کتابخانه
153

وما يعنينا فعلًا هو البحث الثاني.
وأظنّ أنّ من اليسير أن نعرف: أنّ الاستدلال الاستقرائي لا يمكن أن يفسّر على أساس الاستجابة للمنبّه الشرطي؛ لأنّنا نستخدم الدليل الاستقرائي بشكلين: فتارةً نستدلّ استقرائيّاً على أنّ (ب) ستوجد فعلًا، حين نرى (أ) موجودة. واخرى نستدلّ استقرائيّاً على العبارة الافتراضيّة العامّة القائلة: كلّما وجد (أ) وجد (ب) عقيبها. فالمستدَلّ بالاستقراء في الحالة الاولى واقعة خاصّة، والمستدَلّ بالاستقراء في الحالة الثانية هو التعميم الذي نتجاوز فيه حدود التجربة والملاحظة. ولنفترض أنّ بالإمكان القول: بأنّ الاستدلال الاستقرائي في الحالة الاولى، تعبير عن استجابة مشروطة، بمعنى: أنّ توقّع وجود (ب) في الحالة التي رأينا فيها (أ) موجودة، ليس إلّانفس الاستجابة التي كانت (ب) تثيرها، وقد اثيرت فعلًا بمنبّه شرطي وهو (أ). ولكنّ الاستدلال الاستقرائي في الحالة الثانية يختلف عن ذلك؛ لأنّ المستدلّ هنا هو التعميم، والتعميم لم يكن استجابة لمنبّه طبيعي حتّى يمكن إثارتها عن طريق منبّه شرطي يشرط بذلك المنبّه الطبيعي. فالتعميم إذن شي‏ء جديد، ولا يكفي في حصوله إشراط منبّه بآخر.
وهناك نقطة اخرى بالغة الأهميّة في هذا المجال، تبرهن على خطأ التفسير السلوكي للاستدلال الاستقرائي، وهي أنّ الدليل الاستقرائي لا يُستخدَم فقط لإثبات قضايا من قبيل « (أ) تعقبها (ب)»، بل إنّه يقوم- عادة- بدور أكبر من ذلك، فيثبت العالم الخارجي. وسوف نعرف في القسم الأخير من هذا الكتاب- إن شاء اللَّه تعالى- أنّ السند الحقيقي الذي يعتمد عليه الإنسان السويّ في اعتقاده بوجود واقع موضوعي للظواهر التي يدركها من العالم الخارجي هو الاستقراء.
وواضح في هذا التطبيق للدليل الاستقرائي: أنّ النتيجة المستدَلّة استقرائيّاً ليست‏

152
التفسير الفسيولوجي للدليل الاستقرائي:

إذا كان (هيوم) قد حاول أن يفسّر الاستدلال الاستقرائي تفسيراً سيكولوجياً: على أساس العادة والترابط بين الفكرتين في الذهن، فقد كانت هذه المحاولة أساساً بعد ذلك لتفسير الاستدلال الاستقرائي تفسيراً فسيولوجياً، بوصفه: فعلًا منعكساً شرطيّاً، على يد المدرسة السلوكيّة الحديثة التي درست كلّ النشاطات الذهنيّة والنفسية للإنسان على أساس كونها: مجموعة من الحركات الجسدية والمادية القابلة للملاحظة والتجربة من الخارج. فقد اتّجهت السلوكية إلى تفسير الاستدلال الاستقرائي باعتباره نوعاً من الارتباط بين منبّه مشروط واستجابة معيّنة، بدلًا عن كونه ارتباطاً بين فكرتين في الذهن كما افترض هيوم.
وتنطلق السلوكيّة في تفسيرها هذا من قانون الأفعال المنعكسة الشرطيّة، وهو يعني: أ نّه إذا كان لحادث معيّن استجابة معيّنة، فهو منبّه طبيعي، وتلك الاستجابة استجابة طبيعية. فإذا اقترن هذا الحادث بشي‏ء آخر مراراً عديدة، فإنّ هذا الشى‏ء الآخر وحده يصبح كافياً لإثارة تلك الاستجابة التي لم يكن يثيرها في البداية إلّاالحادث الأوّل. وهذا القانون ينطبق على الإنسان وينطبق على الحيوان أيضاً، كما برهنت تجارب (بافلوف «1») على الكلب الذي كان يسيل لعابه لرؤية الطعام، فقرن بافلوف رؤية الطعام بدقّ الجرس، فاكتسب دقّ الجرس‏

151

التفسير الفسيولوجي للدليل الاستقرائي:

إذا كان (هيوم) قد حاول أن يفسّر الاستدلال الاستقرائي تفسيراً سيكولوجياً: على أساس العادة والترابط بين الفكرتين في الذهن، فقد كانت هذه المحاولة أساساً بعد ذلك لتفسير الاستدلال الاستقرائي تفسيراً فسيولوجياً، بوصفه: فعلًا منعكساً شرطيّاً، على يد المدرسة السلوكيّة الحديثة التي درست كلّ النشاطات الذهنيّة والنفسية للإنسان على أساس كونها: مجموعة من الحركات الجسدية والمادية القابلة للملاحظة والتجربة من الخارج. فقد اتّجهت السلوكية إلى تفسير الاستدلال الاستقرائي باعتباره نوعاً من الارتباط بين منبّه مشروط واستجابة معيّنة، بدلًا عن كونه ارتباطاً بين فكرتين في الذهن كما افترض هيوم.

وتنطلق السلوكيّة في تفسيرها هذا من قانون الأفعال المنعكسة الشرطيّة، وهو يعني: أ نّه إذا كان لحادث معيّن استجابة معيّنة، فهو منبّه طبيعي، وتلك الاستجابة استجابة طبيعية. فإذا اقترن هذا الحادث بشي‏ء آخر مراراً عديدة، فإنّ هذا الشى‏ء الآخر وحده يصبح كافياً لإثارة تلك الاستجابة التي لم يكن يثيرها في البداية إلّاالحادث الأوّل. وهذا القانون ينطبق على الإنسان وينطبق على الحيوان أيضاً، كما برهنت تجارب (بافلوف‏[1]) على الكلب الذي كان يسيل لعابه لرؤية الطعام، فقرن بافلوف رؤية الطعام بدقّ الجرس، فاكتسب دقّ الجرس‏

 

[1] جاء في ترجمته: إيفان بافلوف(Ivan Pavlov ):( 1849- 1936 م): فيزيولوجي روسي، حصل على جائزة« نوبل» للفيزيولوجيا والطبّ( 1904 م) من أجل بحوثه في الغدد الهضميّة، من أهمّ مؤلّفاته« الانعكاسات الشرطيّة»( 1926 م)( لجنة التحقيق)

150

من قبيل احتمال نزول المطر بالأمس القائم على أساس نسبة تكرار نزول المطر في مجموع حالات وجود السحاب بالشكل الذي لاحظناه بالأمس.
الثاني: الاحتمال الذي يقوم على أساس منطقي وعقلي خالص، ومثاله:
الحالات التي تتوفّر فيها بيّنة كافية لإثبات أنّ واحدة فقط من ثلاث حالات قد وجدت، دون تعيين تلك الحالة بالضبط. كما إذا أخبرنا عدد كافٍ من الناس بأنّ واحداً فقط من ركّاب الطائرة قد لقي حتفه، ولنفرض أنّ ركّاب الطائرة (ثلاثة)، فإنّ احتمال موت أيّ واحد من الثلاثة سوف يكون 3/ 1 من اليقين. وإذا فرزنا اثنين من الثلاثة فاحتمال أن يكون الميّت أحدهما: 3/ 2، واحتمال أن يكون الميّت هو الثالث: 3/ 1. وهذه الاحتمالات ليست تكرارية وإنّما هي منطقيّة وعقليّة.
وما تقدّم من تفسير للاحتمال على أساس فرضيّات (هيوم) إذا أمكن أن ينجح في الاحتمالات التكراريّة، فلا يمكن أن ينجح في الاحتمال المنطقي؛ لعدم وجود أيّ تكرّر سابق في الخبرة، لكي تنشأ على أساسها العادة الذهنيّة التي هي أساس الاستدلال الاستقرائي في رأي هيوم.
فإذا فرضنا أنّ ركّاب الطائرة هم: (أ) (ب) (س) فإنّ احتمال أن يكون الميّت هو « (أ) أو (ب)»: 3/ 2. وهذا الاحتمال لا يستطيع (هيوم) أن يفسّره على أساس أ نّه: استمدّ الحيويّة من فكرة اخرى ارتبط بها ذهنيّاً بسبب التكرار في الخبرة السابقة؛ لأنّ الحادثة ليست من الحوادث التكراريّة. فلا بدّ إذن أن نفسّر درجة الترجيح الموجودة في ذلك الاحتمال على أساس غير التكرار والعادة. وبذلك تنهار الاسس التي بنى عليها (هيوم) تمييزه بين التصوّر والاعتقاد.

149

معناها: اشتماله على درجة أكبر من الحيويّة، والاعتقاد هو أكبر درجة من الحيويّة.
وعلى هذا الأساس نتساءل: من أين يستمدّ الاحتمال حيويّته؟
إنّ (هيوم) يرى أنّ الفكرة تستمدّ حيويّتها من الانطباع بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فمن أين يستمدّ احتمال نزول المطر بالأمس حيويّته؟
وبالإمكان الجواب على ذلك بأ نّنا حين نحتمل بدرجة مّا أنّ المطر قد نزل بالأمس، نربط ذلك بقرائن معيّنة: من قبيل وجود السحاب، وطبيعة الجوّ المعاش بالأمس. وهذه القرائن لمّا كانت خلال خبرتنا قد اقترن بها المطر في 70% من المرّات السابقة، فسوف نحتمل بهذه الدرجة أنّ المطر قد نزل بالأمس. وهذا يعني أنّ فكرة نزول المطر بالأمس قد استمدّت حيويّتها من فكرتنا عن وجود السحاب، وعن الخصائص المعيّنة التي عرفناها عن الجوّ بالأمس. فإنّ فكرتنا عن السحاب وعن تلك الخصائص حيّة على أساس استنادها إلى الانطباع مباشرة، فتفيض بالحيويّة على فكرة نزول المطر. غير أنّ علاقة الاقتران بين الحادثتين لمّا كانت غير مطّردة في خبرتنا السابقة باستمرار، فإنّ العادة الذهنيّة التي تتيح لنا الانتقال من فكرة إلى اخرى، سوف لن تسمح إلّابإفاضة درجة محدودة من الحيويّة على فكرة نزول المطر، ولهذا تكون فكرة نزول المطر احتمالًا لا اعتقاداً.
ولنفرض أنّ هذا كلّه صحيح. غير أنّ هذا لا يمكن أن يفسّر لنا إلّا الاحتمالات التكراريّة، دون الاحتمالات المنطقيّة. ذلك أنّ الاحتمال على قسمين:
الأوّل: الاحتمال الذي يقوم على أساس نسبة التكرار في الخبرة السابقة،

148

بعد ذلك أنّ (ت) كان موجوداً بصورة غير منظورة في الأمثلة السابقة؟ إنّ الوجود غير المنظور (ت) لا يمنع عن تكوين العادة الذهنيّة التي هي أساس العليّة والاستدلال الاستقرائي عند هيوم، فكيف يصبح اكتشافه المتأخّر معطّلًا لتلك العادة الذهنيّة؟!
4- إذا كان الاعتقاد تعبيراً عن الفكرة الحيّة التي تستمدّ حيويّتها من الانطباع، أو من فكرة حيّة اخرى، فما هو الاحتمال أو الشكّ في رأي (هيوم)- أي درجات التصديق الناقصة- حين نواجه قضايا نحتمل صدقها وكذبها بدرجة واحدة؟
قد يقول (هيوم): إنّ الاحتمال المتعادل يعني: أنّ كلًا من فكرتنا عن وجود الشي‏ء وفكرتنا عن عدمه ليست حيّة. فإذا شككنا- بدرجة متساوية- في أنّ المطر هل نزل بالأمس أو لا؟ فهذا يعني: أنّ فكرتنا عن نزول المطر، وفكرتنا عن عدم نزول المطر ليستا فكرتين حيّتين، وبالتالي لا اعتقاد لنا بإثباتٍ أو نفي. فالاحتمال المتعادل مردّه إلى فقدان تلك الحيويّة والقوّة في كلتا الفكرتين.
وإذا أمكن لهيوم أن يفسّر الاحتمال المتعادل بذلك، فكيف يفسّر الظنّ، أي الاحتمال بدرجة أكبر من الاحتمال المتعادل؟ فنحن قد نحتمل بدرجة كبيرة أنّ المطر قد نزل بالأمس. ولا يمكن لهيوم هنا أن يفسّر الاحتمال على أساس فقدان الحيويّة والقوّة؛ لأنّ هناك فارقاً كبيراً بين احتمال نزول المطر بالأمس، وبين احتمال عدم نزوله في حالات ترجيحنا لنزوله. وهذا الفارق بين الاحتمالين لا يمكن لهيوم أن يفسّره إلّاعلى أساس اختلافهما في درجة الحيويّة والقوّة. فالاحتمال هو فكرة تتمتّع بدرجة من الحيويّة، وقوّة الاحتمال (الظنّ)

147

اقترانهما صدفة، وأن يكون (ب) نتيجة لسبب آخر غير منظور- (ت) مثلًا- ولكن حينما يتكرّر اقتران (أ) و (ب) يضعف احتمال تكرّر الصدفة في كلّ تلك الأمثلة. فالتكرار في الأمثلة عامل رئيس في الدليل الاستقرائي، لا على أساس دوره السيكولوجي في تكوين العادة الذهنيّة، بل على أساس دوره الموضوعي في تخفيض قيمة احتمال الصدفة النسبيّة، وفقاً لنظريّة الاحتمال، كما سيأتي شرحه- إن شاء اللَّه تعالى-.
3- نفرض أنّ إنساناً حاول أن يجرّب أثر استعمال مادّة معيّنة على المصابين بالصداع، فلاحظ أنّ استعمال تلك المادّة في أشخاص كثيرين قد اقترن بظاهرة معيّنة، فسوف يستنتج أنّ تلك المادّة سبب لهذه الظاهرة. ومردّ هذا الاستنتاج- في رأي هيوم- إلى العادة الذهنيّة.
ولنفرض أنّ الممارس للتجربة قد اكتشف بعد ذلك: أنّ شريكه- الذي قدّم إليه مرضاه المصابين بالصداع الذين أجرى تجاربه عليهم- كان يتعمّد اختيار المريض الذي تتوفّر فيه الظروف التي تؤدّي إلى وجود تلك الظاهرة، لكي يضلّل الممارس للتجربة في اكتشافه، فمن الطبيعي أن يزول اعتقاد الممارس بالعليّة بعد هذا الاكتشاف، فلا يتوقّع وجود الظاهرة في شخص بسبب استعماله لتلك المادّة.
وهذا من السهل تفسيره على أساس الاعتراف بالواقع الموضوعي للعليّة، وكونها علاقة ضرورة بين الحادثتين في العالم الخارجي؛ لأنّ من الطبيعي على هذا الأساس أن يكون لاكتشاف الممارس عناصر اخرى كانت مجهولة خلال التجربة، أثر في سير الاستدلال الاستقرائي. وأمّا إذا كانت العليّة مجرّد عادة ذهنية تنشأ من التكرار، فكيف يمكن أن تزول العادة الذهنيّة التي نشأت عن التكرار بين (أ) و (ب)، لمجرّد أنّ الإنسان الذي اكتسب هذه العادة قد اكتشف‏

146

وهكذا نستخلص بوضوح: أنّ آراء (هيوم) لا تصلح لتفسير الدليل الاستقرائي؛ لأنّ الدليل الاستقرائي لا يزوّدنا فقط بقضايا فعليّة، بل يزوّدنا أيضاً بقضايا شرطيّة.

2- إنّ (هيوم) يتمسّك بدليل لإثبات مفهومه الفلسفي عن الاستدلال الاستقرائي، وعن العليّة بوصفها عادة ذهنيّة للانتقال من فكرة إلى فكرة، فيقول:

لِمَ نسوق من ألف مثال استدلالًا لا نسوقه من مثال واحد فحسب، مع أنّ هذا المثال ليس مختلفاً في وجه من وجوهه عن تلك الأمثلة؟

ويجيب على هذا السؤال: أنّ تفسير ذلك: أ نّنا بينما نجد أنّ النتائج التي يسوقها العقل من تأمّل دائرة فحسب، هي نفس النتائج التي يكوّنها من استعراض جميع الدوائر، نلاحظ أ نّنا لا نستطيع من رؤية جسم واحد يتحرّك بدفع آخر أن نستدلّ على أنّ كلّ جسم يتحرّك من دفع مماثل؛ وذلك لأنّنا يلزم في الحالة الثانية أن نلاحظ تكرار الاقتران بين هذين الموضوعين، ومن ثمّ نتهيّأ بالعادة إلى الاستدلال من أحدهما على الآخر. وعلى هذا فجميع الاستدلالات من التجربة هي إذن آثار للعادة، لا للبرهنة العقليّة[1].

ويتلخّص هذا الدليل في أنّ التمييز في مجال الاستدلال على العليّة بين مثال واحد وأمثلة متعدّدة، لا يمكن أن يفسّر إلّاعلى أساس ما يكوّنه تكرار الأمثلة من عادة ذهنيّة، يعجز المثال الواحد عن إيجادها.

ولكنّ الحقيقة أنّ تفسير ذلك ميسور بدون الأخذ بفرضيّات (هيوم) عن العليّة والدليل الاستقرائي؛ لأنّ المثال الواحد لا ينفي في العادة احتمال الصدفة النسبيّة. فإذا لاحظنا في مرّة واحدة أنّ (أ) ترتّب عليه (ب) أمكن أن يكون‏

 

[1] فلسفة هيوم، للدكتور محمّد فتحي الشنيطي: 182

145

الواضح أنّ (هيوم) لا يسلّم بوجود علاقة من هذا القبيل؛ لأنّه يرى أنّ العليّة علاقة بين الفكرتين لا بين الموضوعين، وإن كانت علاقة بين الفكرتين فهذا يعني: أ نّا حين نقرّر القضيّة القائلة: «إذا تعرّض هذا الحديد للحرارة تمدّد» نعني بذلك: أ نّا إذا وجدت في ذهننا فكرة الحرارة فسوف ننتقل من هذه الفكرة ذهنيّاً إلى فكرة التمدّد، فكلّما نتحدّث عن قضيّة شرطيّة من هذا القبيل، فنحن نتحدّث عن العادة الذهنيّة التي هي التجسيد الحقيقي لعلاقة العلّة والمعلول في رأي هيوم.
وإذا تأمّلنا في مغزى ذلك نجد أنّ هذا يعني أ نّا نتحدّث عن المستقبل، ولكن لا عن مستقبل الطبيعة في العالم الخارجي، بل عن مستقبل ذهننا، ونحكم بأنّ عادة النزوع عن فكرة العلّة إلى المعلول سوف تظلّ في المستقبل كما هي الآن. إذ لو لم نفترض ذلك فليس بإمكاننا القول بأنّ فكرة الحرارة إذا حدثت في ذهننا فسوف ننتقل منها إلى فكرة التمدّد. وهكذا نجد في النهاية أ نّنا تورّطنا- عند تفسير القضيّة الشرطيّة- في ما رفضه هيوم منذ البدء، وهو افتراض مشابهة المستقبل للحاضر والماضي.
وبكلمة اخرى: إنّ مشابهة المستقبل للحاضر والماضي إذا كان من حقّنا افتراضها والتحدّث على أساسها، فبإمكاننا إذن أن نستعمل هذا الافتراض بالنسبة إلى الواقع الموضوعي، ونؤكّد موضوعيّاً القضيّة الشرطيّة القائلة: «إذا- أو كلّما- تعرّض الحديد للحرارة تمدّد» بدلًا عن أن نفسّر ذلك على أساس العادة والنزوع الذهني، وإذا لم يوجد مبرّر موضوعي لافتراض مشابهة المستقبل للحاضر والماضي- كما يرى هيوم- فليس بالإمكان إذن أن نتحدّث عن مستقبل الذهن أيضاً، ولا أن نفترض أنّ العادة الذهنيّة للانتقال من فكرة إلى فكرة سوف تظلّ في ذهني إلى دقيقة اخرى. وهذا يعني العجز عن تفسير أيّ قضيّة شرطيّة من قبيل:
«إذا حدثت الحرارة في هذا الحديد فسوف يتمدّد».