کتابخانه
618

617

نظريّة توزيع ما قبل الإنتاج‏
3

الملاحظات‏

1- دراسة مقارنة للنظريّة الإسلاميّة.
2- ظاهرة الطسق وتفسيرها نظريّاً.
3- التفسير الخُلُقي للملكيّة في الإسلام.
4- التحديد الزمني للحقوق الخاصّة.

616

615

يكون له الحقّ في نفس المال تبعاً لما تفرضه ملكيّته للفرصة التي أنتجها عمله، ويرتبط حقّه في المال بملكيّة هذه الفرصة، فإذا انعدمت وزالت الفرصة التي خلقها سقط حقّه في المال.
والمبدأ الآخر: أنّ ممارسة الانتفاع بأيّ ثروة طبيعيّة تمنح الفرد الممارس حقّاً يمنع الآخرين عن انتزاع الثروة منه ما دام يواصل استفادته منها، ويمارس أعمال الانتفاع والاستثمار؛ لأنّ غيره ليس أولى منه بالثروة التي يمارسها لتنتزع منه وتعطى للغير.
وعلى أساس المبدأ الأوّل تقوم الأحكام التي نظّمت الحقوق في عمليّات الإحياء والصيد. وعلى أساس المبدأ الثاني ترتكز أحكام الحيازة للثروات المنقولة التي وفّرت الطبيعة فرصة الانتفاع بها للإنسان.
فخلق فرصة جديدة في ثروة طبيعيّة، والانتفاع المستمرّ بثروة توفّرت فيها الفرصة طبيعيّاً هما المصدران الأساسيّان للحقّ الخاصّ في الثروات الطبيعيّة.
والطابع المشترك لهذين المصدرين هو الصفة الاقتصاديّة، فإنّ كلّاً مِن خلق فرصة جديدة، أو الانتفاع بثروة على أساس الفرصة المتاحة طبيعيّاً يعتبر ذا صفة اقتصاديّة، وليس من أعمال القوّة والاستئثار.

***

614

المصادر الطبيعيّة أيضاً إذا مارسها الفرد بعمل من أعمال الانتفاع، كما إذا زرع أرضاً عامرة بطبيعتها فإنّ زراعته لها عمل من أعمال الانتفاع، فيكسب على أساس ذلك حقّاً في الأرض، يمنع الآخرين من مزاحمته وانتزاع الأرض منه ما دام يواصل انتفاعه بها، ولكن ليس معنى هذا أنّ مجرّد حيازة الأرض مثلًا تكفي لاكتساب هذا الحقّ فيه كحيازة الماء؛ لأنّ حيازة الأرض ليست من أعمال الانتفاع والاستثمار، وإنّما ينتفع بالأرض العامرة عن طريق زراعتها مثلًا، فإذا باشر العامل الزراعة في أرض عامرة بطبيعتها وواصل هذا النوع من الانتفاع بها لم يجز لآخر انتزاع الأرض منه ما دام العامل مستمرّاً في زراعتها؛ لأنّ الآخر ليس أولى بها ممّن ينتفع بها فعلًا. وأمّا إذا ترك العامل زراعتها والانتفاع بها فلا يبقى له الحقّ في الاحتفاظ بها، ويجوز عندئذٍ لفرد آخر ممارستها في عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار.
ونلاحظ في حال ترك الفرد الانتفاع بالأرض الفرق بين المبدأين، فحقّ الفرد الذي يقوم على أساس مواصلة الانتفاع بثروة طبيعيّة يزول بمجرّد ترك الفرد للانتفاع بالأرض وعدم مواصلته، بينما يظلّ الحقّ القائم على أساس تملّك العامل للفرصة التي يخلقها ثابتاً ما دامت الفرصة باقية وجهود العامل مجسّدة في الأرض ولو لم يكن يمارس الانتفاع بالأرض فعلًا.

تلخيص النتائج النظريّة:

يمكننا أن نستنتج الآن من دراسة النظريّة العامّة لتوزيع ما قبل الإنتاج مبدأين أساسيّين في هذه النظريّة:
أحدهما: أنّ العامل الذي يمارس شيئاً من ثروات الطبيعة الخام يملك نتيجة عمله، وهي الفرصة العامة للانتفاع بتلك الثروة. ونتيجة لتملّك العامل هذه الفرصة

613

موسوعة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره، ج‏3، ص: 613

الحيازة مستمرّة حقيقةً أو حكماً[1]. فإذا تنازل الفرد عن حيازته بإهمال المال والإعراض عنه انقطع انتفاعه به، وسقط بسبب ذلك حقّه في المال، وأصبح لأيّ فرد آخر الاستيلاء عليه والانتفاع به.

وهكذا يتّضح أنّ حقّ الفرد في الماء الذي حازه من البحيرة، أو الحجر الذي أخذه من الطريق العامّ لا يستند إلى تملّكه لفرصة عامّة ناجمة عن عمله، وإنّما يقوم على أساس ممارسة الفرد للانتفاع بتلك الثروة الطبيعيّة عن طريق حيازته لها.

وفي هذا الضوء نستطيع أن نضيف إلى المبدأ المتقدّم في النظريّة- القائل:

إنّ كلّ عامل يملك نتيجة عمله- مبدأً جديداً، وهو: أنّ ممارسة الفرد للانتفاع بثروة طبيعيّة يجعل له حقّاً فيها ما دام مواصلًا لانتفاعه بتلك الثروة، ولمّا كانت الحيازة في مجال الثروات المنقولة عملًا من أعمال الانتفاع فيستوعبها هذا المبدأ، ويقيم على أساسها حقّاً للفرد في الثروة التي حازها.

تعميم المبدأ النظري للحيازة:

وهذا المبدأ لا ينطبق على الثروات المنقولة فحسب، بل ينطبق على‏

 

[1] نريد باستمرار الحيازة حكماً: الحالات التي تنقطع فيها الحيازة لسبب اضطراري، كالنسيان والضياع والاغتصاب، ونحو ذلك، فإنّ الشريعة تعتبر الحيازة وممارسة الانتفاع مستمرّة حكماً، ولذا تأمر بإرجاع المال الضائع أو المغتصب إلى حوزة صاحبه‏[ راجع المبسوط 3: 319- 320 و 60]، ومردّ هذا الاعتبار في الحقيقة إلى التأكيد على العنصر الاختياري، وسلب الأثر عن حالات الاضطرار في مختلف مجالات التشريع.( المؤلّف قدس سره)

612

والجواب على هذا السؤال: أنّ حقّ الفرد هذا لا يستمدّ مبرّره من تملّك الفرد لفرصة نتجت عن عمله، وإنّما يبرّره انتفاع الفرد بذلك المال، فكما أنّ من حقّ كلّ عامل أن يمتلك الفرصة التي ينتجها عمله كذلك من حقّه أن ينتفع بالفرصة التي هيّأتها له الطبيعة بعناية اللَّه تعالى. فالماء مثلًا إذا كان في أعماق الأرض وكشفه الفرد بالحفر فقد خلق فرصة الانتفاع به وأصبح جديراً بامتلاك هذه الفرصة. وأمّا إذا كان الماء مجتمعاً طبيعيّاً على سطح الأرض وكانت فرصة الانتفاع به ناجزة بدون جهد من الإنسان فلا بدّ أن يتاح لكلّ فرد أن يمارس انتفاعه بذلك الماء ما دامت الطبيعة قد كفتهم العمل ومنحتهم فرصة الانتفاع.
فإذا افترضنا فرداً اغترف بإنائه من الماء المجتمع طبيعيّاً على وجه الأرض فقد مارس عملًا من أعمال الانتفاع والاستثمار في مفهوم النظريّة، كما مرّ بنا في مستهلّ البحث. وما دام من حقّ كلّ فرد أن ينتفع بالثروة التي تقدِّمها الطبيعة بين يدي الإنسان فمن الطبيعي أن يسمح للفرد بحيازة الماء المكشوف على وجه الأرض من مصادره الطبيعيّة؛ لأنّها عمل من أعمال الانتفاع والاستثمار، وليست عملًا من أعمال الاحتكار والقوّة.
وإذا احتفظ الفرد بالماء الذي حازه كان له ذلك، ولا يجوز لآخر أن ينازعه فيه، أو ينتزعه منه وينتفع به؛ لأنّ النظريّة ترى حيازة الماء وما إليه من الثروات المنقولة عملًا من أعمال الانتفاع، فما دامت الحيازة مستمرّة فالانتفاع مستمرّ إذن من قبل الحائز، وما دام الحائز مواصلًا لانتفاعه بالثروة فلا مبرّر لتقديم فرد آخر عليه في الانتفاع بها إذا أراد.
وهكذا يظلّ الفرد متمتّعاً بحقّه في الثروة المنقولة التي حازها ما دامت‏

611
دور الحيازة للثروات المنقولة:

وأمّا الحيازة فهي تختلف عن الصيد المجرّد في أحكامها، ولهذا نجد أنّ الفرد إذا ملك طيراً بالحيازة ودخل في حوزته أصبح من حقّه استرجاعه إذا طار وامتنع فاصطاده آخر، وليس للآخر الاحتفاظ به، بل يجب عليه ردّه إلى من كان الطير في حوزته‏[1]؛ لأنّ الحقّ المستند إلى الحيازة حقّ مباشر، بمعنى أنّ الحيازة سبب مباشر لتملّك الطير، وليس تملّك الطير مرتبطاً بتملّك فرصة معيّنة ليزول بزوالها.

وهذا هو الفرق بين الحيازة وغيرها من العمليّات التي مرّت بنا، فالصيد كان سبباً لامتلاك الصائد للفرصة التي أنتجها، وقام على هذا الأساس حقّه في الطير، والإحياء كان سبباً لامتلاك العامل للفرصة التي نجمت عن الإحياء، ونتيجة لذلك حصل على حقّه في المرفق الذي أحياه. وأمّا حيازة الثروات المنقولة فهي بمجرّدها سبب أصيل ومباشر لتملّك الثروة.

وهذا الفرق بين الحيازة وغيرها من الأعمال يحتّم علينا مواجهة السؤال التالي على الصعيد النظري: إذا كان حقّ الفرد في المصدر الطبيعي الذي أحياه، أو في الصيد الذي اصطاده يقوم على أساس امتلاكه نتيجة عمله وهي فرصة الانتفاع بذلك المصدر، فعلى أيّ أساس يقوم حقّ الفرد في الحجر الذي يلقاه في الطريق فيأخذه لنفسه، أو حقّه في الماء الراكد الذي يحوزه من بحيرة طبيعيّة، مع أنّ حيازته هذه للحجر أو للماء لم تنتج فرصة عامّة جديدة في المال كما ينتج الصيد وإحياء الأرض؟!

 

[1] انظر جواهر الكلام 36: 202- 204

610

الانتفاع به فعلًا، بل مجرّد الفرصة التي خلقها بعمله يخوّله الحقّ فيه؛ لأنّ هذه الفرصة ملك للعامل الذي خلقها، سواء فكّر فعلًا في الانتفاع بصيده وبادر إلى حيازته أو لا.

وبهذا كان الصيّاد نظير العامل الذي يحيي الأرض، فكما لا يجوز لفرد آخر أن يستثمر الأرض ويزرعها ولو لم يمارس المحيي الانتفاع بها فعلًا كذلك لا يصحّ لغير العامل الذي ذلّل الصيد وقضى على مقاومته أخذ الصيد ما دام الصيّاد محتفظاً بحقّه ولو لم يبادر إلى حيازته فعلًا.

ولكنّ الطير الذي شُلّت حركته نتيجةً لاصطياده إذا استطاع قبل أن يبادر الصيّاد إلى حيازته أن يسترجع قواه، أو يتغلّب على الصدمة ويحلّق في الجوّ من جديد زال عنه حقّ الصيّاد؛ لأنّ هذا الحقّ كان يعتمد على تملّك العامل للفرصة التي أنتجها بالصيد، وهذه الفرصة تتلاشى بهروب الطائر في الجوّ، فلا يبقى للصائد حقّ في الطير[1]، وهو في هذا يشبه أيضاً العامل الذي يحيي الأرض ويكتسب حقّه فيها على هذا الأساس، إذ يفقد حقّه في الأرض إذا انطفأت فيها الحياة ورجعت مواتاً من جديد، والسبب نظريّاً واحد في الحالتين، وهو: أنّ حقّ الفرد في الثروة يرتبط بتملّكه للفرصة التي تنتج عن عمله، فإذا زالت تلك الفرصة وانعدم أثر ذلك العمل زال حقّه في الثروة.

فالصيد في أحكامه إذن حين يُنظر إليه بصورة مستقلّة عن الحيازة يشابه إحياء المصادر الطبيعيّة، وهذا التشابه ينبع- كما رأينا- من وحدة التفسير النظري لحقّ العامل في صيده، وحقّ العامل في الأرض الميتة التي أحياها.

 

[1] راجع الملحق رقم 13، وجواهر الكلام 36: 209