کتابخانه
253

1- حركة التطوّر

قال ستالين:

«إنّ الديالكتيك- خلافاً للميتافيزية- لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود، حالة ركود واستقرار، بل يعتبرها حالة حركة وتغيّر دائمين، حالة تجدّد وتطوّر لا ينقطعان، ففيها دائماً شي‏ء يولد ويتطوّر وشي‏ء ينحلّ ويضمحلّ. ولهذا تريد الطريقة الديالكتيكية أن لا يكتفى بالنظر إلى الحوادث من حيث علاقات بعضها ببعض، ومن حيث تكييف بعضها لبعض بصورة متقابلة، بل أن ينظر إليها- أيضاً- من حيث حركتها، من حيث تغيّرها وتطوّرها، من حيث ظهورها واختفائها»[1].

وقال أنجلز:

«ينبغي لنا ألّا ننظر إلى العالم وكأ نّه مركّب من أشياء ناجزة، بل ينبغي أن ننظر إليه وكأ نّه مركّب في أدمغتنا. إنّ هذا المرور ينمّ عن تغيّر لا ينقطع من الصيرورة والانحلال، حيث يشرق نهار النمو المتقدّم في النهاية رغم جميع الصدف الظاهرة والعودات الموقتة إلى الوراء»[2].

 

[1] المادّية الديالكتيكية والمادّية التأريخية: 16

[2] هذه هي الديالكتيكية: 97- 98

252

السواد والبياض، أوالنبات والجماد شي‏ء، وإنّما يصحّ أن يكون هذا أو ذاك، لا أ نّه هو هذا وذاك معاً في وقت واحد[1].

ولندع مقولات هيجل، لندرس الجدل الماركسي في خطوطه العريضة التي وضع تصميمها الأساسي هيجل نفسه.

والخطوط الأساسية أربعة، وهي: حركة التطوّر، وتناقضات التطوّر، وقفزات التطوّر، والإقرار بالارتباط العام.

[1] أضف إلى ذلك: أنّ هذا التناقض المزعوم في ثالوث الوجود، يرتكز على خلط آخر بين فكرة الشي‏ء، والواقع الموضوعي لذلك الشي‏ء؛ فإنّ مفهوم الوجود ليس إلّاعبارة عن فكرة الوجود في أذهاننا، وهي غير الواقع الموضوعي للوجود. وإذا ميّزنا بين فكرة الوجود وواقع الوجود زال التناقض؛ فإنّ واقع الوجود معيّن ومحدود لا يمكن سلب صفة الوجود عنه مطلقاً، وأمّا فكرتنا عن الوجود فهي ليست وجوداً واقعياً، وإنّما هي المفهوم الذهني المأخوذ عنه.( المؤلّف قدس سره)

251

– إذن- شيئاً محدّداً، وهو بالتالي ليس موجوداً، وهذا هو الطباق الذي أثارته الاطروحة، وهكذا حصل التناقض في مفهوم الوجود، ويحلّ هذا التناقض في التركيب بين الوجود واللاوجود الذي ينتج موجوداً لا يوجد على التمام، أي:

صيرورة وحركة، وهكذا ينتج أنّ الوجود الحقّ هو الصيرورة.

هذا مثال سقناه لنوضّح كيف يتسلسل أبو الجدل الحديث في استنباط المفاهيم العامّة من الأعمّ إلى الأخصّ، ومن الأكثر خواءً وضعفاً، إلى الأكثر ثراءً والأقرب إلى الواقع الخارجي.

وليس هذا الجدل في استنباط المفاهيم عنده إلّاانعكاساً لجدل الأشياء بذاتها في الواقع، فإذا استثارت فكرة من الأفكار فكرة مقابلة لها، فلأنّ الواقع الذي تمثّله هذه الفكرة يتطلّب الواقع المضادّ[1].

ونظرة بسيطة على الاطروحة، والطباق، والتركيب، في قضية الوجود التي هي أشهر ثواليثه، تدلّنا بوضوح على أنّ (هيجل) لم يفهم مبدأ عدم التناقض حقّ الفهم حين ألغاه، ووضع موضعه مبدأ التناقض. ولا أدري كيف يستطيع (هيجل) أن يشرح لنا التناقض، أو النفي والإثبات المجتمعين في مفهوم الوجود؟ إنّ مفهوم الوجود مفهوم عام دون شكّ، وهو لذلك قابل لأن يكون كلّ شي‏ء، قابل لأن يكون نباتاً أو جماداً، أبيض أو أسود، دائرة أو مربّعاً. ولكن هل معنى هذا: أنّ هذه الأضداد والأشياء المتقابلة مجتمعة كلّها في هذا المفهوم، ليكون ملتقىً للنقائض والأضداد؟ طبعاً لا؛ فإنّ اجتماع الامور المتقابلة في موضوع واحد شي‏ء، وإمكان صدق مفهوم واحد عليها شي‏ء آخر. فالوجود مفهوم ليس فيه من نقائض

[1] انظر للتفصيل: هيجل، أو المثاليّة المطلقة، د. زكريا إبراهيم: 138- 172، وهيجل، د. إمام عبد الفتّاح إمام 1: الكتاب الأوّل، المنهج الجدلي عند هيجل

250

فالمبدأ الأوّل لا موضع له في المنطق الجديد ما دام كلّ شي‏ء قائماً في حقيقته على التناقض. وإذا ساد التناقض كقانون عام، فمن الطبيعي أن يسقط المبدأ الثاني للمنطق الكلاسيكي أيضاً؛ فإنّ كلّ شي‏ء تسلب عنه هويته في لحظة الإثبات بالذات؛ لأنّه في صيرورة مستمرّة، وما دام التناقض هو الجذر الأساسي لكلّ حقيقة، فلا غرو فيما إذا كانت الحقيقة تعني شيئين متناقضين على طول الخطّ. ولمّا كان هذا التناقض المركز في صميم كلّ حقيقة مثيراً لصراع دائم في جميع الأشياء، والصراع يعني: الحركة والاندفاع، فالطبيعة في نشاط وتطوّر دائم، وفي اندفاعة وصيرورة مستمرّة.
هذه هي الضربات التي زعم المنطق الديالكتيكي أ نّه سدّدها إلى المنطق الإنساني العام، والمفهوم المألوف للعالم الذي ارتكزت عليه الميتافيزيقية آلاف السنين.
وتتلخّص الطريقة الجدلية لفهم الوجود في افتراض قضية اولى، وجعلها أصلًا، ثمّ ينقلب هذا الأصل إلى نقيضه بحكم الصراع في المحتوى الداخلي بين المتناقضات، ثمّ يأتلف النقيضان في وحدة، وتصبح هذه الوحدة بدورها أصلًا ونقطة انطلاق جديد، وهكذا يتكرّر هذا التطوّر الثلاثي تطوّراً لا نهاية له ولا حدّ، يتسلسل مع الوجود، ويمتدّ ما امتدّت ظواهره وحوادثه.
وقد بدأ (هيجل) بالمفاهيم والمقولات العامّة، فطبّق عليها الديالكتيك، واستنبطها بطريقة جدلية قائمة على التناقض المتمثّل في الاطروحة، والطباق، والتركيب. وأشهر ثواليثه في هذا المجال وأوّلها هو: الثالوث الذي يبدأ من أبسط تلك المفاهيم وأعمّها، وهو: مفهوم الوجود. فالوجود موجود، وهذا هو الإثبات أو الاطروحة، بيد أ نّه ليس شيئاً؛ لأنّه قابل لأن يكون كلّ شي‏ء. فالدائرة وجود، والمربّع، والأبيض، والأسود، والنبات، والحجر، كلّ هذا هو موجود. فليس‏

249

المنطق العام يؤمن بمبدأ عدم التناقض، ويعتبره المبدأ الأوّل الذي يجب أن تقوم كلّ معرفة على أساسه، والمبدأ الضروري الذي لا يشذّ عنه شي‏ء في دنيا الوجود، ولا يمكن أن يبرهن على حقيقة مهما كانت لولاه.

ويرفض المنطق (الهيجلي) هذا المبدأ كلّ الرفض، ولا يكتفي بالتأكيد على إمكان التناقض، بل يجعل التناقض- بدلًا عن سلبه- المبدأ الأوّل لكلّ معرفة صحيحة عن العالم، والقانون العامّ الذي يفسّر الكون كلّه بمجموعة من التناقضات. فكلّ قضية في الكون تعتبر إثباتاً، وتثير نفيها في نفس الوقت، ويأتلف الإثبات والنفي في إثبات جديد. فالنهج المتناقض للديالكتيك أو الجدل الذي يحكم العالم، يتضمّن ثلاث مراحل تُدعى: الاطروحة، والطباق، والتركيب. وفي تعبير آخر: الإثبات، والنفي، ونفي النفي‏[1]. وبحكم هذا النهج الجدلي يكون كلّ شي‏ء مجتمعاً مع نقيضه، فهو ثابت ومنفي، وموجود ومعدوم في وقت واحد.

وقد ادّعى المنطق (الهيجلي) أ نّه قضى- بما زعمه للوجود من جدل- على الخطوط الرئيسية للمنطق الكلاسيكي، وهي- في زعمه- كما يأتي:

أوّلًا- مبدأ عدم التناقض. وهو يعني: أنّ الشي‏ء الواحد لا يمكن أن يتّصف بصفة وبنقيض تلك الصفة في وقت واحد.

ثانياً- مبدأ الهوية. وهو المبدأ القائل: إنّ كلّ ماهية فهي ما هي بالضرورة، ولا يمكن سلب الشي‏ء عن ذاته.

ثالثاً- مبدأ السكون والجمود في الطبيعة. الذي يرى سلبية الطبيعة وثباتها، وينفي الديناميكية عن دنيا المادّة.

 

[1] sisehtnyS -sisehtitnA -sisehT

248

عليها فهم جديد للعالم، وتنشأ [بها][1] نظرية جديدة نحوه، تختلف كلّ الاختلاف عن النظرة الكلاسيكية التي اعتادها البشر منذ قُدّر له أن يدرِك ويفكّر.

وليس (هيجل) هو الذي ابتدع اصول الديالكتيك ابتداعاً؛ فإنّ لتلك الاصول جذوراً وأعماقاً في عدّة من الأفكار التي كانت تظهر بين حين وآخر على مسرح العقل البشري، غير أ نّها لم تتبلور على اسلوب منطق كامل واضح في تفسيره ونظرته، محدّد في خططه وقواعده، إلّاعلى يد (هيجل). فقد أنشأ (هيجل) فلسفته المثالية كلّها على أساس هذا الديالكتيك، وجعله تفسيراً كافياً للمجتمع، والتأريخ، والدولة، وكلّ مظاهر الحياة. وتبنّاه بعده (ماركس) فوضع فلسفته المادّية في تصميم ديالكتيكي خالص.

فالجدل الجديد في زعم الديالكتيكيين قانون للفكر والواقع على السواء.

ولذلك فهو طريقة للتفكير، ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوّره.

قال لينين:

«فإذا كان ثمّة تناقضات في أفكار الناس؛ فذلك لأنّ الواقع الذي يعكسه فكرنا يحوي تناقضات. فجدل الأشياء ينتج جدل الأفكار، وليس العكس»[2].

وقال ماركس:

«ليست حركة الفكر إلّاانعكاساً لحركة الواقع، منقولة ومحوّلة في مخ الإنسان»[3].

 

والمنطق (الهيجلي) بما قام عليه من أساس الديالكتيك والتناقض، يعتبر في النقطة المقابلة للمنطق الكلاسيكي، أو المنطق البشري العامّ تماماً؛ ذلك أن‏

[1] في الطبعة الاولى: به، والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.( لجنة التحقيق)

[2] المادّية والمثالية في الفلسفة: 83

[3] المادّية والمثالية في الفلسفة: 83

247

إنّ الجدل كان يعني في المنطق الكلاسيكي طريقة خاصّة في البحث، واسلوباً من أساليب المناظرة التي تطرح فيها المتناقضات الفكرية ووجهات النظر المتعارضة، بقصد أن تحاول كلّ واحدة منها أن تظهر ما في نقيضها من نقاط الضعف ومواطن الخطأ على ضوء المعارف المسلّمة والقضايا المعترف بها سلفاً.
وهكذا يقوم الصراع بين النفي والإثبات في ميدان البحث والجدل حتّى ينتهي إلى نتيجة تتقرّر فيها إحدى وجهات النظر المتصارعة، أو تنبثق عن الصراع الفكري بين المتناقضات وجهة رأي جديدة توفّق بين الوجهات كلّها، بعد إسقاط تناقضاتها، وإفراز نقاط الضعف من كلّ واحدة منها.
ولكنّ الجدل في الديالكتيك الجديد، أو الجدل الجديد، لم يعد منهجاً في البحث واسلوباً لتبادل الآراء، بل أصبح طريقة لتفسير الواقع، وقانوناً كونياً عاماً ينطبق على مختلف الحقائق وألوان الوجود. فالتناقض ليس بين الآراء ووجهات النظر فحسب، بل هو ثابت في صميم كلّ واقع وحقيقة، فما من قضية إلّاوهي تنطوي في ذاتها على نقيضها ونفيها.
وكان (هيجل) أوّل من أشاد منطقاً كاملًا على هذا الأساس، فكان التناقض الديالكتيكي هو النقطة المركزية في ذلك المنطق، والقاعدة الأساسية التي يقوم‏

246

245

المفهوم الفلسفي للعالم‏

2

الديالكتيك أو الجدل‏

1- حركة التطوّر.
2- تناقضات التطوّر.
3- قفزات التطوّر.
4- الارتباط العامّ.