کتابخانه
541

ما اتّسعت للمحظوظين منهم.
والإسلام- كما رأينا- قد أعاد إلى هذا السبب الفطري اعتباره؛ إذ جعل الإحياء المصدر الوحيد لاكتساب الحقّ في الأرض، وشجب الأسباب الاخرى كلّها. وبهذا أحيا الإسلام سنّة الفطرة التي كاد الإنسان المصطنع أن يطمس معالمها.
هذا فيما يتّصل باتّهام السند التاريخي لملكيّة الأرض. ولكنّ الاتّهام الأوسع والأخطر من ذلك هو اتّهام نفس فكرة الملكيّة والحقّ الخاصّ بالأرض بالذات وبشكل مطلق، كما تؤكّد عليه بعض الاتّجاهات المذهبيّة الحديثة أو نصف الحديثة- إن صحّ هذا التعبير- كالاشتراكيّة الزراعيّة، وغالباً ما نسمع بهذا الصدد:
أنّ الأرض ثروة طبيعيّة لم يصنعها إنسان، وإنّما هي هبة من هبات اللَّه، فلا يجوز لأحد أن يستأثر بها دون الآخرين.
ومهما قيل في هذا الصدد فإنّ الصورة الإسلاميّة التي قدّمناها في مستهلّ هذا الحديث سوف تبقى فوق كلّ تهمة منطقيّة؛ لأنّنا رأينا أنّ الأرض- منظوراً إليها بوضعها الطبيعي الذي هي عليه حين تسلّمت الإنسانيّة هذه الهبة من اللَّه تعالى- ليست ملكاً أو حقّاً لأيّ فرد من الأفراد، وإنّما هي ملك الإمام باعتبار المنصب لا الشخص ولا تزول- بموجب النظريّة الاقتصاديّة للإسلام عن الأرض- ملكيّة الإمام لها، ولا تصبح الأرض ملكاً للفرد بالعنف والاستيلاء، بل وحتّى بالإحياء، وإنّما يعتبر الإحياء مصدراً لحقّ الفرد في الأرض، فإذا بادر شخص بصورة مشروعة إلى إحياء مساحة من الأرض وأنفق فيها جهوده كان من الظلم أن يساوى في الحقوق بينه وبين سائر الأفراد الذين لم يمنحوا تلك الأرض شيئاً من جهودهم، بل وجب اعتباره أولى من غيره بالأرض والانتفاع بها.
فالإسلام يمنح العامل في الأرض حقّاً يجعله أولى من غيره، ويسمح من‏

540

ومن ناحية اخرى أنّ هذا الشخص الغاصب الذي نفترض أ نّه كان يستولي على الأرض بالقوّة لم يكن على الأكثر شخصاً طريداً لا مأوى له ولا أرض، بل هو- في أقرب صورة إلى القبول- شخص استطاع أن يعمل في مساحة من الأرض ويستثمرها، واتّسعت إمكاناته بالتدريج، فأخذ يفكّر في الاستيلاء بالعنف على مساحات جديدة من الأرض. فهناك إذن قبل العنف والقوّة العمل المثمر والحقّ القائم على أساس العمل والاستثمار.
وأقرب الأشياء إلى القبول حين نتصوّر طائفة بدائيّة تسكن في أرض وتدخل الحياة الزراعيّة .. أن يشغل كلّ فرد فيها مساحة من تلك الأرض تبعاً لإمكاناته، ويعمل لاستثمارها. ومن خلال هذا التقسيم الذي يبدأ بوصفه تقسيماً للعمل- إذ لا يتاح لجميع المزارعين المساهمة في كلّ شبر- تنشأ الحقوق الخاصّة للأفراد، ويصبح لكلّ فرد حقّه في الأرض التي أجهدته وامتصّت عمله وأتعابه.
وتظهر بعد ذلك عوامل العنف والقوّة حين يأخذ الأكثر قدرةً وقوّةً يغزو أراضي الآخرين ويستولي على مزارعهم.
ولسنا نريد بهذا أن نبرّر الحقوق والملكيّات الخاصّة للأرض التي مرّت في تاريخ الإنسان، وإنّما نستهدف القول بأنّ الإحياء- العمل في الأرض- هو في أكبر الظنّ السبب الأوّل الوحيد الذي اعترفت به المجتمعات الفطريّة، بوصفه مصدراً لحقّ الفرد في الأرض التي أحياها وعمل فيها، والأسباب الاخرى كلّها عوامل ثانويّة ولدتها الظروف والتعقيدات التي كانت تبتعد بالمجتمعات الاولى عن وضعها الفطري وإلهامها الطبيعي.
وقد فقد السبب الأوّل اعتباره تاريخيّاً بالتدريج خلال نموّ هذه العوامل الثانويّة، وتزايد سيطرة الهوى على الفطرة، حتّى امتلأ تاريخ الملكيّة الخاصّة للأرض بألوان من الظلم والاحتكار، وضاقت الأرض على جماهير الناس بقدر

539
مع خصوم ملكيّة الأرض:

والشكوك التي تثار عادة من خصوم ملكيّة الأرض حولها تتّجه تارةً إلى اتّهام واقعها التاريخي وجذورها الممتدّة في أعماق الزمن، وتذهب تارةً اخرى إلى أكثر من ذلك، فتدين نفس فكرة الملكيّة وحقّ الفرد في الأرض بمجافاتها لمبادئ العدالة الاجتماعيّة.
أمّا اتّهام واقع ملكيّة الأرض والسند التاريخي لهذه الملكيّة فينصبّ في الغالب على أسباب القوّة والسيطرة التي تقول عنها التهمة أ نّها لعبت دورها الرئيسي على مرّ التاريخ في توزيع الأرض توزيعاً غير عادل، ومنح الأفراد حقوقاً خاصّة فيها، وإذا كانت القوّة والاغتصاب وعوامل العنف هي المبرّرات الواقعيّة والسند التاريخي لملكيّة الأرض، والحقوق الخاصّة التي شهدها تاريخ الإنسان فمن الطبيعي أن تشجب هذه الحقوق، وتعتبر ملكيّة الأرض في التاريخ لوناً من السرقة.
ونحن لا ننكر عوامل القوّة والاغتصاب ودورها في التاريخ، ولكنّ هذه العوامل لا تفسّر ظهور ملكيّة الأرض وحقوقها الخاصّة في التاريخ؛ إذ يجب لكي تستولي على الأرض بالعنف والاغتصاب أن يكون هناك من تغتصب منه الأرض وتطرده بالقوّة لتضمّها إلى أراضيك، وهذا يفترض مسبقاً أن تكون تلك الأرض التي تعرّضت للاغتصاب والعنف قد دخلت في حيازة شخص أو أشخاص قبل ذلك وأصبح لهم حقّ فيها.
وحين نريد أن نفسّر هذا الحقّ السابق على عمليّات الاغتصاب يجب أن ندع جانباً التفسير بالقوّة والعنف؛ لنفتّش عن سببه في نوع العلاقة التي كانت قائمة بين الأرض وأصحاب الحقّ فيها.

538

هذه هي نظرة الإسلام نحو الأرض كما تبدو لنا- حتّى الآن- قبل إبراز العنصر السياسي منها. وفي الواقع أ نّها جديرة بحلّ التناقض القائم بين أنصار ملكيّة الأرض وخصومها، فإنّ ملكيّة الأرض من القضايا الاجتماعيّة التي لعبت دوراً مهمّاً في التفكير البشري، تبعاً لأهميّتها بوصفها ظاهرة عاشت في حياة الإنسان منذ آلاف السنين.
وأكبر الظنّ أنّ هذه الظاهرة ولدت في تاريخ الإنسان أو اتّسعت بعد اكتشافه للزراعة واعتماده في حياته عليها؛ إذ وجد الإنسان المزارع نفسه بحاجة إلى الاستقرار في أرض خاصّة مدّة من الزمان، لما يتطلّبه هذا الإنتاج من وقت، فكان من الطبيعي أن يرتبط إلى حدٍّ ما بمساحة معيّنة من الأرض، ويمارس فيها عمله، ويقيم له فيها مأوىً ومسكناً يسكنه قريباً من زرعه؛ ليكون قادراً على مراقبته والمحافظة عليه، وفي النهاية وجد الإنسان المزارع- أيّ مزارع- نفسه مشدوداً إلى مساحة من الأرض ومرتبطاً بها بعدّة روابط تنبع كلّها أخيراً من عمله الذي أنفقه على الأرض، وجهده الذي اختلط بتربتها وكلّ ذرّة من ذرّاتها، فكان من أثر ذلك أن نشأت فكرة الاختصاص؛ لأنّها كانت تعكس من ناحيةٍ هذا الارتباط الذي يجده المزارع بينه وبين عمله المنفصل الذي جسّده في الأرض ومزجه بوجودها. ومن ناحية اخرى كانت فكرة الاختصاص تحقّق الاستقرار، وتسفر عن تقسيم الأرض على أساس الكفاءة؛ إذ يحتفظ كلّ فرد بالمساحة التي عمل فيها وأثبت كفاءته إلى درجة ما في استثمارها.
وعلى هذا الأساس نرجّح أن تكون الحقوق الخاصّة في الأرض نشأت تاريخيّاً في أكبر الظنّ نتيجة للعمل، واتّخذت هذه الحقوق على مرّ الزمن شكل الملكيّة.

537

من ذلك لا يكون سبباً لتملّك الفرد رقبة الأرض ملكيّة خاصّة تخرج بها عن مبدئها الأوّل، وإنّما ينتج حقّاً للفرد يصبح بموجبه أولى بالانتفاع بالأرض التي أحياها من غيره بسبب الجهود التي بذلها في الأرض، ويظلّ للإمام ملكيّة الرقبة، وحقّ فرض الضريبة على المحيي، وفقاً للنصّ الفقهي الذي كتبه الشيخ الفقيه الكبير محمّد بن الحسن الطوسي، حين قال في فصل الجهاد من كتاب المبسوط:

«فأمّا الموات فإنّها لا تغنم، وهي للإمام، فإن أحياها أحد كان أولى بالتصرّف فيها، ويكون للإمام طسقها»[1]، وقد مرّ بنا النصّ سابقاً.

ويستمرّ الحقّ الذي يمنح للفرد بالإحياء ما دام عمله مجسّداً في الأرض، فإذا استهلك عمله واحتاجت الأرض إلى جهد جديد للحفاظ على عمرانها فلا يمكن للفرد أن يحتفظ بحقّه، إلّابمواصله إعمارها وتقديم الجهود اللازمة لذلك، أمّا إذا أهملها وامتنع عن عمرانها حتّى خربت سقط حقّه فيها.

نستطيع الآن أن نستوعب الصورة كاملة، وأن نحدّد النظرة العامّة، فالأرض بطبيعتها ملك الإمام، ولا يملك الفرد رقبتها، ولا يصلح أيّ اختصاص فردي بها إلّا على أساس ما ينفقه الشخص على الأرض من عمل لأجل إعدادها واستثمارها، وهذا الاختصاص أو الحقّ الذي يكسبه الفرد نتيجة لعمله فيها لا يمنع الإمام عن فرض الطسق أو الضريبة على الأرض المحياة لتساهم الإنسانيّة الصالحة كلّها في الاستفادة منها، ولا يتعارض هذا مع العفو عن الطسق أو الضريبة أحياناً لظروف استثنائيّة، كما جاء في أخبار التحليل‏[2].

 

 

[1] المبسوط 2: 29

[2] وسائل الشيعة 9: 543، الباب 4 من أبواب الأنفال

536

الطبيعي- مبدأ ملكيّة الإمام، وبالتالي ملكيّة ذات طابع عامّ.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم النصوص التشريعيّة المنقولة عن أئمّة أهل البيت بأسانيد صحيحة، التي تؤكّد أنّ الأرض كلّها ملك الإمام‏[1]، فإنّها حين تقرّر ملكيّة الإمام للأرض تنظر إلى الأرض بوضعها الطبيعي كما تقدّم‏[2].

ولننظر الآن إلى ما يأذن به الإسلام لأفراد المجتمع- الذي افترضناه- من ألوان الاختصاص بالأرض. وفي هذا المجال يجب أن نستبعد الحيازة والاستيلاء المجرّد بوصفه مبرّراً أصيلًا لاختصاص الفرد بالأرض التي يحوزها ويستولي عليها؛ لأنّا لا نملك نصّاً صحيحاً يؤكّد ذلك في الشريعة، كما ألمعنا سابقاً، وإنّما الشي‏ء الوحيد الذي عرفنا أ نّه يبرّر الاختصاص شرعاً: هو الإحياء، أي إنفاق الفرد جهداً خاصّاً على أرض ميّتة من أجل بعث الحياة فيها، فإنّ ممارسة هذا العمل أو العمليّات التمهيديّة له تعتبر في الشريعة سبباً للاختصاص. ولكنّه بالرغم‏

 

 

[1] منها ما في وسائل الشيعة 9: 548، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 12، و 530، الباب الأوّل من أبواب الأنفال، الحديث 19

[2] وبهذا نعرف: أنّ في الإمكان تفسير ملكيّة الإمام للأرض كلّها- في هذه النصوص- على أساس كونها حكماً شرعيّاً وملكيّة اعتباريّة ما دامت منصبّة على الوضع الطبيعي للأرض من حيث هي، ولا تتعارض مع تملّك غير الإمام لشي‏ء من الأرض بأسباب شرعيّة طارئة على الوضع الطبيعي للأرض من إحياء أو غيره، فلا ضرورة لتأويل الملكيّة في تلك النصوص واعتبارها أمراً معنويّاً لا حكماً شرعيّاً، مع أنّ هذا التأويل يعارض سياق تلك النصوص بوضوح. فلاحظ رواية الكابلي كيف قرّرت أنّ الأرض كلّها ملك الإمام، وانتهت من ذلك إلى القول بأنّ للإمام حقّ الطسق على من يحيي شيئاً من الأرض؟ فإنّ فرض الطسق أو الاجرة للإمام تفريعاً على ملكيّته يدلّ بوضوح على أنّ الملكيّة هنا بمعناها التشريعي الذي تترتّب عليه هذه الآثار، لا بمعنى آخر روحي بحت.( المؤلّف قدس سره)

535

الأرض التي قدّر لها في فرضيّتنا أن تصبح وطناً للمجتمع الإسلامي، وتنمو على تربتها حضارة السماء قد افترضناها أرضاً طبيعيّة غير مستثمرة لم يتدخّل العنصر الإنساني فيها بعد، ومعنى هذا أنّ هذه الأرض تواجه الإنسان وتدخل في حياته لأوّل مرّة في الفترة المنظورة من التاريخ.

ومن الطبيعي أن تنقسم هذه الأرض في الغالب إلى قسمين، ففيها الأراضي التي وفّرت لها الطبيعة شروط الحياة والإنتاج من ماء ودف‏ء ومرونة في التربة وما إلى ذلك، فهي عامرة طبيعيّاً، وفيها الأراضي التي لم تظفر بهذه المميّزات من الطبيعة، بل هي بحاجة إلى جهد إنساني يوفّر لها تلك الشروط، وهي الأرض الميتة في العرف الفقهي، فالأرض التي افترضنا أ نّها سوف تشهد ولادة المجتمع الإسلامي هي إذن: إمّا أرض عامرة طبيعيّاً، وإمّا أرض ميتة، ولا يوجد قسم ثالث.

والعامر طبيعيّاً من تلك الأرض ملك للدولة، أو بتعبير آخر: ملك المنصب الذي يمارسه النبيّ صلى الله عليه و آله وخلفاؤه الشرعيّون، كما مرّ بنا، وفقاً للنصوص التشريعيّة والفقهيّة، حتّى جاء في تذكرة العلّامة الحلّي: أنّ إجماع العلماء قائم على ذلك‏[1].

وكذلك أيضاً الأرض الميتة، كما عرفنا سابقاً، وهو واضح أيضاً في النصوص التشريعيّة والفقهيّة، حتّى ذكر الشيخ الإمام المجدّد الأنصاري في المكاسب: أنّ النصوص بذلك مستفيضة، بل قيل: إنّها متواترة[2].

فالأرض كلّها إذن يُطبّق عليها الإسلام- حين ينظر إليها في وضعها

 

 

[1] تذكرة الفقهاء( ط. الحجريّة) 2: 402

[2] المكاسب 4: 13

534
نظرة الإسلام العامّة إلى الأرض‏

في ضوء الأحكام المتنوّعة التي شرّعها الإسلام للأرض ووقفنا على تفصيلاتها يمكننا أن نستخلص النظرة العامّة للإسلام إلى الأرض، ومصيرها في ظلّ الإسلام الذي يمارس النبيّ صلى الله عليه و آله تطبيقه أو خليفته الشرعي، وسوف نحدّد الآن النظرة العامّة للإسلام إلى الأرض. فإذا استعرضنا بعد ذلك أحكام الإسلام التي تتّصل بسائر ثروات الطبيعة ومصادر الإنتاج الأساسيّة عدنا إلى هذه النظرة الإسلاميّة العامّة عن الأرض، لنضعها في موضعها من نظرة أشمل وأوسع تشكّل الأساس والقاعدة المذهبيّة لتوزيع ما قبل الإنتاج.
ولكي نستطيع تجلية الموقف، وفحص المضمون الاقتصادي للنظرة الإسلاميّة في الأرض، وعزله عن سائر العوامل والاعتبارات الاخرى، ذات الصفة السياسيّة التي سنأتي على ذكرها بعد ذلك … لكي يتأتّى لنا ذلك كلّه يحسن بنا أن ننطلق- في تحديد نظرة الإسلام العامّة- من فرضيّة تساعدنا على إبراز المضمون الاقتصادي للنظريّة مستقلّاً عن الاعتبارات السياسيّة.
فلنفترض أنّ جماعة من المسلمين قرّرت أن تستوطن منطقة من الأرض كانت لا تزال غير مستثمرة، فأنشأت في تلك المنطقة مجتمعاً إسلاميّاً وأقامت علاقاتها على أساس الإسلام، ولنتصوّر أنّ الحاكم الشرعي النبيّ صلى الله عليه و آله أو (الخليفة) يقوم بتنظيم تلك العلاقات، وتجسيد الإسلام في ذلك المجتمع بكلّ خصائصه ومقوّماته الفكريّة والحضاريّة والتشريعيّة .. فماذا سوف يكون موقف الحاكم والمجتمع من الأرض؟ وكيف تنظّم ملكيّتها؟
والجواب على هذا السؤال جاهز في ضوء التفصيلات التي قدّمناها، فإن‏

533

صارت إلى حالها الأوّل، ثمّ أحياها آخر بعده لكانت لمن أحياها بمنزلة الذي أحياها أوّل مرّة»[1].

وقال بعض فقهاء الأحناف بهذا أيضاً، معلّلين ذلك بأنّ الأوّل ملك استغلال الأرض لا رقبتها، فإذا كان تركها كان الثاني أحقّ بها[2].

وإذا كانت الأرض التي أهملها صاحبها مندرجة في نطاق الملكيّة الخاصّة- كالأراضي التي أسلم عليها أهلها طوعاً- فإنّ ملكيّة صاحبها لها لا تحول دون سقوط حقّه فيها بإهمالها والامتناع عن القيام بحقها، كما عرفنا. وتعود- في رأي ابن البرّاج‏[3] وابن حمزة[4] وغيرهما[5]– ملكاً للمسلمين، وتدخل في نطاق الملكيّة العامّة.

وهكذا نعرف أنّ الاختصاص بالأرض- حقّاً أو ملكاً- محدود بإنجاز الفرد لوظيفته الاجتماعيّة في الأرض، فإذا أهملها وامتنع عن إعمارها حتّى خربت انقطعت صلته بها، وتحرّرت الأرض من قيوده، وعادت ملكاً طليقاً للدولة إن كانت مواتاً بطبيعتها، وأصبحت ملكاً عامّاً للمسلمين إن كان الفرد الذي أهملها وسقط حقّه فيها قد ملكها بسبب شرعي، كما في الأراضي التي أسلم عليها أهلها طوعاً[6].

 

 

[1] المدوّنة الكبرى 6: 195

[2] انظر فتح القدير 9: 4

[3] المهذّب 1: 82

[4] الوسيلة: 132

[5] مسالك الأفهام 3: 58

[6] تحرير الأحكام الشرعيّة 2: 169، ومسالك الأفهام 3: 58