کتابخانه
452

ومن الإطارات الفكريّة التي تلعب دوراً فعّالًا في عمليّة فهم النصّ: الإطار اللغوي، كما إذا كانت الكلمة الأساسيّة في النصّ لفظاً مشحوناً بالتاريخ، أي ممتدّاً ومتطوّراً عبر الزمن، فمن الطبيعي أن يبادر الممارس بصورة عفويّة إلى فهم الكلمة كما تدلّ عليه في واقعها، لا في تاريخها البعيد. وقد يكون هذا المدلول حديثاً في عمر الكلمة، ونتاجاً لغويّاً لمذهب جديد، أو حضارة ناشئة، ولأجل ذلك يجب عند تحديد معنى النصّ الانتباه الشديد إلى عدم الاندماج في إطار لغوي حادث لم يعش مع النصّ منذ ولادته.
وقد يتّفق أن تساهم عمليّة الإشراط الاجتماعي للملكيّة في تضليل الممارس للنصّ عن الفهم الصحيح. فالكلمة حتّى إذا كانت محتفظة بمعناها الأصيل على مرّ الزمن قد تصبح- خلال ملابسات اجتماعيّة معيّنة بيّن مدلولَها فكر خاصّ أو سلوك معيّن- مشروطة بذلك الفكر أو السلوك، حتّى ليطغى أحياناً مدلولها السيكولوجي- على أساس عمليّة الإشراط التي ينتجها وضع اجتماعي معيّن- على مدلولها اللغوي الأصيل، أو يندمج على أقلّ تقدير المعطى اللغوي للكلمة بالمعطى الشرطي النفسي الذي هو في الحقيقة نتيجة وضع اجتماعي يعيشه الممارس أكثر من كونه نتيجة للكلمة ذاتها.
وخذ إليك مثلًا كلمة (الاشتراكيّة) فقد اشرطت هذه الكلمة- خلال مذاهب اجتماعيّة حديثة عاشها الإنسان المعاصر- بكتلة من الأفكار والقِيَم والسلوك، وأصبحت هذه الكتلة تشكّل إلى حدٍّ ما جزءاً مهمّاً من مدلولها الاجتماعي اليوم، وإن لم تكن على الصعيد اللغوي المجرّد تحمل شيئاً من هذه الكتلة. ويناظرها كلمة (الرعيّة) التي حمّلها تاريخ الإقطاع تبعة كبيرة، وأشرطها بسلوك الإقطاعي صاحب الأرض مع الأقنان الذين يزرعون له أرضه. فإذا جئنا إلى نصوص تشتمل على كلمة الاشتراكيّة أو كلمة الرعيّة، كالنصّ القائل: الناس شركاء في‏

451

الحاجة تدعو إلى ذلك، وتشتدّ الضرورة إليه؛ لأنّ الإنسان ليس كالبهائم، بل هو مدني بالطبع، لا بدّ له من مسكن يأوي إليه، وموضع يختصّ به، فلو لم يشرّع لزم الحرج العظيم، بل تكليف ما لا يطاق»[1].

وكلّنا نعترف طبعاً بوجود الملكيّة الخاصّة في الإسلام، وفي الأرض بوجه خاصّ أيضاً، ولكنّ الشي‏ء الذي لا نقرّه هو: أن يستمدّ الحكم في الشريعة الإسلاميّة من الرسوخ التاريخي لفكرة الملكيّة، كما اتّفق لهذا الفقيه الذي لم تمتدّ أبعاده الفكريّة وتصوّراته عن الماضي والحاضر والمستقبل خارج نطاق التاريخ الذي عاشته الملكيّة الخاصّة، فكان يجد وراء كلّ اختصاص في تاريخ حياة الإنسان شبح الملكيّة الخاصّة يبرّره ويفسّره، حتّى لم يعد يستطيع أن يميّز بين الواقع والشبح، فأخذ يعتقد أنّ الإنسان ما دام بحاجة إلى الاختصاص بمسكن يأوي إليه- على حدّ تعبيره- فهو بحاجة إذن إلى أن يتملّكه ملكيّة خاصّة ليختصّ به ويأوي إليه. ولو استطاع هذا الممارس أن يميّز بين سكنى الإنسان مسكناً خاصّاً وبين تملّكه لذلك المسكن ملكيّة خاصّة لَما خدع بالتشابك التاريخي بين الأمرين، ولأمكنه أن يدرك بوضوح: أنّ تكليف ما لا يطاق إنّما هو في منع الإنسان من اتّخاذ مسكن خاصّ، لا في عدم منحه الملكيّة الخاصّة لذلك المسكن. فالطلّاب في مدينة جامعيّة أو الأفراد في مجتمع اشتراكي .. يأوي كلّ منهم إلى مسكن خاصّ دون أن يتملّكه ملكيّة خاصّة.

وهكذا نجد أنّ فقيهنا هذا اتّخذ- بدون قصد- من الجلال التاريخي للملكيّة الخاصّة وما يوحي به من أفكار عن ضرورتها للإنسانيّة إطاراً لتفكيره الفقهي.

 

[1] مفتاح الكرامة 7: 3

450

الإطار الفكري الذي يشعّ بتقديس الملكيّة الخاصّة بدرجة يجعلها فوق سائر الاعتبارات.

وقد كتب فقيه- معلّقاً على النصّ القائل بأنّ الأرض إذا لم يعمرها صاحبها أخذها منه وليّ الأمر واستثمرها لحساب الامّة-: «إنّ الأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية، فإنّها تخالف الاصول والأدلّة العقليّة»[1]. وهو يعني بالأدلّة العقليّة: الأفكار التي تؤكّد قدسيّة الملكيّة، بالرغم من أنّ قدسيّة الملكيّة ودرجة هذه القدسيّة يجب أن تؤخذ من الشريعة، وأمّا حين تقرّر بشكل مسبق وبصورة تتيح لها أن تتحكّم في فهم النصّ التشريعي فهذا هو معنى الاستنباط في إطار فكري مستعار، وإلّا فأيّ دليل عقلي على قدسيّة الملكيّة بدرجة تمنع عن الأخذ بالنصّ التشريعي الآنف الذكر؟! وهل الملكيّة الخاصّة إلّاعلاقة اجتماعيّة بين الفرد والمال؟! والعلاقة الاجتماعيّة افتراض واعتبار يشرّعه المجتمع أو أيّ مشرّع آخر لتحقيق غرض معيّن، فهو لا يدخل في نطاق البحث العقلي المجرّد، ولا العقلي التجريبي.

وكثيراً ما نجد بعض الممارسين يستدلّ في مثل هذا المجال على حرمة انتزاع المال من المالك: بأنّ الغصب قبيح عقلًا، وهو استدلال عقيم؛ لأنّ الغصب هو انتزاع المال بدون حقّ. والشريعة هي التي تحدّد ما إذا كان هذا الانتزاع بحقّ أم لا، فيجب أن نأخذ منها ذلك دون أن نفرض عليها فكرة سابقة. فإذا قرّرت أنّ الانتزاع بغير حقّ كان غصباً، وإذا فرضت لشخص حقّاً في الانتزاع لم يكن الانتزاع غصباً، وبالتالي لم يكن قبيحاً.

وكتب فقيه آخر يستدلّ على تشريع الملكيّة الخاصّة في الأرض: «إن‏

 

[1] السرائر 1: 477

449

التي ألفها هذا المتأوّل من واقعه في حياته ومجتمعه. وقد منعه واقعه عن إدراك غرض هذه الآية الكريمة التي لم تكن تستهدف السماح بالفائدة التي لا تضاعف القرض، وإنّما كانت تريد لفت نظر المرابين إلى النتائج الفظيعة التي قد يسفر عنها الربا؛ إذ يصبح المدين مثقلًا بأضعاف ما استقرضه؛ لتراكم فوائد الربا، ونموّ رأس المال الربوي نموّاً شاذّ اًباستمرار يواكبه تزايد بؤس المدين وانهياره في النهاية.

ولو أراد هذا المتأوّل أن يعيش القرآن خالصاً وبعيداً عن إيحاءات الواقع المعاش وإغرائه لقرأ قوله تعالى: «وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ»[1]، ويفهم أنّ المسألة ليست مسألة حرب مع نوع خاصّ من الربا الجاهلي الذي يضاعف الدَّين أضعافاً مضاعفة، وإنّما هي مسألة مذهب اقتصادي له نظرته الخاصّة إلى رأس المال التي تحدّد له مبرّرات نموّه، وتشجب كلّ زيادة له منفصلة عن تلك المبرّرات مهما كانت ضئيلة، كما يقرّره إلزام الدائن بالاكتفاء برأس ماله، لا يَظلم ولا يُظلم.

ب- دمج النصّ ضمن إطار خاصّ:

وأمّا عمليّة دمج النصّ ضمن إطار معيّن فهي دراسة النصّ في إطار فكري غير إسلامي، وهذا الإطار قد يكون منبثقاً عن الواقع المعاش، وقد لا يكون.

فيحاول الممارس أن يفهم النصّ ضمن ذلك الإطار المعيّن، فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره الفكري أهمله واجتازه إلى نصوص اخرى تواكب إطاره، أو لا تصطدم به على أقلّ تقدير.

وقد رأينا سابقاً كيف اهملت نصوص تحدّ من سلطة المالك، وتسمح أحياناً بانتزاع الأرض منه، وفضّل عليها غيرها لمجرّد أنّ تلك النصوص لا تتّفق مع‏

 

[1] سورة البقرة: 279

448
[الذاتيّة في الاجتهاد وأسبابها:]

ولأجل تعاظم خطر الذاتيّة على العمليّة التي يمارسها كان لزاماً علينا كشف هذه النقطة بوضوح، وتحديد منابع هذا الخطر. وبهذا الصدد يمكننا أن نذكر الأسباب الأربعة التالية بوصفها أهمّ المنابع لخطر الذاتيّة:

أ- تبرير الواقع.

ب- دمج النصّ ضمن إطار خاصّ.

ج- تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه.

د- اتّخاذ موقف معيّن بصورة مسبقة تجاه النصّ.

: أ- تبرير الواقع‏

إنّ عمليّة تبرير الواقع هي المحاولة التي يندفع فيها الممارس بقصد أو بدون قصد إلى تطوير النصوص وفهمها فهماً خاصّاً يبرّر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها، نظير ما قام به بعض المفكّرين المسلمين ممّن استسلم للواقع الاجتماعي الذي يعيشه، وحاول أن يُخضع النصّ للواقع بدلًا عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النصّ، فتأوّل أدلّة حرمة الربا والفائدة، وخرج من ذلك بنتيجة تواكب الواقع الفاسد، وهي: أنّ الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفة، وإنّما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً يتعدّى الحدود المعقولة كما في الآية الكريمة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»[1]. والحدود المعقولة هي الحدود

 

[1] سورة آل عمران: 130

447

الاقتصادي اجتهاديّة فليس من الحتم أن تكون هي الصورة الواقعيّة؛ لأنّ الخطأ في الاجتهاد ممكن. ولأجل ذلك كان من الممكن لمفكّرين إسلاميّين مختلفين أن يقدّموا صوراً مختلفة للمذهب الاقتصادي في الإسلام تبعاً لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كلّ تلك الصور صوراً إسلاميّة للمذهب الاقتصادي؛ لأنّها تعبّر عن ممارسة عمليّة الاجتهاد التي سمح بها الإسلام وأقرّها، ووضع لها مناهجها وقواعدها.
وهكذا تكون الصورة إسلاميّة ما دامت نتيجة لاجتهاد جائز شرعاً، بقطع النظر عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصادي في الإسلام.
هذه هي الحقيقة. وأمّا الخطر الذي يحفّ بعمليّة الاكتشاف القائمة على أساس الاجتهاد من فهم الأحكام والمفاهيم في النصوص فهو خطر العنصر الذاتي، وتسرّب الذاتيّة إلى عمليّة الاجتهاد؛ لأنّ عمليّة الاكتشاف كلّما توفّرت فيها الموضوعيّة أكثر وابتعدت عن مظانّ العطاء الذاتي كانت أدقّ وأنجح في تحقيق الهدف. وأمّا إذا أضاف الممارس خلال عمليّة الاكتشاف وفهم النصوص شيئاً من ذاته وساهم في العطاء فإنّ البحث يفقد بذلك أمانته الموضوعيّة، وطابعه الاكتشافي الحقيقي.
ويشتدّ الخطر ويتفاقم عندما تفصل بين الشخص الممارس والنصوص التي يمارسها فواصل تاريخيّة وواقعيّة كبيرة، وحين تكون تلك النصوص بصدد علاج قضايا يعيش الممارس واقعاً مخالفاً كلّ المخالفة لطريقة النصوص في علاج تلك القضايا، كالنصوص التشريعيّة والمفهوميّة المرتبطة بالجوانب الاجتماعيّة من حياة الإنسان. ولأجل هذا كان خطر الذاتيّة على عمليّة اكتشاف الاقتصاد الإسلامي أشدّ من خطرها على عمليّة الاجتهاد في أحكام اخرى فرديّة: كالحكم بطهارة بول الطائر، أو حرمة البكاء في الصلاة، أو وجوب التوبة على العاصي.

446

والمفاهيم فمن الطبيعي أن نتساءل: كيف سوف نصل إلى هذه الأحكام والمفاهيم نفسها؟
والجواب على هذا السؤال هو: أ نّنا نلتقي بتلك الأحكام والمفاهيم وجهاً لوجه وبصورة مباشرة في النصوص الإسلاميّة التي تشتمل على التشريع أو على وجهة نظر إسلاميّة معيّنة.
فليس علينا إلّاأن نستحضر نصوص القرآن الكريم والسنّة بهذا الصدد؛ لنجمع العدد الكافي من الأحكام والمفاهيم التي نصل بها في نهاية الشوط إلى النظريّات المذهبيّة العامّة.
ولكنّ المسألة بالرغم من ذلك ليست مجرّد تجميع نصوص فحسب؛ لأنّ النصوص لا تبرز في الغالب مضمونها التشريعي أو المفهومي- الحكم أو المفهوم- إبرازاً صريحاً محدّداً لا يقبل الشكّ في أيّ جهة من جهاته، بل كثيراً ما ينطمس المضمون أو تبدو المضامين مختلفة وغير متّسقة، وفي هذه الحالات يصبح فهم النصّ واكتشاف المضمون المحدّد من مجموع النصوص التي تعالج ذلك المضمون عمليّة اجتهاد معقّدة لا فهماً بسيطاً.
ولا نحاول في هذا المجال أن نشير إلى طبيعة هذه العمليّة واصولها وقواعدها ومناهجها الفقهيّة؛ لأنّ ذلك كلّه خارج عن الصدد، وإنّما نريد في هذا الضوء أن نقرّر حقيقةً عن المذهب الاقتصادي، ونحذّر من خطر قد يقع خلال عمليّة الاكتشاف.
أمّا الحقيقة فهي: أنّ الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصادي لمّا كانت متوقّفة على الأحكام والمفاهيم فهي انعكاس لاجتهاد معيّن؛ لأنّ تلك الأحكام والمفاهيم التي تتوقّف عليها الصورة نتيجة لاجتهاد خاصّ في فهم النصوص، وطريقة تنسيقها والجمع بينها، وما دامت الصورة التي نكوّنها عن المذهب‏

445

الأهداف الإسلاميّة وفقاً للظروف، وبالتالي يصبح من المتعذّر تطبيق المذهب الاقتصادي كاملًا بنحو نقطف ثماره ونحقّق أهدافه.
ومن الواضح أنّ هذا الكتاب ما دام يبحث في المذهب الاقتصادي فليس من وظيفته أن يتكلّم عن نظام الحكم في الإسلام، ونوعيّة الشخص أو الجهاز الذي يصحّ أن يخلف الرسول شرعاً في ولايته وصلاحيّاته بوصفه حاكماً، ولا عن الشروط التي يجب أن تتوفّر في ذلك الفرد أو الجهاز .. فإنّ ذلك كلّه خارج عن الصدد. ولهذا سوف نفترض في بحوث الكتاب حاكماً شرعيّاً يسمح له الإسلام بمباشرة صلاحيّات النبيّ كحاكم، ونستخدم هذا الافتراض في سبيل تسهيل الحديث عن المذهب الاقتصادي ومنطقة الفراغ فيه، وتصوير ما يمكن أن يحقّقه من أهداف ويقدّمه من ثمار.
***
وأمّا لماذا تركت في المذهب الاقتصادي الإسلامي منطقة فراغ لم تُملأ من قِبل الشريعة ابتداءً بأحكام ثابتة؟ وما هي الفكرة التي تبرّر وجود هذه المنطقة في المذهب، وترك أمر ملئها إلى الحاكم؟ وبالتالي ما هي حدود منطقة الفراغ على ضوء الأدلّة في الفقه الإسلامي؟ كلّ ذلك سوف نجيب عليه في البحوث المقبلة إن شاء اللَّه تعالى.

عمليّة الاجتهاد والذاتيّة:

عرفنا حتّى الآن أنّ الذخيرة التي نملكها في عمليّة اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام هي الأحكام والمفاهيم. وقد آن لنا أن نقول كلمة عن الطريقة التي نحصل بها على تلك الأحكام والمفاهيم، وما يحفّ هذه الطريقة من مخاطر؛ لأنّنا إذا كنّا سوف نكتشف المذهب الاقتصادي عن طريق الأحكام‏

444

بوصفه نبيّاً مبلّغاً للشريعة الإلهيّة الثابتة في كلّ مكان وزمان ليكون هذا المل‏ء الخاصّ من سيرة النبيّ لذلك الفراغ معبّراً عن صيغ تشريعيّة ثابتة، وإنّما ملأه بوصفه وليّ الأمر المكلّف من قبل الشريعة بمل‏ء منطقة الفراغ وفقاً للظروف.
ونريد أن نخلص من هذا إلى النتائج الآتية:
أوّلًا: أنّ تقويم المذهب الاقتصادي في الإسلام لا يمكن أن يتمّ بدون إدراج منطقة الفراغ ضمن البحث، وتقدير إمكانيّات هذا الفراغ، ومدى ما يمكن أن تساهم عمليّة مَلئه مع المنطقة التي مُلئت من قبل الشريعة ابتداءً في تحقيق أهداف الاقتصاد الإسلامي.
وأمّا إذا أهملنا منطقة الفراغ ودورها الخطير فإنّ معنى ذلك تجزئة إمكانيّات الاقتصاد الإسلامي، والنظر إلى العناصر الساكنة فيه دون العناصر المتحرّكة.
وثانياً: أنّ نوعيّة التشريعات التي ملأ النبيّ صلى الله عليه و آله بها منطقة الفراغ من المذهب بوصفه وليّ الأمر ليست أحكاماً دائميّة بطبيعتها؛ لأنّها لم تصدر من النبيّ بوصفه مبلّغاً للأحكام العامّة الثابتة، بل باعتباره حاكماً ووليّاً للمسلمين. فهي إذن لا تعتبر جزءاً ثابتاً من المذهب الاقتصادي في الإسلام، ولكنّها تلقي ضوءاً إلى حدّ كبير على عمليّة مل‏ء الفراغ التي يجب أن تمارس في كلّ حين وفقاً للظروف، وتيسّر فهم الأهداف الأساسيّة التي توخّاها النبيّ صلى الله عليه و آله في سياسته الاقتصاديّة، الأمر الذي يساعد على مَل‏ء منطقة الفراغ دائماً في ضوء تلك الأهداف.
وثالثاً: أنّ المذهب الاقتصادي في الإسلام يرتبط على هذا الأساس ارتباطاً كاملًا بنظام الحكم في مجال التطبيق، فما لم يوجد حاكم أو جهاز حاكم يتمتّع بنفس ما كان الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله يتمتّع به من الصلاحيّات بوصفه حاكماً لا بوصفه نبيّاً لا يتاح مل‏ء منطقة الفراغ في المذهب الاقتصادي بما تفرضه‏