کتابخانه
237

الملحق (10) [التخريج الفقهي لخطابات الضمان النهائيّة]

يعالج هذا الملحق على مستوىً موسّعٍ من الناحية الفقهية حكم خطابات الضمان النهائية، وهي خطابات يحتاج إليها المقاولون حينما يتولّون مشروعاً لجهةٍ حكوميةٍ ونحوها، فتشترط عليهم تلك الجهة أن يدفعوا مبلغاً من المال في حالة عدم إنجاز المشروع، ولكي تثق تلك الجهة بالدفع يلجأ المقاول إلى البنك ليصدِّر له خطابَ ضمانٍ يتعهّد فيه لتلك الجهة بالمبلغ المقرّر.
في الموادّ المذكورة التي يصدِّر فيها البنك خطابَ الضمان لعميله يكون العميل قد ارتبط في عقدٍ بجهةٍ معيّنةٍ واشترط عليه ضمن ذلك العقد أن يدفع كذا مقداراً في حالة التخلّف. وهذا الشرط صحيح في نفسه إذا لم يكن التخلّف يعني بطلان أصل العقد.
نعم، لو كان العقد عقد إجارةٍ وكان مورد الإجارة المنفعة الخارجية لا المنفعة الذمّية وانكشف عقيب العقد أنّ الأجير عاجز عن ممارسة العمل المطلوب فمعنى هذا بطلان نفس الإجارة؛ لانكشاف عدم كون تلك المنفعة من منافع الأجير، فيبطل بالتبع الشرط المفروض في عقد الإجارة أيضاً، فلابد

236

235

وعلى أيِّ حالٍ فالضمان بالمعنى الثالث صحيح. وأمّا الروايات‏[1] التي دلّت على أنّ عقد الضمان يُنتج نقلَ الدين من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ فلا يمكن الاستدلال بها في المقام على إبطال الضمان الذي تصوّرناه؛ لعدم كونه منتجاً لنقل الدين من ذمّةٍ إلى ذمة.

والوجه في عدم إمكان الاستدلال بتلك الروايات على ذلك أنّ تلك الروايات إنّما تنظر إلى عقدٍ يتكفّل ضمان نفس الدين، لا ضمان الأداء، فلا يمكن إبطال هذا المعنى الثالث من الضمان بلحاظ تلك الروايات.

وعلى ضوء جميع ما تقدّم نفسِّر قبول البنك للكمبيالة على أساس هذا المعنى من الضمان، وينتج اشتغال ذمّة البنك بقيمة الكمبيالة، لكن لا في عرض اشتغال ذمّة المدين ولابدلًا عنه، بل في طول امتناعه عن الأداء بالنحو الذي فصّلناه.

 

[1] وسائل الشيعة 18: 422، الباب 2 من أبواب كتاب الضمان

234

الانضمام؟ فما كان مضمونه المعاملي من قبيل الأوّل يكون إيقاعاً ولا يكون عقداً؛ لتقوّمه بالتزامٍ واحدٍ ممّن له السلطان على ذلك المضمون المعاملي، كما في العتق والطلاق. وما كان مضمونه المعاملي من قبيل الثاني فهو عقد؛ لتقوّمه بالتزامين مترابطين، كالبيع والنكاح وغيرهما.
وعليه ففي المقام لابدّ أن يلحظ أنّ كون الإنسان مسؤولًا عن أداء دين شخصٍ آخر- الذي هو المضمون المعاملي للضمان بالمعنى الذي بيّنّاه- هل هو بحسب الارتكاز العقلائي تحت سلطان الضامن فقط، أو تحت سلطان الضامن والمضمون له معاً؟
فعلى الأوّل لا يصحّ الاستدلال على نفوذه بعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بناءً على ما تقدّم. وعلى الثاني يكون الضمان المذكور عقداً في نظر العقلاء؛ ويشمله عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».
ودعوى: أنّ الضمان بهذا المعنى لا يمكن أن يكون عقداً ومحتاجاً إلى التزامٍ من قبل المضمون له أيضاً زائداً على التزام الضامن؛ لأنّه لا يشتمل على التصرّف في شؤون المضمون له وحيثياته؛ لأنّ مجرّد كون الدين الذي يملكه شخص متعهّداً به ليس تصرّفاً في مملوكه، فلايقاس على عقد الضمان بالمعنى المصطلح الذي يؤدّي إلى نقل الدين من ذمّةٍ إلى ذمّة.
هذه الدعوى مدفوعة بأنّ كون المضمون المعاملي عقدياً ومحتاجاً إلى التزامين من شخصين لا ينحصر ملاكه في الارتكاز العقلائي بكونه تصرفاً في ذَينك الشخصين معاً، بل قد لا يكون مشتملًا إلّاعلى التصرّف في أحدهما ومع هذا يعتبر عقلائياً تحت سلطان الشخصين معاً، كما في الهبة التي اعتبرت من العقود مع أ نّها مشتملة على التصرّف في مال الواهب فقط.

233

معنى هذا الامتناع أنّ ما تعهّد به الضامن- وهو أداء المدين للدين- لم يتحقّق، ولمّا كان الأداء بنفسه ذا قيمةٍ مالية، والمفروض أ نّه تلف على الدائن بامتناع المدين عنه قصوراً أو تقصيراً، فيصبح مضموناً على من كان متعهِّداً به، وتشتغل ذمّة الضامن حينئذٍ بقيمة الأداء التي هي قيمة الدين.

وهكذا يتّضح أنّ الضمان بالمعنى الثالث هو تعهّد بالأداء، لا تعهّد بالمبلغ في عرض مسؤولية المدين، وأنَّ هذا التعهّد ينتج ضمان قيمة المتعهَّد به إذا تلف بامتناع المدين عن الأداء، ولكن حيث إنّ الأداء ليس له قيمة مالية إلّابلحاظ مالية مبلغ الدين فاستيفاء الدائن لقيمة الأداء من الضامن بنفسه استيفاء لقيمة الدين، فيسقط الدين بذلك.

وهذا المعنى الثالث للضمان صحيح شرعاً بحكم الارتكاز العقلائي أولًا، وللتمسّك بعموم‏ «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»[1] ثانياً، إلّاأنّ التمسّك بعموم‏ «أَوْفُوا* بِالْعُقُودِ» يتوقّف على أن نثبت قبل ذلك بالارتكاز العقلائي مثلًا عقدية هذا النحو من التعهّد والضمان، أي كون إيجاده المعاملي مُتقوِّماً بالتزامين من الطرفين ليحصل بذلك معنى العقد بناءً على تَقوّم العقد بالربط بين التزامين بحيث يكون أحدهما معقوداً بالآخر. وأمّا إذا كان التعهّد والضمان بالمعنى المذكور ممّا لا يتقوّم إيجاده المعاملي في الارتكاز العقلائي بالتزامين من الطرفين فلا يصدق عليه العقد بناءً على هذا ويكون إيقاعاً لا تشمله عندئذٍ «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

أمّا كيف نعرف أنّ المضمون المعاملي هل يتقوّم إيجاده بالتزامٍ من طرفٍ واحدٍ أو بالتزامين من طرفين؟ فذلك بأن يلاحظ أنّ ما يتكفّله المضمون المعاملي هل جُعل تحت سلطان شخصٍ واحدٍ وضعاً، أو جعل تحت سلطان شخصين بنحو

 

[1] المائدة: 1

232

على نحو ضمّ مسؤوليةٍ إلى مسؤولية. وهذا المعنى الثالث هو أن يكون الشخص الآخر مسؤولًا عن أداء الدين إلى الدائن، بأن يقول للدائن مثلًا: أنا أتعهّد بأنّ دينك سيؤدّى إليك. فالضمان هنا ليس ضماناً لنفس مبلغ الدين إمّا بدلًا عن المدين الأصلي أو منضمّاً إليه، وإنّما هو ضمان لأدائه مع بقاء الدين في ذمّة المدين الأصلي وتحمّله لمسؤوليته.
ولا ينبغي أن يتوهّم رجوع هذا المعنى الثالث إلى الضمان بمعنى ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّة، أو مسؤوليةٍ إلى مسؤوليةٍ بدعوى أنّ كلّاً من المدين الأصلي والمتعهّد الجديد أصبح يتحمّل المسؤولية، وهذا معنى الضمّ؛ وذلك لأنّ الجواب على هذا التوهّم هو بإبراز الفرق بين هذا المعنى الثالث وبين الضمان بمعنى الضمّ، فإنّ الضمان بمعنى الضمّ يعني كون كِلا الشخصين من المدين والضامن مسؤولًا عن ذلك المبلغ- ولنفرضه عشرة دنانير- أمام الدائن، فالمسؤوليتان منصبّتان على شي‏ءٍ واحدٍ وهو المبلغ المحدّد من الدين، ولهذا كان للدائن أن يرجع على أيّهما شاء.
وأمّا المعنى الثالث فهو وإن كان يؤدّي إلى تحمّل المدين والضامن معاً للمسؤولية إلّاأنّ متعلّق المسؤولية مختلف؛ فإنّ المدين والضامن ليسا في المعنى الثالث مسؤولَين ومشتغلَي الذمّة بذات المبلغ، بل المدين مسؤول ومشغول الذمّة بذات المبلغ، والضامن مسؤول عن أداء ذلك المبلغ، أي أ نّه مسؤول عن خروج المدين عن عهدة مسؤوليته وتفريغ ذمّته، وعليه فليس للدائن أن يرجع ابتداءً على الضامن بالمعنى الثالث ويطالبه بالمبلغ المقترض؛ لأنّ الضامن بهذا المعنى ليس مسؤولًا مباشرةً عن المبلغ المقترَض، بل هو مسؤول ومتعهّد بأداء المدين للدين وخروجه عن عهدة ذلك المبلغ. ومثل هذا التعهّد من الضامن إنّما ينتهي إلى استحقاق الدائن للمطالبة من ذلك الضامن فيما إذا امتنع المدين عن الوفاء، فإن‏

231

الملحق (9) [التخريج الفقهي لقبول البنك للكمبيالة]

يعالج هذا الملحق على مستوىً موسّعٍ من الناحية الفقهية حكم قبول الكمبيالة من قبل البنك.
وقبول البنك للكمبيالة نوع من التعهّد من قبل البنك بالدين يسمح للدائن أن يرجع عليه إذا تخلّف المدين عن الوفاء. وقد قلنا في الاطروحة: إنّ قبول البنك للكمبيالة صحيح؛ لأنّه تعهّد مشروع، ونريد الآن أن نحدّد معنى هذا التعهّد وتخريجه فقهياً.
لا نقصد بهذا التعهّد عقد الضمان بمعناه الفقهي المعروف؛ لأنّ عقد الضمان ينتج- بناءً على القول المشهور في فقهنا الإمامي- نقلَ الدين من ذمّةٍ إلى ذمّة، لا ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ أو مسؤوليةٍ إلى مسؤولية. ومن الواضح أنّ البنك في قبوله للكمبيالة لا يقصد نقل الدين من ذمّة المدين إلى ذمّته، وإذا انشى عقد الضمان واريد به أن ينتج ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ كان ذلك باطلًا شرعاً. وعليه فنحن لا نريد أن نفسّر قبول البنك للكمبيالة على أساس عقد الضمان بمعناه الفقهي المعروف، ولكنّا نرى أنّ هناك معنىً ثانياً غير نقل الدين من ذمّة المدين إلى ذمّةِ آخر، وغير جعل الشخص الآخر نفسَه مسؤولًا عن نفس المبلغ الذي يكون المدين مسؤولًا عنه‏

230

229

المدين مستعدّاً للوفاء، فالدائن يقول للبنك: إذا كان المدين مستعدّاً لوفاء دَيني عند مطالبتك له به فأنا اعطيك ديناراً إذا طالبته. ومرجع ذلك إلى جُعالةٍ معلّقة، ولا بأس بمثل هذا التعليق في الجُعالة التي ليست هي بحسب التحقيق إلّاتحديداً لمقتضيات ضمان الغرامة، كما تقدّم سابقاً. وعلى هذا فلا يستحقّ البنك الجُعل إلّا في فرض استعداد المدين للدفع، وهذا الاستعداد مساوق لترتّب التحصيل على المطالبة.
وهكذا يتّضح من كلّ ما تقدّم أنّ استحقاق البنك للعمولة بالمطالبة أو بتحصيل الدين فعلًا ليس مبنيّاً على كون العمولة جُعالةً أو أجرة، بل هو مبنيّ على تشخيص الفعل الذي فرض له الجعل أو حُدِّدت له الاجرة.