کتابخانه
391

قطعت جزءاً منها.
وإذا كانت الوحدة المادّية قابلة للتجزئة والانفصال، فهي مؤتلفة- إذن- من مادّة بسيطة تركّز فيها قابلية التجزئة، واتّصالية مقوّمة لوحدتها. وهكذا يتّضح: أنّ وحدات العالم المادّي مركّبة من مادّة وصورة.

النتيجة الفلسفية من ذلك:

وحين يتبلور المفهوم الفلسفي للمادّة القاضي بائتلافها من مادّة وصورة، نعرف أنّ المادّة العلمية لا يمكن أن تكون هي المبدأ الأوّل للعالم؛ لأنّها بنفسها تنطوي على تركيب بين المادّة والصورة. ولا يمكن لكلّ من الصورة والمادّة أن يوجد مستقلًا عن الآخر، فيجب أن يوجد فاعل أسبق لعملية التركيب، تلك التي تحقّق للوحدات المادّية وجودها.
وبكلمة اخرى: أنّ المبدأ الأوّل هو الحلقة الاولى من سلسلة الوجود، وتسلسل الوجود يبدأ حتماً بالواجب بالذات، كما عرفنا في الجزء السابق في هذه المسألة. فالمبدأ الأوّل هو الواجب بالذات، وباعتباره كذلك يجب أن يكون غنياً في كيانه ووجوده عن شي‏ء آخر. والوحدات الأساسية في المادّة ليست غنية في كيانها المادّي عن فاعل خارجي؛ لأنّ كيانها مؤتلف من مادّة وصورة، فهي بحاجة إليهما معاً، وكلّ من المادّة والصورة بحاجة إلى الآخر في وجوده، فينتج من ذلك كلّه أن نعرف أنّ المبدأ الأوّل خارج عن حدود المادّة، وأنّ المادّة الفلسفية للعالم- القابلة للاتّصال والانفصال- بحاجة إلى سبب خارجي يحدّد وجودها الاتّصالي أو الانفصالي.

390

على محيط الدائرة الصغيرة. ومن الواضح: أ نّنا إذا حرّكنا الرحى تحرّكت كلتا الدائرتين. فلنحرّك الرحى، ونجعل النقطة التي وضعناها على الدائرة الكبيرة تتحرّك طبقاً لحركتها، ولكن لا نسمح لها بالحركة إلّابمقدار إحدى الوحدات المادّية، ثمّ نلاحظ في تلك اللحظة النقطة الموازية لها في الدائرة الصغيرة؛ لنتساءل: هل طوت من المسافة نفس المقدار الذي طوته النقطة المقابلة لها من الدائرة الكبيرة وهو وحدة كاملة، أو لم تطوِ إلّابعضه؟ أمّا أ نّها طوت نفس المقدار، فهو يعني: أنّ النقطتين سارتا مسافة واحدة، وهذا مستحيل؛ لأنّنا نعلم أنّ النقطة مهما كانت أبعد عن المركز الرئيسي للدائرة، تكون حركتها أسرع، ولذا تطوي في كلّ دورة مسافة أطول ممّا تطويه النقطة القريبة في تلك الدورة، فلا يمكن أن تتساوى النقطتان فيما طوتهما من المسافة. وأمّا أنّ النقطة القريبة طوت جزءاً من المسافة التي طوتها النقطة البعيدة، فهذا يعني: أنّ الوحدة التي اجتازتها النقطة البعيدة يمكن تجزئتها وتقسيمها، وليست وحدة لا تتجزّأ.

وهكذا يتّضح: أنّ أصحاب الفكرة القائلة بالوحدة التي لا تتجزّأ يواجهون موقفاً حرجاً؛ لأنّهم لا يمكنهم أن يعتبروا النقطة البعيدة والقريبة متساويتين في مقدار الحركة، ولا مختلفتين. ولم يبقَ لهم إلّاأن يزعموا لنا أنّ النقطة الموازية في الدائرة الصغيرة كانت ساكنة ولم تتحرّك، وكلّنا نعلم أنّ الدائرة القريبة من المركز لو كانت ساكنة في اللحظة التي تحرّكت فيها الدائرة الكبيرة، لترتّب على ذلك تفكّك أجزاء الرحى وتصدّعها[1].

وهذا البرهان يوضّح لنا: أنّ أيّ وحدة مادّية نفترضها فهي قابلة للتجزئة؛ لأ نّها حينما تطويها النقطة البعيدة عن المركز في حركتها، تكون النقطة القريبة قد

 

[1] يراجع للتفصيل الشفاء لابن سينا، الطبيعيّات( 1): 194، والنجاة لابن سينا: 197

389

ولكن من الواضح- على ضوء ما سبق- أنّ هذا الاكتشاف لا يثبت الجزء الذي لا يتجزّأ بمعناه الفلسفي؛ لأنّ وصول التحليل العلمي إلى ذرّة لا يستطيع أن يُجزّئَها، لا يعني أ نّها غير قابلة للتجزئة بحدّ ذاتها.
ج- المرحلة الثانية من الفيزياء الذرّية التي اعتبرت- على العكس من المرحلة الاولى- دليلًا قاطعاً على نفي الجزء الذي لا يتجزّأ؛ لأنّ العلم استطاع في هذه المرحلة أن يجزّئ الذرّة ويفجّرها، وتبخّرت بذلك فكرة الجزء الذي لا يتجزّأ.
وليست هذه المرحلة إلّاكالمرحلة السابقة في عدم صلتها بمسألة الجزء الذي لا يتجزّأ من ناحيتها الفلسفية؛ ذلك أنّ انقسام الذرّة أو تحطيم نواتها إنّما يغيّر فكرتنا عن الجزء، ولا يقضي بصورة نهائية على نظرية الجزء الذي لا يتجزّأ.
فالذرّة التي لا تنقسم بمعناها الذي كان لا يتصوّره (ديمقريطس)، أو بمعناها الذي وضع (والتن) على أساسه قانون النسب في الكيمياء .. قد تلاشى بتفجير الذرّة، ولكن هذا لا يعني أنّ المشكلة قد انتهت؛ فإنّ الوحدات الأساسية في عالم المادّة- وهي الشحنات الكهربائية، سواءٌ أكانت على شكل ذرّات وأجرام مادّية، أم على شكل أمواج- تواجه السؤال الفلسفي عمّا إذا كانت قابلة للتجزئة أو لا؟

الجزء والفلسفة:

وهكذا اتّضح في دراستنا أنّ مشكلة الجزء يجب أن تحلّ بطريقة فلسفية.
وللفلسفة طرق كثيرة للبرهنة فلسفياً على أنّ كلّ وحدة تقبل الانقسام ولا يوجد جزء لا يتجزّأ. ومن أوضح تلك الطرق أن نرسم دائرتين كالرحى، إحداهما في داخل الاخرى، ونقطة الوسط في الرحى هي مركز كلتا الدائرتين، ونضع نقطة على موضع معيّن من محيط الدائرة الكبيرة، ونقطة موازية لها

388

الجزء والفيزياء والكيمياء:

فمسألة الجزء الذي لا يتجزّأ ليست مسألة علمية، وإنّما هي فلسفية خالصة.
وبذلك نعرف أنّ الطرق أو الحقائق العلمية التي اتّخذت للإجابة عن هذه المسألة، والتدليل على وجود الجزء الذي لا يتجزّأ، أو على نفيه، ليست صحيحة مطلقاً، ونشير إلى شي‏ء منها:
أ- قانون النسب الذي وضعه (والتن) في الكيمياء لإيضاح أنّ الاتّحاد الكيمياوي بين العناصر يجري طبقاً لنسب معيّنة، وركّزه على أساس أنّ المادّة تتأ لّف من دقائق صغيرة لا تقبل التجزئة.
ومن الواضح: أنّ هذا القانون إنّما يعمل في مجاله الخاص كقانون كيميائي، ولا يمكن أن تحلّ به مشكلة فلسفية؛ لأنّ قصارى ما يوضّحه هو: أنّ التفاعلات والتركيبات الكيمياوية لا يمكن أن تتمّ إلّابين مقادير معيّنة من العناصر في ظروف وشروط خاصّة. وإذا لم تحصل المقادير والنسب المعيّنة، فلا يوجد تفاعل وتركيب. ولكنّه لا يوضّح ما إذا كانت تلك المقادير قابلة للانقسام بحدّ ذاتها أو لا؟ فيجب علينا- إذن- أن نفرّق بين الناحية الكيميائية من القانون، والناحية الفلسفية. فهو من الناحية الكيميائية يثبت أنّ خاصّية التفاعل الكيمياوي توجد في مقادير معيّنة، ولا يمكن أن تتحقّق في أقلّ من تلك المقادير، وأمّا من الناحية الفلسفية، فلا يثبت أنّ تلك المقادير هل هي أجزاء لا تتجزّأ أو لا؟
ولا صلة لذلك بالجانب الكيميائي من القانون مطلقاً.
ب- المرحلة الاولى من الفيزياء الذرّية التي حصل فيها اكتشاف الذرّة، فقد بدا آنذاك لبعض: أنّ الفيزياء في هذه المرحلة قد وضعت حدّاً فاصلًا للنزاع في مسألة الجزء الذي لا يتجزّأ؛ لأنّها كشفت عن هذا الجزء بالأساليب العلمية.

387

فتبرهن على أ نّها مركّبة من صورة ومادّة أبسط. فنحن لا نتصوّر وحدة مادّية من دون اتّصال؛ لأنّها لو لم تكن متّصلة اتّصالًا حقيقياً، لكانت محتوية على فراغ تتخلّله أجزاء، كالجسم. فمعنى الوحدة هي أن تكون متّصلة، فلا تكون وحدة حقيقية بلا اتّصال، ولكنّها في نفس الوقت قابلة للتجزئة والانفصال أيضاً.
ومن الواضح: أنّ ما يقبل التجزئة والانفصال ليس هو نفس الاتّصالية المقوّمة للوحدة المادّية؛ لأنّ الاتّصال لا يمكن أن يتّصف بالانفصال، كما أنّ السيولة لم يكن من الممكن أن تتّصف بالغازية. فيجب أن تكون للوحدة مادّة بسيطة، وهي التي تقبل التجزئة والانفصال. ويؤدّي ذلك إلى اعتبارها مركّبة من مادّة، وصورة. فالمادّة هي القابلة للتجزئة والانفصال الهادم للوحدة، كما أ نّها هي القابلة للاتّصال أيضاً، الذي يحقّق الوحدة، وأمّا الصورة فهي نفس هذه الاتّصالية التي لا يمكن أن نتصوّر وحدة مادّية من دونها.
ولكن المسألة التي تواجهنا في هذه المرحلة هي: أنّ الفلسفة كيف يمكنها معرفة أنّ الوحدات الأساسية في المادّة قابلة للتجزئة والانفصال؟ وهل يوجد سبيل إلى ذلك إلّابالتجربة العلمية؟ والتجربة العلمية لم تثبت قابلية الوحدات الأساسية في المادّة للتجزئة والانقسام.
ومرّة اخرى نؤكّد على ضرورة عدم الخلط بين المادّة العلمية والمادّة الفلسفية؛ ذلك أنّ الفلسفة لا تدّعي أنّ تجزئة الوحدة أمر ميسور بالأجهزة والوسائل العلمية التي يملكها الإنسان؛ فإنّ هذه الدعوى من حقّ العلم وحده، وإنّما تبرهن على أنّ كلّ وحدة فهي قابلة للانقسام والتجزئة، وإن لم يمكن تحقيق الانقسام خارجاً بالوسائل العلمية، ولا يمكن أن يتصوّر وحدة من دون قابلية الانقسام، أي: لا يمكن أن يتصوّر جزء لا يتجزّأ.

386

المفهوم الفلسفي للمادّة:

لمّا كانت المسألة التي نتناولها فلسفية ودقيقة إلى حدّ ما، فيجب أن نمشي بتُؤَدَة وهدوء؛ ليتمكّن القارئ من متابعة السير. ولذا فلنبدأ- أوّلًا- بالماء والكرسي ونظائرهما؛ لنعرف كيف صدّقت الفلسفة بأ نّها مركّبة من مادّة وصورة؟
إنّ الماء يتمثّل في مادّة سائلة، وهو في نفس الوقت قابل لأن يكون غازاً، ومركز هذه القابلية ليس هو السيلان؛ لأنّ صفة السيلان لا يمكن أن تكون غازاً، بل مركزه المادّة المحتواة في الماء السائل. فهو- إذن- مركّب من حالة السيلان، ومادّة تتّصف بتلك الحالة، وهي قابلة للغازية أيضاً. والكرسي يتمثّل في خشب مصنوع على هيئة خاصّة، وهو يقبل أن يكون منضدة، وليست هيئة الكرسي هي التي تقبل أن تكون منضدة، بل المادّة. فعرفنا من ذلك: أنّ الكرسي مركّب من هيئة معيّنة، ومادّة خشبية تصلح لأن تكون منضدة، كما صلحت لأن تكون كرسياً.
وهكذا في كلّ مجال إذا لوحظ أنّ الكائن الخاصّ قابل للاتّصاف بنقيض صفته الخاصّة، فإنّ الفلسفة تبرهن بذلك على أنّ له مادّة، وهي التي تقبل للاتّصاف بنقيض تلك الصفة الخاصّة.
ولنأخذ مسألتنا على هذا الضوء. فقد عرفنا أنّ العلم يوضّح أنّ الجسم ليس شيئاً واحداً، بل هو مركّب من وحدات أساسية تسبح في فراغ. وهذه الوحدات باعتبارها الوحدات الأخيرة في التحليل العلمي، فهي بدورها ليست مركّبة من ذرّات أصغر منها، وإلّا لم تكن الوحدات النهائية للمادّة. وهذا صحيح، فالفلسفة تعطي للعلم حرّيته الكاملة في تعيين الوحدات النهائية التي لا يتخلّلها فراغ ولا تحتوي على أجزاء. وحينما يعيّن العلم تلك الوحدات، يجي‏ء دور الفلسفة،

385

كما يمكن أن يكون متّصلًا، كذلك يمكن أن يكون محتوياً على فراغ تتخلّله أجزاء دقيقة.
وأمّا الجانب الفلسفي في نظرية ديمقريطس، فلا تمسّه الكشوف العلمية بشي‏ء، ولا تبرهن على صحّته، بل تبقى مسألة وجود مادّة أبسط من المادّة العلمية في ذمّة الفلسفة، بمعنى: أنّ الفلسفة يمكنها أن تأخذ أعمق مادّة توصّل إليها العلم في الميدان التجريبي، وهي الذرّة ومجموعتها الخاصّة، فتبرهن على أ نّها مركّبة من مادّة أبسط وصورة. ولا يتناقض ذلك مع الحقائق العلمية؛ لأنّ هذا التحليل والتركيب الفلسفي ليس ممّا يمكن أن يظهر في الحقل التجريبي.
وكما أخطأ هؤلاء في زعمهم أنّ التجارب العلمية تدلّل على صحّة النظرية بكاملها، مع أ نّها متّصلة بجانبها العلمي فقط، كذلك أخطأ عدّة من الفلاسفة الأقدمين الذين رفضوا الجانب الفلسفي من النظرية، فعمّموا الرفض للناحية العلمية أيضاً، وادّعوا- من دون سند علمي أو فلسفي- أنّ الأجسام متّصلة، وأنكروا الذرّة والفراغ في محتواها الداخلي.
والموقف الذي يجب أن نقفه في المسألة هو: أن نقبل الجانب العلمي من النظرية، الذي يؤكّد أنّ الأجسام ليست متّصلة، وأ نّها مركّبة من ذرّات دقيقة إلى الغاية؛ فإنّ هذا الجانب قد كشفت عنه الفيزياء الذرّية بصورة لا تدع مجالًا للشكّ.
وأمّا الجانب الفلسفي من النظرية القائل ببساطة تلك الوحدات التي تكشف عنها الفيزياء الذرّية، فنرفضه؛ لأنّ الفلسفة تبرهن على أنّ الوحدة التي تكشف عنها الفيزياء- مهما كانت دقيقة- مركّبة من صورة ومادّة. ونطلق على هذه المادّة اسم المادّة الفلسفية؛ لأنّها المادّة الأبسط التي يثبت وجودها بطريقة فلسفية لا علمية. وقد حان لنا الآن أن ندرس هذه الطريقة الفلسفية.

384

تصحيح أخطاء:

وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نعرف أنّ النظرية الذرّية ل (ديمقريطس)- القائلة بأنّ أصل العالم عبارة عن ذرّات أصلية لا تتجزّأ- لها جانبان: أحدهما علمي، والآخر فلسفي.
فالجانب العلمي هو: أنّ بنية الأجسام مركّبة من ذرّات صغيرة، يتخلّل بينها الفراغ، وليس الجسم كتلة متّصلة، وإن بدا لحواسنا كذلك، وتلك الوحدات الصغيرة هي مادّة الأجسام جميعاً.
والجانب الفلسفي هو: أنّ ديمقريطس زعم أنّ تلك الوحدات والذرّات ليست مركّبة من مادّة وصورة؛ إذ ليست لها مادّة أعمق وأبسط منها، فهي المادّة الفلسفية، أي: أعمق وأبسط مادّة للعالم.
وقد اختلط هذان الجانبان من النظرية على كثير من المفكّرين، فبدا لهم أنّ عالم الذرّة الذي كشفه العلم الحديث بالأساليب التجريبية، يبرهن على صحّة النظرية الذرّية. فلم يعد من الممكن تخطئة (ديمقريطس) في تفسيره للأجسام- كما خطّأه الفلاسفة السابقون- بعد أن تجلّى للعلم عالم الذرّة الجديد، وإن اختلف التفكير العلمي الحديث عن تفكير ديمقريطس في تقدير حجم الذرّة وتصوير بنيتها.
ولكن الواقع: أنّ التجارب العلمية الحديثة عن الذرّة إنّما تثبت صحّة الجانب العلمي من نظرية ديمقريطس، فهي تدلّ على أنّ الجسم مركّب من وحدات ذرّية، ويشتمل على فراغ يتخلّل بين تلك الذرّات، وليس متّصلًا كما يصوّره الحسّ لنا. وهذه هي الناحية العلمية من النظرية التي يمكن للتجربة أن تكشف عنها. وليس للفلسفة كلمة في هذا الموضوع؛ لأنّ الجسم من ناحية فلسفية

383

وهذا السؤال يعتبر من أهمّ الأسئلة الرئيسية في التفكير البشري، العلمي والفلسفي. ويقصد بالمادّة العلمية أعمق ما تكشفه التجربة من موادّ للعالم، فهي الأصل الأوّل في التحليلات العلمية. ويقصد بالمادّة الفلسفية أعمق مادّة للعالم، سواءٌ أكان من الممكن ظهورها في المجال التجريبي أم لا.
وقد مرّ بنا التحدّث عن المادّة العلمية، وعرفنا أنّ أعمق مادّة توصّل إليها العلم هي الذرّة بأجزائها من النوى والكهارب، التي هي تكاثف خاصّ للطاقة.
ففي العرف العلمي مادّة الكرسي هي الخشب، ومادّة الخشب هي العناصر البسيطة التي يأتلف منها، وهي: الاوكسجين، والكربون، والهيدروجين. ومادّة هذه العناصر هي الذرّات، ومادّة الذرّة هي أجزاؤها الخاصّة من البروتونات والألكترونات وغيرهما. وهذه المجموعة الذرّية، أو الشحنات الكهربائية المتكاثفة، هي المادّة العلمية العميقة التي أثبتها العلم بالوسائل التجريبية.
وهنا يجي‏ء دور المادّة الفلسفية؛ لنعرف ما إذا كانت الذرّة في الحقيقة هي أعمق وأبسط مادّة للعالم، أو إنّها بدورها مركّبة- أيضاً- من مادّة وصورة، فالكرسي كما عرفنا مركّب من مادّة وهي الخشب، وصورة هي هيئته الخاصّة.
والماء مركّب من مادّة وهي ذرّات الاوكسجين والهيدروجين، وصورة وهي خاصية السيلان، التي تحصل عند التركيب الكيماوي بين الغازين. فهل الذرّات الدقيقة هي المادّة العلمية للعالم كذلك أيضاً؟
والرأي الفلسفي السائد هو: أنّ المادّة الفلسفية أعمق من المادّة العلمية، بمعنى: أنّ المادّة الاولى في التجارب العلمية ليست هي المادّة الأساسية في النظر الفلسفي، بل هي مركّبة من مادّة- أبسط منها- وصورة، وتلك المادّة الأبسط لا يمكن إثباتها بالتجربة، وإنّما يبرهن على وجودها بطريقة فلسفية.