کتابخانه
189

ذاته العصيّ على الإدراك الذي أتى به (كانت)»[1].

وقال ماركس:

«إنّ مسألة معرفة ما إذا كان بوسع الفكر الإنساني أن ينتهي إلى حقيقة موضوعية، ليس بمسألة نظرية، بل إنّها مسألة عملية؛ ذلك أ نّه ينبغي للإنسان أن يقيم الدليل في مجال الممارسة على حقيقة فكره»[2].

وواضح من هذه النصوص: أنّ الماركسية تحاول أن تبرهن على الواقع الموضوعي بالتجربة، وتحلّ المشكلة الأساسية الكبرى في الفلسفة- مشكلة المثالية والواقعية- بالأساليب العلمية.

وهذا مظهر واحد من مظاهر عديدة وقع فيها الخلط بين الفلسفة والعلوم؛ فإنّ كثيراً من القضايا الفلسفية حاول بعضٌ دراستها بالأساليب العلمية، كما إنّ عدّة من قضايا العلم درسها بعض المفكّرين دراسة فلسفية، فوقع الخطأ في هذه وتلك.

والمشكلة التي يتصارع حولها المثاليون والواقعيون هي من تلك المشاكل التي لا يمكن اعتبار التجربة المرجع الأعلى فيها، ولا إعطاؤها الصفة العلمية؛ لأنّ المسألة التي يرتكز عليها البحث فيها هي مسألة وجود واقع موضوعي للحسّ التجريبي. فالمثالي يزعم أنّ الأشياء لا توجد إلّافي حسّنا وإدراكاتنا التجريبية، والواقعي يعتقد بوجود واقع خارجي مستقلّ للحسّ والتجربة.

 

[1] لودفيغ فيورباخ: 54

[2] المصدر نفسه: 112

188

النسبية التطوّرية

والآن، وقد طفنا على شتّى المذاهب الفلسفية في نظرية المعرفة، نصل إلى دور الديالكتيك فيها. فقد حاول المادّيون الديالكتيكيون إبعاد فلسفتهم عن الشكّ والسفسطة، فرفضوا المثالية والنسبية الذاتية، وما انتهت إليه عدّة مذاهب من ألوان الشكّ والارتياب، وأكّدوا على إمكان المعرفة الحقيقية للعالم. وبذلك ظهرت نظرية المعرفة على أيديهم في إطار من اليقين الفلسفي المرتكز على اسس النظرية الحسّية والمذهب التجريبي.
فماذا رصدوا لهذا المشروع الجبّار والتصميم الفلسفي الضخم؟
كان رصيدهم هو التجربة لتفنيد المثالية.
وكان رصيدهم هو الحركة لرفض النسبية.

التجربة والمثالية:

قال أنجلز عن المثالية:
«إنّ أقوى تفنيد لهذا الوهم الفلسفي ولكلّ وهم فلسفي آخر هو: العمل والتجربة والصناعة بوجه خاصّ. فإذا استطعنا أن نبرهن على صحّة فهمنا لظاهرة طبيعية ما، بخلقنا هذه الظاهرة بأنفسنا، وإحداثنا لها بواسطة توفّر شروطها نفسها، وفوق ذلك إذا استطعنا استخدامها في تحقيق أغراضنا، كان في ذلك القضاء المبرم على مفهوم الشي‏ء في‏

187

الأدوار الفعّالة التي يقوم بها الواقع الموضوعي لتلك الصور الذهنية في الخارج.

وبذلك نستطيع أن نحدِّد الناحية الموضوعية للفكرة، والناحية الذاتية، أي:

الناحية المأخوذة عن الواقع الموضوعي، والناحية التي ترجع إلى التبلور الذهني الخاصّ. فالفكرة موضوعية باعتبار تمثّل الشي‏ء فيها لدى الذهن، ولكنّ الشي‏ء الذي يمثّل لدى الذهن في تلك الصورة يفقد كلّ فعّالية ونشاط ممّا كان يتمتّع به في المجال الخارجي؛ بسبب التصرّف الذاتي. وهذا الفارق بين الفكرة والواقع هو- في اللغة الفلسفية- الفارق بين الماهية والوجود، كما سندرس ذلك في المسألة الثانية من هذا الكتاب‏[1].

 

[1] وهذه الناحية الذاتية التي تنطوي عليها الصور الذهنية في رأينا، تختلف عن الناحية الذاتية التي يقول بها( كانت)، والتي ينادي بها النسبيون الذاتيون. فليست الذاتية في رأينا باعتبار الجانب الصوري من العلم كما يزعم( كانت)، ولا باعتبار كون الإدراك حصيلة تفاعل مادّي، والتفاعل يستدعي التصرّف من الجانبين، بل هي على أساس التفرقة بين لوني الوجود: الذهني والخارجي. فالشي‏ء الموجود في الصورة الذهنية هو الشي‏ء الموجود في الخارج خلافاً للنسبيين، ولكن لون وجوده في الصورة يختلف عن لون وجوده الخارجي.( المؤلّف قدس سره)

186

وبهذا تختلف مسائل الميتافيزيقا عن العلم الطبيعي في كثير من مجالاتها.

ونقول (في كثير من مجالاتها)؛ لأنّ استنتاج النظرية الفلسفية أو الميتافيزيقية من المبادئ الضرورية في بعض الأحايين يتوقّف على التجربة أيضاً[1]، فيكون للنظرية الفلسفية- حينئذٍ- نفس ما للنظريات العلمية من قيمة ودرجة.

الخطّ الثالث- عرفنا أنّ المعرفة التصديقية هي التي تكشف لنا عن موضوعية التصوّر، ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في ذهننا. وعرفنا- أيضاً- أنّ هذه المعرفة التصديقية مضمونة بمقدار ارتكازها على المبادئ الضرورية. والمسألة الجديدة هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية- فيما إذا كانت دقيقة وصحيحة- والواقع الموضوعي الذي صدّقنا بوجوده من ورائها.

والجواب على هذه المسألة هو: أنّ الصورة الذهنية التي نكوّنها عن واقع موضوعي معيّن فيها ناحيتان: فهي من ناحية صورة الشي‏ء ووجوده الخاصّ في ذهننا، ولا بدّ لأجل ذلك أن يكون الشي‏ء متمثّلًا فيها، وإلّا لم تكن صورة له، ولكنّها من ناحية اخرى تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافاً أساسياً؛ لأنّها لا تملك الخصائص التي يتمتّع بها الواقع الموضوعي لذلك الشي‏ء، ولا تتوفّر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعّالية والنشاط. فالصورة الذهنية التي نكوِّنها عن المادّة أو الشمس أو الحرارة مهما كانت دقيقة ومفصّلة لا يمكن أن تقوم بنفس‏

 

[1] الظاهر أنّ هذا الكلام يعبّر عن الجذور الأوّليّة التي نمت وترعرعت في ذهن السيّد المؤلّف رحمه الله بعد تأليفه لهذا الكتاب حتّى انتهت إلى القول بإمكان تفسير الجزء الأكبر من معارفنا- بما فيها القضايا الميتافيزيقيّة- بالطريقة الاستقرائيّة المتّبعة في القضايا الطبيعيّة، وهي طريقة التوالد الذاتي التي يؤمن بها المذهب الذاتي للمعرفة. وقد وضّح ذلك بالتفصيل في القسم الرابع من كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء».( لجنة التحقيق)

185

وعلى هذا نعرف:
أوّلًا- أنّ المبادئ العقلية الضرورية هي الأساس العامّ لجميع الحقائق العلمية، كما سبق في الجزء الأوّل من المسألة.
ثانياً- أنّ قيمة النظريات والنتائج العلمية في المجالات التجريبية، موقوفة على مدى دقّتها في تطبيق تلك المبادئ الضرورية على مجموعة التجارب التي أمكن الحصول عليها. ولذا فلا يمكن إعطاء نظرية علمية بشكل قاطع إلّاإذا استوعبت التجربة كلّ إمكانيات المسألة، وبلغت إلى درجة من السعة والدقّة بحيث أمكن تطبيق المبادئ الضرورية عليها، وإقامة استنتاج علمي موحّد على أساس ذلك التطبيق.
ثالثاً- في المجالات غير التجريبية- كما في مسائل الميتافيزيقا- ترتكز النظرية الفلسفية على تطبيق المبادئ الضرورية على تلك المجالات، ولكن هذا التطبيق قد يتمّ فيها بصورة مستقلّة عن التجربة: ففي مسألة إثبات العلّة الاولى للعالم- مثلًا- يجب على العقل أن يقوم بمحاولة تطبيق مبادئه الضرورية على هذه المسألة؛ حتّى يضع بموجبها نظريّته الإيجابية أو السلبية، وما دامت المسألة ليست تجريبية فالتطبيق يحصل بعملية تفكير واستنباط عقلي بحت بصورة مستقلّة عن التجربة.

184

السبب لحدّ الآن مجهول ومردّد بين طائفة من الأشياء، فكيف يتاح تعيينه من بينها؟

ويستعين العالم الطبيعي في هذه المرحلة بمبدأ من المبادئ الضرورية العقلية، وهو المبدأ القائل: (باستحالة انفصال الشي‏ء عن سببه)، ويدرس على ضوء هذا المبدأ تلك الطائفة من الأشياء التي يوجد بينها السبب الحقيقي للحرارة، فيستبعد عدّة من الأشياء ويسقطها من الحساب، كدم الحيوان مثلًا، فهو لا يمكن أن يكون سبباً للحرارة؛ لأنّ هناك من الحيوانات ما دماؤها باردة، فلو كان هو السبب للحرارة لما أمكن أن تنفصل عنه ويكون بارداً في بعض الحيوانات.

ومن الواضح: أنّ استبعاد دم الحيوان عن السببية لم يكن إلّاتطبيقاً للمبدأ الآنف الذكر الحاكم بأنّ الشي‏ء لا ينفصل عن سببه، وهكذا يدرس كلّ شي‏ء ممّا كان يظنّه من أسباب الحرارة، فيبرهن على عدم كونه سبباً بحكم مبدأ عقلي ضروري. فإن أمكنه أن يستوعب بتجاربه العلمية جميع ما يحتمل أن يكون سبباً للحرارة، ويدلّل على عدم كونه سبباً- كما فعل في دم الحيوان-، فسوف يصل في نهاية التحليل العلمي إلى السبب الحقيقي- حتماً- بعد إسقاط الأشياء الاخرى من الحساب، وتصبح النتيجة العلمية- حينئذٍ- حقيقة قاطعة؛ لارتكازها بصورة كاملة على المبادئ العقلية الضرورية، وأمّا إذا بقي في نهاية الحساب شيئان أو أكثر ولم يستطع أن يعيّن السبب على ضوء المبادئ الضرورية، فسوف تكون النظرية العلمية في هذا المجال ظنّية[1].

 

[1] حاصل هذا الكلام أنّ التجربة التي ينتقل فيها الذهن من استقراء الموضوعات الجزئيّة إلى قواعد وقوانين عامّة لا يمكن أن تورث القطع بالنتيجة المطلوبة إلّاإذا ضُمّت إليها كبريات عقليّة قبليّة ممّا يحوّل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ بدلًا عن السير الفكري من الخاصّ إلى العامّ وإلّا كانت النتيجة ظنّيّة، وهذا ما تغيّر فيه رأي السيّد المؤلّف قدس سره كما أشرنا سابقاً، حيث انتهى في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء» إلى إمكان حصول القطع بالنتيجة المطلوبة في القضيّة التجريبيّة في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة من دون حاجة إلى ضمّ الكبريات العقليّة القبليّة التي تحوّل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ.( لجنة التحقيق)

183

الأضواء يجب أن تقام سائر المعارف والتصديقات، وكلّما كان الفكر أدقّ في تطبيق تلك الأضواء وتسليطها، كان أبعد عن الخطأ. فقيمة المعرفة تتبع مقدار ارتكازها على تلك الاسس ومدى استنباطها منها، ولذلك كان من الممكن استحصال معارف صحيحة في كلّ من الميتافيزيقا والرياضيات والطبيعيات على ضوء تلك الاسس، وإن اختلفت الطبيعيات في شي‏ء، وهو: أنّ الحصول على معارف طبيعية بتطبيق الاسس الأوّلية يتوقّف على التجربة التي‏تهيّئ للإنسان شروط التطبيق، وأمّا الميتافيزيقا والرياضيات فالتطبيق فيها قد لا يحتاج إلى تجربة خارجية.
وهذا هو السبب في أنّ نتائج الميتافيزيقا والرياضيات نتائج قطعية في الغالب، دون النتائج العلمية في الطبيعيات؛ فإنّ تطبيق الاسس الأوّلية في الطبيعيات لمّا كان محتاجاً إلى تجربة تهيّئ شروط التطبيق، وكانت التجربة في الغالب ناقصة وقاصرة عن كشف جميع الشروط، فلا تكون النتيجة القائمة على أساسها قطعية.
ولنأخذ لذلك مثالًا من الحرارة: فلو أردنا أن نستكشف السبب الطبيعي للحرارة، وقمنا بدراسة عدّة تجارب علمية، ووضعنا في نهاية المطاف النظرية القائلة: (إنّ الحركة سبب الحرارة)، فهذه النظرية الطبيعية في الحقيقة نتيجة تطبيق لعدّة مبادئ ومعارف ضرورية على التجارب التي جمعناها ودرسناها، ولذا فهي صحيحة ومضمونة الصحّة بمقدار ما ترتكز على تلك المبادئ الضرورية. فالعالم الطبيعي يجمع أوّل الأمر كلّ مظاهر الحرارة التي هي موضوع البحث، كدم بعض الحيوانات والحديد المحمى والأجسام المحترقة وغير ذلك من آلاف الأشياء الحارّة، ويبدأ بتطبيق مبدأ عقلي ضروري عليها وهو مبدأ العلّية القائل: (إنّ لكلّ حادثة سبباً)، فيعرف بذلك أنّ لهذه المظاهر من الحرارة سبباً معيّناً، ولكن هذا

182

نظرية المعرفة في فلسفتنا

والآن نستطيع أن نستخلص- من دراسة المذاهب السابقة ونقدها- الخطوط العريضة لمذهبنا في الموضوع، وتتلخّص فيما يأتي:

الخطّ الأوّل- أنّ الإدراك البشري على قسمين: أحدهما التصوّر، والآخر التصديق. وليس للتصوّر بمختلف ألوانه قيمة موضوعية؛ لأنّه عبارة عن وجود الشي‏ء في مداركنا، وهو لا يبرهن- إذا جرّد عن كلّ إضافة- على وجود الشي‏ء موضوعياً خارج الإدراك، وإنّما الذي يملك خاصّة الكشف الذاتي عن الواقع الموضوعي هو التصديق أو المعرفة التصديقية. فالتصديق هو الذي يكشف عن وجود واقع موضوعي للتصوّر.

الخطّ الثاني- أنّ مردّ المعارف التصديقية جميعاً إلى معارف أساسية ضرورية، لا يمكن إثبات ضرورتها بدليل أو البرهنة على صحّتها، وإنّما يشعر العقل بضرورة التسليم بها والاعتقاد بصحّتها، كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلّية والمبادئ الرياضية الأوّلية[1]، فهي الأضواء العقلية الاولى، وعلى هدي تلك‏

 

[1] أشرنا سابقاً إلى أ نّه رحمه الله قد انتهى في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء» إلى إمكان الاستدلال على القضايا الأوّليّة والفطريّة بالدليل الاستقرائي في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة، واستثنى من ذلك مبدأ عدم التناقض ومصادرات الدليل الاستقرائي، وفي نفس الوقت أكّد أنّ هذا لا يعني رفض المصدر العقلي القبلي لهذه القضايا، بل إنّما يعني أ نّنا حتّى لو استبعدنا العلم العقلي القبلي بها يظلّ بالإمكان إثباتها عن طريق الاستقراء. راجع: القسم الرابع من كتاب« الاسس المنطقيّة للاستقراء» تحت عنوان« تفسير القضيّة الأوّليّة والقضيّة الفطريّة».( لجنة التحقيق)

181

كما أنّ نظرية فرويد جزء من حياته العقلية الشعورية، فإذا صحّ أنّ الشعور تعبير محرّف عن القوى اللّاشعورية ونتيجة محتومة لتحكّم تلك القوى في سيكولوجية الإنسان، فسوف تفقد نظرية فرويد قيمتها؛ لأنّها في هذا الضوء ليست أداة للتعبير عن الحقيقة، وإنّما هي تعبير عن شهواته وغرائزه المخبوءة في اللّاشعور.
وقل الشي‏ء نفسه عن المادّية التأريخية التي تربط الفكر بالوضع الاقتصادي، وبالتالي تجعل من نفسها نتيجة لوضع اقتصادي معيّن عاشه ماركس، وانعكس في ذهنه معبّراً عن متطلّباته في مفاهيم المادّية التأريخية، ويصبح من المحتوم على المادّية التأريخية أن تتغيّر وفقاً لتغيّر الوضع الاقتصادي.