کتابخانه
225

أوّلًا- أنّ الحقيقة مطلقة وغير متطوّرة، وإن كان الواقع الموضوعي للطبيعة متطوّراً ومتحرّكاً على الدوام.

ثانياً- أنّ الحقيقة تتعارض تعارضاً مطلقاً مع الخطأ، فالقضية البسيطة الواحدة لا يمكن أن تكون حقيقة وخطأ.

ثالثاً- أنّ إجراء الديالكتيك على الحقيقة والمعرفة يحتّم علينا الشكّ المطلق في كلّ حقيقة ما دامت في تغيّر وتحرّك مستمرّ، بل يحكم على نفسه بالإعدام والتغيّر أيضاً؛ لأنّه بذاته من تلك الحقائق التي يجب أن تتغيّر بحكم منطقه التطوّري الخاصّ.

انتكاس الماركسية في الذاتية:

وفي النهاية يجب أن نشير إلى أنّ الماركسية بالرغم من إصرارها على رفض النسبية الذاتية بترفّع، وتأكيدها على الطابع الموضوعي لنسبيّتها، وأ نّها نسبية تواكب الواقع المتطوّر وتعكس نسبيّته، بالرغم من ذلك كلّه ارتدّت الماركسية مرّة اخرى، فانتكست في أحضان النسبية الذاتية حين ربطت المعرفة بالعامل الطبقي، وقرّرت: أنّ من المستحيل للفلسفة- مثلًا- أن تتخلّص من الطابع الطبقي والحزبي حتّى قال موريس كونفورت: (كانت الفلسفة دوماً تعبّر ولا تستطيع إلّاأن تعبّر عن وجهة نظر طبقية)[1].

وقال تشاغين: (لقد ناضل لينين بثبات وإصرار ضدّ النزعة الموضوعية في النظرية)[2].

 

[1] الماديّة الديالكتيكية والماديّة التاريخيّة: 32

[2] الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم: 70

224

بالحرارة، والذهب يتمدّد بالحرارة، والرصاص يتمدّد بالحرارة …
والقضية البسيطة- باعتبارها قضية مفردة- لا يمكن أن تكون حقيقة من ناحية وخطأ من ناحية اخرى، فموت أفلاطون قبل أرسطو إمّا أن يكون حقيقة وإمّا أن يكون خطأ.
وأمّا القضية المركّبة فلمّا كانت في الحقيقة ملتقى قضايا متعدّدة، فمن الجائز أن توجد الحقيقة في جانب منها والخطأ في جانب آخر، كما إذا افترضنا أنّ الحديد يتمدّد بالحرارة دون الذهب، فإنّ القانون الطبيعي العام وهو: الفلزات تتمدّد بالحرارة، يعتبر صحيحاً على ناحية وخطأ من ناحية اخرى. ولكن ليس معنى ذلك: أنّ الحقيقة والخطأ اجتمعا فكانت القضية الواحدة خطأ وحقيقة، بل الخطأ إنّما يوجد في قضية: الذهب يتمدّد بالحرارة مثلًا، والحقيقة إنّما توجد في قضية: الحديد يتمدّد بالحرارة مثلًا، فلم يكن الخطأ حقيقة ولا الحقيقة خطأ.
وفي عودتنا على الحركة التطوّرية في الحقيقة والمعرفة بصفتها جزءاً من الديالكتيك- الذي خصّصنا لدراسته الجزء الثاني من المسألة الآتية (المفهوم الفلسفي للعالم)- سنستعرض مدارك الماركسية وألوان استدلالها على تطوّر الحقيقة والمعرفة، ومدى ضعفها ومغالطاتها، وعلى الأخصّ ما حاولته الماركسية من اعتبار العلوم الطبيعية- في تطوّرها الرائع على مرّ الزمن، ونشاطها المتضاعف، وقفزاتها الجبّارة- مصداقاً للحركة التطوّرية في الحقائق والمعارف، مع أنّ تطوّر العلوم في تأريخها الطويل لا صلة له بتطوّر الحقيقة والمعرفة بمعناها الفلسفي الذي تحاوله الماركسية. فالعلوم تتطوّر لا بمعنى أنّ حقائقها تنمو وتتكامل، بل بمعنى: أنّ حقائقها تزداد وتتكاثر، وأخطاءها تقلّ وتتقلّص. ونوكل إيضاح ذلك إلى البحث المقبل في المسألة الثانية.
ويخلص معنا من هذه الدراسة:

223

غيره من القوانين العلمية. فالحقيقة من ذلك القانون هي حقيقة مطلقة لا خطأ فيها، وما هو خطأ منه فهو خطأ محض، والتجارب العلمية التي قام بها (رنيو)- والتي أوضحت له- مثلًا- أنّ قانون (بويل) لا يصحّ فيما إذا بلغ الضغط الحدّ الذي تتحوّل فيه الغازات إلى سوائل- لم تقلب الحقيقة إلى الخطأ، وإنّما شطرت القانون إلى شطرين، وأوضحت أنّ أحد هذين الشطرين خطأ محض. فاجتماع الخطأ والحقيقة اجتماع اسمي وليس اجتماعاً بمعناه الصحيح.
وفي تعبير واضح: أنّ كلّ قانون علمي صحيح فهو يحتوي على حقائق بعدد الحالات التي يتناولها وينطبق عليها، فإذا أظهرت التجربة خطأه في بعض تلك الحالات، وصوابه في البعض الآخر، فليس معنى ذلك: أنّ الحقيقة نسبية، وأ نّها اجتمعت مع الخطأ، بل معنى ذلك: أنّ محتوى القانون يطابق الواقع في بعض الحالات دون بعض. فالخطأ له موضع وهو في ذلك الموضع خطأ محض، والحقيقة لها موضع آخر وهي في ذلك الموضع حقيقة مطلقة.
والفكر الميتافيزيقي لا يحتّم على العالِم الطبيعي أن يرفض القانون نهائياً إذا ما تبيّن عدم نجاحه في بعض الحالات؛ لأنّه يعتبر كلّ حالة تمثّل قضية خاصّة بها، ولا يجب أن تكون القضية الخاصّة بحالة ما خطأ إذا ما كانت القضية الخاصّة بالحالة الاخرى كذلك.
وكان يجب على (أنجلز)- عوضاً عن تلك المحاولات الصبيانية لتبرير الحقيقة النسبية واجتماعها مع الخطأ- أن يتعلّم الفرق بين القضايا البسيطة والقضايا المركّبة، ويعرف أنّ القضية البسيطة هي التي لا يمكن أن تنقسم إلى قضيّتين، كما في قولنا: مات أفلاطون قبل أرسطو. وأنّ القضية المركّبة هي القضية التي تتأ لّف من قضايا متعدّدة، نظير قولنا: الفلزات تتمدّد بالحرارة؛ فإنّ هذا القول مجموعة من قضايا، ويمكننا أن نعبّر عنه في قضايا متعدّدة فنقول: الحديد يتمدّد

222

ولو نهج (رنيو) هذا النهج لارتكب خطأً أفظع ممّا تضمّنه قانون (بويل)، ولتاهت ذرّة الحقيقة المنطوي عليها نقده لهذا القانون، واندفنت بين رمال صحراء الباطل، ولأفضى به الأمر أخيراً إلى تشويه النتيجة الصائبة التي أدركها، وإلى إحالتها إلى نتيجة واضحة الأخطاء إذا ما قورنت مع النتيجة التي أدركها قانون (بويل)، الذي يبدو صحيحاً رغم ما هو عالق به من أخطاء جزئية»[1].

ويتلخّص هذا النقد في أنّ الفكر الميتافيزيقي لو كان على صواب فيما يؤمن به للحقائق من إطلاق وتعارض مطلق مع الخطأ، لوجب رفض كلّ قانون علمي لمجرّد وضوح عدم صحّته جزئياً، وفي حالات معيّنة. فقانون (بويل) بحكم الطريقة الميتافيزيقية في التفكير إمّا أن يكون حقيقة مطلقة، وإمّا أن يكون خطأً محضاً، فإذا تبيّن في الميدان التجريبي عدم صحّته أحياناً، فيجب أن يكون لأجل ذلك خطأً مطلقاً، وأن لا يكون فيه شي‏ء من الحقيقة؛ لأنّ الحقيقة لا تجتمع مع الخطأ، ويخسر العلم بذلك جانب الحقيقة من ذلك القانون.

وأمّا في الطريقة الديالكتيكية فلا يعتبر ذلك الخطأ النسبي دليلًا على سقوط القانون سقوطاً مطلقاً، بل هو حقيقة نسبية في نفس الوقت؛ فإنّ الحقيقة تجتمع مع الخطأ.

ولو كان (أنجلز) قد عرف النظرية الميتافيزيقية في المعرفة معرفة دقيقة، وفهم ما تعني من الحقيقة المطلقة، لما حاول أن يوجّه مثل هذا النقد إليها.

إنّ الصحّة والخطأ لم يجتمعا في حقيقة واحدة، لا في قانون (بويل) ولا في‏

 

[1] ضد دوهرنك: 153

221
التعديلات العلمية والحقائق المطلقة:

وقد كتب (أنجلز) ينقد مبدأ الحقيقة المطلقة القائل بسلبية إمكان اجتماعها مع الخطأ، عن طريق التعديل الذي يطرأ على النظريات والقوانين العلمية، فقال:
«ولنستشهد على ذلك بقانون (بويل) الشهير، الذي ينصّ على أنّ حجوم الغازات تتناسب عكسياً مع الضغط الواقع عليها إذا بقيت درجة حرارتها ثابتة.
وجد (رنيو) بأنّ هذا القانون لا يصحّ في حالات معيّنة، ولو كان (رنيو) أحد فلاسفة الواقعية لانتهى من ذلك إلى الاستخلاص التالي:
بما أنّ قانون (بويل) قابل للتغيّر فهو ليس بحقيقة محضة، أي: أ نّه ليس بحقيقة البتة، فهو- إذن- قانون باطل.

 

__________________________________________________
– (ج) أنّ جمع غازين درجة حرارة كلّ منهما درجتان مئويتان، ينتج حرارة الخليط بنفس تلك الدرجة أيضاً من دون مضاعفة.
وهذا لون آخر من التمويه؛ لأنّ العمليّة إنّما جمعت بين غازين وخلطت بينهما، لا أ نّها جمعت بين درجتي الحرارة. وإنّما يجمع بين الدرجتين لو ضوعفت الدرجة في موضوعها، فنحن لم نضف حرارة على حرارة لنترقّب حدوث درجة أضخم للحرارة، وإنّما أضفنا حارّاً إلى حارّ وخلطنا بينهما.
وهكذا يتّضح: أنّ كلّ تشكيك أو نقض يدور حول البدهيات العقلية الضرورية، مردّه في الحقيقة إلى لون من المغالطة أو عدم إجادة فهم تلك البدهيات. وسوف يبدو هذا بكلّ وضوح عند عرضنا لنقوض الماركسية التي حاولت أن تردّ على مبدأ عدم التناقض. (المؤلّف قدس سره)

220

__________________________________________________
– يكن متقوّماً بالجزئيات فحسب، وإنّما يتقوّم بالجزئيات والفراغ النسبي القائم بينها، فإذا أحضرنا حجمين من الكحول كان هذان الحجمان يعبّران عن جزئيّات وفراغ بينها لا عن الجزئيات فحسب، وحين نلقي على الكحول حجمين من الماء وتتسلّل جزئيّات الماء إلى الفراغ النسبي القائم بين جزئيات الكحول فتشغله، نكون قد فقدنا هذا الفراغ النسبي الذي كان له نصيب من حجم الكحول. فلم نجمع- إذن- بين حجمين من الكحول وحجمين من الماء، وإنّما جمعنا بين حجمين من الماء وجزئيات حجمين من الكحول، وأمّا الفراغ النسبي فيها فقد سقط من الحساب. وهكذا يتّضح أ نّا إذا أردنا أن ندقّق في صوغ العملية الرياضية نقول: إنّ جمع حجمين كاملين من الماء مع حجمين من الكحول باستثناء الفراغ المتخلّل بين جزئياته، يساوي أربعة حجوم باستثناء ذلك الفراغ نفسه. وليست قصّة هذه الحجوم إلّاكآلاف النظائر والأمثلة الطبيعية التي يشاهدها كلّ الناس في حياتهم الاعتيادية.
فماذا نقول في جسم قطني ارتفاعه متر، وقطعة من حديد ارتفاعها متر أيضاً لو وضعنا أحد الجسمين على الآخر، فهل ينتج عن ذلك ارتفاع مترين؟! وفي تراب ارتفاعه متر، وماء ارتفاعه متر، ثمّ ألقينا الماء على التراب، فهل نجني من ذلك ارتفاعاً مضاعفاً؟! طبعاً لا، فهل من الجائز أن نعتبر ذلك دليلًا على تفنيد البدهيات الرياضية؟!
(ب) أنّ جمع كالون من الماء مع كالون من حامض الكبريتيك لا ينتج كالونين، وإنّما يحصل من ذلك انفجار مرعب.
وهذا- أيضاً- لا يتعارض مع البدهية الرياضية في جمع الأعداد؛ ذلك أنّ (1+ 1) إنّما يساوي اثنين إذا لم يعدم أحدهما أو كلاهما حال الجمع والمزج، وإلّا لم يحصل جمع بين واحد وواحد بمعناه الحقيقي. ففي هذا المثال لم تكن الوحدتان- الكالونان- موجودتين حين إتمام عملية الجمع لينتج اثنين.-

219

بحكم التناقضات الديالكتيكية، فندركه على شكل آخر[1].

 

[1] ومن الطريف حقّاً تلك المحاولات التي تتّخذ باسم العلم لتفنيد البدهيات العقلية، من رياضية ومنطقية، مع أنّ العلم لا يمكن أن يقوم إلّاعلى أساسها. وفيما يلي أمثلة من تلك المحاولات للدكتور نوري جعفر، ذكرها في كتابه فلسفة التربية، الصفحة 66:

« وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول: إنّ جميع القوانين العلمية قوانين نسبية، تعمل في مجالات معيّنة لا تتعدّاها، ويصدق ما ذكرناه على قوانين الرياضيات وبعض مظاهرها التي تبدو لأوّل وهلة كأ نّها من الامور البديهية التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، فحاصل جمع 2 زائد 2- مثلًا- لا يساوي 4 دائماً. من ذلك- مثلًا- أ نّنا إذا جمعنا حجمين من الكحول مع حجمين من الماء، فالنتيجة تكون أقلّ من 4 حجوم ممزوجة، وسبب ذلك راجع إلى أنّ السائلين تختلف جزئيات أحدهما في شدّة تماسكها عن الآخر، فتنفذ عند المزج جزئيات السائل الأكثر تماسكاً( الماء) من بين الفراغات النسبية الموجودة بين جزئيات الكحول، وتكون النتيجة مشابهة لخلط مقدار من البرتقال مع مقدار من الرقّي حيث ينفذ قسم من البرتقال من بين الفراغات الموجودة في الرقّي. وحاصل جمع كالون من الماء مع كالون من حامض الكبريتيك انفجار مرعب، على أنّ ذلك الجمع إذا تمّ بدقّة علمية وبشكل يتفادى حدوث الانفجار، فإنّ النتيجة مع هذا تكون أقلّ من كالونين من المزيج. ويكون حاصل جمع 2+ 2/ 2 أحياناً اخرى، فإذا خلطنا غازين درجة حرارة كلّ منهما درجتان مئويتان، فإنّ درجة حرارة الخليط تبقى درجتين».

وهذا النصّ يعرض لنا ثلاث عمليات رياضية:

( أ) أنّ حجمين من الكحول إذا جمعناهما مع حجمين من الماء فالنتيجة تكون أقلّ من( 4) حجوم.

وهذه العملية تنطوي على مغالطة، وهي: أ نّنا في الحقيقة لم نجمع بين حجمين وحجمين، وإنّما خسرنا شيئاً في الجمع فظهرت الخسارة في النتيجة؛ ذلك أنّ حجم الغاز لم-

 

218

يجتمعان ما دام الخطأ والحقيقة أمرين نسبيين، وما دمنا لا نملك حقيقة مطلقة.
والفكرة الماركسية القائلة باجتماع الحقيقة والخطأ ترتكز على فكرتين:
إحداهما، الفكرة الماركسية عن تطوّر الحقيقة وحركتها، القائلة: إنّ كلّ حقيقة تتحرّك وتتغيّر بصورة مستمرّة.
والاخرى، الفكرة الماركسية على تناقضات الحركة، القائلة: إنّ الحركة عبارة عن سلسلة من التناقضات، فالشي‏ء المتحرّك في كلّ لحظة هو في نقطة معيّنة وليس هو في تلك النقطة، ولذلك تعتبر الماركسية الحركة نقضاً لمبدأ الهويّة.
فكان من نتيجة هاتين الفكرتين: أنّ الحقيقة والخطأ يجتمعان وليس بينهما تعارض مطلق؛ ذلك أنّ الحقيقة لمّا كانت في حركة، وكانت الحركة تعني التناقض المستمرّ، فالحقيقة- إذن- حقيقة، وليست بحقيقة بحكم تناقضاتها الحركية.
وقد تبينّا فيما قدّمناه: مدى خطأ الفكرة الاولى عن حركة الحقيقة وتطوّرها، وسوف نعرض بكلّ تفصيل للفكرة الثانية عند تناول الديالكتيك بالدرس المستوعب في المسألة الثانية (المفهوم الفلسفي للعالم)، وسوف يزداد وضوحاً عند ذاك الخطأ والاشتباه في قوانين الديالكتيك بصورة عامّة، وفي تطبيقه على الفكرة بصورة خاصّة.
ومن الواضح: أنّ تطبيق قوانين الديالكتيك من التناقض والتطوّر على الأفكار والحقائق بالشكل المزعوم، يؤدّي إلى انهيار القيمة المؤكّدة لجميع المعارف والأحكام العقلية مهما كانت واضحة وبدهية. وحتّى الأحكام المنطقية أو الرياضية البسيطة تفقد قيمتها؛ لأنّها تخضع- بموجب التناقضات المحتواة فيها على الرأي الديالكتيكي- لقوانين التطوّر والتغيّر المستمرّ، فلا يؤمن على ما ندركه الآن من الحقائق- نظير 2+ 2/ 4 والجزء أصغر من الكلّ- أن يتغيّر

217

وقد فاتها أ نّها تقضي على مذهبها بالحماس لهذا القانون؛ لأنّ الحركة إذا كانت قانوناً عاماً للحقائق فسوف يتعذّر إثبات أ يّة حقيقة مطلقة، وبالتالي يسقط قانون الحركة بالذات عن كونه حقيقة مطلقة.
فمن الطريف أنّ الماركسية تؤكّد على حركة (الحقيقة) وتغيّرها طبقاً لقانون الديالكتيك، وتعتبر أنّ هذا الكشف هو النقطة المركزية لنظريتهم في المعرفة، وتتغافل عن أنّ هذا الكشف بنفسه حقيقة من تلك الحقائق التي آمنوا بحركتها وتغيّرها، فإذا كانت هذه (الحقيقة) تتحرّك وتتغيّر كما تتحرّك سائر الحقائق بالطريقة الديالكتيكية، فهي تحتوي على تناقض سوف ينحلّ بتطوّرها وتغيّرها كما يحتّم ذلك الديالكتيك، وإذا كانت هذه (الحقيقة) مطلقة لا تتحرّك ولا تتغيّر، كفى ذلك ردّاً على تعميم قانون الديالكتيك والحركة للحقائق والمعارف، وبرهاناً على أنّ (الحقيقة) لا تخضع لُاصول الحركة الديالكتية. فالديالكتيك الذي يراد إجراؤه على الحقائق والمعارف البشرية، ينطوي على تناقض فاضح وحكم صريح بإعدام نفسه على كلا الحالين. فهو إذا اعتبر حقيقة مطلقة انتقضت قواعده، وتجلّى أنّ الحركة الديالكتيكية لا تسيطر على دنيا الحقائق؛ لأنّها لو كانت تسيطر عليها لما وجدت حقيقة مطلقة ولو كانت هذه الحقيقة هي الديالكتيك نفسه. وإذا اعتبر حقيقة نسبية خاضعة للتطوّر والحركة بمقتضى تناقضاتها الداخلية، فسوف تتغيّر هذه الحقيقة ويزول المنطق الديالكتيكي، ويصبح نقيضه حقيقة قائمة.

[ب-] اجتماع الحقيقة والخطأ:

سبق فيما عرضنا من نصوص الماركسية أ نّها تعيب على المنطق الشكلي- على حدّ تعبيرها- إيمانه بالتعارض المطلق بين الخطأ والحقيقة، مع أ نّهما