الاسس المنطقية للاستقراء
31

وهكذا نجد أنّ أرسطو في هذا النصّ وثق بالاستقراء الكامل، واتخذ منه الأساس الأوّل لكلّ الأقيسة والبراهين؛ لأنّ كلّ هذه البراهين تستمدّ من المقدّمات الأوّليّة، وهذه المقدّمات تثبت بالاستقراء، لا بالقياس.

ولم يحتفظ الاستقراء الكامل بعد ذلك في المنطق الأرسطي بمركزه الرئيس كأساس للمقدّمات الأوّليّة للقياس، غير أ نّه احتفظ بوصفه دليلًا منطقيّاً مؤكّداً.

فابن سينا[1] لا يعتبر الاستقراء وسيلة للبرهنة على المقدّمات الأوّليّة للقياس التي لا وسط بين محمولها وموضوعها، بل يقرّر أنّ كلّ مقدّمة أوّليّة من هذا القبيل لا يمكن أن تثبت إلّاعلى أساس وضوحها الذاتي، لا على أساس القياس ولا الاستقراء[2]. ولكنّه يعترف إلى جانب ذلك بأنّ الاستقراء الكامل دليل منطقي مؤكّد.

نقد الموقف الأرسطي من الاستقراء الكامل:

وتعليقنا على موقف المنطق الأرسطي من الاستقراء الكامل يتلخّص في‏

______________________________

– يعتبر الحدّ الأصغر هو زيد وخالد وبكر، والحدّ الأكبر: صفة أ نّه يأكل، والحدّ الأوسط هو الإنسان، والاستقراء يتولّى مهمّة إثبات الحدّ الأكبر للأوسط عن طريق الحدّ الأصغر أي إثبات صفة أ نّه يأكل للإنسان بواسطة زيد وخالد وبكر. (المؤلّف قدس سره)

[1] جاء في ترجمته: أبو علي حسين بن عبد اللَّه بن حسن بن عليّ بن سينا( 363- 428 ه ق): فيلسوف وطبيب وعالم من كبار فلاسفة الإسلام وأطبّائهم، عُرف بالشيخ الرئيس، ولد في« أفشنة» قرب« بخارى» وتوفّي في« همدان» ودُفن فيها، تعمّق في درس فلسفة« أرسطو» وتأثّر بالأفلاطونيّة الحديثة، من جملة مؤلّفاته:« القانون»،« الشفاء»،« النجاة»،« الإشارات والتنبيهات»،« الحدود»( لجنة التحقيق)

[2] البرهان لابن سينا: 44- 45

30

الأوسط بينهما، وهكذا حتّى نصل في تسلسل متصاعد إلى المقدّمات الأوّليّة التي يثبت فيها المحمول للموضوع بذاته، وبدون وسيط بينهما. وفي هذه المقدّمات لا يمكن أن نستخدم القياس في البرهنة على ثبوت المحمول للموضوع؛ لأنّ القياس يتطلّب وسيطاً بينهما ولا وسيط بين الموضوع والمحمول في هذه المقدّمات، فالطريق الوحيد الممكن افتراضه في رأي أرسطو للبرهنة على هذه المقدّمات هو الاستقراء الكامل.

قال أرسطو: «وينبغي أن تعلم: أنّ الاستقراء ينتج أبداً المقدّمة الاولى التي لا واسطة لها؛ لأنّ الأشياء التي لها واسطة، بالواسطة يكون قياسها. أمّا الأشياء التي لا واسطة لها، فإنّ بيانها يكون بالاستقراء، والاستقراء من جهة يعارض القياس؛ لأنّ القياس بالواسطة يبيّن وجود الطرف الأكبر في الأصغر، وأمّا بالاستقراء فيبيّن بالطرف الأصغر وجود الأكبر في الأوسط»[1].

 

[1] منطق أرسطو، التحليلات الاولى، المقالة الثانية، الفصل الثالث والعشرون.

وهذه التفرقة التي جاءت في هذا النصّ بين القياس والاستقراء تتضح من خلال المقارنة بين مثالين للقياس والاستقراء كما يتصوّرهما أرسطو:

فنحن في القياس نقول: إذا كان شي‏ء ما إنساناً فهو يجوع، وإذا كان يجوع فهو يأكل، ونستنتج من ذلك أنّ أيّ شي‏ء إذا كان إنساناً فهو يأكل. وبهذا نكون قد أثبتنا- بطريقة قياسيّة- للإنسان المفترض، صفة أ نّه يأكل، بتوسّط أن يجوع. والإنسان في هذا القياس هو الحدّ الأصغر، وصفة أ نّه يأكل هو الحدّ الأكبر، وصفة أ نّه يجوع هو الحدّ الأوسط. وهكذا ثبت الأكبر للأصغر عن طريق الحدّ الأوسط.

ونحن في الاستقراء الكامل نقول: زيد وخالد وبكر هم كلّ أفراد الإنسان، وزيد وخالد وبكر يأكلون، فنستنتج من ذلك بطريقة استقرائيّة، أنّ كلّ إنسان يأكل. وفي هذا الاستقراء-

29

موقف المنطق الأرسطي من الاستقراء الكامل‏

إيمان المنطق الأرسطي بالاستقراء الكامل:

وقد آمن المنطق الأرسطي بالاستقراء الكامل، وأكّد على قيمته المطلقة من الناحية المنطقيّة، وكونه على مستوى الطريقة القياسيّة في الاستنباط. فكما أنّ البرهنة بطريقة قياسيّة على ثبوت المحمول للموضوع (أي ثبوت الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر بواسطة الحدّ الأوسط) تؤدّي إلى اليقين بأنّ هذا المحمول ثابت للموضوع، كذلك أيضاً البرهنة على ثبوت المحمول للموضوع عن طريق استقراء جميع أفراد ذلك الموضوع، فإنّها تعطي نفس الدرجة من الجزم المنطقي التي يعطيها القياس.
بل إنّ أرسطو قد اعتبر هذا الاستقراء هو الأساس للتعرّف على المقدّمات الاولى التي يبدأ منها تكوين الأقيسة. فإنّ هذه المقدّمات الرئيسيّة التي ترتكز عليها مجموع الأقيسة، لا يمكن التعرّف عليها عن طريق القياس، بل الطريق الوحيد لمعرفتها هو الاستقراء الكامل؛ لأنّنا عن طريق القياس إنّما نبرهن على ثبوت المحمول للموضوع، أي الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر بواسطة الحدّ الأوسط، الذي هو بدوره محمول للأصغر وموضوع للأكبر، وإذا حاولنا أن نبرهن قياسيّاً على ثبوت الحدّ الأكبر للأوسط، أو الأوسط للأصغر فلا بدّ لنا أن نظفر بالحد

28

27

الكامل استنباطاً، لا استقراءً، وإنّما الاستقراء الذي يسير من الخاصّ إلى العامّ، هو الاستقراء الناقص فقط.
وعلى هذا الأساس نعرف أنّ تقسيم المنطق الأرسطي للاستقراء إلى كامل وناقص، كان نتيجة لتجاوزه عن المفهوم الذي حدّدناه للاستقراء، واتخاذ الاستقراء تعبيراً عامّاً عن كلّ استدلال يقوم على أساس تعداد الحالات والأفراد.
وهذا يعني أنّ الاستقراء الذي ندرسه في بحوث هذا الكتاب هو أحد قسمي الاستقراء الأرسطي.
وسوف نرى الآن موقف المنطق الأرسطي من الاستقراء الكامل والاستقراء الناقص معاً.

26

والفارق بين الملاحظة والتجربة: هو الفارق بين من يدرس ظاهرة البرق- مثلًا- بملاحظة البرق الذي تحدثه الطبيعة في سيرها الاعتيادي، ومن يدرسه بملاحظة الشرر الكهربائي الذي يثيره في تجاربه ويخلقه في معمله الخاصّ. وكلّ منهما يسير في اكتشافه للقانون الطبيعي للبرق- عن طريق الملاحظة أو التجربة- وفق الطريقة الاستقرائيّة في الاستدلال.
فالدليل الاستقرائي إذن يبدأ دائماً بملاحظة عدد من الحالات أو خلقها بوسائل التجربة التي يملكها الإنسان، ويبني على أساسها النتيجة العامّة التي توحي بها تلك الملاحظات أو التجارب.
والمنطق الأرسطي حين عالج الاستقراء لم يميّز- بصورة أساسيّة- بين الملاحظة والتجربة، وأراد بالاستقراء كلّ استدلال يقوم على أساس تعداد الحالات والأفراد. وعلى هذا الأساس قسّم الاستقراء إلى كامل وناقص؛ لأنّ تعداد الحالات والأفراد وفحصها إذا كان مستوعباً لكلّ الحالات والأفراد التي تشملها النتيجة المستدلّة بالاستقراء، فالاستقراء كامل. وإذا لم يشمل الفحص والتعداد إلّاعدداً محدوداً منها، فالاستقراء ناقص.
وقد انطلق المنطق الأرسطي في تحديد موقفه تجاه الاستقراء من تمييزه هذا بين الاستقراء الكامل والاستقراء الناقص، فاتّخذ من كلّ واحد من هذين القسمين موقفاً خاصّاً.
ونحن إذا قارنّا مفهومنا عن الاستقراء بالمفهوم الأرسطي، نجد أنّ الاستقراء في مفهومنا لا يمكن أن يقسّم إلى استقراء كامل واستقراء ناقص؛ لأنّنا نريد بالاستقراء كلّ استدلال يسير من الخاصّ إلى العامّ، والاستقراء الكامل لا يسير من الخاصّ إلى العامّ، بل تجي‏ء النتيجة فيه مساوية لمقدّماتها، كما رأينا في المثال الثاني للاستنباط الذي قدّمناه سابقاً، ومن أجل ذلك يعتبر الاستقراء

25

مفهوم الاستقراء في المنطق الأرسطي‏[1]

الاستقراء- كما تقدّم- هو: كلّ استدلال يسير من الخاصّ إلى العامّ، وبهذا يشمل الدليل الاستقرائي الاستنتاج العلمي القائم على أساس الملاحظة، والاستنتاج العلمي القائم على أساس التجربة، بالمفهوم الحديث للملاحظة والتجربة.

واريد بالملاحظة: اقتصار المستقرئ على مشاهدة سير الظاهرة كما تقع في الطبيعة، لاكتشاف أسبابها وعلاقاتها.

واريد بالتجربة: تدخّل المستقرئ عمليّاً في تعديل سير الطبيعة، وخلق الظاهرة الطبيعيّة موضوعة البحث في حالات شتّى، لاكتشاف تلك الأسباب والعلاقات.

 

[1] الأرسطي: نسبة إلى« أرسطو» أو« أرِسطاليس»(Aristoteles ):( نحو 384- 322 ق. م) وهو فيلسوف يوناني من كبار مفكّري البشريّة، تتلمذ على« أفلاطون» وتولّى تربية« الاسكند المقدوني» لثلاث سنوات، بدأ أوّل الأمر مدافعاً عن أفكار« أفلاطون» ثمّ ما لبث أن انتقدها بشدّة، لُقّب ب« المعلّم الأوّل». من أهمّ مؤلّفاته:« المقولات»،« الجدل»،« الخطابة»،« كتاب ما بعد الطبيعة»،« السياسة»،« النفس»( لجنة التحقيق)

24

23

القسم الأوّل: الاستقراء والمذهب العقلي للمعرفة في المنطق الأرسطي‏

مفهوم الاستقراء في المنطق الأرسطي.
موقف المنطق الأرسطي من الاستقراء الكامل.
الموقف الأرسطي من الاستقراء الناقص.