمالات، لا يمكن أن يستبطن العلم بوجود ذلك الشي‏ء على التقادير التي لا يكون ذلك التجمّع ثابتاً على أساسها؛ لأنّ أيّ تقدير يفقد فيه التجمّع بعض قيمه الاحتمالية، يفقد اليقين فيه مبرّر وجوده. فلا يمكن أن نبرهن على عدم اليقين الاستقرائي بالسببيّة فعلًا، عن طريق عدم اليقين بالسببيّة على تقدير افتراض وجود التاء في جميع التجارب الناجحة.

3- تطبيق مضادّ للمصادرة الاستقرائيّة:

وبالإمكان إبراز اعتراض ثالث على المصادرة ونشوء اليقين الاستقرائي بالسببيّة على أساسها.

وهذا الاعتراض هو محاولة للحصول على تطبيق مضادّ للمصادرة نفسها، وذلك عن طريق إبراز محورين سلبيّين‏[1] متساويين في القيمة الاحتمالية ودرجة

 

[1] المحور إيجابي تارة وسلبي اخرى. فالمحور الإيجابي هو: المحور الذي تتجمّع قيم احتمالية كثيرة لصالحه، والمحور السلبي: ما تجمّعت قيم احتمالية ضدّه.( المؤلّف قدس سره)

439

والخسوف-: أحدهما العلم بأ نّه إذا لم تكن (ت) موجودة في جميع المرّات فإنّ (أ) سبب ل (ب)، والآخر: العلم بأ نّه إذا كانت (ت) موجودة في جميع المرّات ف (أ) سبب ل (ب) أيضاً.
ومن الواضح أنّ العلم الثاني غير موجود فعلًا، بمعنى أ نّنا لا نعلم بسببيّة (أ) ل (ب) على تقدير افتراض أنّ (ت) كانت موجودة في جميع المرّات، ولهذا لو كنّا نلاحظ وجود (ت) فعلًا في جميع المرّات لما حصل لدينا يقين بسببيّة (أ) ل (ب) إطلاقاً، وهذا يعني: أنّ عدم السببيّة محتمل على تقدير افتراض أنّ (ت) موجودة في كلّ المرّات، وحيث أنّ هذا الافتراض محتمل فعلًا فيكون عدم السببيّة محتملًا فعلًا؛ لأنّ المحتمل على تقديرٍ محتملٍ يجب أن يكون محتملًا فعلًا، وتبطل المصادرة.
والجواب على هذا الاعتراض: أنّ اليقين بشي‏ء تارةً ينشأ من برهان على إثبات ذلك الشي‏ء، أو أيّ شي‏ء من قبيل البرهان، واخرى ينشأ من تجمّع القيم الاحتمالية وفقاً لمصادرة الدليل الاستقرائي.
فالنوع الأوّل من اليقين يجب أن يكون يقيناً ثابتاً بالشي‏ء، سواء كانت الحادثة الاخرى المشكوكة فعلًا ثابتة أم لا- وهذا معنى أ نّه يستبطن العلم بقضيّتين شرطيّتين- فلا يمكن أن يجتمع هذا اليقين بالشي‏ء مع احتمال عدمه على تقدير أن تكون الحادثة الاخرى المشكوكة ثابتة. لأنّ هذا يعني: احتمال عدمه فعلًا.
وأمّا النوع الثاني من اليقين الناشئ من تجمّع احتمالات كثيرة ثابتة فعلًا في محور واحد فهو ليس يقيناً ثابتاً بالشي‏ء حتّى على تقدير افتراض أنّ احتمالًا معيّناً أو أكثر من تلك الاحتمالات كاذب؛ لأنّ هذا التقدير يتضمّن زوال بعض تلك القيم الاحتمالية المتجمّعة في المحور والتي ساهمت في تكوين ذلك اليقين،

438

ونشكّ في شي‏ء آخر فعلًا، فبإمكاننا أن نؤكّد أنّ ما نعلمه ثابت، سواء كان الشي‏ء الآخر المشكوك ثابتاً أم لا. فمثلًا: إذا كنّا نعلم بأنّ المطر ينزل فعلًا، ونشكّ في خسوف القمر فعلًا، فيمكننا أن نؤكّد أنّ المطر ينزل فعلًا، سواءً كان القمر مخسوفاً الآن أم لا؛ لأنّ وجود المشكوك أو عدمه لا يزعزع من معلومنا، إذ لو كان للخسوف تأثير سلباً أو إيجاباً في نزول المطر لما أمكننا العلم بنزول المطر مع الشكّ فعلًا في الخسوف، وهذا يعني: أنّ علمنا فعلًا بنزول المطر يستبطن علمين بقضيّتين شرطيّتين: الأوّل العلم بأ نّه إذا كان القمر مخسوفاً فالمطر ينزل، والآخر العلم بأ نّه إذا لم يكن القمر مخسوفاً فالمطر ينزل أيضاً، ومردّ مجموع هاتين القضيّتين الشرطيّتين إلى قولنا المتقدّم: إنّ المطر ينزل سواء كان القمر مخسوفاً الآن أم لا. وإذا انتفى أيّ واحد من العلمين بالقضيّتين الشرطيّتين، فمن الضروري أن ينتفي العلم بنزول المطر؛ لأنّ معنى انتفاء العلم بإحدى القضيّتين الشرطيّتين:
أنّ عدم نزول المطر محتمل على تقدير أنّ خسوف القمر ثابت أو على تقدير أ نّه غير ثابت، وحيث أنّ هذا التقدير محتمل فعلًا فيكون عدم نزول المطر محتملًا فعلًا.
وعلى هذا الضوء إذا حلّلنا النتائج التي انتهينا إليها عند تطبيق المصادرة نجد أنّ هناك شيئاً معلوماً فعلًا بحكم هذه المصادرة، وهو سببيّة (أ) ل (ب)، وشيئاً مشكوكاً ومحتملًا فعلًا وهو وجود (ت) في جميع التجارب الناجحة؛ لأنّ احتمال وجود (ت) كذلك لا يمكن القضاء عليه بسبب (العلم 2) مهما كانت قيمته ضئيلة؛ لأنّه أحد أطراف هذا العلم.
ولو كانت هذه النتائج صحيحة، وكنّا على يقين حقّاً من سببيّة (أ) ل (ب) مع الشكّ فعلًا في وجود (ت) في جميع التجارب الناجحة، لكان من الضروري أن يستبطن علمنا بالسببيّة علماً بقضيّتين شرطيّتين- كما لاحظنا في مثال المطر

437

وهذا الاعتراض يقوم على أساس قاعدة الضرب- التي يمثّلها مبدأ الاحتمال العكسي-، ولا موضع له على أساس الحكومة تطبيقاً للبديهية الإضافية الثالثة، فإنّ الحكومة تعني: أنّ (العلم 2) وحده هو الأساس للقيم المتجمّعة التي تنفي احتمال نفي سببيّة (أ) ل (ب)، وليس نفي هذه السببيّة طرفاً من أطرافه.
وأمّا الجواب على الاعتراض، إذا افترضنا الضرب بدلًا عن الحكومة، فهو: أنّ تكوّن العلم الثالث نتيجةً لضرب عدد أطراف (العلم 1) بعدد أطراف (العلم 2) يتوقّف على أن يكون كلّ من (العلمين: 1 و 2) محتفظاً بعدد أطرافه الأصلية، ففي هذه الحالة ينتج الضرب مجموعة من الحالات المحتملة التي تشكّل أطرافاً للعلم الثالث، ويكون نفي السببيّة عندئذٍ متضمّناً في إحدى تلك الحالات، ولكنّ المصادرة التي افترضناها للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي تفترض:
أنّ القيم الاحتمالية المتجمّعة في (العلم 2) ضدّ احتمال عدم سببيّة (أ) ل (ب)، قد أدّت إلى إفناء القيمة الاحتمالية لعدم السببيّة، فلم يعد (العلم 1) محتفظاً بكلا طرفيه، لكي يضرب كلا الطرفين في عدد أطراف (العلم 2)، وينشأ العلم الإجمالي الثالث.

2- محاولة الاستدلال على نفي العلم بالسببيّة:

وقد يثار اعتراض آخر ضدّ اليقين بالسببيّة الذي افترضنا أ نّه ينشأ بسبب تجمّع الاحتمالات، وفقاً للمصادرة المفترضة للدليل الاستقرائي في مرحلته الثانية.
وهذا الاعتراض محاولة للبرهنة على كذب هذه المصادرة المفترضة، وعدم حصول اليقين بالسببيّة عن طريق تجمّع الاحتمالات.
ولتوضيح هذه المحاولة يجب أن نلاحظ: أ نّا كلّما كنّا نعلم بشي‏ء فعلا