الاسس المنطقية للاستقراء
481

وبديهيّاتها المتقدّمة.
وعلى أساس ذلك تكون القضية التجريبية مستنتجة من مجموعة من القضايا مؤلّفة من ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل: القضايا الجزئية التي تكوّن منها الاستقراء لصالح القضية التجريبية.
الصنف الثاني: المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية، فإنّ هذه المصادرات هي التي تجعل كلّ واحدة من قضايا الصنف الأوّل عاملًا من عوامل إثبات كامل مدلول القضية التجريبية، وقد عرفنا سابقاً أنّ الحدّ الأدنى من هذه المصادرات يكفي فيه الاحتمال القبلي للسببية بمفهومها العقلي.
الصنف الثالث: المصادرات التي تحتاجها نظرية الاحتمال بصورة عامّة، لكي تكون قادرة على تحديد درجات التصديق الاحتمالي، أي بديهيات نظرية الاحتمال.
وتتميّز القضية التجريبية عن القضايا النظرية الثانوية- رغم أ نّها جميعاً مستدلّة- بأنّ الاستدلال في القضية التجريبية احتمالي، فهي دائماً مستنتجة بدرجة أقلّ من اليقين، فأيّ درجة من التصديق بالقضية التجريبية أقلّ من اليقين، بالإمكان أن تكون مستنتجة. وأمّا درجة اليقين فهي ليست مستنتجة، كما عرفنا في دراستنا للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي.
وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعتبر القضية التجريبية ثانوية ومستدلّة- وفقاً للمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي- ما دمنا نتكلّم عن درجة من التصديق أقلّ من اليقين. وأمّا اليقين بالقضية التجريبية فهو ليس مستدلًا ولا مستنتجاً استدلالًا واستنتاجاً منطقياً من تصديقات سابقة، وإنّما هو وليد

480

وبصدد توضيح ذلك يجب أن نميّز- بصورة أساسية- بين تصوّرين للعلاقة بين القضية التجريبية- كالقضية القائلة: «كلّ حديد يتمدّد بالحرارة»- والقضايا الجزئية المحسوسة التي تكوّن منها الاستقراء- كالقضايا القائلة: «هذا الحديد تمدّد بالحرارة» و «هذا الحديد تمدّد بالحرارة» و «ذلك الحديد تمدّد بالحرارة»-:
التصوّر الأوّل: أنّ كلّ قضية من القضايا الجزئية المحسوسة المكوّنة للاستقراء تثبت جزءاً من مدلول القضية التجريبية؛ لأنّها تتناول حالة واحدة من الحالات الكثيرة التي تستوعبها القضية التجريبية. ولمّا كانت القضية التجريبية تشتمل على أجزاء اخرى- علاوة على الأجزاء التي تثبتها تلك القضايا الجزئية- فلا يمكن أن تعتبر القضية التجريبية مستنتجة من تلك القضايا الجزئية؛ لأنّ جزءاً من مدلولها لا يمكن استنتاجه منها.
وهذا التصوّر هو الذي ينسجم مع الموقف البدائي للمنطق الأرسطي من القضية التجريبية، إذ يعتبرها قضية أوّلية.
التصوّر الثاني- وهو الأصوب- أنّ كلّ قضية من القضايا الجزئية المكوّنة للاستقراء تثبت كامل مدلول القضية التجريبية، لا جزءاً منه فحسب، ولكن إثباتها لكامل مدلول القضية التجريبية إثبات ناقص. فهناك إذن- على أساس هذا التصوّر- أدلّة على كامل مدلول القضية التجريبية بعدد القضايا الجزئية التي يشتمل عليها الاستقراء، غير أ نّها أدلّة احتمالية. وبهذا تكون القضية التجريبية بكامل مدلولها قضية مستنتجة ومستدلّة كأيّ قضية نظرية ثانوية، والأدلّة بعدد تلك القضايا المحسوسة التي كوّنت الاستقراء. وقوّة الإثبات لكلّ واحدة من تلك القضايا تتوقّف على افتراض مصادرات المرحلة الاولى- المرحلة الاستنباطية- من الدليل الاستقرائي، ودرجة الإثبات تتحدّد وفقاً لماتفرضه نظرية الاحتمال‏

479

خطّ طويل.
وهكذا تصبح القضية الأوّلية الأصيلة هي القضية القائلة: «إنّ الصدفة النسبية لا تتكرّر باستمرار» بدلًا عن القضية القائلة: «إنّ الحديد يتمدّد بالحرارة». وتتحوّل كلّ القضايا التجريبية إلى قضايا ثانوية مستدلّة ومستنتجة.
فهناك- إذن- موقفان للمنطق الأرسطي: موقف بدائي يعتبر القضية التجريبية قضية أوّلية، وموقف معمّق يعتبرها مستدلّة ومستنتجة من القضية القائلة: «إنّ الاتفاق لا يكون دائمياً».
أمّا الموقف المعمّق للمنطق الأرسطي، فقد درسناه في القسم الأوّل من هذا الكتاب، وبرهنّا هناك على أنّ القضية التي حسبها المنطق الأرسطي قضيّةً أوّليةً وأساساً منطقياً للقضايا التجريبية، ليست في الحقيقة قضيّة أوّلية مستقلّة عن التجربة، بل هي بدورها قضية تجريبية، وما دامت قضية تجريبية فلا يمكن أن تشكّل الأساس المنطقي للقضايا التجريبية ككلّ.
وهذا لا ينافي أن تكون هذه القضية أساساً منطقياً لقضايا تجريبية في مراحل متأخّرة من الفكر التجريبي، بمعنى أ نّنا إذا توصّلنا بالتجربة إلى التصديق بالقضية القائلة: «إنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر باستمرار» أمكننا أن نجعل منها قاعدة نرتكز عليها في استنباط قضايا تجريبية اخرى. ولكنّا حينما نأخذ القضايا التجريبية ككلّ، لا يمكن أن نجعل من تلك القضية الأساس الاستدلالي لها جميعاً، بعد أن ثبت أ نّها ليست إلّاواحدة من تلك القضايا التجريبية. فالموقف المعمّق للمنطق الأرسطي خاطئ.
وأمّا الموقف البدائي للمنطق الأرسطي- الذي يعتبر القضية التجريبية أوّلية ويرفض كونها مستدلّة ومستنتجة من القضايا المحسوسة التي تكوَّن منها الاستقراء لصالح تلك القضية التجريبية- فهو موقف خاطئ أيضاً.

478

تفسير القضية التجريبيّة والحدسيّة

القضيّة التجريبيّة:

رأينا أنّ المنطق الأرسطي يعتبر القضية التجريبية إحدى القضايا الستّ الأوّلية التي تشكّل نقاط ابتداء في المعرفة البشرية الحقّة، رغم أ نّها تقع عادة تلو عدد كبير من القضايا المحسوسة، إذ ندرك بإحساسنا مثلًا: أنّ هذا الحديد قد تمدّد بالحرارة، وأنّ هذا الحديد يتمدّد بالحرارة، وأنّ ذلك الحديد كذلك، فنتوصّل إلى القضية التجريبية القائلة: «كلّ حديد يتمدّد بالحرارة».
غير أنّ المنطق الأرسطي في تصنيفه للقضايا لا يعتبر القضية التجريبية مستنتجة من مجموع تلك القضايا المحسوسة، لكي تصبح قضية ثانوية، وتفقد صفتها كقضيّة أوّلية؛ وذلك لأنّ القضية التجريبية أكبر من مجموع تلك القضايا المحسوسة؛ لأنّها تشتمل على التعميم لعدد أكبر من الحالات، فلا يمكن أن تكون مستنتجة منها.
وإذ يقرّر المنطق الأرسطي هذا عند تصنيفه للقضايا إلى أوّلية وثانوية، يحتفظ لنفسه بنظرة أعمق إلى القضية التجريبية. وبموجب هذه النظرة تتحوّل جميع القضايا التجريبية إلى قضايا ثانوية مستنتجة ومستدلّة من قضية أوّلية أساسية، وهي: «أنّ الاتفاق- أي الصدفة النسبية- لا يكون دائمياً».
فعلى أساس هذه القضية الأساسية إذا لاحظنا الاقتران بين تمدّد الحديد والحرارة على خطّ طويل، نستنتج: أنّ الحرارة تسبّب التمدّد، وأنّ الحديد يتمدّد بالحرارة دائماً؛ لأنّ ذلك الاقتران لو كان صدفة لما تكرّر باستمرار على‏

477

موقفنا من النقاط الأساسيّة في المعرفة

ولنأخذ الآن نظرية المنطق الأرسطي في مصادر المعرفة وتكوينها، لنناقش عدداً من النقاط فيها على ضوء الاسس المنطقيّة التي حدّدت طريقتنا في تفسير الدليل الاستقرائي.
وسوف نحصل في هذه المناقشة على أجوبة الأسئلة التالية وأسئلة اخرى:
1- هل يصحّ أن تعتبر القضية التجريبية أوّلية؟
2- وهل يصحّ أن تعتبر القضية الحدسية أوّلية؟
3- وهل يصحّ أن تعتبر القضية المتواترة أوّلية؟
4- وهل يصحّ أن تعتبر القضية المحسوسة أوّلية؟
5- وما هو المدى الذي يمكن أن يفسّر من المعرفة على أساس طريقتنا في تفسير الدليل الاستقرائي؟
6- وهل توجد معرفة عقلية قبلية بأيّ شكل من الأشكال أو لا؟
7- وهل من الضروري أن يكون للمعرفة بداية أو لا؟
8- وهل من الضروري أن تكون المعرفة الأوّلية يقينية أو لا؟

476

بقضايا سابقة قد صدّق بها.
وأمّا «القضايا الوهميّة» فهي في الحقيقة قضايا استقرائية، كالتجريبيات التي اعتبرها المنطق الأرسطي إحدى القضايا اليقينية الستّ، غير أنّ التعميم الاستقرائي في القضية التجريبية صحيح، وأمّا التعميم الاستقرائي في القضية الوهمية فهو غير صحيح. أمّا لماذا اختلف هذا التعميم عن ذاك، فهذا يرتبط باكتشاف الأساس المنطقي للتعميم الاستقرائي، لكي نستطيع على ضوئه أن نميّز بين التعميمات التي تحتويها القضايا الوهميّة، والتعميمات التي تحتويها القضايا التجريبية اليقينية.
وهكذا نعرف: أ نّه بدلًا عن تصنيف المبادئ إلى اليقينيات الستّ والمظنونات والمسلّمات والمقبولات والمشهورات والمشبّهات والموهومات، نستطيع في ضوء ما قلناه أن نعتبر القضايا الستّ هي المبادئ الأوّلية للمعرفة، وكلّ القضايا الاخرى تعتبر متفرّعة عنها، فإن كانت متفرّعة عنها بصورة مؤكّدة فهي قضايا نظرية يقينية، وإن كانت متفرّعة عنها بصورة غير مؤكّدة فهي قضايا مظنونة، وإن كان هناك خطأ في افتراض التفرّع فهي قضايا مشبّهة أو وهميّة.

475

اليقينية الثانوية في كونها مستنتجة، غير أنّ استنتاج القضية اليقينية الثانوية من القضايا اليقينية الاولى استنتاج كامل بدرجة اليقين، واستنتاج القضية المظنونة التي يذكرها المنطق الأرسطي من القضايا اليقينية السابقة استنتاج ناقص بدرجة أقلّ من اليقين.
فلنقارن بين مثالين: أحدهما لاستنتاج قضية يقينية من قضايا يقينية سابقة، والآخر لاستنتاج قضية مظنونة من قضايا يقينية سابقة.
أمّا المثال الأوّل: فهو قولنا: «هذه القطعة تتمدّد بالحرارة؛ لأنّ هذه القطعة معدن، وكلّ معدن يتمدّد بالحرارة». فالقول بأنّ «هذه القطعة تتمدّد بالحرارة» قضيّة يقينية مستنتجة، والقول بأنّ «كلّ معدن يتمدّد بالحرارة» قضية تجريبية تندرج في القضايا اليقينية الستّ.
وأمّا المثال الثاني: فهو قولنا: «هذا الإنسان سافل؛ لأنّه لا عمل له، وفي كلّ عشرة أشخاص ممّن لا عمل لهم يوجد تسعة سافلون». فالقول بأنّ «هذا الإنسان سافل» قضيّة مظنونة بدرجة 10/ 9، والقول بأنّ «في كلّ عشرة أشخاص ممّن لا عمل لهم يوجد تسعة سافلون» قضية تجريبية تندرج في القضايا اليقينية الستّ.
والفارق بين المثالين: أنّ القضية المستنتجة في المثال الأوّل متضمّنة في المقدّمات اليقينية تضمّناً كاملًا، ولهذا كانت يقينية. والقضية المستنتجة في المثال الثاني متضمّنة في المقدّمات اليقينية تضمّناً ناقصاً، أي بدرجة 10/ 9، ولهذا كانت قضية مظنونة. فالقضايا المظنونة التي يستعرضها المنطق الأرسطي قضايا مستنتجة.
و «القضايا المشبّهة» هي أيضاً ليست قضايا أوّلية في سير الفكر الاستدلالي عند الإنسان؛ لأنّ الإنسان يتورَّط في التصديق بها نتيجة لشبهها

474

أو مشهورة فهو «سفسطة» أو «مشاغبة».
و «البرهان» هو الاستدلال الوحيد الذي يؤدّي إلى اليقين بالقضية المستدلّة، أي إلى التصديق الجازم بها الجدير بالثقة والواجب القبول، وبكلمة اخرى: التصديق الذي لا يمكن أن يزول وينكشف زيفه.
ونحن إذا فحصنا المبادئ الأوّلية لكلّ أشكال الاستدلال في المنطق الأرسطي نجد أنّ أكثرها ليست مبادئ حقيقية للاستدلال، بل هي بدورها مستنتجة، وإن كانت قد تشكّل بداية للحوار الاستدلالي بين شخصين.
ف «القضايا المسلّمة» التي يعتبرها المنطق الأرسطي أحد مبادئ الاستدلال يمكن أن تشكّل بداية للحوار الاستدلالي بين شخصين؛ لأنّها مسلّمة لديهما معاً، فلا حاجة بهما إلى التحدّث عن طريقة إثباتها، ولكنّها ليست مبادئ حقيقية للفكر الاستدلالي عند الإنسان؛ لأنّ التسليم بها بدوره يجب أن يكون قائماً على أساس، فإن كان تصوّر الطرفين كافياً للتصديق بها فهي قضية من القضايا الستّ اليقينية، وإلّا فلا بدّ أن تكون مستنتجة من قضايا قبلية، فلا تكون قضية أوّلية.
و «القضايا المقبولة» هي أيضاً قضايا مستنتجة بحكم موضعها من الفكر الاستدلالي عند الإنسان؛ لأنّ القبول بالقضية على أساس الثقة بشريعة أو بقول عالم يعني: استنتاج تلك القضية من القضايا التي أدّت إلى الثقة بتلك الشريعة أو بذلك العالم. فكلّ قضية مقبولة هي قضية ثانوية في تسلسل الفكر الاستدلالي عند الإنسان، وإن شكّلت بداية في الحوار الاستدلالي بين شخصين مقتنعين معاً بتلك الشريعة أو بذلك العالم.
و «القضايا المظنونة» التي يستعرضها المنطق الأرسطي ليست في الحقيقة إلّا قضايا مستنتجة استنتاجاً ظنّياً من قضايا سابقة، فهي لا تختلف عن القضايا

473

التصديق بها.
ورابعاً: المسلّمات، وهي قضايا حصل التسالم بينك وبين غيرك على أ نّها صادقة، سواء كان التسالم عامّاً من جمهور الناس، أو خاصّاً بالقطاع الذي ينتمي إليه الشخص الذي تحاول إقناعه بقضية يمكن استنتاجها من تلك القضايا المسلّمة.
وخامساً: المقبولات، وهي قضايا مأخوذة ممّن يوثق بصدقه تقليداً: إمّا لأمر سماوي كالشرائع، وإمّا لمزيد عقله وخبرته كالمأخوذات من الحكماء والعلماء.
وسادساً: الوهميّات، وهي قضايا كاذبة ينفيها العقل، ولكن ينساق الإنسان إلى التصديق بها نتيجة لُالفته للمحسوسات واعتياده على أحكامها، من قبيل قول القائل: «إنّ كلّ موجود له مكان وجهة»، فإنّ اعتياد الإنسان على المحسوسات والفته بما يدركه من مكان وجهة لكلّ محسوس يجعله ينساق إلى تعميم ذلك على كلّ موجود، فهذا التعميم ليس له سند إلّاالوهم الناشئ من العادة والالفة.
وسابعاً: المشبّهات، وهي قضايا كاذبة يعتقد بها الإنسان أحياناً لأنّها تشبه اليقينيات أو المشهورات، فيجعله هذا الشبه يخطئ في اكتشاف حقيقتها، فيتعامل معها كما إذا كانت قضية يقينية أو مشهورة.
وكلّ استدلال لا يستخدم من المقدّمات لإثبات النتيجة إلّاالقضايا اليقينية يعتبر «برهاناً».
وكلّ استدلال يستخدم من المقدّمات المشهورات والمسلّمات يطلق عليه اسم «الجدل».
وكلّ استدلال يستخدم المظنونات والمقبولات يطلق عليه اسم «الخطابة».
وكلّ استدلال يستخدم قضايا كاذبة يزوِّرها ويقدّمها بوصفها قضايا يقينية