کتابخانه
234

ويعبّر عن ذلك في العرف الاصولي ب «انحلال العلم الإجمالي الى العلم التفصيلي بأحد الطرفين والشكّ البدوي في الآخر»؛ لأنّ نجاسة ذلك الكأس المعيَّن أصبحت معلومةً بالتفصيل، ونجاسة الآخر أصبحت مشكوكةً شكّاً ابتدائياً بعد أن زال العلم الإجمالي، فيأخذ العلم التفصيلي مفعوله من الحجّية وتجري بالنسبة الى الشكّ الابتدائي أصالة البراءة، أي القاعدة العملية الثانوية التي تجري في جميع موارد الشكّ الابتدائي.

موارد التردّد:

عرفنا أنّ الشكّ إذا كان ابتدائياً حكمت فيه القاعدة العملية الثانوية القائلة بأصالة البراءة، وإذا كان مقترناً بالعلم الإجمالي حكمت فيه القاعدة العملية الأولية.
وقد يخفى‏ أحياناً نوع الشكّ فلا يعلم أهو من الشكّ الابتدائي أو من الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي، أو الناتج عنه بتعبيرٍ آخر؟ ومن هذا القبيل مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر كما يسمّيها الاصوليون، وهي: أن يتعلّق وجوب شرعي بعمليةٍ مركّبةٍ من أجزاءٍ كالصلاة، ونعلم باشتمال العملية على تسعة أجزاءٍ معيّنةٍ ونشكّ في اشتمالها على جزءٍ عاشرٍ ولا يوجد دليل يثبت أو ينفي، ففي هذه الحالة يحاول الفقيه أن يحدِّد الموقف العملي فيتساءل: هل يجب الاحتياط على المكلّف فيأتي بالتسعة ويضيف إليها هذا العاشر الذي يحتمل دخوله في نطاق الواجب لكي يكون مؤدّياً للواجب على كلّ تقدير، أو يكفيه الإتيان بالتسعة التي يعلم بوجوبها ولا يطالب بالعاشر المجهول وجوبه؟
وللُاصوليّين جوابان مختلفان على هذا السؤال يمثِّل كلّ منهما اتّجاهاً في تفسير الموقف: فأحد الاتّجاهين يقول بوجوب الاحتياط تطبيقاً للقاعدة العملية

233

العلم الإجمالي، فالأول يدخل في نطاق القاعدة الثانوية وهي أصالة البراءة، والثاني يدخل في نطاق القاعدة الأولية وهي أصالة الاحتياط.
وفي ضوء ذلك نعرف أنّ الواجب علينا عقلًا في موارد العلم الإجمالي هو الإتيان بكلا الطرفين، أي الظهر والجمعة في المثال السابق؛ لأنّ كلّاً منهما داخل في نطاق أصالة الاحتياط. ويطلق في علم الاصول على الإتيان بالطرفين معاً اسم «الموافقة القطعية»؛ لأنّ المكلّف عند إتيانه بهما معاً يقطع بأ نّه وافق تكليف المولى، كما يطلق على ترك الطرفين معاً اسم «المخالفة القطعية»، وأمّا الإتيان بأحدهما وترك الآخر فيطلق عليهما اسم «الموافقة الاحتمالية» و «المخالفة الاحتمالية»؛ لأنّ المكلّف في هذه الحالة يحتمل أ نّه وافق تكليف المولى، ويحتمل أ نّه خالفه.

انحلال العلم الإجمالي:

إذا وجدتَ كأسين من ماءٍ قد يكون كلاهما نجساً وقد يكون أحدهما نجساً فقط، ولكنّك تعلم- على أيِّ حالٍ- بأ نّهما ليسا طاهرين معاً، فينشأ في نفسك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين. فإذا اتّفق لك بعد ذلك أن اكتشفت نجاسةً في أحد الكأسين وعلمت أنّ هذا الكأس المعيَّن نجس فسوف يزول في رأي كثيرٍ من الاصوليين علمك الإجمالي بسبب هذا العلم التفصيلي؛ لأ نّك الآن بعد اكتشافك نجاسة ذلك الكأس المعيَّن لا تعلم إجمالًا بنجاسة أحد الكأسين لا على سبيل التعيين، بل تعلم بنجاسة ذلك الكأس المعيَّن علماً تفصيلياً وتشكّ في نجاسة الآخر. ولأجل هذا لا تستطيع أن تستعمل الصيغة اللغوية التي تعبّر عن العلم الإجمالي «إمّا، وإمّا»، فلا يمكنك أن تقول: «إمّا هذا نجس أو ذاك»، بل هذا نجس جزماً، وذاك لا تدري بنجاسته.

232

الشارع عن القطع.
وأمّا كلّ واحدٍ من طرفي العلم الإجمالي- أي وجوب الظهر بمفرده ووجوب الجمعة بمفرده- فهو تكليف مشكوك وليس معلوماً. وقد يبدو لأول وهلةٍ أنّ بالإمكان أن تشمله القاعدة العملية الثانوية، أي أصالة البراءة النافية للاحتياط في التكاليف المشكوكة؛ لأنّ كلّ واحدٍ من الطرفين تكليف مشكوك.
ولكنّ الرأي السائد في علم الاصول يقول بعدم إمكان شمول القاعدة العملية الثانوية لطرف العلم الإجمالي؛ بدليل أنّ شمولها لكلا الطرفين معاً يؤدّي الى براءة الذمّة من الظهر والجمعة وجواز تركهما معاً، وهذا يتعارض مع حجّية العلم بوجوب أحد الأمرين؛ لأنّ حجية هذا العلم تفرض علينا أن نأتي بأحد الأمرين على أقلّ تقدير. فلو حكم الشارع بالبراءة في كلٍّ من الطرفين لكان معنى ذلك الترخيص منه في مخالفة العلم، وقد مرَّ بنا أنّ الرأي الاصولي السائد يؤمن باستحالة ترخيص الشارع في مخالفة العلم ولو كان إجمالياً وعدم إمكان انتزاع الحجّية منه.
وشمول القاعدة لأحد الطرفين دون الآخر وإن لم يؤدِّ الى الترخيص في ترك الأمرين معاً لكنّه غير ممكنٍ أيضاً؛ لأنّنا نتساءل حينئذٍ: أيّ الطرفين نفترض شمول القاعدة له ونرجِّحه على الآخر؟ وسوف نجد أ نّا لا نملك مبرِّراً لترجيح أيٍّ من الطرفين على الآخر؛ لأنّ صلة القاعدة بهما واحدة.
وهكذا ينتج عن هذا الاستدلال القول بعدم شمول القاعدة العملية الثانوية «أصالة البراءة» لأيّ واحدٍ من الطرفين، ويعني هذا أنّ كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي يظلّ مندرجاً ضمن نطاق القاعدة العملية الأساسية القائلة بالاحتياط ما دامت القاعدة الثانوية عاجزةً عن شموله.
وعلى هذا الأساس ندرك الفرق بين الشكّ الابتدائي والشكّ الناتج عن‏

231

الأساسية كنّا نتحدّث عن الحالة الثالثة، أي حالة الشكّ الساذج الذي لم يقترن بالعلم الإجمالي. والآن ندرس حالة الشكّ الناتج عن العلم الإجمالي، أي الشكّ في الحالة الثانية من الحالات الثلاث السابقة، وهذا يعني أ نّنا درسنا الشكّ بصورته الساذجة وندرسه الآن بعد أن نضيف إليه عنصراً جديداً وهو العلم الإجمالي، فهل تجري فيه القاعدة العملية الثانوية كما كانت تجري في موارد الشكّ الساذج، أوْ لا؟

منجّزية العلم الإجمالي:

وعلى ضوء ما سبق يمكننا تحليل العلم الإجمالي الى علمٍ بأحد الأمرين وشكٍّ في هذا وشكٍّ في ذاك. ففي يوم الجمعة نعلم بوجوب أحد الأمرين «صلاة الظهر أو صلاة الجمعة»، ونشكّ في وجوب الظهر كما نشكّ في وجوب الجمعة، والعلم بوجوب أحد الأمرين- بوصفه علماً- يشمله مبدأ حجّية العلم الذي درسناه في بحثٍ سابق، فلا يسمح لنا العقل لأجل ذلك بترك الأمرين معاً: الظهر والجمعة؛ لأنّنا لو تركناهما معاً لخالفنا علمنا بوجوب أحد الأمرين، والعلم حجّة عقلًا في جميع الأحوال سواء كان إجمالياً أو تفصيلياً.

ويؤمن الرأي الاصولي السائد في مورد العلم الإجمالي لا بثبوت الحجّية للعلم بأحد الأمرين فحسب، بل يؤمن أيضاً بعدم إمكان انتزاع هذه الحجّية منه واستحالة ترخيص الشارع في مخالفته بترك الأمرين معاً، كما لا يمكن للشارع أن ينتزع الحجّية من العلم التفصيلي ويرخّص في مخالفته وفقاً للمبدأ الاصولي- المتقدّم الذكر في بحث حجّية القطع‏[1]– القائل باستحالة صدور الردع من‏

 

[1] تقدّم تحت عنوان: العنصر المشترك بين النوعين

230

الوضوح والعلم، وجانب التردّد الذي تصوِّره كلمة «إمّا» يمثّل عنصر الخفاء والشكّ، وكلّما أمكن استخدام صيغةٍ من هذا القبيل دلّ ذلك على وجود علمٍ إجماليٍّ في نفوسنا.
ويطلق على الحالة الثالثة اسم «الشكّ الابتدائي» أو «البدوي» أو «الساذج»، وهو شكّ محض غير ممتزجٍ بأيِّ لونٍ من العلم، ويسمّى‏ بالشكّ الابتدائي أو البدوي تمييزاً له عن الشكّ في طرف العلم الإجمالي؛ لأنّ الشكّ في طرف العلم الإجمالي يوجد نتيجةً للعلم نفسه، فأنت تشكّ في أنّ المسافر هل هو أخوك الأكبر أو أخوك الأصغر؟ نتيجةً لعلمك بأنّ أحدهما لا على التعيين قد سافر حتماً، وأمّا الشكّ في الحالة الثالثة فيوجد بصورةٍ ابتدائيةٍ دون علمٍ مسبق.
وهذه الحالات الثلاث توجد في نفوسنا تجاه الحكم الشرعي، فوجوب صلاة الصبح معلوم تفصيلًا، ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة مشكوك شكّاً ناتجاً عن العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة في ذلك اليوم، ووجوب صلاة العيد مشكوك ابتدائي غير مقترنٍ بالعلم الإجمالي. وهذه الأمثلة كلّها من الشبهة الحكمية.
وأمّا أمثلة الحالات الثلاث من الشبهة الموضوعية فيمكن توضيحها في «الماء»، فأنت إذا رأيت قطرةً من دمٍ تقع في كأسٍ من ماءٍ تعلم علماً تفصيلياً بنجاسة ذلك الماء، وأمّا إذا رأيت القطرة تقع في أحد كأسين ولم تستطع أن تميِّز الكأس الذي وقعت فيه بالضبط فينشأ لديك علم إجمالي بنجاسة أحد الكأسين، ويصبح كلّ واحدٍ منهما طرفاً للعلم الإجمالي، وقد لا تكون متأكّداً من أنّ هناك قطرة دمٍ لا في هذا الكأس ولا في ذاك، فيكون الشكّ في النجاسة عندئذٍ شكّاً ابتدائياً ساذجاً.
ونحن في حديثنا عن القاعدة العملية الثانوية التي قلّبت القاعدة العملية

229
3- قاعدة منجِّزية العلم الإجمالي‏
تمهيد:

قد تعلم أنّ أخاك الأكبر قد سافر الى مكّة، وقد تشكّ في سفره، لكنّك تعلم على أيِّ حالٍ أنّ أحد أخويك- الأكبر أو الأصغر- قد سافر فعلًا الى مكّة، وقد تشكّ في سفرهما معاً ولا تدري هل سافر واحد منهما الى مكّة، أوْ لا؟
فهذه حالات ثلاث، ويطلق على الحالة الاولى اسم «العلم التفصيلي»؛ لأ نّك في الحالة الاولى تعلم أنّ أخاك الأكبر قد سافر الى مكّة، وليس لديك في هذه الحقيقة أيّ تردّدٍ أو غموض، فلهذا كان العلم تفصيلياً.
ويطلق على الحالة الثانية اسم «العلم الإجمالي»؛ لأنّك في هذه الحالة تجد في نفسك عنصرين مزدوجين: أحدهما عنصر الوضوح، والآخر عنصر الخفاء، فعنصر الوضوح يتمثّل في علمك بأنّ أحد أخويك قد سافر فعلًا، فأنت لا تشكّ في هذه الحقيقة، وعنصر الخفاء والغموض يتمثّل في شكِّك وتردّدك في تعيين هذا الأخ؛ لأنّك لا تدري أنّ المسافر هل هو أخوك الأكبر أو الأصغر؟
ولهذا تسمّى‏ هذه الحالة ب «العلم الإجمالي»، فهي علم لأنّك لا تشكّ في سفر أحد أخويك، وهي إجمال وشكّ لأنّك لا تدري أيّ أخويك قد سافر. ويسمّى‏ كلّ من سفر الأخ الأكبر وسفر الأصغر طرفاً للعلم الإجمالي؛ لأنّك تعلم أنّ أحدهما لا على سبيل التعيين قد وقع بالفعل.
وأفضل صيغةٍ لغويةٍ تمثّل هيكل العلم الإجمالي ومحتواه النفسي بكلا عنصريه هي: «إمّا، وإمّا»، إذ تقول في المثال المتقدّم: «سافر إمّا أخي الأكبر وإمّا أخي الأصغر» فإنّ جانب الإثبات في هذه الصيغة يمثّل عنصر

228

الشكّ ناتج عن عدم العلم بالجعل الشرعي، ويسمّى ب «الشبهة الحكمية».
ومثال الثاني: شكّنا في وجوب الحجّ لعدم العلم بتوفّر الاستطاعة، فإنّ هذا الشكّ لم ينشأ من عدم العلم بالجعل الشرعي؛ لأنّنا جميعاً نعلم أنّ الشارع جعل وجوب الحجّ على المستطيع، وإنّما نشأ من عدم العلم بتحقّق موضوع الحكم، وتسمّى‏ الشبهة «موضوعية».

227
2- القاعدة العملية الثانوية

وقد انقلبت بحكم الشارع تلك القاعدة العملية الأساسية الى قاعدةٍ عمليةٍ ثانوية، وهي أصالة البراءة القائلة بعدم وجوب الاحتياط. والسبب في هذا الانقلاب: أ نّا علمنا عن طريق البيان الشرعي أنّ الشارع لا يهتمّ بالتكاليف المحتملة الى الدرجة التي تحتِّم الاحتياط على المكلّف، بل يرضى‏ بترك الاحتياط. والدليل على ذلك نصوص شرعية متعدّدة، من أهمّها النصّ النبويّ القائل: «رفع عن امّتي ما لا يعلمون»[1].

وهكذا أصبحت القاعدة العملية هي عدم وجوب الاحتياط بدلًا عن وجوبه، وأصالة البراءة بدلًا عن أصالة الاشتغال.

وتشمل هذه القاعدة العملية الثانوية موارد الشكّ في الوجوب وموارد الشكّ في الحرمة على السواء؛ لأنّ النصّ النبويّ مطلق، ويسمّى الشكّ في الوجوب ب «الشبهة الوجوبية»، والشك في الحرمة ب «الشبهة التحريمية». كما تشمل القاعدة أيضاً الشكّ مهما كان سببه، ولأجل هذا نتمسّك بالبراءة إذا شككنا في التكليف، سواء نشأ شكّنا في ذلك من عدم وضوح الحكم العام الذي جعله الشارع، أو من عدم العلم بوجود موضوع الحكم.

ومثال الأول: شكّنا في وجوب صلاة العيد أو في حرمة التدخين، فإنّ هذا

 

[1] الخصال 2: 417، باب التسعة. وانظر وسائل الشيعة 15: 369، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث الأوّل. ومتن الحديث هو:« رفع عن امّتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما اكرهوا عليه، وما لا يعلمون …»

226

«أصالة الاحتياط» أو «أصالة الاشتغال»، أي اشتغال ذمّة الإنسان بالتكليف المحتمل، ونخرج عن هذا الأصل حين نعرف أنّ الشارع يرضى بترك الاحتياط.
وهكذا تكون أصالة الاحتياط هي القاعدة العملية الأساسية.
ويخالف في ذلك كثير من الاصوليّين؛ إيماناً منهم بأنّ الأصل في المكلّف أن لا يكون مسؤولًا عن التكاليف المشكوكة ولو احتمل أهمّيتها بدرجةٍ كبيرة، ويرى هؤلاء الأعلام أنّ العقل هو الذي يحكم بنفي المسؤولية؛ لأنّه يدرك قبح العقاب من المولى على مخالفة المكلّف للتكليف الذي لم يصل إليه، ولأجل هذا يطلقون على الأصل من وجهة نظرهم اسم «قاعدة قبح العقاب بلا بيان» أو «البراءة العقلية»، أي أنّ العقل يحكم بأنّ عقاب المولى للمكلّف على مخالفة التكليف المشكوك قبيح، وما دام المكلّف مأموناً من العقاب فهو غير مسؤولٍ ولا يجب عليه الاحتياط.
ولكن لكي ندرك أنّ العقل هل يحكم بقبح معاقبة المولى تعالى للمكلّف على مخالفة التكليف المشكوك، أوْ لا؟ يجب أن نعرف حدود حقّ الطاعة الثابت للمولى تعالى، فإذا كان هذا الحقّ يشمل التكاليف المشكوكة التي يحتمل المكلّف اهمّيتها بدرجةٍ كبيرة- كما عرفنا- فلا يكون عقاب المولى للمكلّف إذا خالفها قبيحاً؛ لأنّه بمخالفتها يفرِّط في حقّ مولاه فيستحقّ العقاب، فالقاعدة الأولية إذن هي أصالة الاحتياط.