کتابخانه
234

يطلق للعلم أوسع مجال لاستكشاف أسرار الطبيعة ونظامها، ويحتفظ لنفسه بالتفسير الإلهي في نهاية المطاف، وهو وضع السبب الأعمق في مبدأ أعلى من الطبيعة والمادّة.
فليست المسألة الإلهية- كما يشاء أن يصوّرها خصومها- مسألة أصابع تمتدّ من وراء الغيب، فتقطر الماء في الفضاء تقطيراً، أو تحجب الشمس عنّا، أو تحول بيننا وبين القمر، فيوجد بذلك المطر والكسوف والخسوف، فإذا كشف العلم عن أسباب المطر وعوامل التبخير فيه، وإذا كشف عن سبب الكسوف، وعرفنا أنّ الأجرام السماوية ليست متساوية الأبعاد عن الأرض، وأنّ القمر أقرب إليها من الشمس، فيتّفق أن يمرّ القمر بين الأرض والشمس فيحجب نورها عنّا، وإذا كشف العلم عن سبب الخسوف وهو: وقوع القمر في ظلّ الأرض، الذي يمتدّ وراءها إلى مسافة (900) ألف ميل تقريباً، أقول: إذا كملت هذه المعلومات لدى الإنسان، يخيّل لُاولئك المادّيين أنّ المسألة الإلهية لم يبقَ لها موضوع، وأنّ الأصابع الغيبية التي تحجب الشمس أو القمر عنّا، عوَّض عنها العلم بالتعليلات الطبيعية، وليس هذا إلّالسوء فهم للمسألة الإلهية، وعدم تمييز لموضع السبب الإلهي من سلسلة الأسباب.
الثالث- أنّ الطابع الروحي غلب على المثالية والإلهية معاً، حتّى أخذ يبدو أنّ الروحية في المفهوم الإلهي هي بمعناها في المفهوم المثالي، ونشأت عن ذلك عدّة اشتباهات؛ ذلك أنّ الروحية قد تعتبر وصفاً لكلّ من المفهومين. ولكنّنا لا نجيز مطلقاً أن يهمل التمييز بين الروحيتين، بل يجب أن نعرف أنّ الروحية في العرف المثالي يقصد بها: المجال المقابل للمجال المادّي المحسوس، أي: مجال الشعور والإدراك والأنا. فالمفهوم المثالي روحي على أساس أ نّه يفسّر كلّ كائن وكلّ موجود في نطاق هذا المجال، ويرجع كلّ حقيقة وكلّ واقع إليه. فالمجال‏

233

مثالي، وإذا أردت أن ترفض المثالية والذاتية، وتؤمن بواقع موضوعي مستقلّ عن ال (أنا)، فليس عليك إلّاأن تأخذ بالمفهوم المادّي للعالم، وتعتقد أنّ المادّة هي المبدأ الأوّل، وأنّ الفكر والشعور ليس إلّاانعكاساً لها ودرجة خاصّة من تطوّرها.
وهذا لا يتّفق مع الواقع مطلقاً كما عرفنا؛ فإنّ الواقعية ليست وقفاً على المفهوم المادّي، كما أنّ المثالية أو الذاتية ليست هي الشي‏ء الوحيد الذي يعارض المفهوم المادّي، ويقف أمامه على الصعيد الفلسفي، بل يوجد مفهوم آخر للواقعية، هو: المفهوم الواقعي الإلهي الذي يعتقد بواقع خارجي للعالم والطبيعة، ويرجع الروح والمادّة معاً إلى سبب أعمق فوقهما جميعاً.
الثاني- ما اتّهم به بعض الكتّاب المفهوم الإلهي: من أ نّه يجمّد مبدأ العلّية في دنيا الطبيعة، ويلغي قوانينها ونواميسها التي يكتشفها العلم وتزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، فهو في زعمهم يربط كلّ ظاهرة وكلّ وجود بالمبدأ الإلهي.
وقد لعب هذا الاتّهام دوراً فعّالًا في الفلسفة المادّية، حيث اعتبرت فكرة اللَّه هي فكرة وضع السبب المعقول لما يشاهده الإنسان من ظواهر الطبيعة وحوادثها، ومحاولة لتبرير وجودها، فتزول الحاجة إليها تماماً حين نستطيع أن نستكشف بالعلم والتجارب العلمية حقيقة الأسباب والقوانين الكونية التي تتحكّم في العالم، وتتولّد باعتبارها الظواهر والحوادث. وساعد على تركيز هذا الاتّهام ما كانت تلعبه الكنيسة في بداية النهضة العلمية في أوروبا، من أدوار خبيثة في محاربة التطوّر العلمي، ومعارضة ما يكشفه العلم من أسرار الطبيعة ونواميسها.
والحقيقة: أنّ المفهوم الإلهي للعالم لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية، أو التمرّد على شي‏ء من حقائق العلم الصحيح، وإنّما هو المفهوم الذي يعتبر اللَّه سبباً أعمق، ويحتّم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد إلى قوّة فوق الطبيعة والمادّة. وبهذا يزول التعارض بينه وبين كلّ حقيقة علمية تماماً؛ لأنّه‏

232

والإجابة بالتقدير الأوّل تلخّص الفلسفة الواقعية أو المفهوم الواقعي للعالم، والإجابة بالتقدير الثاني هي التي تقدّم المفهوم المثالي للعالم.
وفي المسألة الثانية يوضع السؤال على ضوء الفلسفة الواقعية هكذا: إذا كنّا نؤمن بواقع موضوعي للعالم، فهل نقف في الواقعية على حدود المادّة المحسوسة، فتكون هي السبب العامّ لجميع ظواهر الوجود والكون بما فيها من ظواهر الشعور والإدراك؟ أو نتخطّاها إلى سبب أعمق، إلى سبب أبدي ولانهائي بصفته المبدأ الأساسي لما ندركه من العالم بكلا مجاليه: الروحي والمادّي معاً؟
وبذلك يوجد في الحقل الفلسفي للواقعية مفهومان: يعتبر أحدهما، أنّ المادّة هي القاعدة الأساسية للوجود، وهو: المفهوم الواقعي المادّي. ويتخطّى الآخر المادّة إلى سبب فوق الروح والطبيعة معاً، وهو: المفهوم الواقعي الإلهي.
فبين يدينا- إذن- مفاهيم ثلاثة للعالم: المفهوم المثالي، والمفهوم الواقعي المادّي، والمفهوم الواقعي الإلهي. وقد يعبّر عن المثالية بالروحية نظراً إلى اعتبار الروح، أو الأنا، أو الشعور، الأساس الأوّل للوجود.

تصحيح أخطاء:

وعلى هذا الضوء يجب أن نصحّح عدّة أخطاء وقع فيها بعض الكتّاب المحدَثين:
الأوّل- محاولة اعتبار الصراع بين الإلهية والمادّية مظهراً من مظاهر التعارض بين المثالية والواقعية، فلم يفصلوا بين المسألتين اللتين قدّمناهما، وزعموا أنّ المفهوم الفلسفي للعالم أحد أمرين: إمّا المفهوم المثالي، وإمّا المفهوم المادّي. فتفسير العالم لا يمكن أن يقبل سوى وجهين اثنين، فإذا فسّرت العالم تفسيراً تصوّرياً خالصاً، وآمنت بأنّ التصوّر أو الأنا هو الينبوع الأساسي، فأنت‏

231

[مفاهيم ثلاثة للعالم:]

إنّ لمسألة تكوين مفهوم فلسفي عام عن العالم، مركزاً رئيسياً في العقل البشري، منذ حاولت الإنسانية تحديد علاقاتها بالعالم الموضوعي وارتباطها به.
ولسنا نحاول في دراستنا هذه أن نؤرّخ للمسألة في سيرها الفلسفي والديني والعلمي، وتطوّرها على مرّ الزمن منذ آمادها البعيدة، وإنّما نستهدف أن نعرض المفاهيم الأساسية في الحقل الفلسفي الحديث؛ لنحدّد موقفنا منها، وما هو المفهوم الذي يجب أن تتبلور نظرتنا العامّة على ضوئه ويرتكز مبدأنا في الحياة على أساسه.
ومردّ مسألتنا هذه إلى مسألتين: إحداهما، مسألة المثالية والواقعية.
والاخرى، مسألة المادّية والإلهية.
ففي المسألة الاولى يُعرَض السؤال على الوجه التالي: أنّ هذه الكائنات التي يتشكّل منها العالم، هل هي حقائق موجودة بصورة مستقلّة عن الشعور والإدراك؟ أو أ نّها ليست إلّاألواناً من تفكيرنا وتصوّرنا؟ بمعنى: أنّ الفكر أو الإدراك هو الحقيقة، وكلّ شي‏ء يرجع في نهاية المطاف إلى التصوّرات الذهنية، فإذا أسقطنا الشعور أو ال (أنا) فإنّ الواقع كلّه يزول. فهذان تقديران للمسألة.

230

229

المفهوم الفلسفي للعالم‏

تمهيد

مفاهيم ثلاثة للعالم.
تصحيح أخطاء.
إيضاح عدّة نقاط عن المفهومين.
الاتّجاه الديالكتيكي للمفهوم المادّي.

228

227

2- المفهوم الفلسفي للعالم‏

1- تمهيد.
2- الديالكتيك أو الجدل.
3- مبدأ العلّيّة.
4- المادّة أو اللَّه.
5- الإدراك.

226

وواضح: أنّ هذا الاتّجاه الماركسي يطبع كلّ معرفة بالعنصر الذاتي، ولكنّها ذاتية طبقية لا ذاتية فردية كما كان يقرّر النسبيون الذاتيون، وبالتالي تصبح (الحقيقة) هي: مطابقة الفكرة للمصالح الطبقية للمفكّر؛ لأنّ كلّ مفكّر لا يستطيع أن يدرك الواقع إلّافي حدود هذه المصالح، ولا يمكن لأحد في هذا الضوء أن يضمن وجود الحقيقة في أيّ فكرة فلسفية أو علمية بمعنى مطابقتها للواقع الموضوعي، وحتّى الماركسية نفسها لا تستطيع- ما دامت تؤمن بحتمية الطابع الطبقي- أن تقدّم لنا مفهومها عن الكون والمجتمع بوصفه تعبيراً مطابقاً للواقع، وإنّما كلّ ما تستطيع أن تقرّره هو: أ نّه يعكس ما يتّفق مع مصالح الطبقة العاملة من جوانب الواقع‏[1].

 

[1] لأجل التوضيح راجع كتاب( اقتصادنا) للمؤلف، مبحث: نظريّة المادّية التاريخيّة، تحت عنوان:« ب- الفلسفة»