کتابخانه
228

الدين بالفعل؛ وذلك بأحد وجهين:
الأوّل: أن يكون الجُعل مفروضاً على تحصيل الدين وتسليمه إلى الدائن، لا على مجرّد المطالبة به.
ودعوى: أنّ المعروف بينهم هو اشتراط قدرة المجعول له على الفعل المحدّد في الجُعالة، وعدم صحة الجعالة بدون ذلك، والمفروض في المقام عدم إحراز القدرة.
مدفوعة بأنّ الجعالة حيث إنّها لا تتكفّل تمليك الجاعل منفعة الفاعل، فلا يأتي هنا الملاك الأوّل السابق في الإجارة الذي كان يقتضي اشتراط قدرة الأجير على الفعل تحقيقاً لمالكيته للمنفعة التي هي شرط في نفوذ تمليكه.
كما أنّ الجعالة لا تشتمل على مسؤوليةٍ فعليةٍ على الجاعل إلّابعد فرض صدور العمل من المجعول له؛ لأنّ مفاد الجُعالة قضية شرطية مقدَّمها صدور العمل، وجزاؤها استحقاق الجعل، فلايأتي هنا أيضاً الملاك الثاني المتوهّم في الإجارة، وهو لزوم الغَرَر مع عدم إحراز القدرة على التسليم؛ إذ لا خطر ولا غَرَر في المقام على الجاعل يوجّه أصلًا، إذ لا يستحقّ المجعول له شيئاً عليه إلّافي طول العمل.
وعلى هذا الأساس فلا دليل على اشتراط قدرة المجعول له على العمل في الجعالة إلّاكونها غير عقلائيةٍ وسفهائية مع فرض عجز المجعول له عن العمل، وهذا المحذور إنّما هو في فرض العلم بالعجز، وأمّا مع احتمال القدرة فتكون الجعالة عقلائيةً ولا مانع من نفوذها. وبناء على ذلك يمكن للدائن في المقام أن يجعل للبنك جُعلًا على تحصيل الدين بالفعل وتسليمه إليه، أو إلى مَن يحبّ ولو مع الشكّ في قدرة البنك على التحصيل.
الثاني: أن يفرض كون الجُعل مفروضاً على المطالبة بالدين التي هي عمل يعلم بقدرة المجعول له عليه، غير أنّ الجُعل ليس مطلقاً، بل هو مقيّد بما إذا كان‏

227

وبالتالي كون الإجارة صحيحة، فيملك الاجرة بالعقد ويستحقّ تسلّمها بتسليمه للعمل.
ولا يبعد البناء على الثاني، أي على أنّ الإجارة الواقعة مع الشك تتبع الواقع.
ودعوى: أنّ قدرة الأجير على الفعل معتبرة في صحة الإجارة بملاكين:
أحدهما: بلحاظ دخلها في مالكية الأجير للمنفعة التي يملكها للمستأجر في عقد الإجارة؛ إذ لو لم يكن قادراً على الخياطة مثلًا فلا يكون مالكاً لهذه المنفعة، فلا يصحّ منه تمليكها.
والآخر: بلحاظ أنّ الإجارة يشترط فيها القدرة على التسليم حتى إذا وقعت على منافع الأموال، وحينئذٍ فعجز الأجير عن العمل المستأجر عليه يوجب الإخلال بشرط القدرة على التسليم. وعلى هذا الأساس فوجود القدرة واقعاً مع الشكّ فيها ظاهراً إنّما ينفع في نفي الملاك الأوّل للبطلان؛ لأنّ القدرة الواقعية تكفي لصيرورة الأجير مالكاً في الواقع للمنفعة، وصحة الإجارة تتوقّف على كون المؤجر مالكاً للمنفعة لاعلى كونه عالماً بأ نّه مالك لها. وأمّا الملاك الثاني للبطلان فلايزول بفرض القدرة الواقعية مع الشكّ فيها؛ لأنّ مدرك اشتراط القدرة على التسليم هو الغَرَر، والغرر لا ينتفي إلّامع العلم بالقدرة على التسليم.
هذه الدعوى مدفوعة بأنّ القدرة على التسليم على فرض القول باشتراطها في صحة الإجارة وبطلان الإجارة بدونها، فليس المدرك في ذلك النهي عن الغَرَر- لقصوره عن إثبات المطلوب سنداً ودلالةً، كما هو محقّق في محلّه- بل الإجماع، والقدر المتيقّن منه فرض انتفاء القدرة واقعاً.
هذا كلّه في الإجارة.
وأمّا الجُعالة فيمكن تصوير الجُعل بنحوٍ لا يستحقّه البنك إلّامع تحصيل‏

226

أمّا أوّلًا: فلإمكان فرض تمليك المنفعة بعوضٍ منجّزٍ وفعليّ من قِبل الأجير؛ لأنّ شكّه في كونه مالكاً للمنفعة الفلانية لأجل شكّه في القدرة عليها لا يمنع عن صدور إنشاءٍ يملك تلك المنفعة بعوضٍ منه على نحوٍ منجّز، نظير مَن يشكّ في أنّ عيناً من الأعيان ملكه ويبيعها مع هذا بيعاً منجّزاً، فالتعليق في المقام إنّما هو تعليق للحكم بصحة الإجارة، لا للمنشأ المجعول من قبل الأجير والمستأجر في عقد الإجارة.
وثانياً: لو سلِّم سريان التعليق إلى نفس المنشأ المجعول منهما فليس هذا من التعليق الباطل؛ لأنّه من التعليق على تمامية أركان صحة العقد، وليس من التعليق على أمرٍ خارجيّ من قبيل رجوع الحجّاج أو نزول المطر الذي هو المستيقن من الإجماع على مبطلية التعليق.
فإن بنينا على بطلان الإجارة واقعاً مع الشكّ في القدرة ولو كانت القدرة ثابتةً واقعاً، إمّا بتوهّم استلزام الشكّ حينئذٍ للتعليق، وإمّا للغَرر أو نحو ذلك، فلا يمكن في المقام أن تقع الإجارة على نفس تحصيل الدين وتسليمه إلى الدائن؛ للشكّ في قدرة البنك على ذلك بحسب الفرض، فلابدّ أن تقع الإجارة على نفس المطالبة، ويستحقّ البنك حينئذٍ الاجرة بمجرّد المطالبة.
وإن بنينا عل أنّ الإجارة الواقعة مع الشكّ تتبع الواقع فتصحّ مع وجود القدرة واقعاً، وتبطل مع عدمها كذلك، فيمكن تصوير الإجارة بنحوٍ لا يستحقّ معه الأجير الاجرة إلّامع تحصيل الدين بالفعل، وذلك بإيقاعها على نفس تحصيل الدين وتسليمه إلى صاحبه. وحينئذٍ فلا يستحقّ البنك الاجرة بالمطالبة إذا لم تؤدِّ إلى تحصيل الدين فعلًا؛ إذ ينكشف حينئذٍ عدم القدرة على الفعل المستأجر عليه، وبالتالي يظهر بطلان الإجارة، فلا موجب لاستحقاق الاجرة، بينما لو طالب وحصّل الدين فإنّه يستحقّ بذلك الاجرة؛ إذ ينكشف كون الفعل مقدوراً له،

225

أمّا في الإجارة فلا إشكال في أنّ صحّتها تتوقّف على كون الفعل المتسأجر عليه مقدوراً للأجير، وإلّا كانت الإجارة باطلة؛ لأنّ صحة الإجارة فرع كون المؤجر مالكاً للمنفعة لكي يصحّ له تمليكها للمستأجر بعقد الإجارة، وإذا كان الأجير غير قادرٍ على الخياطة مثلًا فلا تكون الخياطة من منافعه المملوكة له بنحوٍ من الملكية لكي يصحّ له تمليك هذه المنفعة من منافعه للغير.
وعلى هذا الأساس فلايصحّ للدائن أن يستأجر شخصاً لتحصيل دينه من المدين وتسليمه له إلّاإذا كان التحصيل والتسليم مقدوراً للأجير بأن فرض استعداد المدين للدفع عند المطالبة، ففي مثل ذلك يجوز وقوع الإجارة على تحصيل الدين من المدين وتسليمه إلى الدائن؛ لأنّه عمل مقدور للأجير بعد فرض أنّ المقدمات غير الاختيارية لهذا العمل حاصلة بسبب استعداد المدين للدفع عند المطالبة.
وأمّا إذا لم يكن المدين مستعدّاً للدفع عند المطالبة ولم يكن الأجير قادراً على إجباره على الدفع فلا يكون تحصيل الدين من المدين وتسليمه إلى الدائن مقدوراً للأجير، فتبطل الإجارة الواقعة عليه.
وأمّا إذا شكّ في قدرة الأجير على العمل كما هو المفروض في المقام؛ إذ فرضنا الشكّ في استعداد المدين للدفع إذا طولب، وهذا يوجب الشكّ في قدرة الأجير على تحصيل الدين وتسليمه إلى الدائن، فهل تبطل الإجارة الواقعة على عملٍ يشكّ في قدرة الأجير عليه مطلقاً، أو تتبع صحةً وبطلاناً واقع الأمر؟ فإن كانت القدرة موجودةً عند الأجير صحّت الإجارة؛ لأنّ الأجير يكون مالكاً في الواقع للفعل فينفذ تمليكه له، وإن لم تكن القدرة ثابتة للأجير في الواقع بطلت الإجارة؛ لأنّ الأجير يكون قد ملَّك ما ليس من منافعه المملوكة له، وليس هذا من التعليق في الإجارة الموجب للبطلان.

224

والتحقيق: أنّ استحقاق البنك للعمولة بمجرّد المطالبة أو توقّف الاستحقاق على تحصيل المبلغ فعلًا ليس مبنيّاً على كون المقام من باب الجُعالة أو من باب الإجارة، بل على تشخيص ما انيط به الجُعل أو الاجرة.
وتحقيق ذلك: أنّ تحصيل الدين إمّا أن يفرض كونه مقدوراً للبنك ولو عن طريق الإلحاح في المطالبة، أو الرجوع إلى القضاء، ونحو ذلك. وإمّا أن يفرض كون البنك عاجزاً عن التحصيل إذا لم تنفع المطالبة الابتدائية في تحصيله، فإن فرض تمكّن البنك من التحصيل، فكما يمكن للدائن أن يجعل له جُعلًا على تقدير التحصيل كذلك يمكنه أن يستأجره على تحصيل الدين بالفعل، وتتّفق حينئذٍ الجُعالة والإجارة معاً في عدم استحقاق البنك للعمولة بمجرّد المطالبة إذا لم يترتّب عليها التحصيل وكان متوقّفاً على مواصلةالعمل من البنك؛ لأنّ الجُعل والأجر وقعا في مقابل التحصيل لا مجرّد المطالبة.
وإذا لم يفرض كون البنك قادراً على تحصيل الدين بالفعل، وإنّما يفرض قدرته على المطالبة به فحسب، فكما يمكن للدائن أن يستأجر البنك على مجرّد المطالبة كذلك يمكنه أن يضع له جُعلًا على مجرّد المطالبة، وتتّفق حينئذٍ الجُعالة والإجارة معاً في استحقاق البنك للعمولة بمجرّد المطالبة؛ لأنّ الجُعل والأجر وقعا في مقابل المطالبة، لا التحصيل الفعلي للدين. فاتّضح أنّ الجُعل في الجُعالة يمكن تصويره بنحوٍ لا يكون مستحقّاً إلّابالتحصيل، كما أنّ الاجرة في الإجارة يمكن تصويرها بنحوٍ لا يكفي في استحقاقها مجرّد المطالبة.
يبقى بعد هذا أن نرى أ نّه في فرض عدم قدرةالبنك إلّاعلى مجرّد المطالبة التي قد تقترن بالتحصيل وقد لا تقترن تبعاً لاستعداد المدين للوفاء إثباتاً ونفياً هل يمكن في مثل هذا الفرض أن نتصوّر الجُعل في الجُعالة والاجرة في الإجارة بنحوٍ يتوقّف استحقاقهما على التحصيل فعلًا؟

223

الملحق (8) [العمولة على تحصيل الكمبيالة]

درسنا في الاطروحة أنّ البنك يجوز له شرعاً أخذ عمولةٍ على تحصيل الكمبيالة. وفي هذا الملحق نريد أن ندرس ظرف استحقاقه للعمولة.

هل يستحقّ البنك العمولة من الدائن بمجرّد مطالبته للمدين بقيمة الكمبيالة، أو يتوقّف استحقاقه لها على تحصيل الدين فعلًا؟

وقد تعرّض بعض الأعلام‏[1] لذلك، فبنى هذه المسألة على كون العمولة جعالةً أو إجارة، فإن كان أخذ البنك للعمولة من باب الجعالة فلابدّ من تحصيل البنك للمال من المدين، وإلّا فليس له أخذ تلك العمولة، ويكون ذلك من قبيل ما لو قال الشخص: من وجد ضالّتي فله عليَّ عشرة دنانير؛ فإنّ استحقاق هذه العشرة يتوقّف على تحصيل الضالّة فعلًا. وأمّا إذا خرّجنا الموقف على أساس الإجارة فإنّ للبنك أخذ العمولة من الدائن بإزاء مطالبته للمدين بالدين، سواء حصل الدين أم لا.

 

[1] انظر: بحوث فقهية: 118

222

أمّا الصورة الاولى فالعمولة فيها جائزة؛ لأنّ البنك في هذه الصورة يحتلّ مركز المدين، وفرض العمولة يكون لمصلحة المدين لا الدائن، فلا يكون رباً.
وأمّا الصورة الثانية فالبنك يحتلّ فيها مركز الدائن، وعليه يكون أخذه للعمولة حراماً؛ لربَويّتها. هذا ملخّص ما افيد في المقام.
والتحقيق: أنّ العمولة جائزة وصحيحة على كلّ حال؛ لأنّ بالإمكان تخريجها فقهياً على أساسٍ يجري حتى في الصورة الثانية، كما يتّضح ممّا عرضناه في المتن، وذلك بجعل العمولة في مقابل تحكّم المدين في تعيين مكان الوفاء لدائنه، أو تحكّم الدائن في تعيين مكان وفاء مدينه له.
ففي الصورة الثانية وإن كان البنك النجفي هو الدائن والمقرض، ولكن لمَّا كان هذا القرض قد وقع منه في النجف فالمكان الطبيعي للوفاء الذي يقتضيه الإطلاق هو النجف، ويصبح من حقّ البنك أن يطالب المقترِض بالوفاء والدفع في النجف، وحيث إنّ المفروض أنّ المقترِض يريد أن يكلّفه بتسلّم المبلغ من بنكٍ في بلدٍ آخر فبإمكان البنك النجفي أن لا يوافق على ذلك إلّابإزاء مقدارٍ معيّنٍ من المال. وليس في ذلك رباً على الإطلاق.
والفكرة الأساسية في هذا التخريج أ نّه متى ما أراد الدائن أو المدين أن يُلزِم الطرف الآخر بقبول المبلغ المقترَض أو دفعه في غير المكان الطبيعي الذي وقع فيه عقد القرض وانصرف إليه، فيصح للطرف الآخر أن يأخذ مالًا في مقابل تجاوبه مع ذلك الإلزام، ورفع اليد عن حقّه في الامتناع.

221

الملحق (7) [العمولة على التحويل‏]

درسنا في الاطروحة العمولَة التي تؤخذ على التحويل عادةً وصحّحناها، وهذا الملحق امتداد للبحث عن مشروعية هذه العمولة، وتوسّع في مناقشة وجهات نظرٍ اخرى.

وقد اتّضح بما ذكرناه النظر في موقف بعض الأعلام‏[1]، إذ خرَّج العمولة التي يأخذها البنك بشكلٍ يختصّ ببعض الحالات. فقد أفاد أنّ التحويل له صورتان:

إحداهما: أن يدفع الشخص إلى البنك في النجف مبلغاً من المال ويأخذ بالمبلغ المذكور تحويلًا على البنك في بغداد، وبإزاء هذا التحويل يأخذ البنك من المحوّل عمولةً معيّنة.

والاخرى: أن يأخذ ذلك الشخص المبلغ المعيّن من البنك في النجف ويحوّله في تسلّم المبلغ على مصرفٍ في بغداد، فيدفع البنك النجفي المبلغ ليتسلّمه من البنك البغدادي، ويأخذ بإزاء ذلك عمولة.

 

[1] انظر: بحوث فقهية: 114

220