الاسس المنطقية للاستقراء
463
اعتراض وجواب:

وقد يثار اعتراض ضدّ الشكل الثاني لتطبيق المصادرة الاستقرائية بصورة عامّة، وهو أنّ (العلم الإجمالي 2)، حين يتدخّل في تغيير القيم الاحتمالية في (العلم الإجمالي 1) وبالتالي تزول أصغر تلك القيم الاحتمالية تطبيقاً للمصادرة المفترضة، يؤدّي ذلك إلى زوال القيمة الاحتمالية لأحد أطراف (العلم الإجمالي 2) أيضاً.
فمثلًا إذا زال احتمال ظهور وجه الكتابة في ألف مرّة متتالية فهذا يعني: أنّ (العلم الإجمالي 2) سوف يفقد طرفاً من أطرافه أيضاً، وهو افتراض أن يكون بين حالات رمي القطعة النقدية جزء مشترك، وأن يكون هذا الجزء هو العامل الذي يتحكّم في تحديد الوجه، دون الأجزاء الاخرى المتغيّرة من حالة إلى اخرى.
لأنّ هذا الافتراض يستلزم ظهور وجه الكتابة في جميع المرّات، فإذا فنى احتمال ظهور وجه الكتابة في الجميع فلا بدّ أن يواجه ذلك الافتراض نفس المصير. وبهذا نصل إلى تناقض في تطبيق المصادرة؛ لأنّ (العلم الإجمالي 2) قد أصبح نافياً لإحدى قيمه الاحتمالية، وقيمه الاحتمالية كلّها متساوية؛ لأنّ القيم الاحتمالية لكلّ علم متساوية ما لم يتدخّل علم آخر في تغييرها، ونواجه عندئذٍ أحد أمرين:
فإمّا أن يفني (العلم الإجمالي 2) قيمة واحدة من قيمه المتساوية دون الباقي، فهو ترجيح بلا مرجّح. وإمّا أن يفني كلّ قيمه، فهو إفناء العلم لنفسه.
ويستهدف هذا الاعتراض أن يوجّه ضدّ الشكل الثاني لتطبيق المصادرة نفس الحجّة التي أقمناها ضدّ الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة في حالة كون القيمة الاحتمالية المراد إفناؤها ملازمة لأحد أطراف (العلم الإجمالي 2)، فكما لا يمكن هناك ل (العلم الإجمالي 2) إفناء تلك القيمة مهما كانت ضئيلة لأنّه يؤدّي إلى‏

462

من المجموع الكلّي طرفاً له، فإن طبّقت المصادرة على كلّ المجموعات الألفية أدّى إلى إفناء هذا الاحتمال مع أ نّه احتمال كبير نسبياً فلا يمكن إفناؤه على أساس المصادرة الاستقرائية، وإن طبّقت المصادرة على بعض المجموعات دون بعض، حفاظاً على هذا الاحتمال الإجمالي، فهو ترجيح بلا مرجّح.
ويجب أن نشير بهذا الصدد إلى أنّ هذا الاحتمال الإجمالي لا يشبه الاحتمال الإجمالي الذي اثير- في الاعتراض الرابع- ضدّ الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة، وهو احتمال أن تكون واحدة على الأقلّ من علاقات السببيّة غير ثابتة؛ لأنّ ذلك الاحتمال كان نتيجةً لجمع احتمالات النفي في علاقات السببيّة المتعدّدة، إذ لم يكن يوجد مبرّر مباشر لإيجاد الاحتمال الإجمالي، ولهذا كان من الطبيعي أن يزول ذلك الاحتمال الإجمالي بإفناء الاحتمالات التي أنتجته. وأمّا هنا فالاحتمال الذي يمكن أن نجعله بديلًا ل (العلم الإجمالي 3) ليس نتيجة جمع لاحتمالات الكذب في المجموعات الألفية المتعدّدة، بل يوجد مبرّر مباشر له، وهو استقراء نسبة الكذب إلى الصدق في الأخبار، فإنّ الاستقراء قد يبرهن- بدرجة معقولة من الاحتمال- على نسبةٍ محدّدة تؤدّي إلى احتمال وجود ألف خبرٍ كاذب في كلّ ثلاثة آلاف، أو في كلّ مئة ألف خبر مثلًا، وكلّما كان الاحتمال الإجمالي موجوداً على أساس مبرّرٍ مباشر له، وكان يتمتّع بقيمة غير ضئيلة، فلا يمكن إفناؤه عن طريق إفناء الاحتمالات الصغيرة التي يضمّها.
ولئن كانت الطريقة الاولى لتدخّل (العلم الإجمالي 2) غير كافية لإيجاد جوٍّ غير متناقض لتطبيق المصادرة الاستقرائية فإنّ الطريقة الثانية كافية لذلك، إذ لا يوجد في مجالها ما يوازي (العلم الإجمالي 3)، أو الاحتمال الإجمالي البديل له.

461

العلم، واحتمال أن تكون أيّ مجموعة ألفية من الأخبار كاذبة، مساوٍ لاحتمال أن تكون أيّ مجموعة ألفية اخرى كاذبة، حيث نتكلّم في مجموع كلّي تتساوى كلّ الأخبار فيه في درجة الصدق المحتملة.
وعلى هذا الأساس إذا افترضنا أ نّا اخترنا عشوائياً ألف خبر من المجموع الكلّي، واستطعنا- عن طريق تدخّل (العلم الإجمالي 2) في تحديد قيم (العلم الإجمالي 1)- أن نجعل من احتمال كذب الجميع أضعف احتمالٍ في المجموعة، فهذا كلّه لا يبرّر تطبيق المصادرة وحصول اليقين ضدّ هذا الاحتمال؛ لأنّ الشي‏ء نفسه موجود في أيّ ألف نختارها عشوائياً من المجموع الكلّي للأخبار، فإن طبّقنا المصادرة على الألف الاولى دون المجموعات الألفية الاخرى فهو ترجيح بلا مرجّح، وإذا طبّقنا المصادرة على كلّ تلك المجموعات فسوف يصطدم ذلك بالعلم الإجمالي بوجود ألف أخبار كاذبة؛ لأنّنا إذا كنّا كلّما جمعنا ألف خبر أمكننا أن نؤكّد أ نّها ليست جميعاً كاذبة فأين الأخبار الألف التي نعلم بأ نّها كاذبة ضمن المجموع الكلّي؟
وهكذا نجد أنّ تطبيق المصادرة الاستقرائية المفترضة على أساس الطريقة الاولى من تدخّل (العلم الإجمالي 2) غير ممكن؛ لأنّه يصطدم ب (العلم الإجمالي 3)، ويؤدّي إمّا إلى الترجيح بلا مرجّح، أو إلى إفناء كلّ قيم (العلم الإجمالي 3)، وكلا الأمرين مستحيل.
ويمكننا أن نستبدل (العلم الإجمالي 3) بدرجة كبيرة من الاحتمال نسبياً، ونصل إلى نفس النتيجة، بأن نفترض أ نّنا لا نعلم بوجود ألف خبر كاذب في المجموع الكلّي، ولكنّنا نحتمل ذلك بدرجة معقولة من الاحتمال، فإنّ هذا الاحتمال بنفسه يعتبر احتمالًا إجمالياً، وتعتبر كلّ مجموعة ألفية مختارة عشوائيا

460

يستوعب كلّ احتمالات صدق وكذب هذه المجموعة من الأخبار. وفي حدود هذا العلم يكون احتمال كذب جميع تلك الأخبار مساوياً لأيّ احتمال آخر من احتمالات الصدق والكذب. ولكن يوجد إلى جانب ذلك (العلم الإجمالي 2)، وهو العلم الذي يعالج كلّ الاحتمالات الممكنة على مستوى دوافع الصدق والكذب.
وعدد الأطراف في هذا العلم أكثر من عدد الأطراف في العلم الأوّل؛ لأنّ كلّ واقعة محتملة في مجموعة (العلم 1) تقابلها ثلاث وقائع محتملة في مجموعة (العلم 2)، على أساس أنّ كلّ خبر يمكن أن يفترض له أحد دوافع ثلاثة، وسوف يواجه احتمال توفّر دافع الكذب من بين الدوافع الثلاثة بالنسبة إلى كلّ خبر من الألف، قيماً احتمالية مضادّة أكبر من القيم الاحتمالية المضادّة التي كان احتمال كذب تلك الأخبار جميعاً يواجهها في نطاق (العلم الإجمالي 1)، وبهذا يصبح احتمال كذب الجميع الذي يستبطن توفّر دافع الكذب من بين الدوافع الثلاثة بالنسبة إلى كلّ خبر، أضعف الاحتمالات التي يضمّها (العلم الإجمالي 1)، وأصغرها قيمة.
وهذا كلّه صحيح على ضوء ما شرحناه آنفاً، ولكن هذا لا يؤدّي إلى إمكان تطبيق المصادرة الاستقرائية، وافتراض فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة لاحتمال كذب الجميع، ونشوء اليقين بأنّ بعضها- على الأقلّ- صادق، رغم أنّ تطبيق المصادرة لا يصطدم بتناقض من ناحية (العلم الإجمالي 1)، ما دام الاحتمال الذي يراد إفناؤه قد أصبح أضعف من أيّ احتمال آخر في مجموعة ذلك العلم. ولكنّه يصطدم بعلم آخر: فنحن نعلم عادة بوجود ألف خبر كاذب في المجموع الكلّي للأخبار- ونعبّر عن هذا ب (العلم الإجمالي 3)-. وهذا علم إجمالي يعتبر كلّ مجموعة تبلغ ألفاً من الأخبار مجهولة الصدق والكذب طرفاً من أطراف ذلك‏

459

الاحتمالات، وذلك فيما إذا افترضنا أنّ تلك الحوادث متماثلة تماثلًا حقيقياً، فبقاعدة عدم التماثل يصبح احتمال تكرّر الحوادث المتماثلة في جميع المرّات ضعيفاً جدّاً، وإذا زالت المساواة بين القيم الاحتمالية التي يضمّها (العلم الإجمالي 1)، أمكن ل (العلم الإجمالي 1) أن يتّخذ من أضعف تلك القيم مركزاً لتجمّع احتمالي مضادّ يؤدّي إلى إفناء تلك القيمة الاحتمالية الضعيفة، وفقاً للمصادرة الاستقرائية المفترضة.
وكلتا الطريقتين لتدخّل (العلم الإجمالي 2) في تحديد القيم الاحتمالية التي يضمّها (العلم الإجمالي 1) تؤدّيان إلى إمكان تطبيق المصادرة، بدون أن نواجه تناقضاً من ناحية (العلم الإجمالي 1)، فإنّ إفناء (العلم الإجمالي 1) لقيمة الطرف الذي أصبح أقلّ احتمالًا من سائر الأطراف لا يعني إفناءه لنفسه؛ لأنّ الإفناء يختصّ بتلك القيمة دون غيرها من قيم أطرافه، ولا يعني الترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ المرجّح موجود وهو ضآلة القيمة التي يراد إفناؤها، وكونها أصغر من سائر القيم الاخرى.

الطريقة الاولى للتدخّل لا تكفي لتطبيق المصادرة:

ولكن الطريقة الاولى لتدخّل (العلم الإجمالي 2) غير كافية- مع ذلك- لتطبيق المصادرة الاستقرائية المفترضة بصورة معقولة، ويمكننا أن نوضح ذلك في المثال التالي:
نفترض أنّ دوافع الصدق في الحالة الاعتيادية ضعف دوافع الكذب، وهذا يعني: أنّ الإخبارات- عادة- تشتمل على الصدق بنسبة 3/ 2، وعلى الكذب بنسبة 3/ 1.
فإذا جمعنا عشوائياً: ألف خبر، فسوف نشكّل (العلم الإجمالي 1) الذي‏

458

ومجموعة الحالات التي تكتنف في اللحظة نفسها شخصاً آخر أكثر من التوافقات.
وعلى هذا الأساس يبدو من الغريب أن يصاب العشرة في وقت واحد بالصداع، رغم التباينات الكثيرة وضآلة القاسم المشترك بين حالات كلّ واحد منهم وحالات الآخرين. ولكن أقلّ من ذلك غرابة أن يصاب أحدهم بالصداع في شهر، ويصاب آخر به في الشهر الثاني … وهكذا؛ لأنّ مجموعة الحالات التي تكتنف كلّ شخص لمّا كانت في حركة وتغيّر، فليس من البعيد أن يمرّ أحد المدعوّين في شهر بحالات معيّنة تؤدّي به إلى الصداع، ولا تكون هذه الحالات موجودةً في تلك اللحظة بالنسبة إلى شخص آخر من المدعوّين، ولكنّه يمرّ بنفس تلك الحالات في الشهر الثاني، بحكم الحركية والتغيّر في مجموعة الحالات التي تكتنف أيّ إنسان.

تلخيص:

تلخّص ممّا سبق: أنّ الشكل الثاني لتطبيق المصادرة الاستقرائية يفترض وجود علمين، ف (العلم الإجمالي 1) يضمّ كلّ احتمالات الوجود والعدم بالنسبة إلى مجموعة محدّدة من الحوادث. وهذه الاحتمالات كلّها متساوية بالنسبة إلى هذا العلم الإجمالي. غير أنّ (العلم الإجمالي 2) يتدخّل في تغيير قيم هذه الاحتمالات بإحدى طريقتين:
الاولى: أن يجعل احتمال عدم وجود أيّ حادثة من تلك المجموعة أضعف من أيّ احتمال آخر من الاحتمالات التي يضمّها (العلم الإجمالي 1)، وذلك فيما إذا افترضنا أنّ كلّ حادثة في تلك المجموعة محتملة بدرجة أكبر من احتمال عدمها.
الثانية: أن يجعل احتمال وجود تلك الحوادث جميعاً أضعف‏

457

لا يفترض وحدة السبب.
وثانياً: أنّ قاعدة عدم التماثل تضعّف قيمة احتمال تكرّر الصدفة بصورة متماثلة إذا كان التماثل حقيقياً- كما عرفنا-، وكلّما كان التماثل بين الصدف المفترضة في هذا الاحتمال أوسع وأعمق، كانت فاعلية قاعدة عدم التماثل في تضعيف قيمة هذا الاحتمال أكبر وأقوى.
فإذا قيل لنا: إنّ زيداً سافر خلال عشرة أشهر عشر مرّات، وفي كلّ سفرة منيت السيّارة التي كان راكباً فيها بحادثة اصطدام، كان ذلك غريباً. ولكن إذا قيل لنا: إنّه سافر في شهر واحد عشر مرّات ووقعت له حادثة اصطدام في كلّ مرّة، فسوف يبدو ذلك أغرب.
وإذا قيل لنا: إنّ زيداً أقام مأدبة لعشرة من أصدقائه، فاتّفق صدفةً أن اصيبوا جميعاً بالصداع فلم يحضروا، كان ذلك أغرب بكثير من أن يقال لنا: إنّ زيداً أقام خلال عشرة أشهر عشر مأدبات دعا إليها أصدقاءه العشرة، فتخلّف عن الدعوة في المأدبة الاولى فلان، وتخلّف في المأدبة الثانية فلان … وهكذا، وكان سبب التخلّف في كلّ مرّة الصداع. فنحن في كلتا الحالتين نواجه صدفاً متماثلة ولكنّها في الحالة الاولى أشدّ تماثلًا، على أساس أ نّها وقعت جميعاً في زمان واحد.
وهذا يعني: أ نّه كلّما كان التماثل الحقيقي بين الصدف المتماثلة أشدّ كان احتمال وجودها جميعاً أضعف.
والسبب في ذلك أنّ مجموعة الحالات التي تكتنف كلّ واحدٍ من المدعوّين العشرة ليست ثابتة، بل هي في حالة حركة وتغيّر، وفقاً لما يتجدّد في حياة كلّ واحدٍ منهم من عوامل مادّية ونفسية، وعلاقات متنوّعة ونشاطات مختلفة. كما أنّ التباينات بين مجموعة الحالات التي تكتنف في لحظة معيّنة هذا الشخص‏

456

وأمّا التماثل المصطنع فأقصد به: التماثل الذي لا يفرض وجود سبب مشترك. فإذا افترضنا- مثلًا- أ نّنا كنّا نلقي قطعة النقد، وكان هناك شخص يتنبّأ اعتباطاً في كلّ مرّة بالوجه الذي سيظهر، فقال عن الرمية الاولى: إنّ الكتابة سوف تظهر، وقال عن الرمية الثانية: إنّ الصوره سوف تظهر، ونفس الشي‏ء قاله عن الثالثة والرابعة … وهكذا إلى العاشرة.
ففي هذه الحالة يوجد تماثل بين ظهور وجه الكتابة في المرّة الاولى، وظهور وجه الصورة في المرّة الثانية، وظهور وجه الكتابة في المرّة الثالثة، وظهور وجه الصورة في المرّة الرابعة … وهكذا؛ لأنّ هذه الفروض كلّها متماثلة في كونها محقّقة لنبوءة ذلك الشخص، إلّاأنّ هذا تماثل مصطنع، فهو لا يفرض أن يكون السبب الذي أدّى إلى ظهور وجه الكتابة في المرّة الاولى هو بنفسه يؤدّي إلى ظهور وجه الصورة في المرّة الثانية. وعلى هذا الأساس لا يكون احتمال صدق نبوءة ذلك الشخص صدفةً في جميع المرّات، أضعف من أيّ احتمالٍ آخر من احتمالات كذبه. فكما أ نّنا لو لم نواجه نبوءة من هذا القبيل للاحظنا أنّ احتمال ظهور وجه الكتابة في الاولى والثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة، وظهور وجه الصورة في الباقي، يساوي احتمال ظهور وجه الكتابة في المرّات الخمس الاولى وظهور وجه الصورة في الباقي، كذلك نلاحظ فعلًا بعد النبوءة:
تساوي الاحتمالين، دون أن تكون النبوءة نفسها- بسبب ما تخلق من تماثل مصطنع- سبباً لهبوط قيمة الاحتمال الأوّل عن قيمة الاحتمال الثاني.
وسبب الفرق بين التماثل الحقيقي والتماثل المصطنع: أنّ افتراض تكرّر الصدفة بصورة متماثلة تماثلًا مصطنعاً لا يعني: افتراض أن يكون السبب في كلّ مرّة هو ذلك الجزء المشترك من الظروف والملابسات، بل قد يكون السبب ثابتاً في نطاق التباينات المعلومة بين الحالات المتتالية؛ لأنّ التماثل المصطنع‏

455

الثانية، وعن طريقه وصلنا إلى العلم بتلك القضية الاستقرائية. ولكن ليس من الضروري لتفسير اختلاف قيم أطراف (العلم الإجمالي 1) أن نفترض الإثبات الاستقرائي لتلك القضية على مستوى اليقين، بل يكفي أن تكون ثابتة باحتمال استقرائي كبير وفقاً للمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي، فإنّ هذا يعني:
أنّ افتراض تأثير التباينات والجوانب المتحرّكة في الحادثة يستلزم- بدرجة ذلك الاحتمال الاستقرائي الكبير- عدم تكرّر الحادثة على نهج واحد في كلّ المرّات، وهذا يكفي لكي يجعل احتمال هذا التكرّر أضعف من احتمال أيّ حالة اخرى من الحالات التي يشملها (العلم الإجمالي 1).
وباكتشاف حقيقة المبدأ الأرسطي وارتكازه على أساس تجمّع الاحتمالات، نستطيع أن نفسّر عدّة نقاط غامضة في طريقة تطبيق هذا المبدأ، لم يكن من السهل تفسيرها بدون اكتشاف المحتوى الحقيقي لهذا المبدأ.
فأوّلًا: أنّ هذا المبدأ- أو بالأحرى: أنّ قاعدة عدم التماثل- إنّما تجعل احتمال تكرّر الصدفة بصورة متماثلة أبعد من أيّ احتمالٍ آخر، فيما إذا كان التماثل المفترض في هذا الاحتمال تماثلًا حقيقياً لا تماثلًا مصطنعاً.
وأقصد بالتماثل الحقيقي: ذلك التماثل الذي يكشف عن سبب واحد مشترك، فحينما يظهر وجه الكتابة في المرّة الاولى وفي المرّة الثانية معاً يعتبر هذا تماثلًا حقيقياً؛ لأنّه يكشف عن أنّ السبب الذي أدّى إلى ظهور وجه الكتابة في المرّة الاولى أدّى- أيضاً- إلى ظهوره في المرّة الثانية، وهذا يعني أنّ السبب لظهور وجه الكتابة في المرّة الاولى هو ذلك الجزء المشترك من الظروف والملابسات بين المرّة الاولى والمرّة الثانية، ولمّا كانت الأجزاء غير المشتركة أكثر جدّاً فسوف يكون احتمال سببية الجزء المشترك وبالتالي تكرّر ظهور الكتابة في كلّ مرّة، أضعف من سائر الاحتمالات‏.