کتابخانه
217

بدليل الإباحة والرخصة إذا عارضه دليل آخر يدلّ على الحرمة أو الوجوب بصيغة نهيٍ أو أمر؛ لأنّ الصيغة ليست صريحة ودليل الإباحة والرخصة صريح غالباً.
3- قد يكون موضوع الحكم الذي يدلّ عليه أحد الكلامين أضيق نطاقاً وأخصّ دائرة من موضوع الحكم الذي يدلّ عليه الكلام الآخر. ومثاله أن يقال في نصٍّ: «الربا حرام»، ويقال في نصٍّ آخر: «الربا بين الوالد وولده مباح»، فالحرمة التي يدلّ عليها النصّ الأول موضوعها عامّ؛ لأنّها تمنع بإطلاقها عن التعامل الربوي مع أيّ شخص، والإباحة في النصّ الثاني موضوعها خاصّ؛ لأنّها تسمح بالربا بين الوالد وولده خاصّة، وفي هذه الحالة نقدِّم النصِّ الثاني على الأول؛ لأنّه يعتبر بوصفه أخصَّ موضوعاً من الأول قرينةً عليه، بدليل أنّ المتكلِّم لو أوصل كلامه الثاني بكلامه الأول فقال: «الربا في التعامل مع أيِّ شخصٍ حرام، ولا بأس به بين الوالد وولده» لأبطل الخاصّ مفعول العامّ وظهوره في العموم.
وقد عرفنا سابقاً أنّ القرينة تقدّم على ذي القرينة، سواء كانت متّصلةً أو منفصلة.
ويسمّى‏ تقديم الخاصّ على العامّ تخصيصاً للعامّ إذا كان عمومه ثابتاً بأداةٍ من أدوات العموم، وتقييداً له إذا كان عمومه ثابتاً بالإطلاق وعدم ذكر القيد، ويسمّى‏ الخاصّ في الحالة الاولى «مخصّصاً» وفي الحالة الثانية «مقيّداً».
وعلى هذا الأساس يتّبع الفقيه في الاستنباط قاعدةً عامة، وهي الأخذ بالمخصّص والمقيّد وتقديمهما على العامّ والمطلق.
4- وقد يكون أحد الكلامين دالًّا على ثبوت حكمٍ لموضوع، والكلام الآخر ينفي ذلك في حالةٍ معيّنةٍ بنفي ذلك الموضوع. ومثاله أن يقال في نصٍّ:

216
الفصل الأوّل [في التعارض بين دليلين لفظيّين‏]

في حالة التعارض بين دليلين لفظيّين توجد قواعد نستعرض في ما يلي عدداً منها:
1- من المستحيل أن يوجد كلامان للمعصوم يكشف كلّ منهما بصورةٍ قطعيةٍ عن نوعٍ من الحكم يختلف عن الحكم الذي يكشف عنه الكلام الآخر؛ لأنّ التعارض بين كلامين صريحين من هذا القبيل يؤدّي الى وقوع المعصوم في التناقض، وهو مستحيل.
2- قد يكون أحد الكلامين الصادرين من المعصوم صريحاً وقطعياً، ويدلّ الآخر بظهوره على ما ينافي المعنى الصريح لذلك الكلام. ومثاله: أن يقول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في نصٍّ مثلًا: «يجوز للصائم أن يرتمس في الماء حال صومه»، ويقول في نصٍّ آخر: «لا ترتمس في الماء وأنت صائم»، فالنصّ الأول دالّ بصراحةٍ على إباحة الارتماس للصائم، والنصّ الثاني يشتمل على صيغة نهي، وهي تدلّ بظهورها على الحرمة؛ لأنّ الحرمة هي أقرب المعاني الى صيغة النهي وإن أمكن استعمالها في الكراهة مجازاً، فينشأ التعارض بين صراحة النصّ الأول في الإباحة وظهور النصّ الثاني في الحرمة؛ لأنّ الإباحة والحرمة لا يجتمعان.
وفي هذه الحالة يجب الأخذ بالكلام الصريح القطعي؛ لأنّه يؤدّي الى العلم بالحكم الشرعي، فنفسِّر الكلام الآخر على ضوئه ونحمل صيغة النهي فيه على الكراهة؛ لكي ينسجم مع النصّ الصريح القطعي الدالّ على الإباحة.
وعلى هذا الأساس يتّبع الفقيه في استنباطه قاعدةً عامة، وهي الأخذ

215

بعد أن استعرضنا الأدلّة التي يمكن أن تساهم في عملية الاستنباط بأقسامها الثلاثة يتحتّم علينا أن ندرس موقف عملية الاستنباط منها إذا وجد بينها تعارض، كما إذا دلّ دليل على وجوب شي‏ءٍ- مثلًا- ودلّ دليل آخر على نفي ذلك الوجوب، فما هي الوظيفة العامة للفقيه في هذه الحالة؟
والتعارض على قسمين: لأنّه يوجد تارةً في نطاق الدليل اللفظي بين كلامين صادرين من المعصوم، واخرى بين دليلٍ لفظيٍّ ودليلٍ من نوعٍ آخر استقرائي أو برهاني، أو بين دليلين من غير الأدلّة اللفظية.
وسوف نتحدّث عن كلٍّ من القسمين في فصل:

214

213

الاستنباط القائم على أساس الدليل‏
4

التعارض بين الأدلّة

التعارض بين دليلين لفظيّين.
التعارض بين الدليل اللفظي ودليل آخر.

212

الكلام، وتوافق على اعتبار الظهور حجّةً وقاعدةً لتفسير ألفاظ الكتاب والسنّة، وإلّا لمنعت الشريعة عن الانسياق مع ذلك الميل العامّ وردعت عنه في نطاقها الشرعي.
والاستدلال بالسيرة العقلائية يقوم على أساس تجميع القرائن، كما رأينا سابقاً في سيرة المتشرّعة أيضاً؛ لأنّنا إذا حلَّلنا السيرة العقلائية الى مفرداتها وجدنا انّ الميل العامّ عند العقلاء نحو سلوكٍ معيَّنٍ- كالأخذ بالظهور مثلًا- يعبّر عن ميولٍ متشابهةٍ عند عددٍ كثيرٍ من الأفراد تشكِّل بمجموعها ميلًا عاماً، وحين نأخذ فرداً من اولئك الأفراد الذين يميلون الى الأخذ بالظهور- مثلًا- ونلاحظ سكوت المولى عنه وعدم ردعه له عن الجري وفق ميله يمكننا أن نعتبر سكوت المولى هذا قرينةً ناقصةً على حجّية الظهور عند المولى؛ لأنّ من المحتمل أن يكون هذا السكوت نتيجةً لرضا المولى وموافقته، وهذا يعني الحجّية.
ومن المحتمل في نفس الوقت أيضاً أن لا يكون السكوت ناتجاً عن رضا المولى بالأخذ بالظهور، وإنّما سكت عن ذلك الفرد- بالرغم من أ نّه لا يقرّ العمل بالظهور في الأدلّة الشرعية- لسببٍ خاصٍّ، نظير أن يكون المولى قد اطّلع على أنّ هذا الفرد لا يرتدع عن العمل على وفق ميله ولو ردعه، فتركه وشأنه، أو أنّ المولى قد اطّلع على أنّ هذا الفرد سوف لن يجري على وفق ميله، ولن يأخذ بالظهور في الدليل الشرعي دون سؤالٍ من الشارع، أو أنّ هذا الفرد لن يصادفه ظهور في النطاق الشرعي ليحاول الأخذ به وفقاً لميله …، الى غير ذلك من الامور التي يمكن أن تفسِّر سكوت المولى عن ذلك الفرد وتجعل منه قرينةً ناقصةً لا كاملة على رضا المولى.
ولكن إذا اضيف الى ذلك فرد آخر له نفس الميل وسكت عنه المولى فيقوى احتمال الرضا؛ لاجتماع قرينتين، وهكذا يكبر هذا الاحتمال حتى يؤدّي الى العلم حين يوجد ميل عامّ ويسكت عنه المولى.

211

عنه، وأمّا السيرة العقلائية فمردّها- كما عرفنا- الى ميلٍ عامٍّ يوجد عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ، لا كنتيجةٍ لبيانٍ شرعي، بل نتيجة لمختلف العوامل والمؤثّرات الاخرى التي تتكيّف وفقاً لها ميول العقلاء وتصرّفاتهم، ولأجل هذا لا يقتصر الميل العامّ الذي تعبّر عنه السيرة العقلائية على نطاق المتديّنين خاصّة؛ لأنّ الدين لم يكن من عوامل تكوين هذا الميل.
وعلى هذا الأساس يتّضح أنّ طريقة الاستدلال التي كنّا نستخدمها في سيرة المتشرِّعة لا يمكننا استعمالها في السيرة العقلائية، فقد كنّا في سيرة المتشرِّعة نكتشف عن طريق السيرة البيان الشرعي الذي أدّى‏ الى قيامها بوصفها نتيجةً للبيان الشرعي وناشئةً عنه، إذ لم يكن من المحتمل أن يتّفق المتشرّعة جميعاً على أداء صلاة الظهر في يوم الجمعة- مثلًا- دون أن يكون هناك بيان شرعي يدلّ على ذلك.
وأمّا الميل العامّ الذي تمثّله السيرة العقلائية فهو ليس ناشئاً عن البيان الشرعي، ولا ناتجاً عن دوافع دينيةٍ ليتاح لنا أن نكتشف عن طريقه وجود بيانٍ شرعيٍّ أدّى‏ الى تكوّنه وقيامه.
ولأجل هذا يجب أن ننهج في الاستدلال بالسيرة العقلائية نهجاً آخر يختلف عن نهجنا في الاستدلال بسيرة المتشرِّعة.
ويمكننا تلخيص هذا المنهج في ما يلي:
إنّ الميل الموجود عند العقلاء نحو سلوكٍ معيّنٍ يعتبر قوةً دافعةً لهم نحو ممارسة ذلك السلوك، فإذا سكتت الشريعة عن ذلك الميل ولم تردع عن الانسياق معه كشف سكوتها هذا عن رضاها بذلك السلوك وانسجامه مع التشريع الإسلامي.
ومثال ذلك: سكوت الشريعة عن الميل العامِّ عند العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم وعدم ردعها عنه، فإنّ ذلك يدلّ على أ نّها تقرّ هذه الطريقة في فهم‏

210

مستقلّةٍ نجد أنّ سلوك الفرد المتديّن الواحد في عصر التشريع يعتبر قرينة إثباتٍ ناقصة عن صدور بيانٍ شرعيٍّ يقرِّر ذلك السلوك؛ لأنّنا نحتمل استناد هذا السلوك الى البيان الشرعي، وإنّ كنّا نحتمل في نفس الوقت أيضاً الخطأ والغفلة وحتى التسامح. فإذا عرفنا أنّ فردين في عصر التشريع كانا يسلكان نفس السلوك ويصلّيان الظهر- مثلًا- في يوم الجمعة ازدادت قوة الإثبات.
وهكذا تكبر قوة الإثبات؛ حتّى تصل الى درجةٍ كبيرةٍ عندما نعرف أنّ ذلك السلوك كان سلوكاً عاماً يتّبعه جمهرة المتديّنين في عصر التشريع، إذ يبدو من المؤكّد حينئذٍ أنّ سلوك هؤلاء جميعاً لم ينشأ عن خطاً أو غفلةٍ أو تسامح؛ لأنّ الخطأ والغفلة والتسامح قد يقع فيه هذا أو ذاك، وليس من المحتمل أن يقع فيه جمهرة المتديّنين في عصر التشريع جميعاً.
وهكذا نعرف أنّ السلوك العامّ مستند الى بيانٍ شرعيٍّ يدلّ على إمكان إقامة الظهر في يوم الجمعة، وعدم وجوب الخمس في الميراث. ولأجل هذا نعتبر سيرة المتشرِّعة دليلًا استقرائياً كالإجماع والشهرة، وهي في الغالب تؤدّي الى الجزم بالبيان الشرعي ضمن شروطٍ لا مجال لتفصيلها الآن. ومتى كانت كذلك فهي حجّة، وأمّا إذا لم يحصل منها الجزم فلا اعتبار بها.

السيرة العقلائية:

وهناك نوع آخر من السيرة يطلق عليه في علم الاصول اسم «السيرة العقلائية». والسيرة العقلائية: عبارة عن ميلٍ عامٍّ عند العقلاء- المتديّنين وغيرهم- نحو سلوكٍ معيّنٍ دون أن يكون للشرع دور إيجابي في تكوين هذا الميل. ومثال ذلك: الميل العامّ لدى العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم.
وفي هذا الضوء نعرف أنّ السيرة العقلائية تختلف عن سيرة المتشرّعة، فإنّ سيرة المتشرّعة التي درسناها آنفاً كانت وليدة البيان الشرعي، ولهذا تعتبر كاشفة

209

إذ ينقلون نصوصاً سمعوها من المعصوم عليه السلام بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة.
ويعتبر الخبر قرينة إثباتٍ ناقصة؛ لأنّنا إذا سمعنا شخصاً ينقل شيئاً عن المعصوم عليه السلام احتملنا صدقة واحتملنا كذبه، فيكون قرينة إثباتٍ ناقصة، وتزداد قوة الإثبات إذا نقل شخص آخر نفس الشي‏ء عن المعصوم عليه السلام أيضاً نتيجةً لاجتماع قرينتين. وهكذا يكبر احتمال الصدق كلّما كثر المخبرون حتّى يحصل الجزم، فيسمّى الخبر «متواتراً».
وكما يكبر احتمال الصدق بسبب زيادة عدد المخبِرين كذلك يكبر بسبب نوعية المخبِر، فالمخبِر الواحد يزداد احتمال صدقه كلّما ازداد اطّلاعنا على دينه وورعه وانتباهه.
وحكم الخبر: أ نّه إذا ازداد احتمال صدقه الى درجةٍ شارفت على القطع كان حجّة، سواء نشأت زيادة احتمال الصدق فيه من كثرة عدد المخبِرين، أو من خصائص الورع والنزاهة في المخبِر الواحد، وأمّا إذا لم يؤدِّ الخبر الى القطع فيجب أن يلاحظ الراوي، فإن كان ثقةً أخذنا بروايته ولو لم نقطع بصحتها؛ لأنّ الشارع جعل خبر الثقة حجّة، ولكنّ هذه الحجّية ثابتة ضمن شروطٍ لا مجال هنا لتفصيلها. وإذا لم يكن الراوي ثقةً فلا يؤخذ بروايته ولا يجوز إدخالها في عملية الاستنباط.

سيرة المتشرِّعة:

سيرة المتشرِّعة هي السلوك العامّ للمتديّنين في عصر التشريع، من قبيل اتّفاقهم على إقامة صلاة الظهر في يوم الجمعة بدلًا عن صلاة الجمعة، أو على عدم دفع الخمس من الميراث.
وهذا السلوك العامّ إذا حلَّلناه الى مفرداته ولاحظنا سلوك كلّ واحدٍ بصورة