الاسس المنطقية للاستقراء
472

يستخدم في إطار هذه المعرفة لاستنتاج قضية من قضايا يقينية تستلزمها اسم «البرهان».

مبادئ الاستدلالات الاخرى في المنطق الأرسطي:

ويجب أن نعرف أيضاً: أنّ المبادئ الأوّلية للاستدلال في رأي المنطق الأرسطي لا تنحصر باليقينيات الستّ؛ لأنّ هذه اليقينيات هي المبادئ الأوّلية للاستدلال البرهاني، أي الاستدلال الذي يحقّق معرفة واجبة القبول. وهذا هو أحد أقسام الاستدلال، وهناك استدلالات اخرى لا تؤدّي إلى معرفة من هذا القبيل، ننطلق في بداياتها الأوّلية من قضايا غير القضايا اليقينية الستّ.
ومن أجل هذا يعتبر المنطق الأرسطي مجموعة القضايا اليقينية الستّ أحد مبادئ الاستدلال، ويضع إلى جانبها القضايا المظنونة، والقضايا المشهورة، والقضايا المسلّمة، والقضايا المقبولة، والقضايا الوهميّة، والقضايا المشبّهة.
فكما توجد قضايا يقينية أوّلية تستنتج كلّ القضايا اليقينية الثانوية منها، كذلك توجد- مثلًا- قضايا مظنونة أوّلية تتدخّل في استنتاج كلّ القضايا المظنونة الثانوية.
فمبادئ الاستدلال الذي يستهدف إيجاد التصديق بالقضية المستدلّة هي:
أوّلًا: اليقينيات، وهي القضايا الستّ المتقدّمة.
وثانياً: المظنونات، وهي قضايا يرجّح العقل صدقها مع تجويز كذبها، كما يقال مثلًا: «فلان يسارّ عدوّي فهو يتكلّم عليَّ» أو «فلان لا عمل له فهو سافل».
وثالثاً: المشهورات، وهي قضايا لا سند للإنسان في التصديق بها إلّا شهرتها وعموم الاعتراف بها، كحسن العدل وقبح الظلم، واستهجان إيذاء الحيوان بدون غرض، فإنّ هذه قضايا لا واقع لها إلّاتطابق الآراء عليها، وهذا هو أساس‏

471

نسبته من الشمس قرباً وبعداً.
6- الفطريّات: وهي قضايا لا يكفي تصوّر طرفيها لتصديق العقل بها كالأوّليات، بل لا بدّ لها من وسط، إلّاأنّ هذا الوسط ليس ممّا يذهب عن الذهن، فكلّما حضرت القضية الفطرية في الذهن اكتسبت التصديق من العقل فوراً، لحضور الوسط معه. مثل حكمنا بأنّ «الاثنين نصف الأربعة»؛ لأنّ الأربعة تنقسم إليه وإلى قسم آخر يساويه، وكلّ ما ينقسم عدد إليه وإلى قسم آخر يساويه فهو نصف ذلك العدد، فالاثنان نصف الأربعة.
وكلّ قضيّة مستدلّة بمقدّمات تنتمي إلى هذه الأصناف الستّة فهي قضية يقينية نظرية.
فالقضايا اليقينية الستّ تشكّل القاعدة الرئيسية للمعرفة الجديرة بالثقة والواجبة القبول. والقضايا المستدلّة والمستنتجة منها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، هي البناء العلوي- أو الفوقي- في تلك المعرفة. ويستمدّ كلّ استنتاج في هذا البناء مبرّره من التلازم بين التصديق واليقين بالقضية الفوقية، والتصديق واليقين بمجموعة من القضايا السابقة المستدلّ بها.
وهذا التلازم بين التصديقين واليقينين يقوم على أساس التلازم بين الواقع الموضوعي للقضية المستدلّة والواقع الموضوعي لمجموعة القضايا المستدلّ بها على تلك القضية، فالتوالد في بناء المعرفة هذا نتيجة للتوالد الموضوعي بين القضايا أنفسها، وما لم يكن بين القضية المستدلّة ومجموعة القضايا التي تساهم في إنتاجها تلازم، فلا يكون اليقين بهذه المجموعة من القضايا مولّداً لليقين بتلك القضية المستدلّة.
ويطلق- حسب مصطلحات المنطق الأرسطي- على هذه المعرفة بما تضمّ من بناء علوي وقاعدة رئيسية اسم «المعرفة البرهانية»، وعلى الاستدلال الذي‏

470

بوصفها نتيجة لقضايا يقينية سابقة.
الثاني: القضايا اليقينية الرئيسية التي تشكّل المنطلقات الأوّلية لليقين في المعرفة البشرية، وتضع حدّاً وبداية للتسلسل في استنتاج القضايا بعضها من بعض.
ويصنّف المنطق الأرسطي هذه القضايا اليقينية الرئيسية إلى ستّة أصناف:
1- الأوّليات: وهي قضايا يصدِّق بها العقل لذاتها، أي بدون سبب خارج عن ذاتها، بأن يكون تصوّر الطرفين كافياً في الحكم والجزم بصدق القضية، من قبيل قولنا: «النقيضان لا يجتمعان» و «الكلّ أعظم من الجزء».
2- المحسوسات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة الحسّ، ولا يكفي فيها تصوّر الطرفين. والحسّ على قسمين: ظاهر وباطن: والقضايا المتيقّنة بواسطة الحسّ الظاهر تسمّى «حسّيات» كالحكم بأنّ هذه النار حارّة، وأنّ الشمس مضيئة. والقضايا المتيقّنة بواسطة الحسّ الباطن تسمّى «وجدانيات» كالعلم بأنّ لنا فكراً وألماً وخوفاً ونحو ذلك.
3- التجريبيّات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة تكرّر المشاهدة منّا في إحساسنا، فيحصل بتكرّر المشاهدة ما يوجب أن يرسّخ في النفس حكم لا شكّ فيه، كالحكم بأنّ كلّ نار حارّة، وأنّ المعدن يتمدَّد بالحرارة.
4- المتواترات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة إخبار عدد كبير يمتنع تواطؤهم على الكذب، كالعلم بوجود البلاد البعيدة التي لم نشاهدها، أو الامم والأشخاص الذين لم نعاصرهم.
5- الحدسيّات: وهي قضايا يحكم بها العقل على أساس حدس قوي من النفس يزول معه الشكّ، مثل حكمنا بأنّ القمر مستفاد نوره من نور الشمس.
ومنشأ الحدس الذي يسبّب هذا الحكم هو اختلاف تشكّل نور القمر عند اختلاف‏

469

التمهيد باستعراض الموقف الأرسطي من المعرفة

نريد الآن- وقد استوعبنا التفسير الشامل المقترح للدليل الاستقرائي- أن ندرس نظرية المعرفة والنقاط الرئيسية فيها، متّخذين من ذلك التفسير الذي قدّمه المذهب الذاتي أساساً لدراستنا، لكي نتبيّن مدى الآثار التي يمكن لهذا التفسير أن يحقّقها على صعيد نظرية المعرفة، وتحليل المعارف البشرية بصورة عامّة:

مبادئ الاستدلال البرهاني (اليقين):

ولنبدأ باستعراض سريع لموقف المنطق الأرسطي من المعرفة البشرية بصورة عامّة، ونجعل من هذا الموقف منطلقاً للنقاط التي نريد إثارتها للبحث في ضوء التفسير المتقدّم للدليل الاستقرائي:
إنّ المنطق الأرسطي يرى أنّ قضايا المعرفة البشرية الجديرة بالثقة والواجبة القبول، هي القضايا التي تتّسم بطابع اليقين، ويريد باليقين: تصديق العقل بقضية تصديقاً جازماً لا يمكن زواله أو زعزعته، فكلّ قضية يتاح لها هذا اللون من التصديق تعتبر قضية يقينية.
والقضايا اليقينية على قسمين:
الأوّل: القضايا اليقينية المستدلّة أو المستنتجة التي اكتسبت طابعها اليقيني‏

468

467

القسم الرابع: المعرفة البشريّة في ضوء المذهب الذاتي‏

التمهيد باستعراض الموقف الأرسطي من المعرفة.
موقفنا من النقاط الأساسيّة في المعرفة.

466

عن العلم الذي ينتمي إليه التجمّع المواجه للقيمة الاحتمالية الاخرى، فبالإمكان أن يؤثّر أحد التجمّعين لاستكماله شروط المصادرة الاستقرائية، دون التجمّع الآخر لعدم استكماله تلك الشروط.

استخدام الشكل الثاني لتطبيق المصادرة في قضايا السببيّة:

عرفنا سابقاً كيف يمكن استخدام الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة في قضايا السببيّة عن طريق (العلم الإجمالي 2) الذي يستوعب كلّ احتمالات وجود وعدم (ت) في التجارب الناجحة، وقد كنّا نفترض أنّ قيم هذه الاحتمالات كلّها متساوية، وأنّ جميع هذه القيم- باستثناء نصف قيمة- تتجمّع في محور واحد وهو سببية (أ) ل (ب)، وبذلك يفنى الاحتمال المضادّ.
وأمّا في الشكل الثاني لتطبيق المصادرة، فالفناء يتّجه نحو قيمة من قيم (العلم الإجمالي 2) إذ تفنى قيمة احتمال وجود (ت) صدفة في كلّ التجارب بقاعدة عدم التماثل، وإذا فنى احتمال وجود (ت) بصورة مطّردة في كلّ التجارب، ثبت أنّ (أ) سبب ل (ب).
فسببيّة (أ) ل (ب) تثبت في الشكل الأوّل بتطبيق المصادرة الاستقرائية مباشرة، وتثبت في الشكل الثاني عن طريق إفناء احتمال وجود (ت) في كلّ المرّات.

465
هل يمكن أن تفنى إحدى القيمتين المتساويتين دون الاخرى؟:

ويمكن أن يوجّه إلى المصادرة الاستقرائية اعتراض عامّ يشمل كلا شكليها: فإنّ بالإمكان أن نبرهن على أنّ أيّ قيمة احتمالية تفترض المصادرة الاستقرائية فناءها على أساس ضآلتها، توجد قيم مماثلة لها لم تستطع ضآلتها أن تفنيها، مهما كانت الدرجة المفترضة للقيمة الاحتمالية التي تستهدف المصادرة إفناءها. وهذا دليل على أنّ الضآلة وحدها غير كافية لفناء القيمة الاحتمالية.
والبرهان على ذلك: أنّ أيّ قيمة احتمالية تفترض المصادرة فناءها يمكننا أن نفترض علماً إجمالياً يضمّ عدداً كبيراً من الأطراف إلى الدرجة التي تجعل ناتج قسمة رقم اليقين على عدد الأطراف يساوي تلك القيمة الإجمالية المفترض فناؤها، وهذا الافتراض ميسور دائماً مهما خفّضنا القيمة الاحتمالية التي نفترض فناءها؛ لأنّنا نعلم بأنّ القيمة الاحتمالية لطرف من أطراف العلم الإجمالي المتساوية لا يمكن أن تفنى بقوّة التجمّعات الاحتمالية لذلك العلم الإجمالي، ونعلم أيضاً بأنّ القيمة الاحتمالية للطرف تنخفض كلّما ازداد عدد أطراف العلم الإجمالي، فينتج من ذلك أنّ بالإمكان: الحصول على قيمة تستعصي على الفناء بأيّ درجة من درجات الاحتمال.
والردّ على هذا البرهان: أنّ فناء إحدى القيمتين الاحتماليتين المتساويتين دون الاخرى، إنّما يكون مستحيلًا إذا تمّ هذا الفناء بفاعلية علمٍ علاقته وصلته بكلتا القيمتين بدرجة واحدة؛ لأنّ تأثير هذا العلم في إفناء إحدى القيمتين دون الاخرى ترجيح بلا مرجّح، ولهذا عرفنا سابقاً: أنّ إفناء العلم لإحدى القيم الاحتمالية المتساوية في داخله دون سائر القيم الاخرى مستحيل. وأمّا إذا كان التجمّع الذي يواجه كلًا من القيمتين الاحتماليتين المتساويتين من علم يختلف‏

464

إفنائه لإحدى قيمه الاحتمالية المتساوية، كذلك لا يمكن ل (العلم الإجمالي 2) إفناء القيمة الصغيرة من قيم (العلم الإجمالي 1)؛ لأنّ هذه القيمة ملازمة لأحد أطراف (العلم الإجمالي 2)، فلو أفناها لأفنى بذلك القيمة الاحتمالية لطرفه.
والجواب على هذا الاعتراض: أنّ فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة من قيم (العلم الإجمالي 1) إنّما يتمّ بفاعلية واقتضاء تجمّع العدد الأكبر من قيم نفس هذا العلم، وليس باقتضاء تجمّع عدد من قيم (العلم الإجمالي 2) ضدّها، فإنّ القيم التي تنفي احتمال ظهور وجه الكتابة ألف مرّة متعاقبة في داخل (العلم الإجمالي 1)، تكون قيمة احتمالية كبيرة وكافية- من ناحية حجمها ودرجتها- لإفناء القيمة المضادّة. وإنّما كان ذلك يواجه عقبة وهي: أنّ قيمة احتمال ظهور وجه الكتابة في جميع المرّات تساوي قيمة أيّ احتمال آخر داخل (العلم الإجمالي 1)، فإذا أفنى هذا العلم تلك القيمة خاصّة دون غيرها كان ذلك ترجيحاً بلا مرجّح. ومن هنا كانت المصادرة بحاجة إلى (العلم الإجمالي 2) لكي يخفّض قيمة احتمال ظهور وجه الكتابة في جميع المرّات، وبالتالي يذلّل تلك الصعوبة ويجعل إفناء القيم المتجمّعة داخل (العلم الإجمالي 1) لتلك القيمة دون غيرها ترجيحاً بمرجّح، فليس (العلم الإجمالي 2) هو المقتضي للإفناء لكي يؤدّي إلى إفناء العلم لإحدى القيم الاحتمالية المتساوية في داخله، وإنّما يمهّد لممارسة (العلم الإجمالي 1) عمله في الإفناء.
وعلى العكس من ذلك الحالة التي تحدّثنا عنها في الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة، حينما تكون القيمة الاحتمالية المراد إفناؤها ملازمة لأحد أطراف (العلم الإجمالي 2)، فإنّ المقتضي لإفناء تلك القيمة في الشكل الأوّل لتطبيق المصادرة نفس (العلم الإجمالي 2)، فإذا أفنى قيمة احتمالية ملازمة لأحد أطرافه فقد أفنى إحدى قيمه المتساوية.