کتابخانه
243
أحكام تعارض النوعين‏

استعرضنا حتّى الآن نوعين من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط:
أحدهما: العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الدليل.
والآخر: العناصر المشتركة في الاستنباط القائم على أساس الأصل العملي.
وقد عرفنا أنّ العناصر من النوع الأول تشكِّل أدلّةً على تعيين الحكم الشرعي، والعناصر من النوع الثاني تشكِّل قواعد علميةً لتعيين الموقف العملي تجاه الحكم المجهول.
ووجود نوعين من العناصر على هذا الشكل يدعو الى البحث عن موقف الفقيه عند افتراض وقوع التعارض بينهما، كما إذا دلّ دليل على أنّ الحكم الشرعي هو الوجوب- مثلًا- وكان أصل البراءة أو الاستصحاب يقتضي الرخصة.
والحقيقة: أنّ الدليل إذا كان قطعياً فالتعارض غير متصورٍ عقلًا بينه وبين الأصل؛ لأنّ الدليل القطعي على الوجوب- مثلًا- يؤدّي الى العلم بالحكم الشرعي، ومع العلم بالحكم الشرعي لا مجال للاستناد الى أيِّ قاعدةٍ عملية؛ لأنّ القواعد العملية إنّما تجري في ظرف الشكّ، إذ قد عرفنا سابقاً أنّ أصل البراءة موضوعه كلّ ما لا يعلم، والاستصحاب موضوعه أن نشكّ في بقاء ما كنّا على يقينٍ منه، فإذا كان الدليل قطعياً لم يبقَ موضوع لهذه الاصول والقواعد العملية.
وإنّما يمكن افتراض لونٍ من التعارض بين الدليل والأصل إذا لم يكن الدليل قطعياً، كما إذا دلّ خبر الثقة على الوجوب أو الحرمة- وخبر الثقة كمامرّ بنا دليل ظنّي حكم الشارع بوجوب اتّباعه واتّخاذه دليلًا- وكان أصل البراءة من‏

242

موضوع أصل البراءة.
ففي مثال وجوب الصوم لا يمكن أن نستند الى أصل البراءة عن وجوب الصوم بعد غروب الشمس بوصفه وجوباً مشكوكاً؛ لأنّ الاستصحاب يفترض هذا الوجوب معلوماً، فيكون دليل الاستصحاب حاكماً على دليل البراءة؛ لأنّه ينفي موضوع البراءة.

241
التعارض بين الاصول‏

ويواجهنا بعد دراسة الاصول العملية السؤال التالي: ماذا يصنع الفقيه إذا اختلف حكم الاستصحاب عن حكم أصل البراءة؟

ومثاله: أنّا نعلم بوجوب الصوم عند طلوع الفجر من نهار شهر رمضان حتّى غروب الشمس، ونشكّ في بقاء الوجوب بعد الغروب الى غياب الحمرة، ففي هذه الحالة تتوفّر أركان الاستصحاب من اليقين بالوجوب أوّلًا، والشكّ في بقائه ثانياً، وبحكم الاستصحاب يتعيّن الالتزام عملياً ببقاء الوجوب.

ومن ناحيةٍ اخرى نلاحظ أنّ الحالة تندرج ضمن نطاق أصل البراءة؛ لأنّها شبهة بدوية في التكليف غير مقترنةٍ بالعلم الإجمالي، وأصل البراءة ينفي وجوب الاحتياط ويرفع عنّا الوجوب عملياً، فبأيّ الأصلين نأخذ؟

والجواب: أنّا نأخذ بالاستصحاب ونقدِّمه على أصل البراءة، وهذا متّفق عليه بين الاصوليّين، والرأي السائد بينهم لتبرير ذلك: أنّ دليل الاستصحاب حاكم على دليل أصل البراءة؛ لأنّ دليل أصل البراءة هو النصّ النبويّ القائل:

«رفع مالا يعلمون»[1]، وموضوعه كلّ ما لا يعلم، ودليل الاستصحاب هو النصّ القائل: «لا ينقض اليقين أبداً بالشك»[2]، وبالتدقيق في النصّين نلاحظ أنّ دليل الاستصحاب يلغي الشكّ ويفترض كأنَّ اليقين باقٍ على حاله، فيرفع بذلك‏

 

[1] الخصال 2: 245، باب التسعة. ووسائل الشيعة 15: 369، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث الأوّل

[2] وسائل الشيعة 1: 245، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث الأوّل

240

ويَعنُون بذلك أن يكون الشكّ منصبّاً على نفس الحالة التي كنّا على يقينٍ بها، فلا يجري الاستصحاب.- مثلًا- إذا كنّا على يقينٍ بنجاسة الماء ثمّ صار بخاراً وشككنا في نجاسة هذا البخار؛ لأنّ ما كنّا على يقينٍ بنجاسته هو الماء وما نشكّ فعلًا في نجاسته هو البخار، والبخار غير الماء، فلم يكن مصبّ اليقين والشكّ واحداً.

239

وهو إصابة المتنجِّس للماء.

وكذلك نجاسة الثوب، فإنّ الثوب إذا تنجّس تبقى‏ نجاسته وتمتدّ ما لم يوجد عامل خارجي وهو الغسل، ويسمّى الشكّ في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب «الشكّ في الرافع».

وقد تكون الحالة السابقة غير قادرةٍ على الامتداد زمانياً، بل تنتهي بطبيعتها في وقتٍ معيَّنٍ ونشكّ في بقائها نتيجةً لاحتمال انتهائها بطبيعتها دون تدخل عاملٍ خارجيٍّ في الموقف.

ومثاله: نهار شهر رمضان الذي يجب فيه الصوم إذا شكّ الصائم في بقاء النهار، فإنّ النهار ينتهي بطبيعته ولا يمكن أن يمتدّ زمانياً، فالشكّ في بقائه لا ينتج عن احتمال وجود عاملٍ خارجي، وإنّما هو نتيجة لاحتمال انتهاء النهار بطبيعته واستنفاده لطاقته وقدرته على البقاء. ويسمّى‏ الشكّ في بقاء الحالة السابقة التي من هذا القبيل ب «الشكّ في المقتضي»؛ لأنّ الشكّ في مدى اقتضاء النهار واستعداده للبقاء.

ويوجد في علم الاصول اتّجاه ينكر جريان الاستصحاب إذا كان الشكّ في بقاء الحالة السابقة من نوع الشكّ في المقتضي ويخصّه بحالات الشكّ في الرافع‏[1].

وحدة الموضوع في الاستصحاب:

ويتّفق الاصوليون على أنّ من شروط الاستصحاب وحدة الموضوع،

 

[1] ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري وجعله تاسع الأقوال، راجع فرائد الاصول 3: 50- 51، وراجع بحوث في علم الاصول 6: 154، أيضاً

238

بالماء ولا ندري هل غسل بالماء بعد ذلك وزالت نجاسته، أوْ لا؟ فنستصحب عدم غسله بالماء، وبالتالي نثبت بقاء النجاسة.

وهكذا نعرف أنّ الحالة السابقة التي نستصحبها قد تنتسب الى العالم التشريعي، وذلك إذا كنّا على يقينٍ بحكمٍ عامٍّ ونشكّ في حدوده المفروضة له في جعله الشرعي، وتعتبر الشبهة شبهةً حكمية، ويسمّى‏ الاستصحاب ب «الاستصحاب الحكمي».

وقد تنتسب الحالة السابقة التي نستصحبها الى العالم التكويني، وذلك إذا كنّا على يقينٍ بوجود موضوع الحكم الشرعي ونشكّ في بقائه، وتعتبر الشبهة شبهةً موضوعية، ويسمّى الاستصحاب ب «الاستصحاب الموضوعي».

ويوجد في علم الاصول اتّجاه ينكر جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية، ويخصّه بالشبهة الموضوعية[1].

الشكّ في البقاء:

والشكّ في البقاء هو الشرط الأساسي الآخر لجريان الاستصحاب.

ويقسِّم الاصوليون الشكّ في البقاء الى قسمين تبعاً لطبيعة الحالة السابقة التي نشك في بقائها؛ لأنّ الحالة السابقة قد تكون قابلةً بطبيعتها للامتداد زمانياً، وإنّما نشكّ في بقائها نتيجةً لاحتمال وجود عاملٍ خارجيٍّ أدّى‏ الى ارتفاعها.

ومثال ذلك: طهارة الماء، فإنّ طهارة الماء تستمرّ بطبيعتها وتمتدّ إذا لم يتدخّل عامل خارجي، وإنّما نشكّ في بقائها لدخول عاملٍ خارجيٍّ في الموقف،

 

[1] ذهب إليه السيّد الخوئي، راجع مصباح الاصول 3: 40

237

أبداً بالشك»[1].

ونستخلص من ذلك: أنّ كلّ حالةٍ من الشكّ البدوي يتوفّر فيها القطع بشي‏ءٍ أوّلًا والشكّ في بقائه ثانياً يجري فيها الاستصحاب.

الحالة السابقة المتيقَّنة:

عرفنا أنّ وجود حالةٍ سابقةٍ متيقَّنةٍ شرط أساسي لجريان الاستصحاب، والحالة السابقة قد تكون حكماً عاماً نعلم بجعل الشارع له وثبوته في العالم التشريعي، ولا ندري حدود هذا الحكم المفروضة له في جعله ومدى امتداده في عالمه التشريعي، فتكون الشبهة حكمية، ويجري الاستصحاب في نفس الحكم.

ومثاله: حكم الشارع بطهارة الماء، فنحن نعلم بهذا الحكم العام في الشريعة ونشكّ في حدوده، ولا ندري هل يمتدّ الحكم بالطهارة بعد إصابة المتنجّس للماء أيضاً، أوْ لا؟ فنستصحب طهارة الماء.

وقد تكون الحالة السابقة شيئاً من أشياء العالم التكويني نعلم بوجوده سابقاً ولا ندري باستمراره وهو موضوع للحكم الشرعي، فتكون الشبهة موضوعيةً ويجري الاستصحاب في موضوع الحكم.

ومثاله: أن نكون على يقينٍ بأنّ عامراً عادل وبالتالي يجوز الائتمام به، ثمّ نشكّ في بقاء عدالته، فنستصحب العدالة فيه بوصفها موضوعاً لجواز الائتمام.

ومثال آخر: أن يكون المكلّف على يقينٍ بأنّ الثوب نجس ولم يغسل‏

 

[1] وسائل الشيعة 1: 245، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث الأوّل

236
4- الاستصحاب‏

على ضوء ما سبق نعرف أنّ أصل البراءة يجري في موارد الشبهة البدوية دون الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.
ويوجد في الشريعة أصل آخر نظير أصل البراءة، وهو ما يطلق عليه الاصوليون اسم «الاستصحاب».
ومعنى الاستصحاب: حكم الشارع على المكلّف بالالتزام عملياً بكلِّ شي‏ءٍ كان على يقينٍ منه ثمّ شكّ في بقائه. ومثاله: أ نّا على يقينٍ من أنّ الماء بطبيعته طاهر، فإذا أصابه شي‏ء متنجِّس نشكّ في بقاء طهارته؛ لأنّنا لا نعلم أنّ الماء هل تنجّس بإصابة المتنجِّس له، أوْ لا؟
وكذلك نحن على يقينٍ- مثلًا- بالطهارة بعد الوضوء ونشكّ في بقاء هذه الطهارة إذا حصل الإغماء؛ لأنّنا لا نعلم أنّ الإغماء هل ينقض الطهارة، أوْ لا؟
والاستصحاب يحكم على المكلّف بالالتزام عملياً بنفس الحالة السابقة التي كان على يقينٍ بها، وهي طهارة الماء في المثال الأول، والطهارة من الحدث في المثال الثاني.
ومعنى الالتزام عملياً بالحالة السابقة: ترتيب آثار الحالة السابقة من الناحية العملية، فإذا كانت الحالة السابقة هي الطهارة نتصرّف فعلًا كما إذا كانت الطهارة باقية، وإذا كانت الحالة السابقة هي الوجوب نتصرّف فعلًا كما إذا كان الوجوب باقياً.
والدليل على الاستصحاب: هو قول الإمام الصادق عليه السلام: «لاينقض اليقين‏

235

الأولية؛ لأنّ الشكّ في العاشر مقترن بالعلم الإجمالي، وهذا العلم الإجمالي هو علم المكلّف بأنّ الشارع أوجب مركّباً مّا، ولا يدري أهو المركّب من تسعةٍ أو المركّب من عشرة، أي من تلك التسعة بإضافة واحد؟
والاتّجاه الآخر يطبّق على الشكّ في وجوب العاشر القاعدة العملية الثانوية بوصفه شكّاً ابتدائياً غير مقترنٍ بالعلم الإجمالي؛ لأنّ ذلك العلم الإجمالي الذي يزعمه أصحاب الاتّجاه الأول منحلّ بعلمٍ تفصيلي، وهو علم المكلّف بوجوب التسعة على أيِّ حال؛ لأنّها واجبة سواء كان معها جزء عاشر أوْ لا، فهذا العلم التفصيلي يؤدّي الى انحلال ذلك العلم الإجمالي، ولهذا لا يمكن أن نستعمل الصيغة اللغوية التي تعبِّر عن العلم الإجمالي، فلا يمكن القول بأ نّا نعلم إمّا بوجوب التسعة أو بوجوب العشرة، بل نحن نعلم بوجوب التسعة على أيِّ حالٍ ونشكّ في وجوب العاشر. وهكذا يصبح الشكّ في وجوب العاشر شكّاً ابتدائياً بعد انحلال العلم الإجمالي، فتجري البراءة.
والصحيح هو القول بالبراءة عن غير الأجزاء المعلومة من الأشياء التي يشكّ في دخولها ضمن نطاق الواجب تبعاً لتفصيلاتٍ لا مجال للتوسّع فيها.