کتابخانه
56

المتطرّف تعويضاً عن النقص المزعوم في البيان الشرعي، وحينما تطورت فكرة النقص إلى اتّهام الشريعة نفسها بالنقصان وعدم الشمول أدّى‏ ذلك إلى تمخّض الاتّجاه العقلي المتطرّف عن القول بالتصويب.
وهذا التطور في فكرة النقص- الذي أدّى‏ إلى اتّهام الشريعة بالنقصان وتصويب المجتهدين المختلفين جميعاً- أحدث تغييراً كبيراً في مفهوم العقل أو الاجتهاد الذي يأخذ به أنصار الاتّجاه العقلي المتطرّف، فحتّى الآن كنّا نتحدّث عن العقل والإدراك العقلي بوصفه وسيلة إثبات، أي كاشفاً عن الحكم الشرعي كما يكشف عنه البيان في الكتاب أو السنّة، ولكنّ فكرة النقص في الشريعة التي قام على أساسها القول بالتصويب تجعل عمل الفقيه في مجالات الاجتهاد عملًا تشريعياً لا اكتشافياً، فالعقل بمعناه المنفتح أو الاجتهاد في مصطلح الاتّجاه العقلي المتطرّف لم يعدْ- على أساس فكرة النقص في الشريعة- كاشفاً عن الحكم الشرعي؛ إذ لا يوجد حكم شرعي ثابت في مجالات الاجتهاد ليكشف عنه الاجتهاد، وإنّما هو أساس لتشريع الحكم من قبل المجتهد وفقاً لِمَا يؤدّي إليه رأيه. وهكذا يتحوّل الاجتهاد على ضوء القول بالتصويب إلى مصدر تشريع، ويصبح الفقيه مشرّعاً في مجالات الاجتهاد ومكتشفاً في مجالات النصّ.
ولسنا نريد الآن أن ندرس القول بالتصويب ونناقشه، وإنّما نستهدف الكشف عن خطورة الاتّجاه العقلي المتطرّف، وأهمّية المعركة التي خاضتها مدرسة أهل البيت عليهم السلام ضدّ هذا الاتّجاه، إذ لم تكن معركةً ضدّ اتّجاهٍ اصوليٍّ فحسب، بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة وتأكيد كمالها واستيعابها وشمولها لمختلف مجالات الحياة، ولهذا استفاضت الأحاديث عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في عصر تلك المعركة تؤكّد اشتمال الشريعة على كلّ ما تحتاج إليه الإنسانية من أحكامٍ وتنظيمٍ في شتّى مناحي حياتها، وتؤكّد أيضاً وجود

595

وشرب ماشيته وسقي زرعه، فإذا فضل بعد ذلك وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج إليه، كما نصّ على ذلك الشيخ الطوسي في المبسوط[1]. وقد مرّ بنا النصّ سابقاً.

9- إذا ملك شخص مالًا بالحيازة ثمّ أهمله وسيّبه زال حقّه فيه وعاد مباحاً طلقاً، كما كان قبل الحيازة، وجاز لآخر تملّكه؛ لأنّ إعراض المالك عن الانتفاع بملكه وتسييبه له يقطع صلته به، كما جاء في حديث صحيح لعبد اللَّه بن سنان، عن أهل البيت عليهم السلام أ نّهم قالوا: «من أصاب مالًا أو بعيراً في فلاة من الأرض كلَّت وتاهت وسيّبها صاحبها لمّا لم يتبعه، فأخذها غيره فأقام عليها، وأنفق نفقة حتّى أحياها من الكلال ومن الموات فهي له ولا سبيل له عليها، إنّما هي مثل الشي‏ء المباح»[2].

والحديث وإن كان يدور حول بعير مسيّب ولكنّه حين عطف البعير على المال عرفنا أنّ القاعدة عامّة في كلّ الأحوال.

10- لا يوجد للفرد حقّ في رقبة الأرض التي يرعى فيها غنمه، ولا يتملّك المرعى بممارسته للرعي فيه، وإنّما يكتسب حقّاً فيه بالإحياء فقط، ولذا لا يجوز للشخص أن يبيع مرعاه إذا لم يكن قد اكتسب حقّاً فيه قبل ذلك بالإحياء أو الإرث من المحيي ونحو ذلك.

وقد جاء عن إدريس بن زيد أ نّه سأل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وقال له:

إنّ لنا ضياعاً ولها حدود، ولنا الدوابّ وفيها مراعي، وللرجل منّا غنم وإبل ويحتاج إلى تلك المراعي لإبله وغنمه، أيحلّ له أن يحمي المراعي لحاجته إليها؟

 

[1] راجع المبسوط 3: 281

[2] وسائل الشيعة 25: 458، الباب 13 من كتاب اللقطة، الحديث 2، عن الإمام الصادق عليه السلام

55

وصل فيه ذلك الاتّجاه العقلي المتطرّف إلى قصارى‏ مداه، ولتوضيح ذلك لابدّ من إعطاء فكرةٍ عن القول بالتصويب.

القول بالتصويب:

بعد أن استباح فقهاء مدرسة الرأي والاجتهاد لأنفسهم أن يعملوا بالترجيحات والظنون والاستحسانات وفقاً للاتّجاه العقلي المتطرّف كان من الطبيعي أن تختلف الأحكام التي يتوصّلون إليها عن طريق الاجتهاد تبعاً لاختلاف أذواقهم وطرائق تفكيرهم ونوع المناسبات التي يهتمّون بها. فهذا يرجِّح في رأيه الحرمة؛ لأنّ الفعل فيه ضرر. وذاك يرجّح الإباحة؛ لأنّ في ذلك توسعة على العباد، وهكذا.
ومن هنا نشأ السؤال التالي: ما هو مدى حظّ المجتهدين المختلفين من إصابة الواقع؟ فهل يعتبرون جميعاً مصيبين ما دام كلّ واحدٍ منهم قد عبّر عن اجتهاده الشخصي، أو أنّ المصيب واحد فقط والباقون مخطئون؟
وقد شاع في صفوف مدرسة الرأي القول بأ نّهم جميعاً مصيبون؛ لأنّ اللَّه ليس له حكم ثابت عامّ في مجالات الاجتهاد التي لا يتوفّر فيها النصّ، وإنّما يرتبط تعيين الحكم بتقدير المجتهد وما يؤدّي إليه رأيه واستحسانه، وهذا هو القول بالتصويب.
وفي هذا الضوء نتبيَّن بوضوحٍ ما ذكرناه آنفاً من أنّ القول بالتصويب يعكس تطور فكرة النقص وتحوّلها إلى اتّهامٍ مباشرٍ للشريعة بالنقص وعدم الشمول، الأمر الذي سوّغ لهؤلاء الفقهاء أن ينفوا وجود حكمٍ شرعيٍّ ثابتٍ في مجالات الاجتهاد ويصوّبوا المجتهدين المختلفين جميعاً.
وهكذا نعرف أنّ فكرة النقص في البيان الشرعي دفعت إلى الاتّجاه العقلي‏

594

في ذلك، وليس للأوّل حقّ منعه‏[1].

6- الحيازة بمجرّدها ليست سبباً للتملّك أو الحقّ في المصادر الطبيعيّة من الأرض، والمنجم، وعيون الماء، وهي نوع من الحمى، ولا حمى إلّاللَّه وللرسول‏[2].

7- الحيوانات النافرة المتمرّدة على الإنسان تملك بالقضاء على مقاومتها واصطيادها. ولو لم يحزها الصائد بيده أو شبكته فلا يجب في تملّك الصيد الاستيلاء الفعلي. فقد قال العلّامة الحلّي في القواعد: «إنّ أسباب ملك الصيد أربعة: إبطال منعته، وإثبات اليد، وإثخانه، والوقوع فيما نصب آلة للصيد، وكلّ من رمى صيداً لا يد لأحد عليه ولا أثر ملك فإنّه يملكه إذا صيّره غير ممتنع وإن لم يقبضه»[3].

وقال ابن قدامة: «ولو رمى طائراً على شجرة في دار قوم فطرحه في دارهم فأخذوه فهو للرامي دونهم؛ لأنّ ملكه بإزالة امتناعه»[4].

ونفس الشي‏ء صرّح به جعفر بن الحسن المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام‏[5].

8- من حفر بئراً حتّى وصل إلى الماء كان أحقّ بمائها بقدر حاجته لشربه‏

 

[1] راجع الملحق رقم 11

[2] انظر السنن الكبرى 6: 146- 147، والنهاية في غريب الحديث والأثر 1: 447، مادّة( حمى)

[3] قواعد الأحكام 3: 315

[4] المغني 11: 30

[5] شرائع الإسلام 3: 203

54

لأ نّهم كانوا يؤمنون بأنّ البيان الشرعي لا يزال مستمرّاً باستمرار الأئمّة عليهم السلام، فلم يوجد لديهم أيّ دافعٍ نفسيٍّ للتوسّع غير المشروع في نطاق العقل.
وعلى أيِّ حالٍ فقد شاعت فكرة عدم كفاية الكتاب والسنّة لإشباع حاجات الاستنباط، ولعبت دوراً خطيراً في عقلية كثيرٍ من فقهاء العامة، ووجّهتهم نحو الاتّجاه العقلي المتطرِّف.
وتطوّرت هذه الفكرة وتفاقم خطرها بالتدريج، إذ انتقلت الفكرة من اتّهام القرآن والسنّة- أي البيان الشرعي- بالنقص وعدم الدلالة على الحكم في كثيرٍ من القضايا إلى اتّهام نفس الشريعة بالنقص وعدم استيعابها لمختلف شؤون الحياة، فلم تعد المسألة مسألةَ نقصانٍ في البيان والتوضيح، بل في التشريع الإلهي بالذات. ودليلهم على النقص المزعوم في الشريعة هو: أنّها لم تُشرَّع لتبقى في ضمير الغيب محجوبةً عن المسلمين، وإنّما شُرِّعت وبُيِّنت عن طريق الكتاب والسنّة؛ لكي يعمل بها وتصبح منهاجاً للُامّة في حياتها، ولمّا كانت نصوص الكتاب والسنّة- في رأي العامة- لا تشتمل على أحكام كثيرٍ من القضايا والمسائل فيدلّ ذلك على نقص الشريعة، وأنّ اللَّه لم يشرِّع في الإسلام إلّاأحكاماً معدودة، وهي الأحكام التي جاء بيانها في الكتاب والسنّة، وترك التشريع في سائر المجالات الاخرى إلى الناس أو إلى الفقهاء من الناس بتعبيرٍ أخصّ؛ ليشرّعوا الأحكام على أساس الاجتهاد والاستحسان، على شرط أن لا يعارضوا في تشريعهم تلك الأحكام الشرعية المحدودة المشرّعة في الكتاب والسنّة النبوية.
وقد رأينا أنّ الاتّجاه العقلي المتطرّف كان نتيجةً لشيوع فكرة النقص وانعكاسها، وحين تطوّرت فكرة النقص من اتّهام البيان إلى اتّهام نفس الشريعة انعكس هذا التطور أيضاً على مجال الفكر السنّي، ونتج عنه القول بالتصويب الذي‏

53

والمعروف عن أبي حنيفة أ نّه كان متفوّقاً في ممارسة هذا النوع من العمل الفقهي، فقد روي عن تلميذه محمد بن الحسن: أنّ أبا حنيفة كان يناظر أصحابه فينتصفون منه ويعارضونه، حتى إذا قال: أستحسن لم يلحقه أحد[1]. وجاء في كلام له وهو يحدِّد نهجه العام في الاستنباط: «إنّي آخذ بكتاب اللَّه إذا وجدته، فما لم أجده أخذت بسنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فإذا لم أجد في كتاب اللَّه ولا سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذت بقول أصحابه مَن شئت وأَدَع من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين فلي أن أجتهد كما اجتهدوا»[2].

والفكرة الأساسية التي دعت إلى قيام هذه المدرسة وتبنّي العقل المنفتِح بوصفه وسيلةً رئيسيةً للإثبات ومصدراً لاستنباط الحكم هي الفكرة الشائعة في صفوف تلك المدرسة التي كانت تقول: «إنّ البيان الشرعي المتمثّل في الكتاب والسنّة قاصر لا يشتمل إلّاعلى أحكام قضايا محدودة، ولا يتّسع لتعيين الحكم الشرعي في كثيرٍ من القضايا والمسائل».

وقد ساعد على شيوع هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامة اتّجاههم المذهبي السنّي، إذ كانوا يعتقدون أنّ البيان الشرعي يتمثّل في الكتاب والسنّة النبوية المأثورة عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فقط، ولمّا كان هذا لا يفي إلّابجزءٍ من حاجات الاستنباط اتّجهوا إلى علاج الموقف وإشباع هذه الحاجات عن طريق تمطيط العقل والمناداة بمبدأ الاجتهاد.

وأمّا فقهاء الإمامية فقد كانوا على العكس من ذلك بحكم موقفهم المذهبي؛

 

[1] مناقب الإمام الأعظم للموفّق المكّي 1: 82

[2] انظر تأريخ بغداد 13: 368، تهذيب الكمال 29: 443

93

معالم الحياة باقية فيها، سواء كان المحيي يمارس الانتفاع بالأرض فعلًا أم لا.

وأمّا الحقّ الذي يكسبه الفرد نتيجة لزراعته أرضاً حيّة بطبيعتها فهو لا يعدو أن يكون حقّ الأولويّة بالأرض ما دام يمارس انتفاعه بها، فإذا كفّ عن ذلك كان لأيّ فرد آخر أن يستفيد من الفرصة الممنوحة طبيعيّاً للأرض ويقوم بدور الأوّل.

3- إذا حفر الفرد أرضاً لاكتشاف منجم فوصل إليه كان لآخر أن يستفيد من نفس المنجم إذا لم يزاحمه، وذلك بأن يحفر في موضع آخر- مثلًا- ويصل إلى ما يريد من الموادّ المعدنيّة، كما نصّ على هذا العلّامة في القواعد قائلًا:

«ولو حفر فبلغ المعدن لم يكن له منع غيره من الحفر من ناحية اخرى، فإذا وصل إلى ذلك العرق لم يكن له منعه»[1].

4- يقول الشهيد الثاني في المسالك عن الأرض التي أحياها الفرد ثمّ خربت: «… ولأنّ هذه الأرض أصلها مباح، فإذا تركها حتّى عادت إلى ما كانت عليه صارت مباحة، كما لو أخذ من ماء دجلة ثمّ ردّه إليها. ولأنّ العلّة في تملّك هذه الأرض الإحياء والعمارة، فإذا زالت العلّة زال المعلول وهو الملك»[2].

ومعنى هذا: أنّ الأرض إذا أحياها الفرد تصبح حقّاً له، ويبقى حقّه فيها ما دام إحياؤها متجسّداً فيها، فإذا زال الإحياء سقط الحقّ.

5- وعلى هذا الضوء إذا حفر الفرد في أرض لاكتشاف منجم، أو عين ماء فوصل إليها، ثمّ أهمل اكتشافه حتّى طمّت الحفرة، أو التحمت الأرض بسبب طبيعي، فجاء شخص آخر فبدأ العمل من جديد حتّى اكتشف المنجم كان له الحق‏

 

[1] قواعد الأحكام 2: 272

[2] مسالك الأفهام 12: 400

52

وقد تطلّب هذا الاتّجاه المعتدل الذي مثّله جُلّ فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن يخوضوا المعركة في جبهتين:
إحداهما: المعركة ضدّ أنصار الاتّجاه الأول الذي كانت مدرسة الرأي في الفقه تتبنّاه بقيادة جماعةٍ من أقطاب علماء العامّة.
والاخرى المعركة ضدّ حركةٍ داخليةٍ نشأت داخل صفوف الفقهاء الإماميّين؛ متمثّلةٍ في المحدثين والأخباريّين من علماء الشيعة الذين شجبوا العقل وادّعوا أنّ البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يجوز استخدامها للإثبات، وهكذا نعرف أنّ المعركة الاولى كانت ضدّ استغلال العقل، والاخرى كانت إلى صفّه.

1- المعركة ضدّ استغلال العقل:

قامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسة فقهية واسعة النطاق تحمل اسم مدرسة «الرأي والاجتهاد» بالمعنى الأول الذي تقدّم في البحث السابق، وتطالب باتّخاذ العقل بالمعنى الواسع الذي يشمل الترجيح والظنّ والتقدير الشخصي للموقف أداةً رئيسيةً للإثبات إلى صفّ البيان الشرعي، ومصدراً للفقيه في الاستنباط، وأطلقت عليه اسم «الاجتهاد».
وكان على رأس هذه المدرسة أو من روّادها الأوّلين أبو حنيفة المتوفّى‏ سنة (150 ه)، والمأثور عن رجالات هذه المدرسة أ نّهم كانوا حيث لا يجدون بياناً شرعياً يدلّ على الحكم يدرسون المسألة على ضوء أذواقهم الخاصّة، وما يدركون من مناسبات، وما يتفتّق عنه تفكيرهم الخاصّ من مرجّحاتٍ لهذا التشريع على ذاك، ويفتون بما يتّفق مع ظنّهم وترجيحهم، ويسمّون ذلك «استحساناً» أو «اجتهاداً».

51

كما سنرى‏.

الاتّجاهات المتعارضة في الإدراك العقلي:

وقد شهد تاريخ التفكير الفقهي اتّجاهين متعارضين في هذه النقطة كلّ التعارض، يدعو أحدهما إلى اتّخاذ العقل في نطاقه الواسع الذي يشمل الإدراكات الناقصة وسيلة رئيسية للإثبات في مختلف المجالات التي يمارسها الاصولي والفقيه. والآخر يشجب العقل ويجرّده إطلاقاً عن وصفه وسيلةً رئيسيةً للإثبات، ويعتبر البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها في عمليات الاستنباط.
ويقف بين هذين الاتّجاهين المتطرِّفَين اتّجاه ثالث معتدل يتمثّل في جُلِّ فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وهو الاتّجاه الذي يؤمن- خلافاً للاتّجاه الثاني- بأنّ العقل أو الإدراك العقلي وسيلة رئيسية صالحة للإثبات إلى‏ صفّ البيان الشرعي، ولكن لا في نطاقٍ منفتحٍ كما زعمه الاتّجاه الأول، بل ضمن النطاق الذي تتوفّر فيه للإنسان القناعة التامّة والإدراك الكامل الذي لا يوجد في مقابله احتمال الخطأ، فكلّ إدراكٍ عقليٍّ يدخل ضمن هذا النطاق ويستبطن الجزم الكامل فهو وسيلة إثبات، وأمّا الإدراك العقلي الناقص الذي يقوم على أساس الترجيح ولا يتوفّر فيه عنصر الجزم فلا يصلح وسيلة إثباتٍ لأيِّ عنصرٍ من عناصر عملية الاستنباط.
فالعقل في رأي الاتّجاه الثالث أداة صالحة للمعرفة، وجديرة بالاعتماد عليها والإثبات بها إذا أدّت إلى إدراك حقيقةٍ من الحقائق إدراكاً كاملًا لا يشوبه شكّ. فلا كفران بالعقل كأداةٍ للمعرفة، ولا إفراط في الاعتماد عليه فيما لا ينتج عنه إدراك كامل.