کتابخانه
48

رأسمالية كاملة.
أفَتَرى أنّ المشكلة تُحلّ حلًاّ حاسماً إذا رفضنا مبدأ الملكيّة الخاصّة، وأبقينا تلك المفاهيم المادّية عن الحياة، كما حاول اولئك المفكّرون؟!
وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم بالقضاء على الملكية الخاصّة فقط، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره؟! مع أنّ ضمان سعادته واستقراره يتوقّف إلى حدٍّ بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الإصلاحية في ميدان العمل والتنفيذ، والمفروض في هؤلاء المسؤولين أ نّهم يعتنقون نفس المفاهيم المادّية الخالصة عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية، وإنّما الفرق: أنّ هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة، ومن الفرض المعقول الذى يتّفق في كثير من الأحايين، أن تقف المصلحة الخاصّة في وجه مصلحة المجموع، وأن يكون الفرد بين خسارة وألم يتحمّلهما لحساب الآخرين، وبين ربح ولذّة يتمتّع بهما على حسابهم، فماذا تقدّر للُامّة وحقوقها وللمذهب وأهدافه من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة التي تمرّ على الحاكمين؟! والمصلحة الذاتية لا تتمثّل فقط في الملكية الفردية، ليقضى على هذا الفرض الذي افترضناه بإلغاء مبدأ الملكية الخاصّة، بل هي تتمثّل في أساليب، وتتلوّن بألوان شتّى. ودليل ذلك ما أخذ يكشف عنه زعماء الشيوعية اليوم من خيانات الحاكمين السابقين، والتوائهم على ما يتبنّون من أهداف.
إنّ الثروة تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظلّ الاقتصاد المطلق والحرّيات الفردية، وتتصرّف فيها بعقليّتها المادّية تُسلَّم- عند تأميم الدولة لجميع الثروات، وإلغاء الملكية الخاصّة- إلى نفس جهاز الدولة المكوّن من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادّية عن الحياة، والتي تفرض عليهم تقديم المصالح الشخصية بحكم غريزة حبّ الذات، وهي تأبى أن يتنازل الإنسان عن لذّة ومصلحة

47

جزءٌ من كيانه الخاصّ.
وهذه الاستعدادات التي تهيّئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوّعة، تختلف في درجاتها عند الأشخاص، وتتفاوت في مدى فعليّتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثّر فيه. فبينما نجد أنّ بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلًا، نجد أنّ ألواناً اخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان، وتظلّ تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتّحها. وغريزة حبّ الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً، تحدّد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات.
فهي تدفع إنساناً إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع إنساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه؛ لأنّ استعداد الإنسان الأوّل للالتذاذ بالقيم الخُلُقية والعاطفية الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته. بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية، فأصبح يلتذّ بالقيم الخُلُقية والعاطفية، ويضحّي بسائر لذّاته في سبيلها.
فمتى أردنا أن نغيّر من سلوك الإنسان شيئاً، يجب أن نغيّر من مفهوم اللذّة والمنفعة عنده، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العامّ لغريزة حبّ الذات.
فإذا كانت غريزة حبّ الذات بهذه المكانة من دنيا الإنسان، وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة عن طاقة مادّية محدودة، وكانت اللذّة عبارة عمّا تهيّئه المادّة من متع ومسرّات، فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بأنّ مجال كسبه محدود، وأنّ شوطه قصير، وأنّ غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذّة المادّية. وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادّية وهو: المال الذي يفتح أمام الإنسان السبيل إلى تحقيق كلّ أغراضه وشهواته.
هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادّية الذي يؤدّي إلى عقلية

46

وحبّ الذات هو الغريزة التي لا نعرف غريزة أعمّ منها وأقدم، فكلّ الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها بما فيها غريزة المعيشة. فإنّ حبّ الإنسان ذاته- الذي يعني: حبّه للذّة والسعادة لنفسه، وبغضه للألم والشقاء لذاته- هو الذي يدفع الإنسان إلى كسب معيشته وتوفير حاجياته الغذائية والمادّية. ولذا قد يضع حدّاً لحياته بالانتحار إذا وجد أنَّ تحمُّل ألم الموت أسهل عليه من تحمُّل الآلام التي تزخر بها حياته.
فالواقع الطبيعي الحقيقي- إذن- الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلّها، ويوجّهها بأصابعه هو: حبّ الذات الذي نعبِّر عنه بحبّ اللذّة وبغض الألم.
ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمّل مختاراً مرارة الألم دون شي‏ء من اللذّة، في سبيل أن يلتذّ الآخرون ويتنعّموا، إلّاإذا سُلبت منه إنسانيّته، واعطي طبيعة جديدة لا تتعشَّق اللذّة، ولا تكره الألم.
وحتّى الألوان الرائعة من الإيثار التي نشاهدها في الإنسان، ونسمع بها عن تأريخه تخضع في الحقيقة- أيضاً- لتلك القوّة المحرِّكة الرئيسية: (غريزة حبّ الذات). فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحّي في سبيل بعض المثل والقيم، ولكنّه لن يقدم على شي‏ء من هذه البطولات ما لم يحسّ فيها بلذّة خاصّة، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن إيثاره لولده وصديقه، أو تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها.
وهكذا يمكننا أن نفسّر سلوك الإنسان بصورة عامّة في مجالات الأنانية والإيثار على حدٍّ سواء. ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوّعة:
مادّية كالالتذاذ بالطعام والشراب، وألوان المتعة الجنسية وما إليها من اللذائذ المادّية. أو معنوية كالالتذاذ الخُلُقي والعاطفي بقيم خُلُقية أو أليف روحيٍّ أو عقيدة معيّنة، حين يجد الإنسان أنّ تلك القيم أو ذلك الأليف أو هذه العقيدة

45

[الإسلام والمشكلة الاجتماعيّة]

التعليل الصحيح للمشكلة:

ولأجل أن نصل إلى الحلقة الاولى في تعليل المشكلة الاجتماعية، علينا أن نتساءل عن تلك المصلحة المادّية الخاصّة التي أقامها النظام الرأسمالي مقياساً ومبرِّراً وهدفاً وغاية، نتساءل: ما هي الفكرة التي صحَّحت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به؟ فإنّ تلك الفكرة هي الأساس الحقيقيّ للبلاء الاجتماعي وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته. وإذا استطعنا أن نقضي على تلك الفكرة فقد وضعنا حدّاً فاصلًا لكلّ المؤامرات على الرفاه الاجتماعي، والالتواءات على حقوق المجتمع وحرّيته الصحيحة، ووفِّقنا إلى استثمار الملكية الخاصّة لخير الإنسانية ورقيّها وتقدّمها في المجالات الصناعية وميادين الانتاج.
فما هي تلك الفكرة؟
إنّ تلك الفكرة تتلخّص في التفسير المادّي المحدود للحياة الذي أشاد عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبّار؛ فإنّ كلّ فرد في المجتمع إذا آمن بأنّ ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو: حياته المادّية الخاصّة، وآمن- أيضاً- بحرّيته في التصرّف بهذه الحياة واستثمارها، وأ نّه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلّااللذّة التي توفِّرها له المادّة، وأضاف هذه العقائد المادّية إلى حبّ الذات الذي هو من صميم طبيعته، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليّون، وينفِّذ أساليبهم كاملة، ما لم تحرمه قوّة قاهرة من حريّته، وتسدّ عليه السبيل.

44

بلا إنتاج ولا عمل، ولا هو الذي يدفعه إلى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الأسواق؛ ليحتكرها ويرفع بذلك من أثمانها، ولا هو الذي يفرض عليه فتح أسواق جديدة، وإن انتهكت بذلك حرّيات الامم وحقوقها، وضاعت كرامتها وحرّيتها.
كلّ هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكيّة الخاصّة، وإنّما هي وليدة المصلحة المادّية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي، والمبرّر المطلق لجميع التصرّفات والمعاملات. فالمجتمع حين تقام اسسه على هذا المقياس الفردي والمبرِّر الذاتي، لا يمكن أن يُنتظَر منه غير ما وقع؛ فإنّ من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الإنسانية كلّها، لا من مبدأ الملكية الخاصّة، فلو ابدل المقياس، ووضعت للحياة غاية جديدة مهذّبة تنسجم مع طبيعة الإنسان، لتحقَّق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الإنسانية الكبرى.

43

المعنويّ للإنسانية، وبين حاجة هي من الحقّ المادّي لها، إذا أعوزها النظام الذي يجمع بين الناحيتين، ويوفَّق إلى حلّ المشكلتين.
إنّ إنساناً يعتصر الآخرون طاقاته، ولا يطمئنُّ إلى حياة طيّبة، وأجر عادل، وتأمين في أوقات الحاجة لهو إنسان قد حُرِمَ من التمتّع بالحياة، وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرّة. كما أنّ إنساناً يعيش مهدَّداً في كلّ لحظة، مُحاسَباً على كلّ حركة، مُعرَّضاً للاعتقال بدون محاكمة، وللسجن والنفي والقتل لأدنى بادرة لهو إنسان مروّع مرعوب، يسلبه الخوف حلاوة العيش، وينغّص الرعب عليه ملاذّ الحياة.
والإنسان الثالث المطمئنّ إلى معيشته، الواثق بكرامته وسلامته، هو حلم الإنسانية العذب. فكيف يتحقّق هذا الحلم؟ ومتى يصبح حقيقة واقعة؟
وقد قلنا: إنّ العلاج الشيوعي للمشكلة الاجتماعية ناقصٌ، مضافاً إلى ما أشرنا إليه من مضاعفات. فهو وإن كان تتمثّل فيه عواطف ومشاعر إنسانية أثارها الطغيان الاجتماعيّ العامّ، فأهاب بجملة من المفكّرين إلى الحلّ الجديد، غير أ نّهم لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد ليقضوا عليه، وإنّما قضوا على شي‏ء آخر، فلم يُوفَّقوا في العلاج، ولم ينجحوا في التطبيب.
إنّ مبدأ الملكية الخاصّة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة التي زعزعت سعادة العالم وهناءه، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من العمّال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم، كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي، ولا هو الذي يفرض التحكّم في اجور الأجير وجهوده بلا حساب، ولا هو الذي يفرض على الرأسماليّ أن يتلف كمّيات كبيرة من منتوجاته؛ تحفّظاً على ثمن السلعة وتفضيلًا للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها، ولا هو الذي يدعوه إلى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا وامتصاص جهود المدينين‏

42

جديد إنساناً مثاليّاً في أفكاره وأعماله، وإن لم يكن يؤمن بذرّة من القيم المثالية والأخلاقية. ولو تحقّقت هذه المعجزة فلنا معهم- حينئذٍ- كلام.
وأمّا الآن فوضع التصميم الاجتماعي الذي يرومونه يستدعي حبس الأفراد في حدود فكرة هذا التصميم، وتأمين تنفيذه بقيام الفئة المؤمنة به على حمايته، والاحتياط له بكبت الطبيعة الإنسانية والعواطف النفسية، ومنعها عن الانطلاق بكلّ اسلوب من الأساليب. والفرد في ظلّ هذا النظام وإن كسب تأميناً كاملًا، وضماناً اجتماعياً لحياته وحاجاته؛ لأنّ الثروة الجماعية تمدُّه بكلّ ذلك في وقت الحاجة، ولكن أليس من الأحسن بحال هذا الفرد أن يظفر بهذا التأمين دون أن يخسر استنشاق نسيم الحرّية المهذّبة، ويضطرّ إلى إذابة شخصه في النار، وإغراق نفسه في البحر الاجتماعيّ المتلاطم؟!
وكيف يمكن أن يطمع بالحرّية- في ميدان من الميادين- إنسان حُرِمَ من الحرّية في معيشته، ورُبِطت حياته الغذائية ربطاً كاملًا بهيئة معيَّنة، مع أنّ الحرّية الاقتصادية والمعيشية هي أساس الحرّيات جميعاً؟
ويعتذر عن ذلك المعتذرون، فيتساءلون: ماذا يصنع الإنسان بالحرّية والاستمتاع بحقّ النقد والإعلان عن آرائه، وهو يرزح تحت عب‏ءٍ اجتماعيٍّ فظيع؟! وماذا يجديه أن يناقش ويعترض، وهو أحوج إلى التغذية الصحيحة والحياة المكفولة منه إلى الاحتجاج والضجيج الذي تنتجه له الحرّية؟!
وهؤلاء المتسائلون لم يكونوا ينظرون إلّاإلى الديمقراطية الرأسمالية، كأ نّها القضيّة الاجتماعية الوحيدة التي تنافس قضيّتهم في الميدان، فانتقصوا من قيمة الكرامة الفردية وحقوقها؛ لأنّهم رأوا فيها خطراً على التيّار الاجتماعيّ العامّ، ولكن من حقّ الإنسانية أن لا تضحّي بشي‏ء من مقوّماتها وحقوقها ما دامت غير مضطرّة إلى ذلك، وإنّها إنّما وقفت موقف التخيير بين كرامة هي من الحق‏

41

فبقيت تلك النقطة محافظة على موضعها من الحياة الاجتماعية في المذهب الشيوعي. وبهذا لم تظفر الإنسانية بالحلّ الحاسم لمشكلتها الكبرى، ولم تحصل على الدواء الذي يطبّب أدواءها، ويستأصل أعراضها الخبيثة.
أمّا مضاعفات هذا العلاج فهي جسيمة جدّاً: فإنّ من شأنه القضاء على حرّيات الأفراد لإقامة الملكية الشيوعية مقام الملكيّات الخاصّة؛ وذلك لأنّ هذا التحويل الاجتماعي الهائل على خلاف الطبيعة الإنسانية العامّة إلى حدّ الآن على الأقلّ- كما يعترف بذلك زعماؤه- باعتبار أنّ الإنسان المادّي لا يزال يفكّر تفكيراً ذاتيّاً، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود. ووضع تصميم جديد للمجتمع يذوب فيه الأفراد نهائيّاً ويقضي على الدوافع الذاتية قضاءً تامّاً موضعَ التنفيذِ، يتطلّب قوّة حازمة تمسك زمام المجتمع بيدٍ حديدية، وتحبس كلّ صوتٍ يعلو فيه، وتخنق كلّ نفس يتردّد في أوساطه، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشر، وتضرب على الامّة نطاقاً لا يجوز أن تتعدّاه بحال، وتعاقب على التهمة والظنّة؛ لئلّا يفلت الزمام من يدها فجأة.
وهذا أمر طبيعيٌّ في كلّ نظامٍ يراد فرضه على الامّة قبل أن تنضج فيها عقلية ذلك النظام وتعمَّ روحيّته.
نعم، لو أخذ الإنسان المادّي يفكّر تفكيراً اجتماعياً، ويعقل مصالحه بعقليّة جماعية، وذابت من نفسه جميع العواطف الخاصّة والأهواء الذاتية والانبعاثات النفسية، لأمكن أن يقوم نظام يذوب فيه الأفراد، ولا يبقى في الميدان إلّاالعملاق الاجتماعي الكبير. ولكن تحقيق ذلك في الإنسان المادّي الذي لا يؤمن إلّابحياة محدودة، ولا يعرف معنى لها إلّااللذّة المادّية، يحتاج إلى معجزة تخلق الجنّة في الدنيا، وتنزل بها من السماء إلى الأرض. والشيوعيّون يعدوننا بهذه الجنّة، وينتظرون ذلك اليوم الذي يقضي فيه المعملُ على طبيعة الإنسان، ويخلقه من‏

40

وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقاً بالدرس الفلسفي، وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركّز عليها وانبثق عنها، فإنّ الحكم على كلّ نظام يتوقّف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية في تصوير الحياة وإدراكها.
ومن السهل أن ندرك في أوّل نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفَّف أو الكامل، أنّ طابعه العامّ هو إفناء الفرد في المجتمع، وجعله آلة مسخَّرة لتحقيق الموازين العامّة التي يفترضها. فهو على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحرّ الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخّره لمصالحه، فكأ نّه قد قُدِّر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية- في عرف هذين النظامين- أن تتصادما وتتصارعا.
فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في أحد النظامين الذي أقام تشريعه على أساس الفرد ومنافعه الذاتية، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوِّه الحياة في جميع شُعَبِها. وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق، فساند المجتمع، وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء، فاصيب الأفراد بمحن قاسية قضت على حرّيتهم ووجودهم الخاصّ، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير.

المؤاخذات على الشيوعية:

والواقع: أنّ النظام الشيوعي وإن عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرّة بمحوه للملكية الفردية، غير أنّ هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً، وطريقة تنفيذه شاقّة على النفس لا يمكن سلوكها إلّاإذا فشلت سائر الطرق والأساليب، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كلّه؛ لأنّه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء، وتعيين النقطة التي انطلق منها الشرّ حتّى اكتسح العالم في ظلّ الأنظمة الرأسمالية،