کتابخانه
309

القوانين الكونية العامّة. فالتغيّرات الكمّية التدريجية في المجتمع تتحوّل بصورة انقلابية في منعطفات تأريخية كبرى إلى تغيّر نوعي، فيتهدّم الشكل الكيفي القديم للهيكل الاجتماعي العامّ، ويتحوّل إلى شكل جديد.

هكذا يصبح من الضروري- لا من المستحسن فقط- أن تنفجر تناقضات البناء الاجتماعي العام عن مبدأ انقلابي جارف، تُقصى فيه الطبقة المسيطرة سابقاً التي أصبحت ثانوية في عملية التناقض، ويحكم بإبادتها؛ ليفسح مجال السيطرة للنقيض الجديد الذي رشّحته التناقضات الداخلية؛ ليكون الطرف الرئيسي في عملية التناقض.

قال (ماركس وأنجلز):

«ولا يتدنّى الشيوعيون إلى إخفاء آرائهم، ومقاصدهم، ومشاريعهم، بل يعلنون صراحة: أنّ أهدافهم لا يمكن بلوغها وتحقيقها إلّابهدم كلّ النظام الاجتماعي التقليدي بالعنف والقوّة»[1].

وقال (لينين):

«إنّ الثورة البروليتارية غير ممكنة بدون تحطيم جهاز الدولة البورجوازي بالعنف»[2].

وما على الماركسية بعد أن وضعت قانون القفزات التطوّرية إلّاأن تفحص عن عدّة أمثلة- فتسردها سرداً عاجلًا، على حدّ تعبير أنجلز- للتدليل بها على القانون المزعوم بعمومه وشموله. وهذا ما قامت به الماركسية تماماً، فقدّمت لنا

 

[1] البيان الشيوعي: 8

[2] اسس اللينينية: 66

308

وليس هذا التطوّر الديالكتي حركة دائرية للمادّة، ترجع فيها إلى نفس مبدئها، بل هي حركة تكاملية صاعدة أبداً ودائماً.
وحين يُعترض على الماركسية هنا: بأنّ الطبيعة قد تتحرّك حركات دائرية، كما في الثمرة التي تتطوّر إلى شجرة، ثمّ تعود بالتالي إلى ثمرة كما كانت.
تجيب: بأنّ هذه الحركة هي- أيضاً- تكاملية، وليست دائرية كالحركات التي يرسمها الفرجال، غير أنّ مردّ التكامل فيها إلى الناحية الكمّية لا الكيفية، فالثمرة وإن عادت في نهاية شوطها الصاعد ثمرة أيضاً، غير أ نّها تكاملت تكاملًا كمّياً؛ لأنّ الشجرة- التي انبثقت عن ثمرة واحدة- أفرعت عن مئات الثمرات، فلم يتحقّق رجوع للحركة أبداً.
وقبل كلّ شي‏ء يجب أن نلاحظ الهدف الكامن وراء هذا الخطّ الديالكتي الجديد. فقد عرفنا أنّ الماركسية تضع الخطّة العملية للتطوير السياسي المطلوب، ثمّ تفتّش عن المبرّرات المنطقية والفلسفية لتلك الخطّة، فما هو التصميم الذي انشئ هذا القانون الديالكتي لحسابه؟
ومن الميسور جداً الجواب على هذا السؤال؛ فإنّ الماركسية رأت أنّ الشي‏ء الوحيد الذي يشقّ الطريق إلى سيطرتها السياسية، أو إلى السيطرة السياسية للمصالح التي تتبنّاها، هو: الانقلاب. فذهبت تفحص عن مستمسك فلسفي لهذا الانقلاب، فلم تجده في قانوني الحركة والتناقض؛ لأنّ هذين القانونين إنّما يحتّمان على المجتمع أن يتطوّر تبعاً للتناقضات المتوحّدة فيه. وأمّا طريقة التطوّر ودفعيّته فلا يكفي مبدأ الحركة التناقضية لإيضاحها. ولذلك صار من الضروري أن يوضع قانون آخر ترتكز عليه فكرة الانقلاب. وكان هذا القانون هو: قانون قفزات التطوّر القائل بتحوّلات دفعية للكمّية إلى كيفية. وعلى أساس هذا القانون لم يعدِ الانقلاب جائزاً فحسب، بل يكون ضرورياً وحتمياً بموجب‏

307

3- قفزات التطوّر

قال ستالين:

«إنّ الديالكتيك- خلافاً للميتافيزية- لا يعتبر حركة التطوّر حركة نموّ بسيطة، لا تؤدّي التغييرات الكمّية فيها إلى تغيّرات كيفية، بل يعتبرها تطوّراً ينتقل من تغيّرات كمّية ضئيلة وخفيّة إلى تغيّرات ظاهرة وأساسية، أي: إلى تغيّرات كيفية. وهذه التغيّرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعة فجائية، وتحدث بقفزات من حالة إلى اخرى. وليست هذه التغيّرات جائزة الوقوع، بل هي ضرورية، وهي نتيجة تراكم تغيّرات كمّية غير محسوسة، وتدريجية. ولذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أنّ من الواجب فهم حركة التطوّر لا من حيث هي حركة دائريه، أو تكرار بسيط للطريق نفسه، بل من حيث هي حركة تقدّمية صاعدة، وانتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة»[1].

يقرّر الديالكتيك في هذا الخطّ: أنّ التطوّر الديالكتي للمادّة لونان:

أحدهما تغيّر كمّي تدريجي، يحصل ببطء، والآخر تغيّر نوعي فجائي، يحصل بصورة دفعية، نتيجةً للتغيّرات الكمّية المتدرّجة، بمعنى: أنّ التغيّرات الكمّية- حين تبلغ نقطة الانتقال- تتحوّل من كمّية إلى كيفية جديدة.

 

[1] المادّية الديالكتيكية والمادّية التأريخية: 18

306

مطلقة ولانهائية للعالم، وتبنّته الدولة مذهباً رسمياً فوق كلّ بحث وجدال، ومرجعاً أعلى يجب إخضاع كلّ علم ومعرفة له، وتحجير كلّ فكر أو جهد ذهني لا ينسجم معه ولا ينطلق من عنده، فعادت الأفكار البشرية في مختلف مجالات الحياة أسيرة منطق خاصّ، وأصبحت المواهب والإمكانات الفكرية مضغوطة كلّها في الدائرة التي رسمها للبشرية فلاسفة الدولة الرسميون.

أمّا كيف ندحض اسطورة التناقض الطبقي؟ وكيف نكشف الستار عن مغالطات الجدل الماركسي في تعيين تناقضات الملكية؟ وكيف نقدّم التفسير الصحيح للمجتمع والتأريخ؟ فهذا ما نقوم به في حلقات قادمة إن شاء اللَّه تعالى‏[1].

 

[1] لاحظ كتاب( اقتصادنا) للمؤلف.( المؤلّف قدس سره)

305

بين المتناقضات التي يضمّها الهيكل الاجتماعي العام، وإذا كان هذا التعليل التناقضي للحركة هو التفسير الوحيد للتأريخ والمجتمع، فسوف تسكن الحركة في نهاية المطاف حتماً، وتصبح فوارق التناقضات وحياتها الحركية سكوناً وجموداً؛ ذلك أنّ الماركسية تعتبر المرحلة التي تتوفّر على إنشائها، وتحاول إيصال الركب البشري إليها، هي: المرحلة التي تنعدم فيها الطبقية، ويعود المجتمع فيه مجتمع الطبقة الواحدة.
وإذا قضي على التنوّع الطبقي في المجتمع الاشتراكي المقترح، انطفأت شعلة الصراع، وتلاشت الحركات التناقضية نهائياً، وجمد المجتمع على شكل ثابت لا يحيد عنه؛ لأنّ الوقود الوحيد للتطوّر الاجتماعي- في رأي الماركسية- هو اسطورة التناقض الطبقي التي اخترعتها، فإذا زال هذا التناقض كان معنى ذلك: تحرّر المجتمع من أسر الديالكتيك، فيتنحّى الجدل عن مقام السيطرة والتحكّم في العالم.
وهكذا نعرف أنّ تفسير الماركسية للتطوّر الاجتماعي على أساس التناقض الطبقي، والاصول الديالكتيكية، يؤدّي إلى فرض حدّ نهائي لهذا التطوّر. وعلى العكس من ذلك ما إذا وضعنا جذوة التطوّر، أو وقود الحركة في الوعي أو الفكر، أو أي شي‏ء غير التناقض الطبقي الذي تتّخذه الماركسية رصيداً عاماً لجميع التطوّرات والحركات.
أفليس من الجدير بعد هذا أن ننعت التفسير الديالكتي للتأريخ والمجتمع، بأ نّه هو وحده التفسير الذي يحتّم على البشرية الجمود والثبات، دون التفسير الذي يضع رصيد التطوّر في معين لا ينضب، وهو: الوعي بمختلف ألوانه؟!
ودع عنك بعد هذا ما مُني به التطوّر الديالكتي للفكر البشري- الذي تتشدّق به الماركسية- من تجميد على يد الماركسية نفسها حين اتّخذ الديالكتيك حقيقة

304

وأخضعته للديالكتيك الذي هو- في زعمها- قانون الفكر والعالم الخارجي معاً.

فافترضت أنّ المجتمع يتطوّر ويتحرّك طبقاً للتناقضات الطبقية المحتواة في داخله، ويتّخذ في كلّ دور من أدوار التطوّر شكلًا اجتماعياً جديداً، ينسجم مع الوجود الطبقي الغالب في المجتمع، ويبدأ الصراع بعد ذلك من جديد على أساس التناقضات المحتواة في ذلك الشكل.

وترتيباً على ذلك استنتجت الماركسية أنّ المحتوى التحليلي للمجتمع الرأسمالي هو: الصراع بين التناقضات التي ينطوي عليها بين الطبقة العاملة من ناحية، والطبقة الرأسمالية من ناحية اخرى. وإنّ هذا الصراع يمدّ المجتمع بالحركة التطوّرية التي سوف تحلّ التناقض الرأسمالي حين تسلّم القيادة إلى الطبقة العاملة المتمثّلة في الحزب القائم على أساس المادّية الديالكتيكية، والذي يستطيع أن يتبنّى مصالحها باسلوب علمي رصين.

ونحن لا نريد- الآن- أن نناقش الماركسية في تفسيرها الديالكتي للمجتمع وتطوّراته، هذا التفسير الذي ينهار طبيعياً بنقد الديالكتيك كمنطق عام وتزييفه، كما حقّقناه في دراستنا هذه؛ فإنّ المادّيه التأريخية سوف نخصّها بدراسة نقدية مفصّلة في كتاب مجتمعنا أو اقتصادنا[1]. وإنّما نرمي- الآن- إلى توضيح نقطة مهمّة في هذا التطبيق الاجتماعي للديالكتيك، يمسّ المنطق الديالكتي نفسه بصورة عامة، وهذه النقطة هي: أنّ التطبيق الاجتماعي والسياسي للديالكتيك على النحو الذي تقوم به الماركسية، يؤدّي إلى نقض الديالكتيك رأساً؛ فإنّ الحركة التطوّرية للمجتمع إذا كانت تستمدّ وقودها الضروري من الصراع الطبقي‏

 

[1] وقد صدر كتاب( اقتصادنا) وهو يستوعب أوسع دراسة للمادّية التأريخية في ضوء الاسس الفلسفية وفي ضوء المجرى العام لتأريخ الإنسانية في واقع الحياة.( المؤلّف قدس سره)

303

مؤمنة سلفاً- وقبل كلّ دليل- بضرورة تبنّي ذلك القانون ما دام يلقي شيئاً من الضوء على طريق العمل والكفاح. ويحسن بنا أن نستمع بهذه المناسبة ل (أنجلز)، وهو يحدِّث عن بحوثه التي قام بها في كتابه ضد دوهرنك:

«وغني عن البيان بأ نّني كنت قد عمدت إلى سرد المواضيع في الرياضيات والعلوم الطبيعية (سرداً عاجلًا) وملخّصاً؛ بغية أن أطمئنّ تفصيلًا- إلى ما لم أكن في شكّ منه بصورة عامّة- إلى أنّ نفس القوانين الديالكتيكية للحركة التي تسيطر على العفوية الظاهرة للحوادث في التأريخ، تشقّ طريقها في الطبيعة»[1].

في هذا النصّ تلخّص الماركسية لنا اسلوبها في محاولاتها الفلسفية، وكيف وثقت كلّ الوثوق باستكشاف قوانين العالم، وآمنت بصحّتها قبل أن تتبيّن مدى واقعيتها في المجالات العلمية والرياضية، ثمّ حرصت بعد ذلك على أن تطبّقها على تلك المجالات، وتخضع الطبيعة للديالكتيك في (سرد عاجل)- على حدّ تعبير أنجلز- مهما كلّفها الأمر، ولو أثار ذلك احتجاج علماء الرياضيات أو الطبيعيات أنفسهم، كما يعترف بذلك (أنجلز) في عبارة قريبة من النصّ الذي نقلناه.

ولمّا كان الغرض الأساسي من إنشاء هذا المنطق الجديد، إيجاد سلاح فكري للماركسية في معركتها السياسية، فمن الطبيعي- إذن- أن تبدأ- أوّلًا وقبل كلّ شي‏ء- بتطبيق القانون الديالكتيكي على الحقل السياسي والاجتماعي. فقد فسّرت المجتمع بكلّ أجزائه طبقاً لقانون الحركة التناقضية، أو التناقض الحركي،

 

[1] ضد دوهرنك: الاقتصاد السياسي: 193

302

إلى جوزة، والمتناهي ليس هو كمية الأعداد المتعاطفة بوصفها وحدات وأشياء يمكن جمعها، بل الكمّيات التي ترمز إليها تلك الأعداد.

وبكلمة اخرى: هناك كمّيتان إحداهما كمّية نفس الأعداد بما هي وحدات، والاخرى كمّية مدلولاتها الرياضية باعتبار أنّ كلّ عدد في السلسلة يرمز إلى كمّية معيّنة، والاولى غير متناهية ومن المستحيل أن تتناهى، والثانية متناهية ومن المستحيل أن تكون غير متناهية.

 

الهدف السياسي من الحركة التناقضية:

 

الحركة والتناقض- وهما الخطّان الجدليّان اللذان نقدناهما بكلّ تفصيل- يشكّلان معاً قانون الحركة الديالكتيكية، أو قانون التناقض الحركي المتطوّر على اسس الديالكتيك أبداً ودائماً.

وقد تبنّت الماركسية هذا القانون بصفته الناموس الأبدي للعالم. واستهدفت من ورائه أن تستثمره في الحقل السياسي لصالحها الخاصّ. فكان العمل السياسي هو الهدف الأوّل الذي فرض على الماركسية أن تصبّه في قالب فلسفي، يساعدها على إنشاء سياسي جديد للعالم كلّه. وقد قالها (ماركس) في شي‏ء من التلطيف:

«إنّ الفلاسفة لم يفعلوا شيئاً، غير تأويل العالم بطرق مختلفة، بيد أنّ الأمر هو أمر تطويره»[1].

فالمسألة- إذن- هي مسألة التطوير السياسي المقترح الذي لا بدّ أن يجد منطقاً مبرّراً له، وفلسفة يرتكز على قوائمها. ولذلك كانت الماركسية تضع القانون الذي يتّفق مع مخطّطاتها السياسية، ثمّ تفتّش في الميادين العلمية عن دليله،

 

[1] كارل ماركس: 21، وهذه هي الديالكتيكية: 78

301

1، 12، 14، 18، 116، 132

التي لكلّ واحدة منها نصف الكمّية السابقة يجب أن يكون كلّ‏

جزء منها متناهياً مهما امتدّت السلسلة، فإذا استمرّت إلى غير نهاية كان لدينا تتابع لامتناهٍ من كمّيات كلّ واحدة منها متناهية، فمجموع أجزاء السلسلة هو الآن مجموع عدد لامتناهٍ لكمّياتٍ متناهية، وهكذا فلا بدّ أن يكون لامتناهياً، ولكن قليلًا من علم الحساب يظهر لنا أ نّه متناهٍ؛ إذ هو (2)[1].

وهكذا يريد الكاتب أن يستنتج أنّ التناقض بين المتناهي وغير المتناهي سمح للقطبين المتناقضين أن يجتمعا في كمّية واحدة، ولكن فاته أنّ الكمّية التي ليست متناهية في مثاله هي غير الكمّية المتناهية، فلا تناقض، لا أنّ كمّية واحدة هي متناهية وغير متناهية بالرغم من مبدأ عدم التناقض، كما يحاول أن يستنتج.

وذلك أنّ هذه الكمّيات التي افترضها في السلسلة وكان لكلّ واحدة منها نصف الكمّية السابقة، يمكننا أن نأخذها بما هي وحدات لنعدّها كما نعدّ وحدات الجوز أو كما نعدّ حلقات سلسلة حديدية طويلة. وفي هذه الحالة سوف نواجه عدداً لا يتناهى من الوحدات، فالعدد الصحيح (1) هو الوحدة الاولى، والكسر 12 هو الوحدة الثانية، والكسر 14 هو الوحدة الثالثة. وهكذا يزيد المجموع واحداً بعد واحد إلى غير نهاية، فليس أمامنا- ونحن نجمع تلك الأعداد كوحدات- (2)، وإنّما نواجه عدداً هائلًا لا ينتهي، وأمّا إذا أردنا أن نجمع الكمّيات التي ترمز إليها تلك الأعداد، فسوف نحصل على (2) فقط؛ لأنّ المجموع الرياضي لتلك الكمّيات المتناقصة هو ذلك، فغير المتناهي- إذن- هو كمّية نفس الأعداد المتعاطفة بما هي وحدات نجمع بعضها إلى بعض كما نجمع قلماً إلى قلم أو جوزة

 

[1] المسألة الفلسفيّة: 103 مع تصرّف يسير