کتابخانه
251

على أنّ الاشتراكيّة الماركسيّة هي البديل الوحيد الذي يحلّ محلّ الرأسماليّة في المجرى التاريخي للتطوّر، بل هي تفسح المجال لأشكال اقتصاديّة متعدّدة أن تحتلّ مركز الرأسماليّة من المجتمع، سواء الاشتراكيّة الماركسيّة كاشتراكيّة الدولة بلون من ألوانها، أو الاقتصاد المزدوج من أشكال متعدّدة للملكيّة، أو إعادة توزيع الثروة من جديد على المواطنين في إطار الملكيّة الخاصّة، وما إلى ذلك من أشكال تعالج أزمة الرأسماليّة دون الاضطرار إلى الاشتراكيّة الماركسيّة.
وبذلك تخسر الماركسيّة المذهبيّة برهانها العملي، وتفقد طابع الضرورة التاريخيّة الذي كانت تستمدّه من قوانين المادّية التاريخيّة والاسس الماركسيّة في التاريخ والاقتصاد. وبعد أن تنزع الفكرة المذهبيّة عنها الثوب العلمي تبقى في مستوى سائر الاقتراحات المذهبيّة.

250

الرأسماليّة- إلى مجتمع اشتراكي لا طبقي. أمّا كيف تعمل قوانين المادّية التاريخيّة في خلق الاشتراكية الماركسيّة على أنقاض الرأسماليّة؟ فهذا ما يشرحه ماركس- كما مرّ بنا سابقاً- في بحوثه التحليليّة للاقتصاد الرأسمالي التي حاول أن يكشف فيها عن التناقضات الجذريّة التي تسوق الرأسماليّة- وفقاً لقوانين المادّية التاريخيّة- إلى حتفها، وتصل بالركب البشري إلى المرحلة الاشتراكيّة، وبكلمات قلائل: إنّ قوانين المادّية التاريخيّة هي القاعدة العامّة لكلّ مراحل التاريخ في رأى ماركس، والاسس التحليليّة في الاقتصاد الماركسي- كقانون القيمة ونظريّة القيمة الفائضة- هي عبارة عن محاولة تطبيق تلك القوانين على المرحلة الرأسماليّة، والاشتراكيّة المذهبيّة هي النتيجة الضروريّة لهذا التطبيق، والتعبير المذهبي عن المجرى التاريخي المحتوم للرأسماليّة كما تفرضه القوانين العامّة للتاريخ.
ونحن في بحثنا الموسّع عن المادّية التاريخيّة- بقوانينها ومراحلها- قد انتهينا إلى نتائج غير ماركسيّة. فقد عرفنا بوضوح أنّ الواقع التاريخي للإنسانيّة لا يسير في موكب المادّية التاريخيّة، ولا يستمدّ محتواه الاجتماعي من وضع القوى المنتجة وتناقضاتها وقوانينها. كما تبيّنّا من خلال دراستنا لقوانين الاقتصاد الماركسي خطأ الماركسيّة في الاسس التحليليّة التي فسّرت في ضوئها تناقض الرأسماليّة من جهات شتّى، وزحفها المستمرّ نحو نهايتها المحتومة، فإنّ تلك التناقضات كانت ترتكز كلّها على القانون الماركسي للقيمة، ونظريّة القيمة الفائضة، فإذا انهارت هاتان الركيزتان تداعى البناء كلّه.
وحتّى إذا افترضنا أنّ الماركسيّة كانت على صواب في دراستها التحليليّة للاقتصاد الرأسمالي فإنّ تلك الاسس إنّما تكشف عن القوّة أو التناقضات التي تحكم على الرأسماليّة بالموت البطي‏ء حتّى تلفظ آخر أنفاسها، ولكنّها لا تبرهن‏

249
نقد المذهب بصورة عامّة

ونواجه منذ البدء في دراسة الماركسيّة المذهبيّة- على ضوء الأساليب السابقة- أهمّ وأخطر سؤال على صعيد البحث المذهبي، وهو السؤال عن الدليل الأساسي الذي يرتكز عليه المذهب، ويبرّر بصورة منطقيّة الدعوة إليه وتبنّيه، وبالتالي تطبيقه وبناء الحياة على أساسه.
إنّ ماركس لا يستند في تبرير الاشتراكيّة والشيوعيّة إلى قيَم ومفاهيم خُلُقيّة معيّنة عن المساواة، كما يتّجه إلى ذلك غيره من الاشتراكيّين الذين يصفهم ماركس بأ نّهم خياليّون؛ وذلك لأنّ القيَم والمفاهيم الخُلُقيّة ليست في رأي الماركسيّة إلّاوليدة العامل الاقتصادي والوضع الاجتماعي للقوى المنتجة، فلا معنى للدعوة إلى وضع اجتماعي على أساس خُلُقي بحت.
وإنّما يستند ماركس إلى قوانين المادّية التاريخيّة التي تفسّر حركة التاريخ في ضوء تطوّرات القوى المنتجة وأشكالها المختلفة. فهو يعتبر تلك القوانين الأساس العلمي للتاريخ، والقوّة التي تصنع له مراحله المتعاقبة في نقاط زمنيّة محدّدة وفقاً لوضع القوى المنتجة وشكلها الاجتماعي السائد.
ويرى في هذا الضوء: أنّ الاشتراكيّة نتيجة محتومة لتلك القوانين التي تعمل عملها الصارم في سبيل تحويل المرحلة الأخيرة للطبقة- وهي المرحلة

248

لقصّة الحكومة والسياسة على مسرح التاريخ، حيث تقضي على حكومة البروليتاريا، وتحرّر المجتمع من نير الحكومة وقيودها. كما أ نّها لا تكتفي بتأميم وسائل الإنتاج الرأسماليّة فحسب كما تقرّر الاشتراكيّة في الركن الثالث، بل تذهب إلى أكثر من هذا، فتلغي الملكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج الفرديّة أيضاً (وهي التي يستثمرها المالك بنفسه لا عن طريق الاجراء). وكذلك تحرّم الملكيّة الخاصّة لبضائع الاستهلاك وأثمانها، وبكلمة شاملة: تلغي الملكيّة الخاصّة إلغاءً تامّاً في الحقلين الإنتاجي والاستهلاكي معاً، وكذلك تجري تعديلًا حاسماً في القاعدة التي يقوم على أساسها التوزيع في الركن الرابع، إذ تركّز التوزيع على قاعدة: من كلٍّ حسب طاقته، ولكلٍّ حسب حاجته.
***
هذا هو المذهب الماركسي بكلتا مرحلتيه: الاشتراكيّة والشيوعيّة. ومن الواضح أنّ لدراسة المذهب- أيّ مذهبٍ كان- أساليب ثلاثة:
الأوّل: نقد المبادئ والاسس الفكريّة التي يرتكز عليها المذهب.
والثاني: دراسة مدى انطباق تلك المبادئ والاسس على المذهب الذي اقيم عليها.
والثالث: بحث الفكرة الجوهريّة في المذهب من ناحية إمكان تطبيقها، ومدى ما تتمتّع به الفكرة من واقعيّة وإمكان أو استحالة وخيال من ناحية اخرى.
وسوف نأخذ في دراستنا للمذهب الماركسي بهذه الأساليب الثلاثة مجتمعة.

247
ما هي الاشتراكيّة والشيوعيّة؟

ولكلّ من المرحلتين- الاشتراكيّة والشيوعيّة- معالمها الرئيسيّة التي تميّزها عن المرحلة الاخرى. فإنّ المرحلة الاشتراكيّة تتلخّص معالمها الرئيسيّة وأركانها الأساسيّة فيما يلي:
أوّلًا: محو الطبقيّة وتصفية حسابها نهائيّاً بخلق المجتمع اللاطبقي.
وثانياً: استلام البروليتاريا للأداة السياسيّة بإنشاء حكومة دكتاتوريّة قادرة على تحقيق الرسالة التاريخيّة للمجتمع الاشتراكي.
وثالثاً: تأميم مصادر الثروة ووسائل الإنتاج الرأسماليّة في البلاد- وهي الوسائل التي يستثمرها مالكها عن طريق العمل المأجور- واعتبارها ملكاً للمجموع.
ورابعاً: قيام التوزيع على قاعدة (من كلٍّ حسب طاقته، ولكلٍّ حسب عمله).
وعندما تصل القافلة البشريّة إلى قمّة الهرم التاريخي أو إلى الشيوعيّة الحقيقيّة يحدث التطوّر والتغيّر في أكثر تلك المعالم والأركان. فالشيوعيّة تحتفظ بالركن الأوّل من أركان الاشتراكيّة، وهو محو الطبقيّة، وتتصرّف في سائر مقوّماتها وأركانها الاخرى. فبالنسبة إلى الركن الثاني تضع الشيوعيّة حدّاً نهائيّا

246

وبالرغم من هذين الوجهين المختلفين للعلم والمذهب فإنّ الصلة وثيقة جدّاً بين المادّية التاريخيّة والماركسيّة المذهبيّة؛ لأنّ المذهب الذي تتبنّى الماركسيّة الدعوة إليه ليس في الحقيقة إلّاتعبيراً قانونيّاً وشكلًا تشريعيّاً لمرحلة معيّنة من مراحل المادّية التاريخيّة، وجزءاً محدوداً من المنحنى التاريخي العامّ الذي تفرضه حركة الإنتاج الصاعدة، وقوانين تطوّره وتناقضاته. فالماركسيّة حين تتقمّص ثوب الداعية المذهبي إنّما تعبّر بذلك عن الحقيقة التاريخيّة لتلك القوانين، فهي لا تنظر إلى الدعوة إلّابوصفها تنفيذاً لإرادة التاريخ وتحقيقاً لمقتضيات العامل الاقتصادي الذي يقود القافلة البشريّة اليوم نحو مرحلة جديدة، هي المرحلة التي تتجسّد فيها مخطّطات المذهب الماركسي.
ولهذا السبب كان يطلق ماركس على مذهبه اسم: الاشتراكيّة العلميّة، تمييزاً لها عن سائر الاشتراكيّات التي عبّر أصحابها فيها عن اقتراحاتهم ومشاعرهم النفسيّة، وليس عن الضرورة التاريخيّة وقوانينها، فصاغوا مذاهبهم بعيدين عن الحساب العلمي ودراسة القوى المنتجة ونموّها.
وفي المذهب الماركسي مرحلتان تطالب الماركسيّة- من ناحية مذهبيّة- بتطبيقهما تباعاً، وتؤكّد- من ناحية المادّية التاريخيّة- على ضرورتهما التاريخيّة كذلك، وهما: المرحلة الاشتراكيّة، ثمّ الشيوعيّة. فالشيوعيّة تعتبر- من وجهة رأي المادّية التاريخيّة- أعلى مرحلة من مراحل التطوّر البشري؛ لأنّها المرحلة التي يحقّق فيها التاريخ معجزته الكبرى، وتقول فيها وسائل الإنتاج كلمتها الفاصلة. وأمّا المرحلة الاشتراكيّة التي تقوم على أنقاض المجتمع الرأسمالي، وتحتلّ موقع الرأسماليّة مباشرة فهي: من ناحية تعبّر عن الثورة التاريخيّة المحتومة على الرأسماليّة حين تأخذ بالاحتضار، ومن ناحية اخرى تعتبر شرطاً ضروريّاً لإيجاد المجتمع الشيوعي وقيادة السفينة إلى شاطئ التاريخ.

245
تمهيد

قلنا في مستهلّ هذا الكتاب: إنّ المذهب الاقتصادي عبارة عن نهج خاصّ للحياة يطالب أنصاره بتطبيقه لتنظيم الوجود الاجتماعي على أساسه، بوصفه المخطّط الأفضل الذي يحقّق للإنسانيّة ما تصبو إليه من رخاء وسعادة على الصعيد الاقتصادي. وأمّا العلوم الاقتصاديّة فهي دراسات منظمّة للقوانين الموضوعيّة التي تتحكّم في المجتمع كما تجري في حياته الاقتصاديّة. فالمذهب: تصميم عمل ودعوة. والعلم: كشف أو محاولة كشف عن حقيقة وقانون؛ لهذا السبب كان المذهب عنصراً فعّالًا وعاملًا من عوامل الخلق والتجديد، وأمّا العلم فهو يسجّل ما يقع في مجرى الحوادث الاقتصاديّة كما هو دون تصرّف أو تلاعب.
وعلى هذا الأساس فصّلنا بين المادّية التاريخيّة والمذهب الماركسي في بحثنا هذا مع الماركسيّة، فالمادّية التاريخيّة التي تناولناها في القسم الأوّل من البحث: هي علم قوانين الإنتاج في تطوّره ونموّه، ونتائجه الاجتماعيّة في مختلف الحقول الاقتصاديّة والسياسيّة والفكريّة، وبكلمة اخرى: هي علم الاقتصاد الماركسي الذي يفسّر التاريخ كلّه تفسيراً اقتصاديّاً في ضوء القوى المنتجة.
والمذهب الماركسي: هو النظام الاجتماعي الذي تتزعّم الماركسيّة الدعوة إليه، وقيادة الإنسانيّة إلى تحقيقه. فالماركسيّة تقف في المادّية التاريخيّة موقف العالم الطبيعي من قوانين الطبيعة، وتقف بصفتها المذهبيّة موقف الدعوة والتبشير.

244

243

مع الماركسيّة
2

المذهب الماركسي‏

تمهيد.
ما هي الاشتراكيّة والشيوعيّة؟
نقد المذهب بصورة عامّة.
نقد تفصيلي للمذهب.