الاسس المنطقية للاستقراء
418

اليقين الموضوعي، فهل هناك مبرّرات موضوعية لكي يحصل التصديق الاستقرائي على أعلى درجة ممكنة، وهي درجة الجزم واليقين؟ أي أنّ درجة اليقين هل هي درجة صحيحة وموضوعية للتصديق الاستقرائي أو لا؟ فإن كانت صحيحة وموضوعية فاليقين بالقضية الاستقرائية يقين موضوعي، وإن كانت غير صحيحة ولا موضوعية فاليقين بالقضية الاستقرائية- إذا وجد في نفس الإنسان- فهو يقين ذاتي بحت.
وهذا ما سوف نبدأ بالتمهيد لمعرفته الآن- إن شاء اللَّه تعالى-.

حاجة اليقين الموضوعي إلى مصادرة:

عرفنا سابقاً: أنّ الدرجة الصحيحة والموضوعية للتصديق قد نتوصّل إليها بالاستنباط من درجات صحيحة وموضوعية اخرى لسائر التصديقات، وتكون الدرجة المستنبطة- عندئذٍ- درجة نظرية؛ لأنّها حدّدت بالبرهان. وقد نتوصّل إليها مباشرة بأن تكون الدرجة بديهية ومعطاة بصورة أوّلية. كما عرفنا أيضاً: أنّ التصديق الموضوعي بحاجة دائماً إلى افتراض مصادرة فحواها: أنّ هناك درجات من التصديق الموضوعي بديهية ومعطاة بصورة أوّلية.
وهذه الدرجات البديهية بحكم كونها معطاة بصورة أوّلية ليست مستنبطة بدورها من درجات اخرى لسائر التصديقات الموضوعية، ولكن هذا لا يعني- بطبيعة الحال-: أنّ كلّ درجة للتصديق لا يمكن استنباطها من الدرجات الاخرى للتصديق هي درجة بديهية ومعطاة بصورة أوّلية، وبالتالي تمثّل القيمة الموضوعية لذلك التصديق؛ لأنّ درجات التصديق الذاتي المنحرف عن خطّ التصديق الموضوعي كلّها درجات لا يمكن استنباطها من درجات سابقة، وهي مع ذلك ليست درجات موضوعية، ولا تمثّل القيمة الحقيقيّة للتصديق.

417

إحدى حالتين فقط»، وإنّما ينصبّ الاستنباط هنا على درجة التصديق، فتحدّد درجة التصديق بالقضية الاولى بأ نّها: 2/ 1، وتستنبط هذه الدرجة من الدرجة المحدّدة للتصديق بالقضية الثانية وفق نظرية الاحتمال.
وعلى أساس ما حصلنا عليه حتّى الآن من تمييز بين اليقين المنطقي واليقين الذاتي واليقين الموضوعي، نطرح من جديد السؤال الذي أثرناه في بداية البحث: هل أنّ القيمة الاحتمالية الكبيرة التي يحقّقها الدليل الاستقرائي في مرحلته الاولى الاستنباطية تتحوّل إلى يقين في مرحلة تالية من هذا الدليل أو لا؟

المرحلة الذاتية تتكفّل إثبات اليقين الموضوعي:

ويمكننا الآن أن نحدّد بوضوح ما نعنيه باليقين الذي نتساءل عنه وعن مدى قدرة الدليل الاستقرائي على إيجاده.
فنحن لا نتساءل هنا عن اليقين المنطقي الرياضي؛ لأنّنا حتّى إذا كنّا نعلم- على أساس الاستقراء- بأنّ (أ) سبب ل (ب)، فلسنا نقرّ باستحالة افتراض أن لا يكون (أ) سبباً ل (ب)، وأن يكون وجود (ب) في التجارب المتكرّرة نتيجة لسبب آخر لا علاقة له ب (أ)، وليست سببيّة (أ) ل (ب) متضمَّنة في خبرتنا الاستقرائية المباشرة التي لا تتجاوز عن ملاحظة اقتران أحدهما مع الآخر بصورة متكرّرة، فلا يقين منطقي، ولا يقين رياضي.
كما أ نّا لا نتساءل هنا- أيضاً- عن اليقين الذاتي؛ لأنّ وجود اليقين الذاتي بالقضايا الاستقرائية- عند كثير من الناس- ممّا لا يمكن أن يشكّ فيه أحد.
وإنّما نريد باليقين الذي نتساءل عن مدى قدرة الاستقراء على إيجاده:

416

قانون أعمّ وأشمل منها- كمصادرات الرياضة البحتة التي تشكّل البداية والقاعدة لاستنباط كلّ القضايا النظرية في هذا الميدان-، كذلك يجب، في مجال استنباط الدرجة الموضوعية للتصديق، أن نفترض بداية تحتوي على عدد من الدرجات لتصديقات معيّنة، وتكون هذه الدرجات موضوعية ومعطاة عطاء مباشراً في نفس الوقت، أي أ نّها لا تستمدّ موضوعيّتها وصحّتها من درجات سابقة. وهذا يعني:
أنّ الدرجات الموضوعية للتصديق على قسمين: أحدهما: الدرجة التي يمكن البرهنة على موضوعيّتها- أي على صحّتها- عن طريق درجات صحيحة لتصديقات سابقة. والآخر: الدرجة التي تكون موضوعيّتها- أي صحّتها- أوّلية ومعطاة بصورة مباشرة.
وفي هذا الضوء نعرف: أنّ أيّ تقييم موضوعي لدرجة التصديق يجب أن يفترض مصادرة مفادها: أنّ هناك درجات وتقييمات بديهية أوّلية وغير مستنبطة، إذ ما لم تكن هناك درجات تتمتّع بالصحّة الموضوعية بصورة مباشرة، لا يمكن أن توجد درجات مستنبطة.
كما نعرف في هذا الضوء أيضاً أنّ هناك خطّين للاستنباط في المعرفة البشرية: أحدهما: خطّ استنباط القضايا التي يتعلّق بها التصديق بعضها من بعض، والآخر: خطّ استنباط درجات التصديق المتعدّدة بعضها من بعض. فاستنباط القضية القائلة: «إنّ زوايا المثلّث تساوي قائمتين» من مصادرات الهندسة الإقليدية ينتمي إلى الخطّ الأوّل، وأمّا استنباط درجة التصديق الموضوعي بأنّ قطعة النقد سوف تبرز وجه الصورة من درجة التصديق الموضوعي بأنّ قطعة النقد سوف تواجه إحدى حالتين فقط، فهو من الخطّ الثاني؛ لأنّ الاستنباط هنا ليس استنباط قضية من اخرى، إذ أنّ القضية القائلة: «إنّ قطعة النقد سوف تبرز وجه الصورة» لا يمكن استنباطها من القضية القائلة: «إنّ قطعة النقد سوف تواجه‏

415

وقد يوجد يقين موضوعي ولا يقين ذاتي، أي تكون الدرجة الجديرة وفق المبرّرات الموضوعية هي درجة الجزم ولكن إنساناً معيّناً لا يجزم فعلًا، نظراً إلى ظرف غير طبيعي يمرّ به.
وهكذا نعرف: أنّ اليقين الموضوعي له طابع موضوعي مستقلّ عن الحالة النفسية والمحتوى السيكولوجي الذي يعيشه هذا الإنسان أو ذاك فعلًا. وأمّا اليقين الذاتي فهو يمثّل الجانب السيكولوجي من المعرفة.
وكما يوجد يقين موضوعي بهذا المعنى في مقابل اليقين الذاتي، كذلك يوجد احتمال موضوعي في مقابل الاحتمال الذاتي. فالاحتمال الموضوعي يعبّر عن درجة محدّدة من التصديق الاحتمالي وهي الدرجة التي تفرضها المبرّرات الموضوعية، فيكون الاحتمال موضوعياً إذا كانت درجته تتطابق مع الدرجة التي تفرضها المبرّرات الموضوعية. والاحتمال الذاتي يعبّر عن الدرجة الاحتمالية الموجودة فعلًا في نفس شخص معيّن سواء كانت متطابقة مع تلك المبرّرات أم لا.
وسوف نعبّر بكلمة التصديق الموضوعي عن اليقين الموضوعي والاحتمال الموضوعي بدرجاته المتفاوتة، ونعبّر بكلمة التصديق الذاتي عن اليقين الذاتي والاحتمال الذاتي بدرجاته المتفاوتة أيضاً.
بقي علينا أن نعرف ما هي المبرّرات الموضوعية التي تحدّد درجة التصديق، وكيف يمكن أن نحدّد الدرجة الموضوعية لتصديقاتنا؟
إنّ الدرجة الموضوعية للتصديق هي: تلك الدرجة التي يمكن استنباطها من الدرجات الموضوعية لتصديقات سابقة، فكما أنّ قضية من قضايا الرياضة أو المنطق تستنبط من قضايا اخرى، كذلك الدرجات الموضوعية للتصديقات تستنبط من الدرجات الموضوعية لتصديقات سابقة. وكما يجب في مجال استنباط القضايا بعضها من بعض أن نفترض بداية غير مستنبطة ولا مندرجة ضمن‏

414

وجزم- على أساس هذا الاستبعاد- بأنّ هذا الكتاب ليس هو الكتاب الناقص، فهذا يعني: أنّ اليقين الذاتي قد وجد لديه، ولكنّنا نستطيع أن نقول بأ نّه مخطئ في يقينه هذا، وحتّى إذا لم يكن هذا الكتاب هو الكتاب الناقص حقّاً فإنّ ذلك لا يقلّل من أهمية الخطأ الذي تورّط فيه هذا الشخص. وسوف يكون بإمكاننا أن نحاجّه قائلين: وما رأيك في الكتاب الآخر وفي الكتاب الثالث … وهكذا؟ فإن أكّد جزمه ويقينه الذاتي بأنّ الكتاب الآخر ليس هو الناقص أيضاً، وكذلك الثالث …
وهكذا، فسوف يناقض نفسه؛ لأنّه يعترف فعلًا بأنّ هناك كتاباً ناقصاً في مجموعة الكتب. وإن لم يسرع إلى الجزم في الكتاب الثاني أو الثالث طالبناه بالفرق بين الكتاب الأوّل والثاني … وهكذا، حتّى نغيّر موقفه من الكتاب الأوّل، ونجعل درجة تصديقه بعدم نقصانه لا تتجاوز القدر المعقول لها، فلا تصل إلى اليقين والجزم.
فهناك- إذن- تطابقان في كلّ يقين: تطابق القضية التي تعلّق اليقين بها مع الواقع، وتطابق درجة التصديق التي يمثّلها اليقين مع الدرجة التي تحدّدها المبرّرات الموضوعية.
ومن هنا نصل إلى فكرة التمييز بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي، فاليقين الذاتي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة سواء كان هناك مبرّرات موضوعية لهذه الدرجة أم لا، واليقين الموضوعي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبرّرات الموضوعية. أو بتعبير آخر: إنّ اليقين الموضوعي هو أن تصل الدرجة التي تفرضها المبرّرات الموضوعية إلى الجزم.
وعلى هذا الأساس قد يوجد يقين ذاتي ولا يقين موضوعي، كما في يقين ذلك الشخص الذي يرمي قطعة النقد ويجزم مسبقاً بأنّ وجه الصورة سوف يبرز،

413

الكشف عن الحقيقة، وإلّا فهو مخطئ.
والآخر: الحقيقة والخطأ في اليقين من الناحية الثانية، أي من ناحية الدرجة التي يمثّلها من درجات التصديق، فقد يكون اليقين مصيباً وكاشفاً عن الحقيقة من الناحية الاولى ولكنّه مخطئ في درجة التصديق التي يمثّلها. فإذا تسرّع شخص وهو يلقي قطعة النقد، فجزم بأ نّها سوف تبرز وجه الصورة نتيجةً لرغبته النفسية في ذلك، وبرز وجه الصورة فعلًا، فإنّ هذا الجزم واليقين المسبق يعتبر صحيحاً وصادقاً من ناحية القضية التي تعلّق بها؛ لأنّ هذه القضية طابقت الواقع، ولكنّه رغم ذلك يعتبر يقيناً خاطئاً من ناحية درجة التصديق التي اتّخذها بصورة مسبقة، إذ لم يكن من حقّه أن يعطي درجةً للتصديق بالقضية «إنّ وجه الصورة سوف يظهر» أكبر من الدرجة التي يعطيها للتصديق بالقضية الاخرى «إنّ وجه الكتابة سوف يظهر».
وما دمنا قد افترضنا إمكانية الخطأ في درجة التصديق، فهذا يعني:
افتراض أنّ للتصديق درجة محدّدة في الواقع طبق مبرّرات موضوعيّة، وأنّ معنى كون اليقين مخطئاً أو مصيباً في درجة التصديق: أنّ درجة التصديق التي اتّخذها اليقين في نفس المتيقّن تطابق أو لا تطابق الدرجة التي تفرضها المبرّرات الموضوعيّة للتصديق.
ولنأخذ مثالًا آخر: نفترض أ نّنا دخلنا إلى مكتبة ضخمة تضمّ مائة ألف كتاب، وقيل لنا: إنّ كتاباً واحداً فقط من مجموعة هذه الكتب قد وقع نقص في أوراقه، ولم يعيّن لنا هذا الكتاب. ففي هذه الحالة إذا ألقينا نظرة على كتاب معيّن من تلك المجموعة فسوف نستبعد جدّاً أن يكون هو الكتاب الناقص؛ لأنّ قيمة احتمال أن يكون هو ذاك هي: 000، 1100، ولكن إذا افترضنا أنّ شخصاً ما تسرّع‏

412

أجل تضمّن أحدهما في الآخر، أو لأنّ أحدهما من لوازم الآخر.
2- اليقين الذاتي، وهو يعني: جزم الإنسان بقضيّة من القضايا بشكل لا يراوده أيّ شكّ أو احتمال للخلاف فيها.
وليس من الضروري في اليقين الذاتي أن يستبطن أيّ فكرة عن استحالة الوضع المخالف لما علم، فالإنسان قد يرى رؤيا مزعجة في نومه فيجزم بأنّ وفاته قريبة، وقد يرى خطّاً شديد الشبه بما يعهده من خطّ رفيق له فيجزم بأنّ هذا هو خطّه، ولكنّه في نفس الوقت لا يرى أيّ استحالة في أن يبقى حيّاً، أو في أن يكون هذا الخطّ لشخص آخر، رغم أ نّه لا يحتمل ذلك؛ لأنّ كونه غير محتمل لا يعني أ نّه مستحيل.
3- اليقين الموضوعي، وفي سبيل توضيح هذا المعنى لليقين يجب أن نميّز في اليقين- أيّ يقين- بين ناحيتين: إحداهما القضية التي تعلّق بها اليقين.
والاخرى درجة التصديق التي يمثّلها اليقين. فحين يوجد في نفسك يقين بأنّ جارك قد مات، تواجه قضيّة تعلّق بها اليقين، وهي: أنّ فلاناً مات، وتواجه درجة معيّنة من التصديق يمثّلها هذا اليقين؛ لأنّ التصديق له درجات تتراوح من أدنى درجة للاحتمال إلى الجزم، واليقين يمثّل أعلى تلك الدرجات، وهي درجة الجزم الذي لا يوجد في إطاره أيّ احتمال للخلاف.
وإذا ميّزنا بين القضية التي تعلّق بها اليقين ودرجة التصديق التي يمثّلها ذلك اليقين، أمكننا أن نلاحظ أنّ هناك نوعين ممكنين من الحقيقة والخطأ في المعرفة البشرية:
أحدهما: الحقيقة والخطأ في اليقين من الناحية الاولى، أي من ناحية القضية التي تعلّق بها. والحقيقة والخطأ من هذه الناحية مردّهما إلى تطابق القضية التي تعلّق بها اليقين مع الواقع وعدم تطابقها، فإذا كانت متطابقة فاليقين صادق في‏

411

الأرسطي بكلمة «اليقين»، ويعني اليقين المنطقي: العلم بقضية معيّنة، والعلم بأنّ من المستحيل أن لا تكون القضية بالشكل الذي علم. فاليقين المنطقي مركّب من علمين، وما لم ينضمّ العلم الثاني إلى العلم الأوّل لا يعتبر يقيناً في منطق البرهان، فإذا فرضنا- مثلًا- تلازماً منطقياً بين قضيّتين على أساس تضمّن إحداهما للُاخرى من قبيل «زيد إنسان»، «زيد إنسان عالم»، فنحن نعلم بأنّ زيداً إذا كان إنساناً عالماً فهو إنسان، أي نعلم بأنّ القضية الثانية إذا كانت صادقة فالقضية الاولى صادقة، وهذا العلم يقين منطقي؛ لأنّه يستبطن العلم بأنّ من المستحيل أن لا يكون الأمر كذلك.
وكما يمكن أن ينصبّ اليقين المنطقي- من وجهة نظر منطق البرهان- على العلاقة بين قضيّتين بوصفها علاقة ضرورة من المستحيل أن لا تكون قائمة بينهما، كذلك يمكن أن ينصبّ على قضية واحدة حين يكون ثبوت محمولها لموضوعها ضرورياً. فعلمنا مثلًا بأنّ الخطّ المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين، يعتبر- من وجهة نظر المنطق الأرسطي للبرهان- يقيناً؛ لأنّنا نعلم بأنّ من المستحيل أن لا يكون الخطّ المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين.
وأمّا اليقين الرياضي فهو يندرج في اليقين المنطقي بمفهومه الذي رأيناه في منطق البرهان الأرسطي؛ لأنّ اليقين الرياضي يعني: تضمّن إحدى القضيّتين للُاخرى. فإذا كانت هناك دالّة قضيّة تعتبر متضمّنة في دالّة قضية اخرى من قبيل:
(س) إنسان، مع (س) إنسان عالم، قيل من وجهة نظر رياضية: إنّ دالّة القضية الاولى تعتبر يقينية من حيث علاقتها بدالّة القضية الثانية.
فاليقين الرياضي يستمدّ معناه من تضمّن إحدى الدالّتين في الاخرى، بينما اليقين المنطقي في منطق البرهان يستمدّ معناه من اقتران العلم بثبوت شي‏ء لشي‏ء بالعلم باستحالة أن لا يكون هذا الشى‏ء ثابتاً لذاك، سواء كانت هذه الاستحالة من‏

410

هي: درجة من التصديق بقضية «أنّ (أ) سبب ل (ب)»، وليست قضية السببيّة نفسها. وبإمكاننا أن نعبّر عن هذا بتعبير آخر وهو: أنّ المستنبط من الدليل الاستقرائي نفس قضية السببيّة- سببية (أ) ل (ب)- ولكن بدرجة من التصديق تقلّ عن اليقين.
فسواء ميّزنا بين قضية السببيّة وقضية درجة التصديق بها، وافترضنا أنّ النتيجة المستنبطة من الاستقراء هي القضية الثانية دون الاولى، أم افترضنا قضية واحدة وهي قضية السببيّة، وافترضنا أ نّها هي المستنبطة من الدليل الاستقرائي مباشرة، ولكن استنباطها يعني درجة من التصديق تقلّ عن اليقين، سواء عبّرنا بهذا الشكل أو بذاك فإنّ هناك حقيقة ثابتة على كلّ حال وهي: أنّ المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي لا تؤدّي إلى اليقين بالسببيّة، ولا إلى اليقين بالتعميم الاستقرائي، وإنّما تعطي قيمة احتمالية كبيرة لدرجة التصديق بتلك السببيّة وهذا التعميم.
والسؤال الأساس الذي يواجهنا لدى دراسة المرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي هو: هل أنّ هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحوّل إلى يقين في مرحلة تالية من الدليل الاستقرائي أو لا؟

اليقين المنطقي والموضوعي والذاتي:

ولكي ندرس ذلك يجب أن نحدّد معنى اليقين الذي نتحدّث عنه، حينما نتساءل عن تحوّل القيمة الاحتمالية الكبيرة إلى يقين في مرحلة تالية من الدليل الاستقرائي.
فإنّا يجب أن نميّز بين ثلاثة معانٍ لليقين:
1- اليقين المنطقي أو «الرياضي»، وهو المعنى الذي يقصده منطق البرهان‏