کتابخانه
559

يملك بالاكتشاف خلال عمليّات الحفر[1].

ويستندون في ذلك إلى أنّ اكتشاف المعدن بالحفر لون من ألوان الإحياء، والموارد الطبيعيّة تملك بالإحياء. كما أ نّه اسلوب للحيازة، والحيازة تعتبر سبباً لتملّك ثروات الطبيعة على اختلافها.

ونحن حين ندرس هذا الرأي من الناحية المذهبيّة يجب أن لا نفصله عن التحفّظات التي احيط بها، والحدود التي فرضت فيه على ملكيّة المعدن حين سمح بها لمن يكتشفه.

فملكيّة المعدن التي يظفر بها المكتشف- على هذا الرأي- لا تمتدّ في أعماق الأرض إلى عروق المادّة المعدنيّة وجذورها، وإنّما تشمل المادّة التي كشف عنها الحفر. كما أ نّها لا تمتدّ افقيّاً خارج حدود الحفرة التي أنشأها المكتشف إلّابالقدر الذي يتوقّف عليه ممارسته لاستخراج المادّة من الحفرة، وهو ما يسمّى فقهيّاً بحريم المعدن‏[2].

ومن الواضح أنّ هذه الأبعاد للملكيّة محدودة وضيّقة إلى حدّ كبير وتسمح لأيّ فرد آخر أن يمارس عمليّات الحفر في موضع آخر من نفس ذلك المعدن، ولو كان يمتصّ في الحقيقة نفس الينابيع والجذور التي يمتصّها المكتشف الأوّل؛ لأنّ الأوّل لا يملك العروق والينابيع.

وهذا التحديد في ملكيّة المعدن الباطن لدى القائلين بها واضح في عدّة نصوص فقهيّة، فقد قال العلّامة الحلّي في القواعد: «لو حفر فبلغ المعدن، لم يكن له منع غيره من الحفر من ناحية اخرى، فإذا وصل- الغير- إلى العرق لم يكن له‏

 

[1] لاحظ الروضة البهيّة 4: 66، وجواهر الكلام 38: 110

[2] انظر جواهر الكلام 38: 110- 113

558

كما يبدو من ابن قدامة الفقيه الحنبلي أنّ المعادن الباطنيّة المستترة هي من المشتركات العامّة أيضاً في ظاهر المذهب الحنبلي وظاهر مذهب الشافعي، فلا فرق بينها وبين المعادن الظاهرة أو الباطنة غير المستترة من هذه الناحية[1].

وليس من المهمّ فعلًا بالنسبة إلى عمليّة اكتشاف المذهب الاقتصادي التي نمارسها أن ندرس الشكل التشريعي لملكيّة هذه المعادن، وهل هو شكل الملكيّة العامّة أو ملكيّة الدولة، أو أيّ شكل آخر؟ ما دام من المسلّم به أنّ هذه المعادن بحسب وضعها الطبيعي ذات طابع اجتماعي عامّ، ولا يختصّ بها فرد دون فرد.

فتبقى دراسة نوع الملكيّة بحثاً شكليّاً لا يتّصل بأهدافنا فعلًا، وإنّما المهمّ الجدير بالبحث أن نعرف ما إذا كان الإسلام يسمح بخروج معدن الذهب والفضّة مثلًا عن حقل الثروات العامّة، ويمنح الفرد الذي حفر الأرض المعدنيّة واكتشف المادّة ملكيّة المعدن الذي اكتشفه.

ونحن قد رأينا في المعادن الظاهرة، والمعادن الباطنة التي تقرب من سطح الأرض أنّ الشريعة- في رأي جمهور الفقهاء- لم تسمح بتملّكها ملكيّة خاصّة، وإنّما أجازت لكلّ فرد أن يأخذ من مواردها المعدنيّة وفقاً لحاجته دون إضرار بالآخرين. فمن الضروري أن نعرف موقف الشريعة من المعادن الباطنة المستترة، ونتبيّن مدى اتّفاقه أو اختلافه مع موقفها من المعادن الاخرى.

فالمسألة إذن هي: هل يمكن للفرد أن يملك مناجم الذهب والحديد ملكيّة خاصّة باكتشافها عن طريق الحفر، أو لا؟

ويجيب كثير من الفقهاء على هذا السؤال بالإيجاب، فهم يرون أنّ المعدن‏

 

 

[1] لاحظ المغني 6: 157

557

أحدهما: جهد التفتيش والحفر، للوصول إلى طبقاتها في أغوار الأرض.

والآخر: الجهد الذي يبذل على نفس المادّة لتطويرها وإبراز خصائصها المعدنيّة، وذلك كمعادن الذهب والحديد. ولنطلق على هذه الفئة من المعادن اسم (المعادن الباطنة المستترة).

وهذه المعادن الباطنة المستترة تتقاذفها عدّة نظريّات في الفقه الإسلامي، فهناك من يرى أ نّها ملك الدولة، أو الإمام باعتبار المنصب لا الشخص، كالكليني‏[1] والقمّي‏[2] والمفيد[3] والديلمي‏[4] والقاضي‏[5]، وغيرهم إيماناً منهم بأنّ المعادن من الأنفال، والأنفال ملك الدولة. وهناك من يرى أ نّها من المشتركات العامّة التي يملكها الناس جميعاً ملكيّة عامّة، كما نقل عن الإمام الشافعي وعن كثير من العلماء الحنابلة.

وقد ذكر الماوردي الفقيه الشافعي: أ نّه أحد القولين في المسألة، إذ كتب يقول: وأمّا المعادن الباطنة فهي ما كان جوهرها مستكنّاً فيما لا يوصل إليه إلّا بالعمل، كمعادن الذهب والفضّة والصفر والحديد، فهذه وما أشبهها معادن باطنة سواء احتاج المأخوذ منها إلى سبك وتخليص أو لم يحتج، وفي جواز إقطاعها قولان: أحدهما: لا يجوز كالمعادن الظاهرة، وكلّ الناس فيها شرع‏[6].

 

 

[1] الاصول من الكافي 1: 538

[2] تفسير القمّي 1: 254

[3] المقنعة: 278

[4] المراسم: 140

[5] المهذّب 2: 34

[6] الأحكام السلطانيّة 1: 236 و 2: 197

556

الاجتماعي والضيق على الآخرين، كما نصّ على ذلك الفقيه الإصفهاني في الوسيلة[1]؛ لأنّنا لا نملك نصّاً صحيحاً من الشريعة يدلّ على أنّ الحيازة- دائماً وفي جميع الأحوال- تكون سبباً لملكيّة الثروة المعدنيّة المحازة، مهما كان قدر تلك الثروة، ومدى أثر حيازتها على الآخرين. وإنّما الشي‏ء الوحيد الذي نعلمه هو أنّ الناس كانوا قد اعتادوا في عصر التشريع على إشباع حاجاتهم من الموادّ المعدنيّة التي توجد على سطح الأرض أو قريباً منه بحيازة كمّيات من تلك الموادّ لسدّ حاجاتهم، وكانت الكمّيات ضئيلة بطبيعة الحال تبعاً لانخفاض إمكاناتهم الاستخراجيّة والإنتاجيّة. وهذه العادة التي سمحت بها الشريعة وقتئذٍ لا يمكن أن تصبح دليلًا على سماح الشريعة بتملّك الفرد لما يحوزه من الكمّيات وإن اختلفت حيازته في الكمّ- أي في قدر المادّة المحازة- وفي الكيف- أي أثر الحيازة على الآخرين- عن الحيازة التي جرت عليها عادة الناس في عصر التشريع.

وحتّى الآن وفي حدود المعادن الظاهرة- بالمعنى الفقهي- والمعادن الباطنة القريبة من سطح الأرض نجد أنّ الفقهاء لم يسمحوا بالملكيّة الخاصّة لرقبة المعدن، وإنّما أجازوا للفرد أن يأخذ من تلك المعادن القدر المعقول من حاجته.

وبذلك ترك مجال استثمار هذه الثروات الطبيعيّة في نطاق أوسع، بدلًا عن ممارسة المشاريع الفرديّة الخاصّة لها على سبيل الاحتكار.

المعادن الباطنة المستترة:

وأمّا المعادن الباطنة التي تختفي في أعماق الأرض فهي تتطلّب نوعين من الجهود:

 

 

[1] وسيلة النجاة 2: 318

555

الأرض، وقد توجد في أعماقها بشكل لا يمكن الوصول إليها بدون حفر وجهد كبير.

المعادن الباطنة القريبة من سطح الأرض:

أمّا ما كان من المعادن الباطنة قريباً من سطح الأرض فهو كالمعادن الظاهرة التي مرّت بنا أحكامها الآن.

قال العلّامة الحلّي في التذكرة: «فالمعادن الباطنة إمّا أن تكون ظاهرة- أي قريبة من سطح الأرض أو في متناول اليد- أو لا، فإن كانت ظاهرة لم تملك بالإحياء أيضاً، كما تقدّم في المعادن الظاهرة»[1].

والشي‏ء نفسه ذكره ابن قدامة، حيث كتب يقول: «إنّ المعادن الظاهرة وهي التي يوصل إليها من غير مؤونة ينتابها الناس وينتفعون بها لا تملك بالإحياء، ولا يجوز إقطاعها لأحد من الناس ولا احتجازها دون المسلمين …

فأمّا المعادن الباطنة وهي التي لا يوصل إليها إلّابالعمل والمؤونة- كمعادن الذهب والفضّة والحديد والنحاس والرصاص والبلّور والفيروزج- فإذا كانت ظاهرة لم تملك أيضاً بالإحياء»[2].

فالإسلام لا يسمح في الموادّ المعدنيّة التي تقع قريباً من سطح الأرض بتملّكها- وهي في مكانها- ملكيّة خاصّة، وإنّما يأذن لكلّ فرد أن يمتلك الكمّية التي يأخذها ويحوزها من تلك الموادّ، على أن لا تتجاوز الكمّية حدّاً معقولًا، ولا تبلغ الدرجة التي يصبح استيلاء الفرد عليها وحيازته لها سبباً للضرر

 

 

[1] تذكرة الفقهاء( ط. الحجريّة) 2: 403

[2] المغني 6: 156- 157

554

الظاهرة فهي ما كان جوهرها المستودع فيها بارزاً، كمعادن الكحل والملح والقار والنفط، وهو كالماء الذي لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه ..

فإن اقطعت هذه المعادن الظاهرة لم يكن لإقطاعها حكم، وكان المقطع وغيره فيها سواء، وجميع من ورد إليها اسوة مشتركون فيها، فإن منعهم المقطع منها كان بالمنع متعدّياً[1].

فالمعادن الظاهرة في ضوء ما قدّمناه من النصوص الفقهيّة خاضعة لمبدأ الملكيّة العامّة. والملكيّة العامّة هنا تختلف عن الملكيّة العامّة لأراضي الفتح العامرة التي سبق الحديث عنها؛ لأنّ الملكيّة العامّة لتلك الأرض كانت نتيجة لعمل سياسي قامت به الامّة وهو الفتح، فلم تكن لتنفتح لأكثر من ذلك، فهي ملكيّة عامّة للُامّة الإسلاميّة. وأمّا المعادن هنا فالناس فيها جميعاً سواء بموجب كثير من المصادر الفقهيّة التي جاء التعبير فيها بكلمة (الناس) بدلًا عن كلمة (المسلمين)، كما في المبسوط، والمهذّب، والوسيلة، والسرائر، والامّ؛ إذ لا دليل في رأي أصحاب هذه المصادر على اختصاص المسلمين بالمعادن، فهي إذن ملك عامّ للمسلمين، ولكلّ من يعيش في كنفهم.

المعادن الباطنة:

وأمّا المعادن الباطنة وهي في العرف الفقهي- كما عرفنا- كلّ معدن لا ينجز بشكله الكامل إلّابالعمل، كالذهب الذي لا يصبح ذهباً إلّابالعمل والتطوير .. فهذه بدورها أيضاً نوعان؛ لأنّ المادّة المعدنيّة من هذا القبيل قد توجد قريباً من سطح‏

 

[1] الأحكام السلطانيّة 1: 235- 236 و 2: 197

553

وقال العلّامة في التذكرة: «إنّ هذا هو رأي أكثر أصحابنا، ولم يبيّنوا لنا حاجة يومه أو سنته»[1].

ويريد بذلك: أنّ الفقهاء منعوا من أخذ الزائد على قدر الحاجة، ولم يحدّدوا الحاجة التي تسوّغ الأخذ هل هي حاجة اليوم أو السنة؟ وفي هذا تبلغ الشريعة قمّة الصراحة في التأكيد على عدم جواز الاستغلال الفردي لتلك الثروات الطبيعيّة.

وجاء في متن نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: أنّ المعدن الظاهر- وهو ما يخرج بلا علاج كنفط وكبريت- لا يملك ولا يثبت فيه اختصاص بتحجير ولا إقطاع، فإن ضاق نيله قدّم السابق بقدر حاجته، فإن طلب زيادةً فالأصحّ إزعاجه‏[2].

وقال الشافعي يوضّح حكم المعادن الظاهرة: وأصل المعادن صنفان:

ما كان ظاهراً كالملح في الجبال تنتابه الناس، فهذا لا يصلح لأحد أن يقطعه بحال، والناس فيه شرع، وهكذا النهر والماء الظاهر والنبات فيما لا يملك لأحد، وقد سأل الأبيض بن حمّال النبيّ صلى الله عليه و آله أن يقطعه ملح مأرب، فأقطعه إيّاه أو أراده.

فقيل له: إنّه كالماء العدّ. فقال: فلا إذن. قال: ومثل هذا كلّ عين ظاهرة كنفط أو قير أو كبريت أو موميا أو حجارة ظاهرة في غير ملك أحد، فهو كالماء والكلأ الناس فيه سواء[3].

وقال الماوردي في الأحكام السلطانيّة يتحدّث عن المعادن الظاهرة: فأمّا

 

 

[1] تذكرة الفقهاء( ط. الحجريّة) 2: 403

[2] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 5: 349، ومغني المحتاج 2: 372

[3] الامّ 4: 42، ونقل الحديث ابن داود في سننه 3: 174، الحديث 3064

552

الأقرب اشتراك المسلمين فيها، فحينئذٍ لا تملك بالإحياء، ولا يختصّ بها المحجّر، ولا يجوز إقطاعها، ولا يختصّ المقطع بها، والسابق إلى موضع منه لا يزعج قبل قضاء وطره، فإن تسابق اثنان اقرع مع تعذّر الجمع، ويحتمل القسمة، وتقديم الأحوج»[1].

وقد نصّت على مبدأ الملكيّة العامّة وعدم السماح بالملكيّة الخاصّة للمعادن الظاهرة كثير من المصادر الفقهيّة، كالمبسوط[2]، والمهذّب‏[3]، والسرائر[4]، والتحرير[5]، والدروس‏[6]، واللمعة[7]، والروضة[8].

وجاء في جامع الشرائع والإيضاح: «أ نّه لو قام الفرد لأخذ الزيادة عن حاجته منع»[9].

وفي المبسوط والسرائر والشرائع والإرشاد واللمعة ما يؤكّد هذا المنع، إذ جاء في هذه المصادر: أنّ من سبق أخذ قدر حاجته‏[10].

 

 

[1] قواعد الأحكام 2: 271

[2] المبسوط 3: 274

[3] المهذّب 2: 33

[4] السرائر 2: 383

[5] تحرير الأحكام الشرعيّة 2: 131

[6] الدروس الشرعيّة 3: 67

[7] اللمعة الدمشقيّة: 243

[8] الروضة البهيّة 4: 65

[9] الجامع للشرائع: 375، وإيضاح الفوائد 2: 237

[10] انظر المبسوط 3: 275، والسرائر 2: 383، وشرائع الإسلام 3: 222، وإرشاد الأذهان 1: 349، واللمعة الدمشقيّة: 243

551

بها وتملّكها ملكيّة خاصّة؛ لأنّها مندرجة عنده ضمن نطاق الملكيّة العامّة، وخاضعة لهذا المبدأ، وإنّما يسمح للأفراد بالحصول على قدر حاجتهم من تلك الثروة المعدنيّة دون أن يستأثروا بها، أو يتملّكوا ينابيعها الطبيعيّة.

وعلى هذا الأساس يصبح للدولة وحدها، أو للإمام بوصفه وليّ أمر الناس- الذين يملكون تلك الثروات الطبيعيّة ملكيّة عامّة- أن يستثمرها بقدر ما توفّره الشروط المادّية للإنتاج والاستخراج من إمكانات، ويضع ثمارها في خدمة الناس.

وأمّا المشاريع الخاصّة التي يحتكر فيها الأفراد استثمار المعادن فتمنع منعاً باتّاً،. ولو مارست تلك المشاريع العمل والحفر للوصول إلى المعدن واكتشافه في أعماق الأرض .. لم يكن لها حقّ تملّك المعدن وإخراجه عن نطاق الملكيّة العامّة، وإنّما يسمح لكلّ مشروع فردي بالحصول على قدر حاجة الفرد الخاصّة من تلك المادّة المعدنيّة.

وقد قال العلّامة الحلّي في التذكرة- توضيحاً لهذا المبدأ التشريعي في المعادن الظاهرة بعد أن استعرض أمثلة كثيرة لها-: «إنّ هذه المعادن لا يملكها أحد بالإحياء والعمارة، وإن أراد بها النيل إجماعاً»[1]. ويعني ب (النيل): الطبقة التي تحتوي على المعدن من الأرض. أي أنّ الفرد لا يسمح له بتملّك تلك المعادن ولو حفر حتّى وصل إلى آبار النفط، أي إلى الطبقة المعدنيّة في أعماق الأرض.

وقال أيضاً في القواعد عند الحديث عن المعادن الظاهرة ما يلي: «المعادن وهي قسمان: ظاهرة وباطنة. أمّا الظاهرة وهي التي لا تفتقر في الوصلة إليها إلى مؤونة: كالملح والنفط والكبريت والقار والموميا والكحل والبرام والياقوت …

 

[1] تذكرة الفقهاء( ط. الحجريّة) 2: 403