کتابخانه
577
[3] المياه الطبيعيّة

مصادر المياه الطبيعيّة على قسمين:

أحدهما: المصادر المكشوفة التي أعدّها اللَّه للإنسان على سطح الأرض، كالبحار والأنهار، والعيون الطبيعيّة.

والآخر: المصادر المكنوزة في أعماق الطبيعة التي يتوقّف وصول الإنسان إليها على جهد وعمل، كمياه الآبار التي يحفرها الإنسان ليصل إلى ينابيع الماء.

فالقسم الأوّل من المياه يعتبر من المشتركات العامّة بين الناس‏[1]، والمشتركات هي الثروات الطبيعيّة التي لا يأذن الإسلام لفرد خاصّ بتملّكها، وإنّما يسمح للأفراد جميعاً بالاستفادة منها مع احتفاظ أصل المال ورقبته بصفة الاشتراك والعموم، فالبحر أو النهر الطبيعي من الماء لا يملكه أحد ملكيّة خاصّة، ويباح للجميع الانتفاع به، وعلى هذا الأساس نعرف أنّ المصادر الطبيعيّة المكشوفة للمياه تخضع لمبدأ الملكيّة العامّة[2].

وإذا حاز الشخص منها كمّية في أيّ ظرف مهما كان نوعه ملك الكمّية التي حازها، فلو اغترف من النهر بإناء، أو سحب منه بآلة، أو حفر حفيرة بشكل مشروع وأوصلها بالنهر أصبح الماء الذي غرفه الإناء، أو سحبته الآلة، أو اجتذبته‏

 

[1] انظر الروضة البهيّة 4: 63، وجواهر الكلام 38: 124

[2] وهناك رأي فقهي مشهور يستثني من تلك المصادر ما كان نابعاً في أرض تختصّ بفرد خاصّ، راجع بهذا الصدد الملحق رقم 8.( المؤلّف قدس سره)

576

ويقول: «لا حمى إلّاللَّه‏ولرسوله». وورد في بعض الروايات: «أنّ شخصاً سأل الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل المسلم تكون له الضيعة فيها جبل ممّا يباع، يأتيه أخوه المسلم وله غنم قد احتاج إلى جبل، يحلّ له أن يبيعه الجبل، كما يبيع من غيره، أو يمنع منه إن طلبه بغير ثمن؟ وكيف حاله فيه وما يأخذ؟ فقال: لا يجوز له بيع جبله من أخيه»[1].

فمجرّد وقوع مصدر طبيعي في سيطرة فرد لا يعتبر في الإسلام سبباً لإيجاد حقّ للفرد في ذلك المصدر. والحمى الوحيد الذي سمح به الإسلام هو حمى الرسول، فقد حمى النبيّ صلى الله عليه و آله بعض المواضع من موات الأرض لمصالح عامّة، كالبقيع إذ خصّصه لإبل الصدقة، ونعم الجزية، وخيل المجاهدين‏[2].

 

[1] وسائل الشيعة 17: 372، الباب 22 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 2

[2] انظر جواهر الكلام 38: 61- 62

575

منها، ويعتبرونها وكلّ ما تضمّ من طاقات وثروات ملكاً خالصاً لهم بسبب استيلائهم عليها، وقدرتهم على منع الآخرين من الانتفاع بها. وقد جاء في كتاب الجواهر للمحقّق النجفي: «أنّ هؤلاء كان من عادة أحدهم في الجاهليّة إذا انتجع بلداً مخصباً أن يستعوي كلباً على جبل أو سهل، ثمّ يعلن تملّكه لمجموع المساحة التي امتدّ إليها صوت الكلب من سائر الجهات، وحمايته لها من الآخرين، ولذلك يطلق عليها اسم (الحمى)»[1].

وقال الشافعي في كتابه- بعد أن نقل بسنده عن الصعب أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: لا حمى إلّاللَّه‏ورسوله‏[2]-: «كان الرجل العزيز من العرب إذا انتجع بلداً مخصباً أوفى بكلب على جبل إن كان به، أو نشز إن لم يكن جبل، ثمّ استعواه وأوقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء، فحيث بلغ صوته حماه من كلّ ناحية فيرعى مع العامّة فيما سواه، ويمنع هذا من غيره لضعفاء سائمته، وما أراد قرنه معها فيرعى معها. فترى أنّ قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ولا حمى إلّاللَّه‏ورسوله» لا حمى على هذا المعنى الخاصّ، وأنّ قوله: «للَّه‏كلّ محمي وغيره ورسوله» أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إنّما كان يحمي لصلاح عامّة المسلمين، لا لما يحمي له غيره من حاجة نفسه»[3].

ومن الطبيعي أن ينكر الإسلام الحمى؛ لأنّ الحقّ الخاصّ فيه يقوم على أساس السيطرة، لا على أساس العمل؛ ولهذا لا يسمح بذلك لأحد من المسلمين، وجاء النصّ يؤكّد شجب هذا الاسلوب من التملّك والاحتكار للمصادر الطبيعيّة،

 

[1] جواهر الكلام 38: 62

[2] سنن أبي داود 3: 180، الحديث 3083

[3] الامّ 4: 47

574

الاسلوب الثاني، إذا كانت لا تتمتّع بإدارة مركزيّة قويّة.

ففي المجتمع الإسلامي قد تسدّد اجور ونفقات الأفراد الذين يقدّمون خدمات عامّة للُامّة، بصورة نقديّة، كما قد يتّفق- تبعاً لظروف الإدارة في الدولة الإسلاميّة- أن تسدّد تلك الاجور والنفقات، عن طريق منح الدولة للفرد الحقّ في السيطرة على خراج أرض محدودة من أراضي الامّة، وأخذه من المزارع مباشرة، باعتباره اجرة للفرد على الخدمة التي يقدّمها للُامّة، فيطلق على هذا اسم: (الإقطاع). ولكنّه ليس إقطاعاً في الحقيقة، وإنّما هو تكليف للفرد بأن يتقاضى أجره من خراج مساحة معيّنة من الأرض يحصل عليه عن طريق الاتّصال بالمزارع.

فالفرد المقطع يملك الخراج بوصفه اجرة على خدمة عامّة قدّمها للُامّة، ولا يملك الأرض، ولا يوجد له أيّ حقّ أصيل في رقبتها ولا في منافعها، ولا تخرج بذلك الأرض عن كونها ملكاً للمسلمين، ولا عن وصفها أرضاً خراجيّة، كما نصّ على ذلك المحقّق الفقيه السيّد محمّد بحر العلوم في (بلغته)، وهو يحدّد هذا النوع من الإقطاع- أي إقطاع الأرض الخراجيّة- فقد كتب يقول:

«إنّ هذا الإقطاع لا يُخرج الأرض عن كونها خراجيّة؛ لأنّ معناه كون خراجها للفرد المقطع، لا خروجها عن الخراجيّة»[1].

الحمى في الإسلام:

(الحمى): مفهوم قديم عند العرب يعبّر عن المساحات الشاسعة من موات الأرض يحتكرها الأفراد والأقوياء لأنفسهم، ولا يسمحون للآخرين بالاستفادة

 

[1] بلغة الفقيه 1: 249

573

إقطاعاً في الحقيقة، وإنّما هو تسديد لُاجرة على خدمة.

وموضع هذا الإقطاع هو الأرض الخراجيّة التي تعتبر ملكاً للُامّة، إذ قد يتّفق للحاكم أن يمنح فرداً شيئاً من الأرض الخراجيّة ويسمح له بالسيطرة على خراجها.

وهذا التصرّف من الحاكم وإن عبّر في مدلوله التاريخي أحياناً- وبدون حقّ- عن عمليّة تمليك سافرة لرقبة الأرض، ولكنّه في مدلوله الفقهي وحدوده المشروعة، لا يعني شيئاً من ذلك، وإنّما يعتبر اسلوباً في تسديد الاجور والمكافآت التي تلتزم الدولة بدفعها إلى الأفراد نظير ما يقدّمون من أعمال وخدمات عامّة.

ولكي نعرف ذلك، يجب أن نستذكر أنّ الخراج- وهو المال الذي تتقاضاه الدولة من المزارعين- يعتبر ملكاً للُامّة، تبعاً لملكيّة الأرض نفسها، ولهذا يجب على الدولة أن تصرف أموال الخراج في المصالح العامّة للُامّة، كما نصّ على ذلك الفقهاء[1]، ممثّلين لتلك المصالح بمؤونة الولاة والقضاة، وبناء المساجد والقناطر، وغير ذلك؛ لأنّ الولاة والقضاة يقدّمون خدمة للُامّة، فيجب أن تقوم الامّة بمؤونتهم، كما أنّ المساجد والقناطر من المرافق العامّة التي ترتبط بحياة الناس جميعاً، فيجوز إنشاؤها من أموال الامّة وحقوقها في الخراج.

وواضح أنّ قيام الدولة بمؤونة الوالي والقاضي أو مكافأة أيّ فرد قدّم خدمة عامّة لمجموع الامّة، قد يكون بإعطاء الدولة له من بيت المال مباشرة، وقد يكون أيضاً بالسماح له بالحصول مباشرة على ريع بعض أملاك الامّة. والدولة تتبع عادة

 

[1] كالشيخ الطوسي في المبسوط 2: 34، وابن إدريس في السرائر 1: 477، والعلّامة الحلّي في منتهى المطلب( ط. الحجريّة) 2: 936

572

الطبيعيّة التي من شأن العمل فيها أن يمنح العامل حقّاً أو لوناً من الاختصاص بها، وهي الموات في العرف الفقهي. فلا يجوز إقطاع المرافق الطبيعيّة التي لا يتولّد فيها عن العمل أيّ حقّ أو اختصاص، كما نصّ على ذلك الشيخ الطوسي في المبسوط، ممثّلًا لهذا النوع من المرافق بالمواضع الواسعة في الطرقات‏[1]، فإنّ المنع عن إقطاع هذا النوع من المرافق وتحديد الإقطاع بالموات خاصّة يدلّ بكلّ وضوح على الحقيقة التي تبيّنّاها، ويثبت أنّ وظيفة الإقطاع من الناحية التشريعيّة ليست إلّاإعطاء حقّ العمل في مصدر طبيعي معيّن لغرض خاصّ بوصفه اسلوباً من أساليب تقسيم العمل على المصادر الطبيعيّة التي هي بحاجة إلى إحياء وعمل، وأمّا حقّ الفرد في نفس المصدر الطبيعي فيقوم على أساس العمل لا الإقطاع.

فإذا كان المصدر الطبيعي من المرافق التي ليست بحاجة إلى إحياء وعمل، ولا يؤدّي فيها العمل إلى حقّ خاصّ للعامل فلا يجوز الإقطاع؛ لأنّ الإقطاع بالنسبة إلى هذه المرافق يفقد معناه الإسلامي؛ لأنّها ليست بحاجة إلى عمل، ولا أثر للعمل فيها حتّى يمنح حقّ العمل فيها لفرد من الأفراد، بل يعود الإقطاع بالنسبة إلى هذه المرافق مظهراً من مظاهر احتكار الطبيعة واستغلالها، وهذا لا يتّفق مع المفهوم الإسلامي للإقطاع ووظيفته الأصيلة، ولهذا منعت منه الشريعة، وحدّدت الإقطاع الجائز بذلك النوع من المصادر الطبيعيّة التي هي بحاجة إلى عمل.

الإقطاع في الأرض الخراجيّة:

بقي شي‏ء آخر قد يطلق عليه اسم (الإقطاع) في العرف الفقهي، وليس هو

 

[1] انظر المبسوط 3: 276

571

التعطيل»[1].

وقال الإمام الشافعي: ومن أقطع أرضاً أو تحجّرها فلم يعمرها رأيت للسلطان أن يقول له: إن أحييتها وإلّا خلّينا بينها وبين من يحييها، فإن تأجّله رأيت أن يفعل‏[2].

وجاء في الرواية عن الحرث بن بلال بن الحرث: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أقطع بلال بن الحرث العقيق، فلمّا ولي عمر بن الخطّاب قال: ما أقطعك لتحتجنه بأقطعة الناس‏[3].

هذا هو كلّ دور الإقطاع وأثره في الفترة المتخلّلة بينه وبين العمل، وهي الفترة التي يؤثّر فيها الإقطاع من الناحية التشريعيّة أثره، وهذا الأثر لا يتجاوز- كما عرفنا- حقّ العمل الذي يجعل من الإقطاع اسلوباً تستعمله الدولة في بعض الظروف لاستثمار المصادر الطبيعيّة وتقسيم الطاقات العاملة على تلك المصادر تبعاً لمدى كفاءتها.

وأمّا بعد ممارسة الفرد للعمل في الأرض أو المعدن فإنّ الإقطاع لا يبقى له أثر من الناحية التشريعيّة، بل يحلّ العمل محلّه، فيصبح للفرد من الحقّ في الأرض أو المعدن ما تقرّره طبيعة العمل وفقاً للتفصيلات التي مرّت بنا.

وهذه الحقيقة عن الإقطاع التي تبرزه بوصفه اسلوباً إسلاميّاً لتقسيم العمل نجد ما يبرهن عليها إضافة إلى ما سبق من نصوص وأحكام في التحديد الذي وضعته الشريعة للإقطاع، فقد حدّد الإقطاع المسموح به في الشريعة ب: المصادر

 

[1] مفتاح الكرامة 7: 47، مع تصرّف يسير في العبارة

[2] الامّ، مختصر المزني: 131

[3] المغني 6: 169، والأموال: 348، الحديث 679، مع اختلاف

570

وحتّى يمارس العمل- أي في فترة الاستعداد وتهيئة الشروط اللازمة التي تتخلّل بين الإقطاع والبدء في العمل- ليس له أيّ حقّ سوى العمل في تلك المساحة المحدّدة من الأرض، أو ذلك الجزء المعيّن من المنجم الذي يسمح له بالإحياء والاستثمار، ويمنع الآخرين من مزاحمته في ذلك؛ لئلّا يضطرب الاسلوب الذي اتّبعه الإمام في استثمار المصادر الطبيعيّة وتقسيم الطاقات عليها وفقاً لكفايتها.

وهذه الفترة التي تتخلّل بين الإقطاع والبدء في العمل يجب أن لا تطول؛ لأنّ الإقطاع لم يكن معناه تمليك الفرد أرضاً أو معدناً، وإنّما هو تقسيم للعمل الكلّي على المصادر الطبيعيّة على أساس الكفاءة. فليس من حقّ الفرد المقطع أن يؤجّل موعد العمل دون مبرّر؛ لأنّ مسامحته في البدء بالعمل تعيق عن إنجاح الإقطاع بوصفه استثماراً للمصادر على أساس تقسيم العمل، كما كانت مزاحمة الغير له في العمل- بعد أن وظّف من قبل الدولة- باستثمار ذلك الجزء الخاصّ الذي تمّ إقطاعه له معيقةً أيضاً عن أداء الإقطاع لدوره الإسلامي.

ولهذا نجد الشيخ الطوسي في المبسوط، يقول عن الفرد المقطع: «إن أخّر الإحياء قال له السلطان: إمّا أن تحييها أو تُخلّي بينها وبين غيرك حتّى يحييها، فإن ذكر عذراً في التأخير واستأجل في ذلك أجّله السلطان، وإن لم يكن له عذر في ذلك وخيّره السلطان بين الأمرين فلم يفعل أخرجها من يده»[1].

وجاء في مفتاح الكرامة: «أ نّه لو اعتذر بالإعسار فطلب الإمهال إلى اليسار لم يُجب إلى طلبه؛ لأنّه لعدم الأمد يستلزم التطويل، فيفضي إلى‏

 

[1] المبسوط 3: 273

569

الإقطاع يفيد الاختصاص‏[1]، وكذلك الشيخ الطوسي في المبسوط إذ كتب يقول: «إذا أقطع السلطان رجلًا من الرعيّة قطعة من الموات صار أحقّ بها من غيره بإقطاع السلطان، بلا خلاف»[2].

وقال الحطّاب في مواهب الجليل يتحدّث عن إقطاع الإمام للمعدن:

حيث يكون نظر المعدن للإمام فإنّه ينظر فيه بالأصلح جباية وإقطاعاً .. إنّما يقطعه انتفاعاً لا تمليكاً فلا يجوز بيعه من أقطعه … ولا يورث عمّن أقطعه؛ لأنّ ما لا يُملك لا يورث، وفي إرث نيل أدرك قول‏[3].

فالإقطاع إذن ليس عمليّة تمليك، وإنّما هو حقّ يمنحه الإمام للفرد في مصدر طبيعي خام، فيجعله أولى من غيره باستثمار الجزء الذي حدّد له من الأرض أو المعدن تبعاً لقدرته وإمكاناته.

ومن الواضح أنّ منح هذا الحقّ ضروري ما دام الإقطاع- كما عرفنا- اسلوباً من أساليب تقسيم الطاقات والقوى العاملة على المصادر الطبيعيّة بقصد استثمارها؛ لأنّ الإقطاع لا يمكن أن يقوم بدوره هذا، وينجز تقسيم القوى العاملة على المصادر الطبيعيّة وفقاً لمخطّطٍ عامٍّ ما لم يتمتّع كلّ فرد بحقّ استثمار ما اقطع من تلك المصادر، يكون بموجبه أولى من غيره بإحيائه والعمل فيه. فمردّ هذا الحقّ إلى ضمان ضبط التقسيم، وإنجاح الإقطاع بوصفه اسلوباً لاستثمار المصادر الطبيعيّة، وتقسيمها بين القوى العاملة على أساس الكفاءة.

وهكذا نجد أنّ الفرد من حين إقطاع الإمام له أرضاً أو شيئاً من المعدن‏

 

[1] قواعد الأحكام 2: 269

[2] المبسوط 3: 273

[3] مواهب الجليل 2: 336