الاسس المنطقية للاستقراء
391

يستوعب احتمالات وجود (جَ، دَ، هَ)، وهي ثمانية احتمالات، سبعة منها تتضمّن نفي وجود (ت). وهذا العلم يثبت بقيمة احتمالية كبيرة وجود (أ).
وكلا هذين العلمين يوجد ما يناظره في الحالة السابقة، وكما كنّا نحدّد درجة التنمية في الحالة السابقة على أساس الضرب، كذلك لا بدّ هنا لتحديدها من الضرب، ولكن تتميّز الحالة الثانية بعلم إجمالي ثالث، وهو الذي يستوعب احتمالات السببيّة. ولكي يصلح أن يفسّر وجود (ب) على أساس (ت) لا يكفي أن نفترض وجود (ت) بعناصره الثلاث، بل لا بدّ من افتراض سببيّة (جَ) ل (ج)، و (هَ) ل (ه)، و (دَ) ل (د). والعلم الإجمالي الثالث هو: الذي يشمل هذا الافتراض المحتمل مع بدائله المحتملة، ويتكوّن من مجموع ثمانية احتمالات، سبعة منها تتضمّن أنّ ماهيّة (ت) ليست سبباً لماهيّة (ب)، وتستلزم بالتالي أن يكون (أ) موجوداً، إذ ما دام (ت) ليس سبباً ل (ب) و (ب) موجود فلا بدّ أن يكون (أ) موجوداً.
فكما أنّ العلم الإجمالي الثاني يثبت بقيمة احتمالية كبيرة وجود (أ)، كذلك هذا العلم الثالث، غير أنّ ذاك العلم يثبت وجود (أ) عن طريق تخفيض قيمة احتمال وجود (ت)، وهذا العلم يثبت وجود (أ) عن طريق تخفيض قيمة احتمال سببيّة ماهيّة (ت) لماهيّة (ب). والفارق الأساس بين العلمين: أنّ القيمة التي يحدّدها العلم الإجمالي الثاني ليست حاكمة على القيمة التي كان العلم الإجمالي القبلي يحدّدها، ولهذا كنّا بحاجة إلى ضرب أحد العلمين بالآخر، وأمّا القيمة التي يحدّدها العلم الإجمالي الثالث فهي حاكمة على قيم العلم الإجمالي القبلي، تطبيقاً لبديهية الحكومة؛ لأنّ المعلوم بالعلم الإجمالي القبلي وجود مصداق لماهيّةٍ بينها وبين ماهيّة (ب) علاقة السببيّة، والعلم الإجمالي الثالث ينفي- بدرجة كبيرة من الاحتمال- أن يكون بين ماهية (ت) وماهية (ب) علاقة السببيّة، وبهذا ينفي أن‏

390

الإجمالي الثاني الذي يضعّف احتمال اجتماع العناصر الثلاثة التي يتكوّن منها (ت)، على اساسه ننمّي احتمال وجود مصداق لماهيّة (أ)، وتحدّد قيمة هذا الاحتمال وفقاً لقاعدة الضرب بين العلمين.
وبصورة عامّة تتميّز هذه الحالة:
أوّلًا: بأنّ أساس التنمية هو علم إجمالي يضعف قيمة احتمال وجود مصداق لماهيّة (ت).
وثانياً: أنّ أساس تحديد القيمة الحقيقية لاحتمال وجود مصداق لماهيّة (أ) هو الضرب.

الحالة الثانية:

ينمّي الدليل الاستقرائي في هذه الحالة قيمة احتمال وجود (أ)، على أساس علم إجمالي يضعّف قيمة احتمال سببيّة (ت)، وأمثلتها كما يلي:
1- نفترض أنّ (ب) يعبّر عن ثلاث وقائع: (ج، د، ه)، وأنّ (أ) يعبّر عن واقعة واحدة، وأنّ (ت) يعبّر عن ثلاث وقائع هي: (جَ، دَ، هَ)، ونفترض أ نّا نعلم بأنّ بين ماهيّة (أ) وماهيّة (ب) علاقة سببيّة، ونحتمل أن يكون بين ماهيّتي (جَ) و (ج) علاقة السببيّة، كما نحتمل أن يكون بين (دَ) و (د) هذه العلاقة، ونحتمل أيضاً أن يكون بين (هَ) و (ه) العلاقة نفسها. فإذا لاحظنا وجود (ب) ولا ندري عن وجود (أ) أو (ت) شيئاً، فهناك علم إجمالي قبلي بوجود مصداقٍ إمّا لماهيّة (أ) أو لماهية (ت)، والمعلوم بهذا العلم مصداق غير محدّد ولكنّه مقيّد بصفة، وهي أ نّه مصداق لماهيّةٍ بينها وبين ماهيّة (ب) علاقة السببيّة. فنحن نعلم بأنّ هناك مصداقاً لماهيّة بينها وبين ماهيّة (ب) علاقة السببيّة، بدليل وجود مصداق لماهيّة (ب) فعلًا. ويوجد إلى جانب ذلك علم إجمالي ثان، وهو: العلم الذي‏

389

يساوي 2/ 1، فسوف نحصل على علم إجمالي آخر، وهو علم يستوعب احتمالات وجود (ح) (ه) (خ). وهذا العلم يشتمل على ثمانية احتمالات، وواحد منها هو: احتمال وجود (ح) و (ه) و (خ) جميعاً، وسبعة احتمالات تتضمّن انتفاء إحدى تلك الوقائع الثلاث على الأقلّ. وهذه السبعة تستلزم وجود (أ)؛ لأنّها تفترض نفي (ت)، وما دام (ب) موجوداً وليس هناك (ت) ف (أ) موجود إذن، وذلك الاحتمال الوحيد الذي يفترض وجود (ح) و (ه) و (خ) جميعاً حيادي تجاه وجود (أ) وعدمه، وبهذا تصبح قيمة احتمال وجود (أ) بموجب هذا العلم الإجمالي: 28/ 1 7/ 16/ 15.

ونلاحظ في هذا الضوء اختلاف العلمين الإجماليين في القيمة التي يحدّدها كلّ منهما لاحتمال وجود (أ)، فلا بدّ للحصول على القيمة الحقيقية لهذا الاحتمال من تطبيق بديهية الحكومة أو قاعدة الضرب.
وبهذا الصدد نجد أ نّه لا موضع لتطبيق بديهية الحكومة؛ لأنّ القيمة الاحتمالية التي يثبتها العلم الإجمالي الثاني لوجود (أ) لا تنفي مصداقية (ت) للكلّي المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل، فلا مبرّر لحكومة العلم الثاني على العلم الأوّل، ولا بدّ إذن من الضرب، وبالضرب نحصل على ستّ عشرة صورة، وسبع منها غير ممكنة وهي: الصور التي تفترض وجود (ت) ولا تفترض اجتماع (ح) (ه) (خ). فتبقى تسع صور ممكنة، ثمان منها في صالح وجود (أ)، واثنتان منها في صالح وجود (ت)- وإحدى هاتين الحالتين هي إحدى الحالات الثمان-، وبهذا تكون قيمة احتمال وجود (أ) الحقيقية بعد التنمية: 9/ 8.
والشي‏ء نفسه يقال إذا كان كلّ من ماهية (أ) وماهية (ت) محتمل السببيّة لماهيّة (ب) بدرجة واحدة، ولاحظنا وجود (ب)، فإنّا نستخدم نفس العلم‏

388

وتطبيقاً لبديهية الحكومة عرفنا: أنّ القيمة الاحتمالية التي يحدّدها العلم البعدي حاكمة على القيمة الاحتمالية التي كان العلم القبلي يحدّدها، فلا حاجة إلى الضرب.
وللمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي شكل آخر يختلف عن الشكل السابق؛ لأنّه يستهدف إثبات وجود (أ)، بينما وجود (أ) كان معلوماً في التطبيق الأوّل، وكان الدليل الاستقرائي يتّجه إلى إثبات سببيّته.
وهذا الشكل له حالات:

الحالة الاولى:

ينمّي الدليل الاستقرائي في هذه الحالة قيمة احتمال وجود (أ) على أساس علم إجمالي يضعّف قيمة احتمال وجود (ت)، وأمثلتها كما يلي:
نفترض أ نّا استطعنا أن نعرف، من خلال الشكل السابق للدليل الاستقرائي أو لأيّ مبرّر آخر: أنّ ماهيّة (ب) لها سببان: أحدهما ماهيّة (أ)، والآخر ماهيّة (ت). فهناك علاقتا سببيّة معلومتان، ونفترض أنّ (أ) يعبّر عن واقعة واحدة، بينما يعبّر (ت) عن مجموعة وقائع متعدّدة نرمز إليها ب « (ح) (ه) (خ)»، وما لم تجتمع هذه الوقائع الثلاث لا يتكوّن (ت) الذي يمثّل السبب الثاني ل (ب). فإذا رأينا (ب) قد وقع مرّة فسوف يوجد لدينا- على أساس الافتراض السابق- علم إجمالي بأنّ هناك مصداقاً لماهيّة (أ) أو لماهيّة (ت) قد وجد، ووجد على أساسه (ب). وعلى أساس هذا العلم تحدّد قيمة الاحتمال القبلي- أي قبل التنمية- لوجود (أ) ب 2/ 1، ولهذا نسمّيه ب «العلم الإجمالي القبلي».
ولكن إذا افترضنا أنّ احتمال واقعة (أ) يكافئ احتمال أيّ واقعة من الوقائع الثلاث التي تكوّن بمجموعها (ت)، وأنّ كلّ واحد من تلك الاحتمالات‏

387
الشكل الآخر للمرحلة الاستنباطيّة

كنّا في تفسيرنا للمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي نطبّق هذه المرحلة على القضية القائلة: «إنّ كلّ (أ) يعقبها (ب)»، ومردّ هذه القضية- كما عرفنا سابقاً- إلى القضية القائلة: «إنّ (أ) سبب ل (ب)» لأنّ سببيّة (أ) ل (ب) بمفهومها العقلي تستبطن أو تستلزم التعميم المتقدّم الذكر. وعلى هذا الأساس كانت جهود الدليل الاستقرائي في المرحلة الاستنباطية منصبّة- وفقاً للطريقة التي شرحناها- على تنمية احتمال سببيّة (أ) ل (ب) من خلال التجارب المتكرّرة التي توجد فيها (أ) فيبرز (ب) إلى الوجود أيضاً. فهناك- إذن- شي‏ء معلوم، وهو وجود (أ) في جميع الحالات التي لوحظ فيها وجود (ب)، وهناك شي‏ء مجهول، وهو سببيّة (أ) ل (ب)، ويراد بالدليل الاستقرائي تنمية احتمال هذه السببيّة، وتخفيض احتمال استناد (ب) إلى (ت).
وقد لاحظنا أنّ لدينا- في الغالب- علمين إجماليين:
أحدهما: العلم الإجمالي القبلي بأنّ سبب (ب) إمّا (أ) وإمّا (ت)، وعلى أساس هذا العلم يحدّد الاحتمال القبلي لسببيّة (أ) ل (ب).
والآخر: العلم الإجمالي البعدي الذي يستوعب احتمالات وجود (ت) في التجارب الناجحة، وعلى أساس هذا العلم تحدّد قيمة الاحتمال البعدي لسببيّة (أ) ل (ب).

386

كلّ مجموعة من تلك المجاميع بنسبة واحد إلى خمسة، فخرجنا من ذلك بتعميم لهذه النسبة على كلّ مجموعة اخرى تشتمل على مائة حالة من حالات وجود (أ)، وعبّرنا عن ذلك في قانون إحصائي يقول: إنّ (أ) يعقبها (ب) عشرين مرّة في كلّ مائة مرّة.
فنحن- إذن- قمنا بتعميم استقرائي للنسبة الإحصائية إلى سائر المجاميع الاخرى التي لم يشملها إحصاؤنا المباشر، وهذا التعميم الاستقرائي بنفسه يحتاج إلى افتراض مبدأ السببيّة بمفهومها العقلي- ولو على مستوى الاحتمال-، إذ لو استبعدنا نهائياً فكرة السببيّة العقلية وآمنّا بالصدفة المطلقة، فهذا يعني: أنّ ظهور (ب) عشرين مرّة في كلّ مجموعة من المجاميع التي شملها إحصاؤنا، كان صدفة وبدون أيّ سبب يحتّم ذلك، وفي هذه الحالة لا يمكن أن نعمّم نسبة ظهوره إلى سائر المجاميع الاخرى. ويفقد الدليل الاستقرائي قدرته على تنمية احتمال هذا التعميم؛ لأنّ الصدفة ليس من الضروري أن تتكرّر، كما أوضحنا في تفسيرنا المتقدّم للمرحلة الاستنباطية من الاستقراء.
وهكذا نعرف أنّ القوانين الإحصائية التي تستخدمها العلوم، بدلًا عن التعميمات السببيّة، ليست- من وجهة نظر تحليلية للدليل الاستقرائي- بديلًا لمبدأ السببيّة بمفهومه العقلي، بل إنّ أيّ قانون إحصائي هو نتيجة استقراء وتعميم استقرائي لنسبة التكرّر، وهذا التعميم بدوره يتوقّف على افتراض مبدأ السببيّة العقلية ولو على مستوى الاحتمال؛ لأنّ كلّ تعميم استقرائي لا يمكن أن يستغني عن هذه المصادرة، كما تبيّن في الطريقة التي فسّرنا بها المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي.

385

قول من هذا القبيل‏[1].

وعلى هذا الأساس أصبح من المعقول استبدال السببيّة العقلية بالاطرادات الإحصائية، فبدلًا من القول بأنّ (أ) ستسبّب (ب) إلّاإذا لم تسبّبها، نقول: إنّ (أ) تعقبها (ب) مرّة واحدة أو خمسين مرّة في كلّ مائة مرّة يوجد فيها (أ). وبهذا نصل إلى قانون مفيد يمكن اتخاذه أساساً لمعرفتنا بما حولنا من الأشياء.

ولا شكّ في أنّ قضية تتحدّث عن نسبة اطراد وجود (ب) عقيب (أ) هي أكثر فائدة من قضية تقول: إنّ (أ) ستسبّب (ب) إلّاإذا لم تسبّبها، ولكن هذا لا يدعونا إلى رفض مبدأ السببيّة. فنحن لو كنّا قادرين على أن نستوعب كلّ الموانع التي تحول دون تأثير (أ) في إيجاد (ب)- ولنفرض أ نّها عبارة عن (ج) (د) (ه) (ي)- لأمكننا أن نصوغ التعميم السببي صياغة معقولة فنقول: إنّ (أ) تسبّب (ب) إلّاإذا اتّفق وجود (ج) أو (د) أو (ه) أو (ي). وحيث أنّ استيعاب كلّ تلك الموانع غير ميسور- بموجب الافتراض الذي تقدّم- فليس بإمكاننا الوصول إلى صياغة من هذا القبيل للتعميم السببي.

وعلى هذا الأساس نحاول، بدلًا من استيعاب الموانع، أن نعرف بالاستقراء نسبة وجودها إلى مجموع حالات وجود (أ)، لنخرج بإحصاء لدرجة تكرّر وجود (ب) عقيب (أ)، فإذا لاحظنا مثلًا: أنّ النسبة هي واحد من خمسة، فسوف نقول: إنّ (أ) يعقبها (ب) عشرين مرّة في كلّ مائة مرّة يوجد فيها (أ). ونحن في الحصول على هذه النسبة الإحصائية لوجود (ب) في حالات وجود (أ)، اعتمدنا على الاستقراء، أي أ نّنا جرّبنا مجاميع عديدة من حالات وجود (أ)، كلّ مجموعة تشتمل على مائة حالة من حالات وجود (أ)، فرأينا أنّ (ب) تكرّر في‏

 

[1] المعرفة الإنسانية لرسل: 474- 475

384

الجسيم البسيط، ولا أن تفسّر اختلافاتها على أساس قانون عامّ يتيح للعالم أن يتنبّأ دائماً بالوضع المستقبل، على ضوء ما يعرفه من ظروف وأحوال، وهذا لا يكفي وحده للبرهنة على نفي مبدأ السببيّة، بل إنّه يؤدّي- في حالة عدم وجود مبرّرات عقلية قبلية للإيمان بهذا المبدأ- إلى الشكّ في وجود السبب، والشكّ معناه احتمال مبدأ السببيّة، وهذا هو كلّ ما نريده كمصادرة للدليل الاستقرائي.
وحتّى إذا افترضنا أنّ العلم استطاع أن يتأكّد من عدم وجود أسباب محدّدة تقوم على أساسها ظواهر العالم الذرّي وتصرّفات الجسيم البسيط، فهذا لا يمنع من احتمال مبدأ السببيّة بالنسبة إلى عالم المركّبات وما يضمّ من ظواهر، وبالتالي نحتفظ بالمصادرة التي يحتاجها الدليل الاستقرائي بالنسبة إلى هذا العالم.

4- التبرير العملي:

بقيت حجّة واحدة تساق عادة لتبرير الانتقال من فكرة السببيّة، بمفهومها العقلي الذي يستبطن الضرورة والحتمية، إلى فكرة القانون السببي الذي يتحدّث عن مجرّد التتابع بين ظاهرتين.
ويقول (رسل) في توضيح هذه الحجّة: إنّنا إذا افترضنا الحصول على تعميم يقول بأنّ (أ) هي سبب (ب)، مثلًا جوزات البلّوط تسبّب أشجار البلّوط، وكانت هناك فترة محدّدة بين (أ) و (ب)، فقد يحدث شي‏ء خلال هذه الفترة لمنع (ب)، فقد تأكل الخنازير جوزات البلّوط مثلًا. ولا نستطيع أن نأخذ بنظر الاعتبار ما في العالم من تعقيدات لامتناهية، ولذلك يصبح التعميم السببي الذي حصلنا عليه كما يلي: «إنّ (أ) ستسبّب (ب) إذا لم يحصل شي‏ء يمنع (ب)». وبعبارة اخرى: «إنّ (أ) ستسبّب (ب) إلّاإذا لم تسبّبها». ولا يوجد أيّ معنى مفيد في‏

383

قضية أو نفيها لا يمكن أن نزعم المعرفة بصدقها أو كذبها. وهذا يعني أ نّه لا يسمح لنا برفض القضية والاعتقاد بعدمها لمجرّد أنّ الخبرة والتجربة لم تثبت صدقها؛ لأنّ المعرفة بالنفي كالمعرفة بالإثبات لا يمكن قبولها من وجهة نظر تجريبية ما لم تستند إلى الخبرة. فالقضية القائلة: إنّ هناك علاقات ضرورة بين السبب والمسبّب، لا يمكن أن نثبتها ولا أن ننفيها إلّاعلى أساس التجربة، ويعني ذلك أنّ هذه القضية سوف تكون محتملة في ظلّ المذهب التجريبي، وهذا الاحتمال هو الذي يحقّق الشرط المسبق الذي يتطلّبه الدليل الاستقرائي لكي يتمكّن من ممارسة المرحلة الاستنباطية على أساس الطريقة التي شرحناها في البحوث السابقة.
فما دمنا قد أوضحنا أنّ الشرط الأساس للمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي هو أن يبدأ هذا الدليل من احتمال علاقة الضرورة بين (أ) و (ب)، وليس من الضروري أن يبدأ من الاعتقاد بها والتأكيد المسبق لها، فسوف يتاح للدليل الاستقرائي أن يحصل على شرطه في ظلّ المذهب التجريبي والعقلي على السواء.

3- التبرير العلمي:

وهناك الاتجاه الذي بدأه بعض علماء الفيزياء الذرّية على أساس مجموعة من التجارب العلمية في مجال الذرّة، وهو اتجاه يميل إلى القول بأنّ مبدأ السببيّة- بما تحتوي من حتمية وضرورة- لا ينطبق على العالم الذرّي.
ومن الواضح أنّ عدم إمكان التوصّل إلى تفسير سببي لسلوك الجسيم البسيط أو الذرّة، لا يعني بحال من الأحوال نفي السببيّة، وإنّما يعني: أنّ التجارب العلمية لم تستطع أن تبرهن على وجود سبب لتلك الظواهر التي يمارسها ذلك‏