استدلالياً»، ومن البديهي أنّ الإنسان بحكم تبعيته للشريعة ووجوب امتثال أحكامها عليه ملزم بتحديد موقفه العملي منها، ولمّا لم تكن أحكام الشريعة غالباً في البداهة والوضوح بدرجةٍ تغني عن إقامة الدليل فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعاً تحديد الموقف العملي تحديداً استدلالياً، ويحجر عليهم النظر في الأدلّة التي تحدِّد موقفهم تجاه الشريعة، فعملية الاستنباط إذن ليست جائزةً فحسب، بل من الضروري أن تمارس. وهذه الضرورة تنبع من واقع تبعية الإنسان للشريعة، والنزاع في ذلك على مستوى النزاع في البديهيات.
ولكن لسوء الحظ اتّفق لهذه النقطة أن اكتسبت صيغةً اخرى لا تخلو عن غموضٍ وتشويش، فأصبحت مَثاراً للاختلاف نتيجةً لذلك الغموض والتشويش، فقد استخدمت كلمة «الاجتهاد» للتعبير عن عملية الاستنباط، وطرح السؤال هكذا: هل يجوز الاجتهاد في الشريعة، أوْ لا؟ وحينما دخلت كلمة «الاجتهاد» في السؤال- وهي كلمة مرّت بمصطلحاتٍ عديدةٍ في تأريخها- أدّت إلى إلقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث، ونتج عن ذلك أن تقدَّم جماعة من علمائنا المحدّثين ليجيبوا على السؤال بالنفي، وبالتالي ليشجبوا علم الاصول كلّه؛ لأ نّه إنّما يراد لأجل الاجتهاد، فإذا الغي الاجتهاد لم تعدْ حاجة إلى علم الاصول.
وفي سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطوّر الذي مرّت به كلمة «الاجتهاد»؛ لكي نتبيّن كيف أنّ النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط والضجّة التي اثيرت ضدّها لم يكن إلّانتيجة فهمٍ غير دقيقٍ للاصطلاح العلمي، وغفلةً عن التطورات التي مرّت بها كلمة «الاجتهاد» في تأريخ العلم.
الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد، وهو «بذل الوسع للقيام بعملٍ ما»، وقد استعملت هذه الكلمة- لأوّل مرّةٍ- على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدةٍ من القواعد التي قرّرتها بعض مدارس الفقه السنّي وسارت على أساسها، وهي القاعدة القائلة: «إنّ الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصّاً يدل