الاسس المنطقية للاستقراء
427

المرتبطة بسائر الكتب الاخرى، أي تسعة وتسعين ألف وتسعمائة وتسع وتسعين قيمة احتمالية، من مجموع مائة ألف قيمة احتمالية، وهذا يعني: أنّ هذا الكتاب الذي أخذناه يشكّل محوراً لتجمّع عدد كبير من القيم الاحتمالية يستوعب كلّ قيم العلم الاحتمالية سوى قيمة واحدة.
ولكنّ هذا التجمّع- رغم ذلك- لا يمكن أن يؤدّي إلى تحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة الناتجة عنه إلى يقين، وفناء القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادّة؛ لأنّ هذا التجمّع ليس في الحقيقة إلّاتعبيراً عن الجزء الأكبر من قيمة علمنا المفترض بوجود نقصان في كتاب واحد من كتب المكتبة، وكلّ كتاب في المكتبة يحظى احتمال عدم النقصان فيه بجزء من قيمة هذا العلم، يساوي ذلك الجزء تماماً؛ لأنّه يشكّل محوراً لتجمّع مماثل. ففي هذه الحالة لا يمكن لذلك الجزء من العلم الذي يمثّله التجمّع- مهما كان كبيراً- أن يؤدّي إلى فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادّة لمحور التجمّع؛ لأنّه إذا أدّى إلى ذلك في أيّ محور من محاور التجمّع فإمّا أن يؤدّي إلى فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادّة لجميع محاور التجمّع، أو يؤدّي إلى ذلك في محور دون محور، وكلاهما مستحيل.
أمّا الأوّل: فلأ نّه يعني إفناء التجمّع لنفسه وزوال العلم رأساً؛ لأنّ التجمّع ليس إلّاجزءاً من العلم، فإذا فنت كلّ القيم الاحتمالية الصغيرة المضادّة لمحاور التجمّع فقد فنت كلّ القيم الاحتمالية المائة ألف؛ لأنّ كلّ واحدة منها هي ضدّ أحد محاور التجمّع، وإذا فنت كلّ القيم الاحتمالية المائة ألف فقد فنى العلم نفسه، وبالتالي تلاشت كلّ التجمّعات التي تعبّر عن أجزاء من هذا العلم.
وأمّا الثاني- وهو أن يؤدّي التجمّع إلى فناء القيمة الاحتمالية المضادّة في محور واحد دون سائر المحاور-: فهذا أيضاً مستحيل؛ لأنّ التجمّع ليس‏ إلّا

426
2- شروط المصادرة

وإذا كانت المصادرة قد قرّرت: أنّ تجمّع القيم الاحتمالية الكثيرة على محور، يؤدّي إلى تحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة الناتجة عن هذا التجمّع إلى يقين، وفناء القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادّة، فإنّ هذا إنّما يصدق فيما إذا لم يكن فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة يعني: فناء تلك القيمة الاحتمالية الكبيرة ذاتها، وإلّا فسوف لن تتحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة التي اكتسبها المحور إلى يقين؛ لأنّها بإفنائها للقيمة الاحتمالية الصغيرة تفني ذاتها، ولا يمكن لأيّ قيمة من قيم التصديق أن تفني نفسها بذاتها.
ومثال ذلك نجده في كلّ علم إجمالي نعلم بموجبه بأنّ حادثة واحدة فقط قد وقعت لواحدٍ مردّدٍ بين عدد كبير من الأشياء، كالعلم الإجمالي- في مثال المكتبة- بأنّ نقصاناً ما قد وقع في كتاب واحد فقط، وهذا الكتاب مردّد بين مجموعة الكتب البالغة مائة ألف كتاب، فإنّ العلم في هذا المثال ينقسم إلى مائة ألف قيمة احتمالية متساوية وفقاً لنظرية الاحتمال، ومجموع هذه القيم يمثّل القيمة الكاملة للعلم، وكلّ قيمة من تلك القيم الاحتمالية المتساوية تساوي 000، 1100 وترتبط بكتاب معيّن من كتب المكتبة بوصفه عضواً في مجموعة أطراف العلم الإجمالي، والقيمة الاحتمالية المرتبطة بكلّ كتاب تثبت- بالدرجة التي يتاح لها- أنّ ذلك الكتاب هو الكتاب الناقص، وبنفس الدرجة تنفي النقصان عن سائر الكتب الاخرى، ولذلك فإنّا إذا أخذنا أيّ كتاب من كتب المكتبة فسوف نجد: أنّ القيم التي تنفي النقصان عنه هي عبارة عن مجموع القيم الاحتمالية

425

لضآلتها أمام تلك القيمة الاحتمالية الكبيرة.
ويواجه المصادرة المفترضة- بعد هذا- سؤالًا عن حدود تلك القيمة الاحتمالية الصغيرة التي تفنى: فما هي درجة الضآلة اللازمة لفناء القيمة الصغيرة، وتحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة إلى يقين؟
ونحن نعرف من واقع ممارسة الإنسان الاعتيادي لليقين الذاتي: أنّ الناس يختلفون في هذه النقطة: فدرجة من تراكم القيم الاحتمالية في محور معيّن قد تؤدّي عند إنسان إلى تحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة الناتجة عن ذلك التراكم إلى يقين وانعدام القيمة الاحتمالية المضادّة، بينما لا تحصل هذه النتائج عند إنسان آخر، إلّاإذا بلغ تراكم القيم الاحتمالية في محور معيّن درجة أكبر.
وليس من الضروري للمصادرة- التي يحتاجها الدليل الاستقرائي- أن تحدّد درجة التراكم التي تؤدّي إلى تلك النتائج، بل يكفي- لكي تؤدّي المصادرة مهمّتها- أن تقرّر من حيث المبدأ: أنّ تراكم القيم الاحتمالية في محور وامتصاصه لجزء أكبر فأكبر من قيمة العلم، يصل إلى درجة تؤدّي إلى تحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة الناتجة عن هذا التراكم إلى يقين وفناء القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادّة، وأنّ هذه الدرجة موجودة في تراكم القيم الاحتمالية في محور القضية الاستقرائية في الاستقراءات المتّفق على نجاحها.

424

الصغيرة، التحوّلات الذاتية لبعض القيم الاحتمالية إلى يقين بسبب عوامل نفسية من قبيل: التشاؤم أو التفاؤل، أو غير ذلك: فقد يتحوّل احتمال الوفاة عند شخص مقدِمٍ على عملية جراحية إلى يقين بسبب التشاؤم الذي يسيطر على نفسه، ولكنّه يقين يمكن إزالته، إذا تحرّر الشخص من نزعته النفسية وحصر اتجاهه في النطاق الفكري فحسب، وأمّا اليقين الذي تفترضه المصادرة فهو يقين لا يتاح إزالته ما دام الإنسان سويّاً في تفكيره، مهما حصر اتجاهه في النطاق الفكري، وتحرّر من العوامل الدخيلة.
وقد عرفنا في بحث نظرية الاحتمال سابقاً: أنّ القيم الاحتمالية ترتبط دائماً بعلم إجمالي، وأنّ كلّ قيمة احتمالية هي قيمة احتمالية لعضو في مجموعة أطراف علم إجمالي، وبالتالي هي جزء من قيمة العلم الإجمالي نفسه التي تتمثّل دائماً في مجموعة القيم الاحتمالية لأطرافه، فعند تراكم القيم الاحتمالية في محور واحد بالدرجة التي تفترض المصادرة أ نّه يؤدّي إلى تحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة الناتجة عن ذلك التراكم إلى يقين وفناء القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادّة، نواجه في هذه الحالة علماً إجمالياً قد استقطب ذلك المحور الجزء الأكبر من قيمته، متمثّلة في تراكم تلك القيم الاحتمالية على ذلك المحور، وظلّ جزء صغير من قيمة العلم الإجمالي غير منصبّ في ذلك المحور. وهذا يعني: أنّ القيمة الاحتمالية الكبيرة التي اكتسبها هذا المحور نتيجة لتراكم تلك القيم ليست إلّا جزءاً كبيراً من قيمة العلم الإجمالي نفسه.
وهكذا نعرف: أنّ مردّ المصادرة- على ضوء هذا التحليل- إلى أنّ محوراً معيّناً قد يمتصّ الجزء الأكبر من قيمة علم عن طريق تجمّع القيم الاحتمالية التي تمثّل ذلك الجزء فيه، وهذا يعني حصوله على قيمة احتمالية كبيرة، وتتحوّل هذه القيمة إلى يقين. وأمّا القيمة الاحتمالية الصغيرة المضادّة التي لم يمتصّها، فتفنى‏

423
المصادرة وشروطها
1- صياغة المصادرة

إنّ المصادرة التي يفترضها الدليل الاستقرائي في مرحلته الثانية لا ترتبط بالواقع الموضوعي ولا تتحدّث عن حقيقة من حقائق العالم الخارجي، وإنّما ترتبط بالمعرفة البشرية نفسها. ويمكن تلخيص المصادرة كما يلي:
كلّما تجمّع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد، فحصل هذا المحور نتيجة لذلك على قيمة احتمالية كبيرة، فإنّ هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحوّل- ضمن شروط معيّنة- إلى يقين، فكأنّ المعرفة البشرية مصمَّمة بطريقة لا تتيح لها أن تحتفظ بالقيم الاحتمالية الصغيرة جدّاً، فأيّ قيمة احتمالية صغيرة تفنى لحساب القيمة الاحتمالية الكبيرة المقابلة، وهذا يعني: تحوّل هذه القيمة إلى يقين. وليس فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة نتيجة لتدخّل عوامل بالإمكان التغلّب عليها والتحرّر منها، بل إنّ المصادرة تفترض أنّ فناء القيمة الصغيرة وتحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة إلى يقين، يفرضه التحرّك الطبيعي للمعرفة البشرية، نتيجةً لتراكم القيم الاحتمالية في محور واحد بحيث لا يمكن تفاديه والتحرّر منه، كما لا يمكن التحرّر من أيّ درجة من الدرجات البديهية للتصديق المعطاة بصورة مباشرة إلّافي حالات الانحراف الفكري.
فلا يشبه تحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة إلى يقين وفناء القيم الاحتمالية

422

الاستقرائي فيها، فيصبح بالإمكان- في تلك المجالات- للدليل الاستقرائي أن يمارس مرحلته الثانية، على أساس توفّر الشروط اللازمة للمصادرة التي يحتاجها بالنسبة إلى هذه المرحلة.
وبذلك نقدّم تفسيراً كاملًا للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي التي يرتفع فيها التصديق بالقضية الاستقرائية إلى درجة الجزم واليقين.

421

ونحن رغم أ نّنا نؤمن بتلك المصادرة التي يطالب الدليل الاستقرائي بها لكي يبرّر حصول التصديق الاستقرائي على أعلى درجة موضوعية وهي الجزم واليقين، لا نستطيع أن نبرهن عليها، كما لا يمكن البرهنة على أيّ مصادرة اخرى من هذا القبيل، فكما لا يمكن أن نبرهن على أنّ الدرجة العليا التي يتمتّع بها التصديق بمبدأ عدم التناقض- مثلًا- هي درجة موضوعية معطاة بصورة مباشرة، رغم أنّ افتراض ذلك هو الأساس في تحديد أيّ درجة موضوعية تالية، كذلك لا يمكن أن نبرهن على أنّ الدرجة العليا التي يحصل عليها التصديق الاستقرائي هي درجة موضوعية معطاة بصورة مباشرة.

دور البحث العلمي في المرحلة الذاتيّة:

ودور البحث العلمي في هذه النقطة، إذا انطلق من التسليم بهذه المصادرة من حيث المبدأ، يتلخّص في ثلاثة امور:
الأوّل- صياغة المصادرة التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في مرحلته الثانية، لكي يبرّر حصول التصديق الاستقرائي في هذه المرحلة على أكبر درجة من درجات التصديق الموضوعي، وهي درجة الجزم واليقين.
الثاني- البرهنة على الشروط اللازم توفّرها في هذه المصادرة لكي تكون صحيحة. ولسنا نعني بذلك: أن نبرهن على المصادرة نفسها، ولكنّنا نبرهن على أنّ المصادرة تكون كاذبة في بعض الحالات، الأمر الذي يجعلها بحاجة إلى شروط معيّنة لكي لا يقوم برهان على كذبها.
الثالث- البرهنة على أنّ تلك الشروط اللازم توفّرها في هذه المصادرة، موجودة فعلًا في المجالات التي درسنا- سابقاً- المرحلة الاولى من الدليل‏

420

بكتاب معيّن دون آخر فهذا يناقض تصديقه بأ نّه لا يملك أيّ فكرة عن تعيين الكتاب الناقص في واحد دون آخر، فكيف يجزم بأ نّه ليس هذا ويشكّ في أ نّه ذاك؟!
وهكذا يثبت أنّ درجة التصديق ليست موضوعية ولا أوّلية، بل هي ذاتية بحتة، عن طريق تناقضها مع درجات اخرى للتصديق لا يمكن التنازل عنها، ونحن نطلق على الدرجة الذاتية البحتة من هذا القبيل اسم «الدرجة الوهمية والتصديق الوهمي».
وإذا درسنا الدليل الاستقرائي في ضوء ذلك كلّه نجد أنّ درجة التصديق للقضية الاستقرائية التي يحدّدها في مرحلته الاستنباطية هي درجة موضوعية؛ لأ نّها مستنبطة دائماً من درجات موضوعية اخرى للتصديق. غير أنّ هذه الدرجة هي أقلّ من اليقين دائماً؛ لأنّ درجة التصديق بالقضية الاستقرائية المستنبطة من الدرجات الاخرى للتصديق وفق المرحلة الاستنباطية للدليل الاستقرائي لا يمكن أن تبلغ أعلى درجة للتصديق وهي الجزم واليقين؛ لأنّ هناك قيمة احتمالية صغيرة دائماً تمثّل الخلاف، فلا يمكن- إذن- أن يحصل التصديق الاستقرائي على أعلى درجة بوصفها درجة موضوعية مستنبطة. ويبقى أمام الدليل الاستقرائي- لكي يبرّر ذلك- أن يفترض أنّ التصديق الاستقرائي يحصل على أعلى درجة بوصفها درجة موضوعية أولية، أي معطاة عطاءً مباشراً. وهذا الافتراض مصادرة مثل المصادرة التي تحتاجها أيّ عملية استنباطية؛ لأنّ أيّ استدلال استنباطي يتوقّف- كما عرفنا سابقاً- على افتراض مصادرة مؤدّاها: أنّ هناك درجات موضوعية للتصديق معطاة بصورة مباشرة دون أن تكون مستنبطة من درجات اخرى.

419

ونكتفي الآن بالإشارة إلى أنّ من أهمّ الفوارق التي تتميّز بها تلك الدرجات الموضوعية للتصديق، والتي تتمتّع بالبداهة والعطاء المباشر عن الدرجات الذاتية التي يصطنعها التصديق الذاتي المنحرف، أنّ كلّ درجة من تلك الدرجات الموضوعية للتصديق لا تتعارض مع سائر الدرجات الموضوعية للتصديقات الاخرى، أي أنّ مجموعة الدرجات الموضوعية المعطاة بصورة أوّلية يجب أن لا يكون بينها تناقض. وأيّ مجموعة لوحظ التناقض بين الدرجات المختلفة المحدّدة ضمنها، فإنّ هذا التناقض يبرهن على أنّ هذه المجموعة قد اندسّت فيها درجات ذاتية للتصديق، وأنّ هذا هو سبب التناقض. ومن هنا كان أحد أساليب الكشف عن عدم كون درجة معيّنة للتصديق درجة موضوعية أوّلية- أي معطاة عطاءً مباشراً- إثبات أ نّها تناقض درجات اخرى للتصديق الموضوعي لا يمكن التنازل عن موضوعيّتها.
ففي مثال المكتبة- المتقدّم- حينما كنّا نواجه شخصاً يجزم بأنّ الكتاب الذي نحاول أن نشتريه ليس هو الكتاب الناقص، أمكننا أن نبرهن له على أنّ هذه الدرجة من التصديق التي يعيشها، ذاتية وليست موضوعية، وإذا طالبناه بالطريقة التي استنبط بها هذه الدرجة من درجات تصديق سابقة، وكيف برهن عليها، فزعم أ نّها درجة أوّلية ومعطاة عطاء مباشراً وليست مستنبطة، أمكننا أن ندحض ذلك بإبراز تناقضها مع تصديقات اخرى موضوعية لا يمكنه التنازل عنها، وهي تصديقه بأنّ هناك كتاباً واحداً ناقصاً في مجموعة الكتب، وتصديقه بأنّ المجموعة تحتوي على مائة ألف، وتضمّ هذا الكتاب الذي نحاول أن نشتريه نفسه، وتصديقه بأ نّا لا نملك أيّ فكرة عن تعيين ذلك الكتاب الناقص. فإذا كان هذا الشخص يجزم بأنّ أيّ كتاب نحاول أن نشتريه ليس ناقصاً، فهذا يناقض تصديقه بأنّ هناك كتاباً واحداً ناقصاً في المجموعة، وإذا كان جزمه بعدم النقصان يختص‏