کتابخانه
429

علمية، فأقامها على أساس الفعل المنعكس الشرطي. ولكي نفهم ذلك جيّداً يجب أن نقول كلمة عن الفعل المنعكس الشرطي الذي اكتشفه (بافلوف) إذ حاول مرّة أن يجمع لعاب الكلب من إحدى الغدد اللعابية، فأعدّ جهازاً لذلك، وأعطى الحيوان طعاماً لإثارة مجرى اللعاب، فلاحظ أنّ اللعاب بدأ يسيل من كلب متمرّن قبل أن يوضع الطعام في فمه بالفعل؛ لمجرّد رؤية الطبق الذي فيه الطعام، أو الإحساس باقتراب الخادم الذي تعوّد إحضاره.
ومن الواضح: أنّ رؤية الشخص أو خطواته لا يمكن اعتبارها منبّهاً طبيعياً لهذه الاستجابة، كما ينبّهها وضع الطعام في الفم، بل لا بدّ أن تكون هذه الأشياء قد ارتبطت بالاستجابة الطبيعية في مجرى التجربة الطويل حتّى استخدمت كعلامة مبدئية على المنبّه الفعلي.
وعلى هذا يكون إفراز اللعاب عند وضع الطعام في الفم فعلًا منعكساً طبيعياً، يثيره منبّه طبيعي. وأمّا إفراز اللعاب عند اقتراب الخادم أو رؤيته، فهو فعل منعكس شرطي، اثير بسبب منبّه مشروط، يستعمل كعلامة على المنبّه الطبيعي، ولولا إشراطه بالمنبّه الطبيعي، لما وجدت استجابة بسببه.
وبسبب عمليات إشراط كهذا وجد أوّل نظام إشاري لدى الكائن الحي، تلعب فيه المنبّهات المشروطة دوراً في الإشارة إلى المنبّه الطبيعي، واستثارة الاستجابة التي يستحقّها. وبعد ذلك وجد النظام الإشاري الثاني الذي عوّض فيه عن المنبّهات الشرطية في النظام الأوّل، بإشارات ثانوية إلى تلك المنبّهات الشرطية التي اشرطت هذه الإشارات الثانوية بها في تجارب متكرّرة، وأصبح من الممكن الحصول على الاستجابة، أو الفعل المنعكس بالإشارة الثانوية بسبب إشراطها بالإشارة الأوّلية، كما أتاح النظام الإشاري الأوّل الحصول عليها بالإشارة الأوّلية بسبب إشراطها بالمنبّه الطبيعي، وتعتبر اللغة هي الإشارات‏

428

مادّية عند تصعيدها إلى أعلى من خلال الحركة الجوهرية، والفرق بين المادّية والروحية فرق درجة فقط، كالفرق بين الحرارة الشديدة والحرارة الأقلّ منها درجة.
ولكن هذا لا يعني أنّ الروح نتاج للمادّة وأثر من آثارها، بل هي نتاج للحركة الجوهرية، والحركة الجوهرية لا تنبع من نفس المادّة؛ لأنّ الحركة- كلّ حركة- خروج للشي‏ء من القوّة إلى الفعل تدريجياً- كما عرفنا في مناقشتنا للتطوّر عند الديالكتيك- والقوّة لا تصنع الفعل، والإمكان لا يصنع الوجود، فللحركة الجوهرية سببها خارج نطاق المادّة المتحرّكة. والروح التي هي الجانب غير المادّي من الإنسان نتيجة لهذه الحركة. والحركة نفسها هي الجسر بين المادّية والروحية.

المنعكس الشرطي والإدراك‏

ليس اختلافنا مع الماركسية في حدود مفهومها المادّي للإدراك فحسب؛ لأنّ المفهوم الفلسفي للحياة العقلية وإن كان هو النقطة الرئيسية في معتركنا الفكري معها، ولكنّنا نختلف- أيضاً- في مدى علاقة الإدراك والشعور بالظروف الاجتماعية، والأحوال المادّية الخارجية. فالماركسية تؤمن بأنّ الحياة الاجتماعية للإنسان هي التي تحدّد له مشاعره، وأنّ هذه المشاعر أو الأفكار تتطوّر تبعاً لتطوّر الظروف الاجتماعية والمادّية، ولمّا كانت هذه الظروف تتطوّر تبعاً للعامل الاقتصادي، فالعامل الاقتصادي- إذن- هو العامل الرئيسي في التطوّر الفكري.
وقد حاول (جورج بوليتزير) أن يشيّد هذه النظرية الماركسية على قاعدة

427

وهوّته الفاصلة بين العقل والجسم.

وقد أدّت المشاكل التي تنجم عن تفسير الإنسان على أساس الروح والجسد معاً إلى بلورة اتّجاه حديث في التفكير الاوروبي إلى تفسير الإنسان بعنصر واحد، فنشأت المادّية في علم النفس الفلسفي القائلة: إنّ الإنسان مجرّد مادّة وليس غير، كما تولّدت النزعة المثالية التي تجنح إلى تفسير الإنسان كلّه تفسيراً روحياً.

وأخيراً، وَجَدَ تفسير الإنسان على أساس العنصرين الروحي والمادّي تصميمه الأفضل على يد الفيلسوف الإسلامي (صدر المتألّهين الشيرازي)، فقد استكشف هذا الفيلسوف الكبير حركة جوهرية في صميم الطبيعة، هي الرصيد الأعمق لكلّ الحركات الطارئة المحسوسة التي تزخر بها الطبيعة، وهذه الحركة الجوهرية هي الجسر الذي كشفه الشيرازي بين المادّة والروح؛ فإنّ المادّة في حركتها الجوهرية تتكامل في وجودها، وتستمرّ في تكاملها حتّى تتجرّد عن مادّيتها ضمن شروط معيّنة، وتصبح كائناً غير مادّي، أي: كائناً روحياً، فليس بين المادّي والروحي حدود فاصلة، بل هما درجتان من درجات الوجود والروح بالرغم من أ نّها ليست مادّية ذات نسب مادّي؛ لأنّها المرحلة العليا لتكامل المادّة في حركتها الجوهرية[1].

وفي هذا الضوء نستطيع أن نفهم العلاقة بين الروح والجسم، ويبدو من المألوف أن يتبادل العقل والجسم- الروح والمادّة- تأثيراتهما؛ لأنّ العقل ليس شيئاً مفصولًا عن المادّة بهوّة سحيقة كما كان يُخيّل لديكارت حين اضطرّ إلى إنكار التأثير المتبادل والقول بمجرّد الموازنة، بل إنّ العقل نفسه ليس إلّاصورة

 

[1] يراجع شرح الهداية الأثيريّة لصدر الدين الشيرازي: 214- 218

426

شي‏ء من التفسير. وهو الذي عاق التفكير الاوروبي الحديث- على الأغلب- عن الأخذ بفكرة الازدواج بعد أن رفض التفسير الأفلاطوني القديم للعلاقة بين الروح والجسم بوصفها علاقة بين قائد وعربة يسوقها، فقد كان أفلاطون يتصوّر أنّ الروح جوهر قديم مجرّد عن المادّة يعيش في عالم وراء دنيا المادّة، ثمّ يهبط إلى البدن ليدبّره كما يهبط السائق من منزله ويدخل العربة ليسوقها ويدبّر أمرها[1].

وواضح: أنّ هذه الثنائية الصريحة والهوّة الفاصلة بين الروح والجسم في تفسير أفلاطون لا تصلح لتفسير العلاقة الوثيقة بينهما التي تجعل كلّ إنسان يشعر بأ نّه كيان موحّد، وليس شيئين من عالَمين مستقلّين التقيا على ميعاد.

وقد ظلّ التفسير الأفلاطوني قاصراً عن حلّ المشكلة بالرغم من التعديلات التي اجريت على التفسير الأفلاطوني من قِبل أرسطو بإدخال فكرة الصورة والمادّة، ومن قِبل ديكارت الذي جاء بنظرية الموازنة بين العقل والجسم القائلة: بأنّ العقل والجسم- الروح والجسد- يسيران على خطّين متوازيين، وكلّ حادث يقع في أحدهما يصاحبه حادث يقابله يقع في الآخر، وهذا التلازم بين الأحداث العقلية والجسمية لا يعني أنّ أحدهما سبب للآخر؛ إذ لا معنى للتأثير المتبادل بين شي‏ء مادّي وآخر غير مادّي، بل إنّ هذا التلازم بين النوعين من الأحداث مردّه إلى العناية الإلهية التي شاءت أن يصاحب الإحساس بالجوع- دائماً- حركة اليد لتناول الطعام دون أن يكون الإحساس سبباً للحركة[2].

ومن الواضح: أنّ نظرية الموازنة هذه تعبير جديد عن ثنائية أفلاطون،

 

[1] يراجع أفلاطون، فالتزر، ت: لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلاميّة: 55

[2] راجع: قصّة الفلسفة الحديثة 1: 81- 83، وموسوعة الفلسفة 1: 497، والموسوعة الفلسفيّة المختصرة: 192- 193

425

الجانب الروحي من الإنسان‏

ونصل هنا إلى نتيجة خطيرة، وهي: أنّ للإنسان جانبين: أحدهما مادّي يتمثّل في تركيبه العضوي، والآخر روحي لامادّي، وهو مسرح النشاط الفكري والعقلي، فليس الإنسان مجرّد مادّة معقّدة، وإنّما هو مزدوج الشخصية من عنصر مادّي، وآخر لامادّي.
وهذا الازدواج يجعلنا نجابه موقفاً عسيراً في سبيل استكشاف نوعية العلاقة والصلة بين الجانبين المادّي والروحي من الإنسان، ونحن نعلم قبل كلّ شي‏ء: أنّ العلاقة بينهما وثيقة حتّى إنّ أحدهما يؤثّر في الآخر باستمرار: فإذا خُيّل إلى شخص أ نّه يرى شبحاً في الظلام، اعترته قشعريرة، وإذا كتب على شخص أن يخطب في حفل عام، أخذ العرق يتصبّب منه، وإذا بدأ أحدنا يفكّر، حدث نشاط خاصّ في جهازه العصبي، فهذا أثر العقل أو الروح في الجسم، كما أنّ للجسم أثره في العقل، فإذا دبّت الشيخوخة في الجسد، وهن النشاط العقلي، وإذا أفرط شارب الخمر في السكر قد يرى الشي‏ء شيئين.
فكيف يتاح للجسم والعقل أن يؤثّر أحدهما في الآخر إذا كانا مختلفين لا يشتركان في صفة من الصفات؟ فالجسم قطعة من المادّة له خصائصها من ثقل وكتلة وشكل وحجم، وهو يخضع لقوانين الفيزياء. وأمّا العقل- أو الروح- فهو موجود غير مادّي ينتسب إلى عالم وراء عالم المادّة، ومع هذه الهوّة الفاصلة يصعب تفسير التأثير المتبادل بينهما. فقطعة من الحجارة يمكن أن تسحق نبتة في الأرض؛ لأنّهما معاً مادّيان، وقطعتان من الحجر يمكن أن تصطكّا وتتفاعلا. وأمّا أن يحدث الاصطكاك والتفاعل بين موجودين من عالمين فهذا ما يحتاج إلى‏

424

ولكن المسألة الفلسفية الاخرى التي تنبثق ممّا سبق، هي: أنّ الإدراكات والصور التي تتشكّل منها حياتنا العقلية إذا لم تكن صوراً قائمة بعضوٍ مادّي، فأين هي قائمة إذن؟ وهذا السؤال هو الذي دعا إلى استكشاف حقيقة فلسفية جديدة، وهي: أنّ تلك الصور والإدراكات تجتمع أو تتتابع كلّها على صعيد واحد، هو: صعيد الإنسانية المفكّرة، وليست هذه الإنسانية المفكّرة شيئاً من المادّة، كالدماغ أو المخّ، بل هي درجة من الوجود مجرّدة عن المادّة، يصلها الكائن الحيّ في تطوّره وتكامله. فالمدرِك والمفكّر هو هذه الإنسانية اللامادّية.
ولكي يتّضح الدليل على ذلك بكلّ جلاء يجب أن نعلم أ نّا بين ثلاثة فروض:
إحداها أنّ إدراكنا لهذه الحديقة أو لذلك النجم صورة مادّية قائمة بجهازنا العصبي، وهذا ما نبذناه، ودلّلنا على رفضه.
وثانيها أنّ إدراكاتنا ليست صوراً مادّية، بل هي صور مجرّدة عن المادّة، وموجودة بصورة مستقلّة عن وجودنا. وهذا افتراض غير معقول أيضاً؛ لأنّها إذا كانت موجودة بصورة مستقلّة عنّا، فما هي صلتنا بها؟! وكيف أصبحت إدراكات لنا؟!
وإذا نفضنا يدينا من هذا وذاك، ولم يبقَ لدينا إلّاالتفسير الثالث للموقف، وهو: أنّ تلك الإدراكات والصور العقلية ليست مستقلّة في وجودها عن الإنسان، كما أ نّها ليست حالة أو منعكسة في عضو مادّي، وإنّما هي ظواهر مجرّدة عن المادّة، تقوم بالجانب اللامادّي من الإنسان. فهذه الإنسانية اللامادّية (الروحية) هي التي تدرك وتفكّر، لا العضو المادّي، وإن كان العضو المادّي يهيّئ لها شروط الإدراك؛ للصلة الوثيقة بين الجانب الروحي والجانب المادّي من الإنسان.

423

الصورة المادّية المنعكسة. وهذا يبرهن بوضوح على أنّ العقل والإدراك ليس مادّياً، وأنّ الصورة المدرَكة ميتافيزيقية.
ومن الواضح: أنّ هذا التفسير الفلسفي لظاهرة الثبات لا يتعارض مع أيّ تفسير علمي لها يمكن أن يقدّم في هذا المضمار. فيمكنك أن تفسّر الظاهرة بأنّ ثبات الموضوعات المدرَكة- في مظاهرها المختلفة- يرجع إلى الخبرة والتعلّم، كما يمكنك إن شئت أن تقول- في ضوء التجارب العلمية- إنّ هناك علاقات محدّدة بين الثبات في مختلف مظاهره، والتنظيم المكاني للموضوعات الخارجية التي ندركها؛ فإنّ هذا لا يعني حلّ المشكلة من ناحية فلسفية؛ إذ أنّ الصورة المبصرة- التي لم تتغيّر طبقاً للصورة المادّية، بل ظلّت ثابتة بفضل خبرة سابقة، أو بحكم تنظيمات مكانية خاصّة- لا يمكن أن تكون هي الصورة المنعكسة عن الواقع الموضوعي على مادّة الجهاز العصبي؛ لأنّ هذه الصورة المنعكسة تتغيّر تبعاً لزيادة البعد بين العين والواقع، وتلك الصورة المبصرة ثابتة.
والنتيجة الفلسفية التي نخرج بها من هذا البحث هي: أنّ الإدراك ليس مادّياً، كما تزعم الفلسفة المادّية؛ لأنّ مادّية الشي‏ء تعني أحد أمرين: إمّا إنّه بالذات مادّة، وإمّا إنّه ظاهرة قائمة بالمادّة. والإدراك ليس بذاته مادّة، ولا هو ظاهرة قائمة بعضوٍ مادّي كالدماغ، أو منعكسة عليه؛ لأنّه يختلف في القوانين التي تسيطر عليه عن الصورة المادّية المنعكسة على العضو المادّي، فهو يملك من الخصائص الهندسية أوّلًا، ومن الثبات ثانياً، ما لا تملكه أيّ صورة مادّية منعكسة على الدماغ. وعلى هذا الأساس تؤمن الميتافيزيقية بأنّ الحياة العقلية- بما تزخر به من إدراكات وصور- أثرى ألوان الحياة وأرقاها؛ لأنّها حياة ترتفع عن مستوى المادّة وخصائصها.

422

لأنّ ذلك لا يهمّ البحث الفلسفي، فلنأخذ بها كمسلّمة علمية، ولنفترض أ نّها صحيحة؛ فإنّ هذا الافتراض لا يغيّر من موقفنا الفلسفي شيئاً، كما يظهر ذلك في ضوء ما قدّمناه من تحديدات للدراسة الفلسفية في بحوث النفس؛ إذ أنّ مؤدّى النظرية هو: أنّ الصورة العقلية المدرَكة بخصائصها الهندسية، وطولها وعرضها وعمقها، لم توجد بسبب الإحساس البصري البسيط فحسب، بل بالتعاون مع إحساسات بصرية، وحركات عضلية اخرى، اكتسبت مدلولًا هندسياً بارتباطها باللمس واقترانها معه في التجارب المتكرّرة، وسوف نواجه بعد التسليم بهذا نفس السؤال الفلسفي الأوّل، وهو السؤال عن هذه الصورة العقلية التي كوّنها الإحساس البصري بالاشتراك مع أحاسيس وحركات اخرى، أين توجد؟ وهل هي صورة مادّية قائمة في عضوٍ مادّي، أو صورة ميتافيزيقية مجرّدة عن المادّة؟ ومرّة اخرى نجد أنفسنا مضطرّين إلى الأخذ بوجهة النظر الميتافيزيقي؛ لأنّ هذه الصورة بخصائصها وامتدادها آلاف الأمتار لا يمكن أن توجد في عضوٍ مادّي صغير، كما لا يمكن أن توجد على ورقة صغيرة، فيجب- إذن- أن تكون صورة مجرّدة عن المادّة.
هذا ما يتّصل بظاهرة الخصائص الهندسية للصورة العقلية المدرَكة.
وأمّا الظاهرة الثانية التي يتاح لمفهومنا الفلسفي أن يرتكز عليها، فهي ظاهرة الثبات، ونعني بها: إنّ الصورة العقلية المدرَكة تميل إلى الثبات، ولا تتغيّر طبقاً لتغيّرات الصورة المنعكسة على الجهاز العصبي. فهذا قلم إذا وضعناه على بعد متر واحد منّا، انعكست عنه صورة ضوئية خاصّة، وإذا ضاعفنا المسافة التي تفصلنا عنه، ونظرنا إليه على بعد مترين، فإنّ الصورة التي يعكسها سوف تقلّ إلى نصف ما كانت عليه في حالتها الاولى، مع أنّ إدراكنا لحجم القلم لن يتغيّر تغيّراً يذكر، أي: أنّ الصورة العقلية للقلم التي نبصرها تبقى ثابتة بالرغم من تغيّر

421

الميتافيزيقي للإدراك.
وقد يخطر هنا على بعض الأذهان أنّ مسألة إدراك الصورة في أشكالها، وحجومها، وأبعادها، ومسافاتها، قد أجاب عليها العلم، وعالجتها البحوث السيكولوجية؛ إذ أوضحت أنّ هناك عدّة عوامل بصرية وعضلية تساعدنا على إدراك تلك الخصائص الهندسية.
فحاسّة البصر لا تدرك سوى الضوء واللون، وأمّا إدراك الخصائص الهندسية للأشياء، فهو يتوقّف على ارتباط اللمس بحركات وأحاسيس خاصّة.
فلو جرّدنا الإحساس البصري عن كلّ إحساس آخر، لبدت لنا نقاط من الضوء واللون فحسب، ولما اتيح لنا إدراك الأشكال والحجوم، حتّى إنّا كنّا نعجز عن التمييز بين كرة ومكعّب؛ وذلك لأنّ الكيفيات الأوّلية والأشكال من مدركات اللمس، وبتكرار التجربة اللمسية ينشأ تقارن بين مدركات اللمس من تلك الكيفيات، وبين عدّة من الإحساسات البصرية كاختلافات خاصّة في الأضواء والألوان المبصرة، وعدّة من الحركات العضلية كحركة تكييف العين لرؤية الأشياء القريبة والبعيدة، وحركة التلاقي في حالة الإبصار بالعينين. وبعد أن ينشأ هذا التقارن يمكننا أن نستغني في إدراك الحجوم والأشكال عن الإحساسات اللمسية بما اقترن بها من إحساسات وحركات عضلية. فإذا أبصرنا كرة بعد هذا، استطعنا أن نحدّد شكلها وحجمها دون أن نلمسها، اعتماداً على الإحساسات والحركات العضلية التي اقترنت بمدركات اللمس.
وهكذا ندرك أخيراً الأشياء بخصائصها الهندسية، لا بالإحساس البصري فحسب، بل بالإبصار مع ألوان اخرى من حركات حسّية، أصبحت ذات مدلول هندسي بسبب اقترانها بمدركات اللمس، غير أنّ العادة لا تجعلنا نشعر بذلك.
ونحن لا نريد أن ندرس نظرية العوامل العضلية والبصرية من ناحية علمية؛