کتابخانه
50

الذهن بطبيعته، وإنّما ندرك بالتأمّل عن طريق البرهان والاستدلال.
ومن ناحية الدرجات ينقسم الإدراك العقلي إلى درجات:
فمنه: الإدراك الكامل القطعي، وهو: أن ندرك بعقولنا حقيقةً من الحقائق إدراكاً لا نحتمل فيه الخطأ والاشتباه، كإدراكنا أنّ زوايا المثلّث تساوي قائمتين، وأنّ الضدّين لا يجتمعان، وأنّ الأرض كرويّة، وأنّ الماء يكتسب الحرارة من النار إذا وضع عليها.
ومن الإدراك العقلي ما يكون ناقصاً، والإدراك الناقص هو: اتّجاه العقل نحو ترجيح شي‏ءٍ دون الجزم به لاحتمال الخطأ، كإدراكنا أنّ الجواد الذي سبق في مناوراتٍ سابقةٍ سوف يسبق في المرّة القادمة أيضاً، وأنّ الدواء الذي نجح في علاج أمراضٍ معيَّنةٍ سوف ينجح في علاج أعراضٍ مَرَضيةٍ مشابهة، وأنّ الفعل المشابه للحرام في أكثر خصائصه يشاركه في الحرمة.
والسؤال الأساسي في هذا البحث: ما هي حدود العقل أو الإدراك العقلي الذي يقوم بدور الوسيلة الرئيسية لإثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟ فهل يمكن استخدام الإدراك العقلي كوسيلةٍ للإثبات مهما كان مصدره ومهما كانت درجته، أوْ لا يجوز استخدام الإدراك العقلي كوسيلةٍ للإثبات إلّا ضمن حدودٍ معيَّنةٍ من ناحية المصدر أو الدرجة؟
وقد اتّجه البحث حول هذه النقطة نحو معالجة الدرجة أكثر من اتّجاهه نحو معالجة المصدر، فاتّسعت الدراسات الاصولية التي تناولت حدود العقل من ناحية الدرجة، واختلفت الاتّجاهات حول مدى شمول العقل وحدوده- بوصفه وسيلة إثباتٍ رئيسية- فهل يشمل الإدراكات الناقصة التي تؤدّي إلى مجرّد الترجيح، أو يختصّ بالادراك الكامل المنتج للجزم؟
ولهذا البحث تأريخه الزاخر في علم الاصول وفي تأريخ الفكر الفقهي،

49
الإدراك العقلي‏

الإدراك العقلي: هو الوسيلة الرئيسية الثانية التي تستخدم في بحوث هذا العلم لإثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، إذ قد يكون العنصر المشترك في عملية الاستنباط ممّا ندركه بعقولنا دون حاجةٍ إلى بيانٍ شرعيٍّ لإثباته، من قبيل القانون القائل: «إنّ الفعل لا يمكن أن يكون حراماً وواجباً في وقتٍ واحد»، فإنّنا لا نحتاج في إثبات هذا القانون إلى بيانٍ شرعيٍّ يشتمل على صيغةٍ للقانون من هذا القبيل، بل هو ثابت عن طريق العقل؛ لأنّ العقل يدرك أنّ الوجوب والحرمة صفتان متضادّتان، وأنّ الشي‏ء الواحد لا يمكن أن يشتمل على صفتين متضادّتين، فكما لا يمكن أن يتّصف الجسم بالحركة والسكون في وقتٍ واحدٍ كذلك لا يمكن أن يتّصف الفعل بالوجوب والحرمة معاً.
والإدراك العقلي له مصادر متعدّدة ودرجات مختلفة.
فمن ناحية المصادر ينقسم الإدراك العقلي إلى أقسام:
منها: الإدراك العقلي القائم على أساس الحسِّ والتجربة. ومثاله: إدراكنا أنّ الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة، وأنّ وضعه على النار إلى مدّةٍ طويلة يؤدّي إلى غليانه.
ومنها: الإدراك العقلي القائم على أساس البداهة. ومثاله: إدراكنا جميعاً أنّ الواحد نصف الاثنين، وأنّ الضدّين لا يجتمعان، وأنّ الكلّ أكبر من الجزء. فإنّ هذه الحقائق بديهية ينساق إليها الذهن بطبيعته دون عناءٍ أو تأمّل.
ومنها: الإدراك القائم على أساس التأمّل النظري. ومثاله: إدراكنا أنّ المعلول يزول إذا زالت علّته، فإنّ هذه الحقيقة ليست بديهية، ولا ينساق إليها

48
البيان الشرعي‏

البيان الشرعي: هو إحدى الوسيلتين الرئيسيّتين لإثبات العناصر التي تساهم في عملية الاستنباط. ونقصد بالبيان الشرعي مايلي:
1- الكتاب الكريم، وهو القرآن الذي انزل بمعناه ولفظه على سبيل الإعجاز وحياً على أشرف المرسلين صلى الله عليه و آله و سلم.
2- السُنّة، وهي كلّ بيانٍ صادرٍ من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أو أحد الأئمّة المعصومين عليهم السلام، والبيان الصادر منهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- البيان الإيجابي القولي، وهو الكلام الذي يتكلّم به المعصوم عليه السلام.
2- البيان الإيجابي الفعلي، وهو الفعل الذي يصدر من المعصوم عليه السلام.
3- البيان السلبي، وهو تقرير المعصوم عليه السلام، أي سكوته عن وضعٍ معيَّنٍ بنحوٍ يكشف عن رضاه بذلك الوضع وانسجامه مع الشريعة.
ويجب الأخذ بكلّ هذه الأنواع من البيان الشرعي، وإذا دلَّ شي‏ء منها على عنصرٍ مشتركٍ من عناصر عملية الاستنباط ثبت ذلك العنصر المشترك واكتسب طابعه الشرعي.
وفي هذا المجال توجد عدّة بحوثٍ نتركها للحلقات المقبلة إن شاء اللَّه تعالى.

47

نماذج الثاني القانون القائل: «إنّ الفعل لا يمكن أن يكون واجباً وحراماً في وقتٍ واحد».
وعلى ضوء ما تقدّم نعرف أنّ من الضروري- قبل البدء في بحوث علم الاصول لدراسة العناصر المشتركة- أن ندرس الوسائل الرئيسية التي ينبغي للعلم استخدامها في سبيل إثبات تلك العناصر، ونتكلّم عن حدودها؛ لكي نستطيع بعد هذا أن نستخدمها وفقاً لتلك الحدود.

592

إليها سائر الأحكام المماثلة التي تشابهها، ونكوّن منها بناءً عُلويّاً نصل عن طريقه إلى تحديد معالم النظريّة بوضوح؛ لأنّ مجموعة هذه الأحكام المختلفة تعكس في الحقيقة المعالم المحدّدة للنظريّة، وسوف ننجز ذلك كلّه الآن.

3- تقييم العمل في النظريّة
البناء العلْوي:

1- إذا مارس الفرد أرضاً ميتة فأحياها كان له الحقّ فيها، وعليه طسقها يؤدّيه إلى الإمام ما لم يعف عنه، كما جاء في مبسوط الشيخ الطوسي في كتاب الجهاد[1]، وفقاً للنصوص الصحيحة الدالّة على أنّ من أحيا أرضاً فهو أحقّ بها وعليه طسقها[2]. وبموجب الحقّ الذي يكسبه لا يجوز لآخر انتزاع الأرض منه ما دام قائماً بحقّها، بالرغم من أ نّه لا يملك رقبة الأرض نفسها.

2- إذا مارس الفرد أرضاً عامرة بطبيعتها فزرعها واستغلّها كان من حقّه الاحتفاظ بها، ومنع الآخرين من مزاحمته في ذلك ما دام يمارس انتفاعه بالأرض، ولا يحصل على حقّ أوسع من ذلك يخوّله احتكارها ومنع الآخرين عنها حتّى في حالة عدم ممارسته للانتفاع. ومن أجل هذا كان الحقّ الناتج عن استثمار أرض عامرة بطبيعتها يختلف عن الحقّ الناتج عن إحياء أرض ميتة، فإنّ حقّ الإحياء يمنع أيّ فرد آخر من الاستيلاء عليها بدون إذن المحيي ما دامت‏

 

[1] لاحظ المبسوط 2: 29

[2] راجع وسائل الشيعة 25: 414- 415، الباب 3 من كتاب إحياء الموات، و 9: 549، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 13

46

المصادر الأصليّة للّغة وكلمات أبنائها الأوّلين.
فلابدّ لعلم الاصول إذن أن يواجه هذا السؤال، وأن يحدّد منذ البدء وسائل الإثبات التي ينبغي أن يستخدمها لإثبات العناصر المشتركة وتحديدها.
وفي هذا المجال نقول: إنّ الوسائل الرئيسية التي ينبغي لعلم الاصول أن يستخدمها مردّها إلى وسيلتين رئيسيّتين، وهما:
1- البيان الشرعي (الكتاب والسنّة).
2- الإدراك العقلي.
فلا تكتسب أيّ قضيةٍ طابع العنصر المشترك في عملية الاستنباط، ولا يجوز إسهامها في العملية إلّاإذا أمكن إثباتها بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيسيّتين، فإذا حاول الاصولي- مثلًا- أن يدرس حجّية الخبر لكي يدخله في عملية الاستنباط- إذا كان حجّةً- يطرح على نفسه هذين السؤالين:
هل ندرك بعقولنا أنّ الخبر حجّة وملزم بالاتّباع، أمْ لا؟
وهل يوجد بيان شرعيّ يدلّ على حجّيته؟
ويحاول الاصولي في بحثه الجواب على هذين السؤالين وفقاً للمستوى الذي يتمتّع به من الدقّة والانتباه، فإذا انتهى الباحث من دراسته إلى الإجابة بالنفي على كلا السؤالين كان معنى ذلك أ نّه لا يملك وسيلةً لإثبات حجّية الخبر، وبالتالي يستبعد الخبر عن نطاق الاستنباط. وأمّا إذا استطاع الباحث أن يجيب بالإيجاب على أحد السؤالين أدّى‏ هذا إلى إثبات حجّية الخبر ودخولها في عملية الاستنباط بوصفها عنصراً اصولياً مشتركاً.
وسوف نرى خلال البحوث المقبلة أنّ عدداً من العناصر المشتركة قد تمّ إثباتها بالوسيلة الاولى- أي البيان الشرعي- وعدداً آخر ثبت بالوسيلة الثانية، أي الإدراك العقلي. فمن قبيل الأول: حجّية الخبر وحجّية الظهور العرفي، ومن‏

45
الوسائل الرئيسية للإثبات في علم الاصول‏

عرفنا أنّ عملية الاستنباط تتأ لّف من عناصر مشتركةٍ وعناصر خاصّة، وأنّ علم الاصول هو علم العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، ففيه تدرس هذه العناصر وتحدّد وتنظّم.
وما دام علم الاصول هو العلم الذي يتكفّل بدراسة تلك العناصر فمن الطبيعي أن يبرز هذا السؤال الأساسي: ما هي وسائل الإثبات التي يستخدمها علم الاصول لكي يثبت بها حجّية الخبر أو حجّية الظهور العرفي، أو غير ذلك من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟
ونظير هذا السؤال يواجهه كلّ علم، فبالنسبة إلى العلوم الطبيعية نسأل مثلًا:
ما هي وسائل الإثبات التي تستخدمها هذه العلوم لاكتشاف قوانين الطبيعة وإثباتها؟
والجواب هو: أنّ وسيلة الإثبات الرئيسية في العلوم الطبيعية هي التجربة.
وبالنسبة إلى علم النحو يسأل أيضاً: ما هي وسائل الإثبات التي يستخدمها النحوي لاكتشاف قوانين إعراب الكلمة وتحديد حالات رفعها ونصبها؟
والجواب هو: أنّ الوسيلة الرئيسية للإثبات في علم النحو هي النقل عن‏

44

على هذا الضوء يمكننا أن نفسِّر موقف جماعةٍ من المحدّثين عارضوا الاجتهاد وبالتالي شجبوا علم الاصول، فإنّ هؤلاء استفزّتهم كلمة «الاجتهاد»؛ لِمَا تحمل من تراث المصطلح الأول الذي شنَّ أهل البيت عليهم السلام حملةً شديدةً عليه، فحرّموا الاجتهاد الذي حمل المجتهدون من فقهائنا رايته، واستدلّوا على ذلك بموقف الأئمّة عليهم السلام ومدرستهم الفقهية ضدّ الاجتهاد، وهم لا يعلمون أنّ ذلك الموقف كان ضدّ المعنى الأول للاجتهاد، والفقهاء من الأصحاب قالوا بالمعنى‏ الثاني للكلمة.
وهكذا واجهت عملية الاستنباط هجوماً مريراً من هؤلاء باسم الهجوم على الاجتهاد، وتحمّلت التبعات التأريخية لهذه الكلمة، وبالتالي امتدّ الهجوم إلى علم الاصول لارتباطه بعملية الاستنباط والاجتهاد.
ونحن بعد أن ميَّزنا بين معنَيي الاجتهاد نستطيع أن نعيد إلى‏ المسألة بداهتها، ونتبيّن بوضوحٍ أنّ جواز الاجتهاد بالمعنى‏ المرادف لعملية الاستنباط من البديهيات.
وما دامت عملية استنباط الحكم الشرعي جائزةً بالبداهة فمن الضروري أن يحتفظ بعلم الاصول لدراسة العناصر المشتركة في هذه العملية.
ويبقى علينا- بعد أن أثبتنا جواز عملية الاستنباط في الإسلام- أن ندرس نقطتين:
إحداهما هي: أنّ الإسلام هل يسمح بهذه العملية في كلّ عصرٍ ولكلّ فرد، أو لايسمح بها إلّالبعض الأفراد وفي بعض العصور؟
والنقطة الاخرى هي: أنّ الاسلام كما يسمح للشخص أن يستنبط حكمه هل يسمح له باستنباط حكم غيره وإفتائه بذلك؟ وسوف ندرس هاتين النقطتين في بعض الحلقات المقبلة التي أعددناها لمراحل أعلى من دراسة هذا العلم.

591

بموجبه أولى من غيره بهما، ولا يصبح مالكاً للأرض والمعدن نفسهما، بينما نجد أنّ العمل لحيازة الحجر من الصحراء واغتراف الماء من النهر يكفي سبباً من الناحية الشرعيّة لا لاكتساب حقّ الأولويّة في الحجر والماء فحسب، بل لتملّكهما ملكيّة خاصّة.
فهناك اختلاف بين الأحكام التي ربطت الحقوق الخاصّة للفرد بعمله وجهده في تحديد نوع العمل الذي ينتج تلك الحقوق، وفي تحديد طبيعة تلك الحقوق التي ترتكز على العمل، ولأجل ذلك سوف يثير هذا الاختلاف عدّة أسئلة يجب الجواب عليها. فلماذا- مثلًا- كان العمل لحيازة الحجر والماء من النهر كافياً لاكتساب العامل حقّاً فيه، ولم يكن هذا النوع من العمل في الأرض والمعدن- مثلًا- سبباً لأيّ حقّ خاصّ فيهما؟ وكيف ارتفع الحقّ الذي كسبه الفرد في الماء عن طريق حيازته من النهر إلى مستوى الملكيّة، بينما لم يتح لمن أحيا أرضاً أو اكتشف منجماً أن يملك الأرض أو المنجم، وإنّما منح حقّ الأولويّة في المرفق الطبيعي الذي أحياه؟ ثمّ إذا كان العمل سبباً للحقوق الخاصّة فما بال الفرد إذا وجد أرضاً عامرة بطبيعتها، فاغتنم الفرصة الممنوحة لها طبيعيّاً وزرعها وأنفق على زراعتها جهداً لا يحصل على حقوق مماثلة لحقوق الإحياء، مع أ نّه قدّم على تربتها كثيراً من الجهود والأعمال؟ وكيف أصبح إحياء الأرض الميتة سبباً لحقّ الفرد في رقبة الأرض ولم يصبح استغلال الأرض العامرة وزراعتها مبرّراً لحقٍّ مماثل للفرد؟
إنّ الجواب على كلّ هذه الأسئلة التي أثارها اختلاف أحكام الإسلام بشأن العمل وحقوقه لَيتوقّف على تحديد الجانب الثالث من النظريّة الذي يشرح الأساس العامّ لتقييم العمل في النظريّة. ولكي نحدّد هذا الجانب يجب أن نجمع تلك الأحكام المختلفة بشأن العمل وحقوقه التي أثارت هذه الأسئلة، ونضيف‏