کتابخانه
487
مصادر الطبيعة للإنتاج‏

ويمكننا تقسيم المصادر الطبيعيّة للإنتاج في العالم الإسلامي إلى عدّة أقسام:
1- الأرض: وهي أهمّ ثروات الطبيعة التي لا يكاد الإنسان يستطيع بدونها أن يمارس أيّ لون من ألوان الإنتاج.
2- الموادّ الأوّليّة التي تحويها الطبقة اليابسة من الأرض، كالفحم والكبريت والبترول والذهب والحديد، ومختلف أنواع المعادن.
3- المياه الطبيعيّة التي تعتبر شرطاً من شروط الحياة المادّية للإنسان، وتلعب دوراً خطيراً في الإنتاج الزراعي والمواصلات.
4- بقيّة الثروات الطبيعيّة، وهي محتويات البحار والأنهار من الثروات التي تستخرج بالغوص أو غيره، كاللآلئ والمرجان، والثروات الطبيعيّة التي تعيش على وجه الأرض من حيوان ونبات، والثروات الطبيعيّة المنتشرة في الجوّ كالطيور والاوكسجين، والقوى الطبيعيّة المنبثّة في أرجاء الكون، كقوّة انحدار الشلّالات من الماء التي يمكن تحويلها إلى تيّار كهربائي ينتقل بواسطة الأسلاك إلى أيّ نقطة، وغير ذلك من ذخائر الطبيعة وثروتها.

486

الإسلام للأفراد إشباعها عن طريق الملكيّة الخاصّة التي أقرّها ووضع لها أسبابها وشروطها.
وحين تقوم العلاقات بين الأفراد ويوجد المجتمع يكون لهذا المجتمع حاجاته العامّة أيضاً، التي تشمل كلّ فرد بوصفه جزءاً من المركّب الاجتماعي.
وقد ضمن الإسلام للمجتمع إشباع هذه الحاجات عن طريق الملكيّة العامّة لبعض مصادر الإنتاج.
وكثيراً ما لا يتمكّن بعض الأفراد من إشباع حاجاتهم عن طريق الملكيّة الخاصّة، فيمنى هؤلاء بالحرمان، ويختلّ التوازن العامّ، وهنا يضع الإسلام الشكل الثالث للملكيّة، ملكيّة الدولة؛ ليقوم وليّ الأمر بحفظ التوازن العامّ.
وهكذا يتمّ توزيع المصادر الطبيعيّة للإنتاج بتقسيم هذه المصادر إلى حقول الملكيّة الخاصّة، والملكيّة العامّة، وملكيّة الدولة.

485

الاجتماعيّة التي تساعده على النموّ والتطوّر. فتوزيع مصادر الإنتاج يقوم دائماً على أساس خدمة الإنتاج نفسه، ويتكيّف وفقاً لمتطلّبات نموّه وارتقائه.
ففي مرحلة الإنتاج الزراعي من التاريخ كان شكل الإنتاج يحتّم إقامة توزيع المصادر على أساس إقطاعي، بينما تفرض المرحلة التاريخيّة للإنتاج الصناعي الآلي إعادة التوزيع من جديد على أساس امتلاك الطبقة الرأسماليّة لكلّ مصادر الإنتاج، وفي درجة معيّنة من نموّ الإنتاج الآلي يصبح من المحتوم تبديل الطبقة الرأسماليّة بالطبقة العاملة، وإعادة التوزيع على هذا الأساس.
والإسلام لا يتّفق في مفهومه عن توزيع ما قبل الإنتاج مع الرأسماليّة، ولا مع الماركسيّة. فهو لا يؤمن بمفاهيم الرأسماليّة عن الحرّية الاقتصاديّة، كما مرّ بنا في بحث (مع الرأسماليّة). وكذلك لا يقرّ الصلة الحتميّة التي تضعها الماركسيّة بين ملكيّة المصادر وشكل الإنتاج السائد، كما رأينا في بحث (اقتصادنا في معالمه الرئيسيّة)، وهو لذلك يحدّ من حرّية تملّك الأفراد لمصادر الإنتاج، ويفصل توزيع تلك المصادر عن شكل الإنتاج؛ لأنّ المسألة في نظر الإسلام ليست مسألة أداة إنتاج تتطلّب نظاماً للتوزيع يلائم سيرها ونموّها لكي يتغيّر التوزيع كلّما استجدّت حاجة الإنتاج إلى تغيير، وتوقّف نموّه على توزيع جديد، وإنّما هي مسألة إنسان له حاجات وميول يجب إشباعها في إطار يحافظ على إنسانيّته وينمّيها. والإنسان هو الإنسان بحاجاته العامّة وميوله الأصيلة، سواء كان يحرث الأرض بيديه، أم يستخدم قوى البخار والكهرباء، ولهذا يجب أن يتمّ توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج بشكل يكفل إشباع تلك الحاجات والميول ضمن إطار إنساني يتيح للإنسان أن ينمّي وجوده وإنسانيّته داخل ذلك الإطار العامّ.
فكلّ فرد- بوصفه إنساناً خاصّاً- له حاجات لا بدّ من إشباعها، وقد أتاح‏

484

توزيع الثروة المنتجة بما تضمّه من سلع استهلاكيّة وإنتاجيّة.
وأمّا العمل فهو العنصر المعنوي من مصادر الإنتاج، وليس ثروة مادّية تدخل في نطاق الملكيّة الخاصّة أو العامّة.
وعلى هذا الأساس تكون الطبيعة وحدها من بين مصادر الإنتاج موضوع درسنا الآن؛ لأنّها تمثّل العنصر المادّي السابق على الإنتاج.

اختلاف المواقف المذهبيّة من توزيع الطبيعة:

والإسلام في علاجه لتوزيع الطبيعة يختلف عن الرأسماليّة والماركسيّة في العموميّات وفي التفاصيل.
فالرأسماليّة تربط ملكيّة مصادر الإنتاج ومصير توزيعها بأفراد المجتمع أنفسهم، وما يبذله كلّ واحد منهم من طاقات وقوى- داخل نطاق الحرّية الاقتصاديّة الموفّرة للجميع- في سبيل الحصول على أكبر نصيب ممكن من تلك المصادر، فتسمح لكلّ فرد بتملّك ما ساعده الحظّ وحالفه التوفيق على الظفر به من ثروات الطبيعة ومرافقها.
وأمّا الماركسيّة فهي ترى تبعاً لطريقتها العامّة في تفسير التاريخ: أنّ ملكيّة مصادر الإنتاج تتّصل اتّصالًا مباشراً بشكل الإنتاج السائد، فكلّ شكل من أشكال الإنتاج هو الذي يقرّر- في مرحلته التاريخيّة- طريقة توزيع المصادر المادّية للإنتاج، ونوع الأفراد الذين يجب أن يملكوها. ويظلّ هذا التوزيع قائماً حتّى يدخل التاريخ في مرحلة اخرى، ويتّخذ الإنتاج شكلًا جديداً فيضيق هذا الشكل الجديد ذرعاً بنظام التوزيع السابق، ويتعثّر به في طريق نموّه وتطوّره، حتّى يتمزّق نظام التوزيع القديم بعد تناقض مرير مع شكل الإنتاج الحديث، وينشأ توزيع جديد لمصادر الإنتاج يحقّق لشكل الإنتاج الحديث الشروط

483

الإسلامي هي التوزيع بدلًا عن الإنتاج، كما كان في الاقتصاد السياسي التقليدي؛ لأنّ توزيع مصادر الإنتاج نفسها يسبق عمليّة الإنتاج، وكلّ تنظيم يتّصل بنفس عمليّة الإنتاج أو السلع المنتجة يصبح في الدرجة الثانية.
وسوف نبدأ الآن بتحديد موقف الإسلام من توزيع المصادر الأساسيّة، توزيع الطبيعة بما تضمّه من ثروات.

المصدر الأصيل للإنتاج:

وقبل أن نبدأ بالتفصيلات التي يتمّ توزيع المصادر الأساسيّة وفقاً لها يجب أن نحدّد هذه المصادر.
ففي الاقتصاد السياسي يذكر عادةً أنّ مصادر الإنتاج هي:
1- الطبيعة.
2- رأس المال.
3- العمل، ويضمّ التنظيم الذي يمارسه المنظّم للمشروع.
غير أ نّنا إذ نتحدّث عن توزيع المصادر في الإسلام وأشكال ملكيّتها لا بدّ لنا أن نستبعد من مجال البحث المصدرين الأخيرين، وهما: رأس المال، والعمل.
أمّا رأس المال فهو في الحقيقة ثروة منتجة، وليس مصدراً أساسيّاً للإنتاج؛ لأ نّه يعبّر اقتصاديّاً عن كلّ ثروة تمّ إنجازها وتبلورت خلال عمل بشري لكي تساهم من جديد في إنتاج ثروة اخرى. فالآلة التي تنتج النسيج ليست ثروة طبيعيّة خالصة، وإنّما هي مادّة طبيعيّة كيّفها العمل الإنساني خلال عمليّة إنتاج سابقة. ونحن إنّما نبحث الآن في التفصيلات التي تنظّم توزيع ما قبل الإنتاج، أي توزيع الثروة التي منحها اللَّه لمجتمعٍ قبل أن يمارس نشاطاً اقتصاديّاً وعملًا إنتاجيّاً فيها. وما دام رأس المال وليد إنتاج سابق فسوف يندرج توزيعه في بحث‏

482

من مصادر إنتاج، وإنّما يدرسون توزيع الثروة المنتجة فحسب، أي الدخل الأهلي، لا مجموع الثروة الأهليّة. ويقصدون بالدخل الأهلي: مجموع السلع والخدمات المنتجة، أو بتعبير أصرح: القيمة النقديّة لمجموع المنتوج في بحر سنة مثلًا، فبحث التوزيع في الاقتصاد السياسي هو بحث توزيع هذه القيمة النقديّة على العناصر التي ساهمت في الإنتاج، فيحدّد لكلٍّ من رأس المال والأرض والمنظّم والعامل نصيبه على شكل فائدة وريع وربح واجور.
ولأجل ذلك كان من الطبيعي أن تسبق بحوث الإنتاج بحث التوزيع؛ لأنّ التوزيع ما دام يعني تقسيم القيمة النقديّة للسلع المنتجة على مصادر الإنتاج وعناصره فهو عمليّة تعقب الإنتاج؛ إذ ما لم تنتج سلعة لا معنى لتوزيعها أو توزيع قيمتها، وعلى هذا الأساس نجد أنّ الاقتصاد السياسي يعتبر الإنتاج هو الموضوع الأوّل من مواضيع البحث، فيدرس الإنتاج أوّلًا، ثمّ يتناول قضايا التوزيع.
وأمّا الإسلام فهو يعالج قضايا التوزيع على نطاق أرحب وباستيعاب أشمل؛ لأنّه لا يكتفي بمعالجة توزيع الثروة المنتجة، ولا يتهرّب من الجانب الأعمق للتوزيع- أي توزيع مصادر الإنتاج- كما صنعت الرأسماليّة المذهبيّة، إذ تركت مصادر الإنتاج يسيطر عليها الأقوى دائماً، تحت شعار الحرّية الاقتصاديّة التي تخدم الأقوى وتمهّد له السبيل إلى احتكار الطبيعة ومرافقها، بل إنّ الإسلام تدخّل تدخّلًا إيجابيّاً في توزيع الطبيعة وما تضمّه من مصادر إنتاج، وقسّمها إلى عدّة أقسام، لكلّ قسم طابعه المميّز من الملكيّة الخاصّة، أو الملكيّة العامّة، وملكيّة الدولة، أو الإباحة العامّة .. ووضع لهذا التقسيم قواعده، كما وضع إلى صفّ ذلك أيضاً القواعد التي يقوم على أساسها توزيع الثروة المنتجة، وصمّم التفصيلات في نطاق تلك القواعد.
ولهذا السبب تصبح نقطة الانطلاق، أو المرحلة الاولى في الاقتصاد

481

أحدهما: توزيع المصادر المادّية للإنتاج.
والآخر: توزيع الثروة المنتجة.
فمصادر الإنتاج هي: الأرض، والموادّ الأوّليّة، والأدوات اللازمة لإنتاج السلع المختلفة؛ لأنّ هذه الامور جميعاً تساهم في الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو فيهما معاً.
وأمّا الثروة المنتجة فهي: السلع التي تنجز خلال عمل بشري مع الطبيعة، وتنتج عن عمليّة تركيب بين تلك المصادر المادّية للإنتاج.
فهناك إذن ثروة أوّليّة وهي مصادر الإنتاج، وثروة ثانوية وهي ما يظفر به الإنسان عن طريق استخدام تلك المصادر من متاع وسلع.
والحديث عن التوزيع يجب أن يستوعب كلتا الثروتين: الثروة الامّ، والثروة البنت: مصادر الإنتاج، والسلع المنتجة.
ومن الواضح أنّ توزيع المصادر الأساسيّة للإنتاج يسبق عمليّة الإنتاج نفسها؛ لأنّ الأفراد إنّما يمارسون نشاطهم الإنتاجي وفقاً للطريقة التي يقسِّم بها المجتمع مصادر الإنتاج، فتوزيع مصادر الإنتاج قبل الإنتاج، وأمّا توزيع الثروة المنتجة فهو مرتبط بعمليّة الإنتاج ومتوقّف عليها؛ لأنّه يعالج النتائج التي يسفر عنها الإنتاج.
والاقتصاديّون الرأسماليّون حين يدرسون في اقتصادهم السياسي قضايا التوزيع ضمن الإطار الرأسمالي لا ينظرون إلى الثروة الكلّية للمجتمع وما تضمّه‏

479
توزيع الثروة على مستويين‏[1]

توزيع الثروة يتمّ على مستويين:

 

[1] تتردّد في هذا الفصل عدّة مصطلحاتٍ يجب تحديد معناها منذ البدء:

أ-( مبدأ الملكيّة المزدوجة) وهو المبدأ الإسلامي في الملكيّة الذي يؤمن بأشكال ثلاثة لها، وهي: الملكيّة الخاصّة، وملكيّة الدولة، والملكيّة العامّة.

ب-( ملكيّة الدولة) وتعني تملّك المنصب الإلهي في الدولة الإسلاميّة الذي يمارسه النبيّ أو الإمام للمال، على نحو يخوّل لوليّ الأمر التصرّف في رقبة المال نفسه وفقاً لما هو مسؤول عنه من المصالح، كتملّكه للمعادن مثلًا.

ج-( الملكيّة العامّة) وهي تملّك الامّة أو الناس جميعاً لمال من الأموال.

وكذلك تشمل الملكيّة العامّة الأموال التي تكون رقبتها ملكاً للدولة ولكن لا يسمح لها بالتصرّف في رقبة المال نفسه؛ لورود حقّ عامّ للُامّة أو الناس جميعاً على المال يفرض الانتفاع به مع الاحتفاظ برقبته، فالمركّب من ملكيّة الدولة والحقّ العامّ للُامّة أو للناس جميعاً في الاحتفاظ برقبة المال نطلق عليه اسم الملكيّة العامّة أيضاً. وبهذا يُعرف أنّ ملكيّة الدولة والملكيّة العامّة كمصطلحين لهذا الكتاب يناظران تقريباً مصطلحَي الأموال الخاصّة للدولة والأموال العامّة للدولة في لغة القانون الحديث.-

478