الاسس المنطقية للاستقراء
409
دور المرحلة الذاتية في إيجاد اليقين‏
[تمهيد:]

استطعنا حتّى الآن أن نكتشف محتوى المرحلة الاولى من الدليل الاستقرائي، وعرفنا أنّ الدليل الاستقرائي في هذه المرحلة يعتبر دليلًا استنباطياً، إذا سلّمنا بما يتوقّف عليه من المصادرات التي تفترضها نظرية الاحتمال.
غير أنّ هناك فارقاً أساسياً بين الطابع الاستنباطي للدليل الاستقرائي، والطابع الاستنباطي للأدلّة الاستنباطية البحتة، كالبرهان الذي يستنبط «أنّ زوايا المثلّث تساوي قائمتين» من مصادرات الهندسة الإقليدية.
وهذا الفارق يكمن في أنّ الأدلّة الاستنباطية البحتة تبرهن على الجانب الموضوعي من الحقيقة، فالبرهان الهندسي على «أنّ زوايا المثلّث تساوي قائمتين» يثبت- وفق مناهج الاستدلال الاستنباطي- هذه المساواة بين زوايا المثلّث وقائمتين كحقيقة موضوعية، وأمّا الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية فهو لا يبرهن على الجانب الموضوعي من الحقيقة، ولا يثبت أنّ (أ) سبب ل (ب)، وإنّما يثبت بطريقة استنباطية درجةً من التصديق بهذه الحقيقة، تتمثّل في القيمة الاحتمالية الكبيرة التي أنتجها تجمّع عدد كبير من الاحتمالات على محور واحد هو سببية (أ) ل (ب). فالقضية المستنبطة من الدليل الاستقرائي‏

408

407

تفسير الدليل الاستقرائي على ضوء نظريّة الاحتمال‏

الفصل الثاني ‏الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الذاتي‏

(المرحلة الذاتيّة للدليل الاستقرائي)
دور المرحلة الذاتيّة في إيجاد اليقين.
المصادرة وشروطها.

406

405

تؤدّي إلى نتائج خاطئة في كثير من الأحيان؛ لأنّ فئة (أ) إذا كانت فئة كبيرة جدّاً، وكان عدد كبير من أعضائها ينتمي إلى (ب)، وعدد كبير آخر لا ينتمي إلى الباء، فبالإمكان تكوين استقراء كاذب عن طريق حشد حالات كبيرة من الألفات المنتمية إلى الباء، دون أن يبرّر ذلك استنتاج أنّ ألفاً اخرى- أو أنّ كلّ ألف- تنتمي إلى الباء. فقد أوحى هذا بأنّ الاستقراء مرتبط بترتيب تسلسلي للحالات التي يستخدم الاستقراء من أجل إثبات بعض التعميمات لها.
ولكنّ الحقيقة أنّ الاستقراء مرتبط بالشروط والمتطلّبات التي استعرضناها سابقاً، وليس مرتبطاً بالترتيب التسلسلي للحالات إلّابقدر ما يؤدّي هذا الترتيب التسلسلي من توفير لتلك الشروط، فإنّ الشواهد التي يحصل عليها الاستقراء إذا كانت مرتّبة بصورة طبيعية ترتّباً تسلسلياً، فسوف لن توجد عادة خاصيّة مفهومية تميّز هذه الشواهد عن الحالات الاخرى المترتّبة عليها في التسلسل، وأمّا إذا كانت الشواهد مأخوذة بصورة كيفية وبالانتقاء من أعضاء فئة متعاصرة، فهذا الانتقاء قد يستهدف انتقاء أعضاء من فئة (أ) ذات خاصية مفهومية إضافية تميّزها عن سائر أعضاء فئة (أ). وفي هذه الحالة يكون التعميم خاطئاً؛ لأنّ الدليل الاستقرائي لم يستكمل شروطه ومتطلّباته؛ لأنّ من متطلّبات المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي- كما تقدّم- أن لا توجد أيّ فكرة عند المستقرئ عن وجود خاصيّة مفهومية إضافية تتميّز بها الحالات التي شملها الاستقراء من فئة ألف، عن الحالات الاخرى التي يراد تعميم النتيجة عليها.

404
الترتيب التسلسلي للشواهد الاستقرائية:

لاحظ بعض الباحثين في الاستقراء- ك (رسل)[1]-: أنّ الاستقراء لا ينجح إلّافي حالة افتراض ترتيب تسلسلي للحالات التي استوعب الاستقراء بعضها، ويحاول تعميم النتائج على بعضها الآخر.

وبهذا الصدد يقسم الاستقراء إلى استقراء خاصّ واستقراء عامّ. فإذا كانت لدينا فئتان: (أ) و (ب) وكنّا نريد أن نعرف بالاستقراء هل أنّ الفرد الذي ينتسب إلى (أ) ينتسب إلى (ب) في نفس الوقت أو لا؟ وقمنا باستقراء عدد من الحالات لاحظنا فيها جميعاً أنّ الألفات تنتسب إلى الباء. فالاستقراء الخاصّ يستهدف أن يثبت أنّ هذه الألف الجديدة- التي لم تفحص بعد- تنتسب إلى الباء، استنتاجاً لذلك من انتساب الألفات التي لوحظت خلال الاستقراء إلى الباء. والاستقراء العامّ يستهدف أن يثبت أنّ كلّ ألف ينتسب إلى الباء، استنتاجاً لذلك من الحالات السابقة.

ويرى (رسل): أنّ من الضروري في تكوين الاستقراء الخاصّ أن تكون هناك حالة تالية تتطلّب ترتيباً تسلسلياً، ومن الضروري في تكوين الاستقراء العامّ أن تكون الأفراد الاولى من فئة الألف تنتسب إلى الباء، ولا يكفي أن يكون بين فئة الألف وفئة الباء أفراد مشتركة فحسب، وهذا يتطلّب أيضاً ترتيباً تسلسلياً.

والذي دعا إلى القول بأنّ الاستقراء لا يمكن أن يتعامل بنجاح إلّامع متسلسلات، هو الاعتقاد بأنّ ممارسة الاستقراء في فئات ليست متسلسلة طبيعيا

 

[1] في كتابه: المعرفة الإنسانية: 422- 423

403

يكمن في أنّ الدليل الاستقرائي قد استخدم هنا بصورة منحرفة لإثبات أنّ ما عدا (أ) لا يترتّب عليه (ب)، بدلًا عن إثبات أنّ الألفات الاخرى التي لم يشملها الاستقراء يترتّب عليها الباء.
وفي المثال الآخر قيل: «لا إنسان حيّ الآن قد مات»، وجعل هذا الاستقراء دليلًا على أنّ كلّ الناس الأحياء الآن خالدون. ونحن إذا افترضنا أنّ الخلود تعبير عن تجاوز أبعد حدود العمر الطبيعي الذي يبلغه الإنسان عادة، وكانت لدينا مبرّرات للشكّ في قدرة الإنسان على تجاوز تلك الحدود، واحتمال وجود عوامل قاهرة تؤدّي إلى موته حتماً قبل تجاوزها، فكيف نستطيع أن نستدلّ استقرائياً على خلود الناس المعاصرين، أي قدرتهم على تجاوز تلك الحدود، عن طريق أ نّهم لا يزالون أحياء بعد، رغم أنّ أيّ واحد منهم لم يتجاوز تلك الحدود؟
وهكذا نصل إلى النتيجة التالية وهي: أنّ الاستقراء الذي يفشل أحياناً ليس هو نفسه الاستقراء الذي ينجح في أكثر الأحيان، فلا يمكن أن يستخدم ذلك كدليل على أنّ الاستقراء ليس مبدأ منطقياً. بل إنّ الدليل الاستقرائي إذا استكمل متطلّباته اللازمة لممارسة مرحلته الاستنباطية، فهو ناجح في تنمية احتمال التعميم وإعطائه أكبر قيمة احتمالية ممكنة. وهذا يعني: أنّ الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية تبرهن على قيمة احتمالية كبيرة، وهو في حدود برهنته على هذه القيمة، وضمن شروطه ومصادراته اللازمة له، مبدأ منطقي. ولا يعني هذا أنّ النتيجة التي يبرهن الاستقراء على قيمة احتمالية كبيرة لها يجب أن تكون صادقة دائماً من الناحية المنطقية، وإنّما يعني: أنّ القيمة الاحتمالية الكبيرة التي يعطيها الدليل الاستقرائي للنتيجة قيمة منطقية.

402

1- نبرهن القانون لأصغر عدد صحيح ممكن.
2- نفترض القانون للعدد (ن).
3- نبرهن القانون للعدد (ن+ 1).
وبهذا نثبت القانون لجميع الأعداد الصحيحة.
وهذا الاستنتاج صحيح وناجح دائماً في إعطاء القانون الرياضي العامّ، ولا صلة له بالاستقراء الذي ندرسه في هذا الكتاب؛ لأنّ الاستنتاج بالطريقة المتقدّمة يتناول في الحقيقة كلّ الأعداد الصحيحة ويبرهن على القانون فيها؛ لأنّ كلّ الأعداد الصحيحة تتأ لّف من أصغر عدد صحيح ممكن ومن أعداد كلّها قيم للمتغيّر (ن+ 1)، فليس في هذا الاستنتاج تعميم وطفرة من الخاصّ إلى العامّ كما هو المطلوب في الاستقراء.
وأمّا الأمثلة التي سيقت للاستقراء الفاشل في ميدان الطبيعة، فالفشل فيها أيضاً ينتج عن عدم توفّر الشروط اللازمة لنجاح الدليل الاستقرائي، ففي مثال الماشية- الذي لاحظ فيه إنسان ساذج: الاقتران في خبرته بين الماشية ومنطقة معيّنة، فقال: إنّ كلّ الماشية موجودة في تلك المنطقة- لم يكن الاستقراء ضمن شروطه يفرض هذا التعميم؛ لأنّنا عرفنا سابقاً: أنّ الدليل الاستقرائي يصل إلى التعميم عن طريق إثبات السببيّة، فما هي السببيّة التي يقوم على أساسها التعميم في هذا المثال؟ هل هي سببية الماشية للمكان، أو سببية المكان للماشية؟ من الواضح أنّ الماشية ليست سبباً للمكان، وأمّا أنّ المكان سبب للماشية بمعنى أنّ تلك المنطقة الخاصّة- بما تحوي من ظروف وشروط- عامل صالح لتكوّن الماشية، فهو لا يعني أ نّه لا يوجد أيّ منطقة اخرى تتوفّر فيها نفس الظروف والشروط، لكي يستنتج أنّ كلّ الماشية موجودة في تلك المنطقة.
وإذا رمزنا إلى المنطقة ب (أ) وإلى الماشية ب (ب)، أمكن القول بأنّ الخطأ

401

للزنوج خاصية مفهومية تميّزهم عن سائر الأفراد.
وإذا اتيح للمستقرئ أن يبرهن- بطريقة أو اخرى- على أنّ الخاصية المفهومية التي تميّز الأفراد المستقرأة عن غيرها ليس لها تأثير في الصفة المركّز عليها استقرائياً، فبإمكانه حينئذٍ أن يعمّم الصفة. ففي مثال الاستقراء الذي يقول:
إنّ كلّ عدد يبدأ بخمسة يقبل القسمة على خمسة، اعتماداً على ملاحظة أعداد 5 و 15 و 35 و 45 و 65 و 95. في هذا المثال نلاحظ: أنّ الفوارق التي تميّز هذه الأعداد عن سائر الأعداد التي تبدأ بخمسة لا يمكن أن يكون لها تأثير- إيجاباً أو سلباً- في قابلية العدد للقسمة على خمسة؛ لأنّ الفوارق تنجم عن عدد العشرات المفروضة في كلّ رقم، ففي الأرقام التي لوحظت في الاستقراء مباشرة كان عدد العشرات فيها يتراوح من صفر إلى تسعة، أي لا يصل إلى عشرة، بينما أعداد اخرى لم تلاحظ في الاستقراء مباشرة من قبيل: 105 و 115 و 155 يزيد فيها عدد العشرات على تسعة، غير أنّ زيادة عشرة على رقمٍ قابلٍ للقسمة على (5) لا يمكن أن تجعله غير قابل للقسمة على (5)؛ لأنّ رقم عشرة قابل للقسمة على خمسة، وإضافة رقمٍ قابلٍ للقسمة على عدد معيّن إلى رقم قابل للقسمة على نفس العدد لا يمكن أن ينتج رقماً غير قابل للقسمة على ذلك العدد. ومن هنا كان بالإمكان: الوصول إلى التعميم المطلوب عن طريق ملاحظة 5 و 15 فقط، مع أخذ قابلية (10) للقسمة على (5) بعين الاعتبار، والالتفات إلى أنّ إضافة عددين قابلين للقسمة على عدد معيّن أحدهما إلى الآخر، لا يؤدّي إلى خروج المجموع عن قابلية القسمة على ذلك العدد المعيّن.
ويجب أن نميّز بهذا الصدد بين الاستقراء في الحساب، والاستنتاج الرياضي الذي يتوصّل إلى حكم عامّ وقانون رياضي معيّن لجميع الأعداد الصحيحة، عن طريق اتباع الخطوات التالية: