کتابخانه
116

الوسواس أيضاً؛ لأنّه ابتلاء، فيثبت الردع، ولابدّ حينئذٍ من إرجاعه ثبوتاً إلى وجهٍ معقول.

وقد يجعل استشهاد الإمام عليه السلام بالرجل المبتلى في أنّ ما ابتلي به من الشيطان قرينةً على عدم الشمول لحالة القطع؛ لأنّ القاطع لا يرى شخص قطعه حين يجري عليه من الشيطان، وإلّا لزال، كما تقدّم.

ويندفع: بأنّ نفس الشي‏ء يصدق في الشاكّ أيضاً، فإنّه لا يمكن أن يصدّق بأنّ شكّه بلا مبرّرٍ وللوسوسة، وإلّا لزال، والمقصود من الاستشهاد: الاستشهاد بلحاظ حالته النوعية، والوسواسيّ يمكن أن يعترف بحالةٍ نوعيةٍ من هذا القبيل.

كما أ نّه قد يجعل ظهور حال الإمام عليه السلام في أنّ الارتداع أمر عقلائي ينافي خلافه العقل قرينةً على الاختصاص بالشكّ؛ لأنّ الارتداع في فرض القطع مردّه إلى تقييد الشارع لموضوع حكمه، وهذا أمر شرعيّ لا سبيل لإحالته على الإدراك العقلائي. اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ نكتة هذا التقييد لمّا كانت مركوزةً في الأذهان صحّت الإحالة المذكورة.

وينبغي أن يعلم بهذا الصدد: أنّ البناء على حجّية علم الوسواسيّ بالنسبة إليه لا يعني حجّيته بلحاظ الآخرين وشمول دليل الحجّية لشهادته؛ لأنّ دليل الحجّية موضوعه خبر الثقة، والوثاقة المعتبرة هي الوثاقة من حيث الصدق بمعنى التورّع عن الكذب، والوثاقة من حيث الحسّ والإدراك بمعنى عدم كونه كثير الغفلة والخطأ في معتقداته على نحوٍ غير متعارف، وهذا المعنى من الوثاقة غير موجودٍ في المقام. نعم، شهادة الوسواسيّ بالطهارة حجّة؛ لأنّ قطعه بذلك جارٍ حسب المتعارف، كما أشرنا سابقاً[1].

 

[1] تقدّم في الصفحة 113.

115

ووجوب اجتناب النجس في الصلاة.

فإذا فرض أنّ الحكم الأوّل أهمّ سقط الحكم الثاني مع بقاء أصل وجوب الصلاة؛ لأنّها لا تسقط بحال، ونتيجة ذلك أن يكون هذا الوسواسيّ مكلَّفاً بالصلاة في ما يراه نجساً، وهذه نتيجة الردع عن العمل بقطعه.

3- في وقوع الردع بأحد الوجهين السابقين، والصحيح عدم وقوعه.

أمّا الأوّل فلأ نّه على خلاف إطلاق أدلّة الأحكام الواقعية، ولا موجب للتقييد.

وأمّا الثاني فلما تقدّم‏[1] من عدم الدليل على حرمة الوسواس في نفسه.

نعم، الإنصاف: أنّ قطع الفقيه بأنّ بعض مراتب الوسواس ممّا لا يرضى بها الشارع، كما لا يرضى بالمحرّمات ليس مجازفة، واللَّه العالم بالحال.

ثّم إنّه قد يستدلّ على الردع عن قطع الوسواس بإطلاق ما دلّ على عدم لزوم اعتناء المبتلى‏ بالوسوسة، بتقريب: أ نّه يشمل بإطلاقه من كانت وسوسته تتمثل في القطع أيضاً؛ لأنّه مصداق لعنوان المبتلى‏، كمعتبرة عبد اللَّه بن سنان، قال: ذكرت لأبي عبد اللَّه عليه السلام رجلًا مبتلىً بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان»؟! فقلت له:

وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: «سَلهُ هذا الذي يأتيه من أيّ شي‏ءٍ هو؟ فإنّه يقول لك: من عمل الشيطان»[2].

وامتياز هذه الرواية: أ نّه لم يؤخذ في موردها الشكّ ونحوه من العناوين، بل عنوان المبتلى‏ بالوضوء والصلاة، فبالإمكان أن يقال بإطلاقه لموارد قطع‏

 

[1] تقدّم في الصفحة 106.

[2] وسائل الشيعة 1: 63، الباب 10 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1.

114

إمكان الردع عن القطع الطريقيّ عموماً، واخرى يدّعى‏ إمكانه في المقام بوجهٍ آخر، مع التسليم باستحالة الردع عن القطع الطريقي.
أمّا الأوّل فتحقيقه موكول إلى علم الاصول.
وأمّا الثاني فيمكن أن يقرّب إمكان الردع بأحد وجهين:
الأوّل: أن يحوّل القطع من الطريقيّ إلى الموضوعي، بأن يؤخذ عدم العلم غير المتعارف قيداً في موضوع النجاسة، أو في موضوع المانعية مثلًا.
وقد يستشكل في ذلك: بأنّ هذا الشاذّ حيث إنّه لا يصدّق بأنّ قطعه بلا مبرّر فلا ينفعه التقييد المذكور إن اريد به التقييد بعدم العلم الذي لا مبرّر له، وأمّا إذا اريد به التقييد بعدم مطلق العلم الصادر من إنسانٍ يكثر منه اليقين بلا مبرّر فهذا أمر قد يلتفت الوسواسيّ إلى انطباقه عليه، ولكنّه غير مفيدٍ في المقام؛ لأنّ لازمه ردع الوسواسيّ عن العمل بقطعه مطلقاً، حتىّ ما كان منه متعارفاً.
ويندفع هذا الإشكال بإمكان فرضيةٍ ثالثة، وذلك بأن يقيّد موضوع الحكم بعدم العلم الذي يستهجن العقلاء عادةً حصوله، والوسواسيّ قد يلتفت إلى ذلك في شخص هذا اليقين أو ذاك، على الرغم من زعمه وجود مبررٍ لما حصل له من يقين.
الثاني: أن يفترض وجود حكمٍ واقعيٍّ بتحريم الاعتناء بالوسواس، بمعنى ما يستهجنه العقلاء من معتقدات، وهذا الحكم محفوظ مع الحكم بمانعية النجس في الصلاة على الإطلاق، ويمكن فرض وصولهما معاً إلى المكلّف الوسواسي.
وعليه فمن بنى‏ وسواساً على نجاسة بعض ثيابه وقطع بذلك- وهو ملتفت إلى أنّ قطعه هذا ممّا يستهجنه العقلاء- إن كان لديه صارف شخصيّ عن لبس ذلك البعض من الثياب فلا تزاحم بين الحكمين المفترضين. وإن لم يكن لديه صارف عن لبسه إلّاالاعتناء بالوسوسة وقع التزاحم بين حرمة الاعتناء بالوسواس‏

113

أمّا الأوّل فلو قيل بقاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ فلا ينبغي أن يفرض موضوعها عدم العلم بمعناه الصفتي، بل عدم تلك الدرجة من الوضوح والتجلّي التي توجب العلم للإنسان الاعتيادي؛ لوضوح أنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب مع توفّر تلك الدرجة وإن لم تؤثّر في حصول اليقين فعلًا.
وأمّا الثاني فهو عبارة عن الاصول الشرعية المؤمّنة، وبعد حمل الغاية فيها على العلم بنفس المعنى المذكور آنفاً لا يكون في أدلّتها إطلاق للشكّ المذكور، فلا يكون مؤمّناً.
الجهة الثالثة: في القطع غير المتعارف بالنجاسة أو بالطهارة، وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ القطع غير المتعارف بالنجاسة يتصوّر من الوسواسيّ وسريع اليقين، وأمّا القطع غير المتعارف بالطهارة فيتصوّر من سريع اليقين، ولا يتصوّر من الوسواسي.
والكلام فيه يقع: تارةً في حجّيته في نفسه، واخرى في إمكان الردع عنه، وثالثةً في البحث عن وقوع الردع عنه بعد فرض إمكانه. فهنا ثلاث نقاط:
1- في حجّيته، والصحيح: حجّيته بمعنى لزوم الجري على طبقه عقلًا، سواء قيل بأنّ موضوع حكم العقل بالحجّية طبيعيّ القطع، أو القطع الخاصّ الذي لم ينشأ من جهةٍ غير موضوعية، كالقطع المتولّد من الوسواس والوهم، أو من العجلة في إلغاء الاحتمالات وغضّ النظر عنها.
أمّا على الأوّل فواضح، وأمّا على الثاني فلأنّ القاطع لا يعقل أن يصدق بأنّ قطعه وليد وهمٍ أو عجلة، وإلّا لفقده، فهو يراه مصداقاً للقطع الخاصّ على أيّ حال، ومعه يستقلّ عقله بلزوم التحرّك على طبقه، ولا نريد من الحجّية إلّا ذلك.
2- في إمكان الردع عنه، وقد يدّعى‏ إمكان الردع: تارةً ببيانٍ يقتضي‏

112

قلنا: إنّ ظاهر الإمام عليه السلام الإشارة إلى أمرٍ عرفيٍّ واضح، ولهذا يطلب من الراوي أن يسأل الوسواسيّ عن حاله لينزع منه الاعتراف بأنّ حالته من الشيطان، ومن الواضح أنّ ما هو مركوز لا يفرق فيه بين موردٍ وآخر، فحمله على الكشف عن أمرٍ تعبّديٍّ غيبيٍّ في خصوص باب الصلاة خلاف الظاهر.
ويمكن أن يفرّق بين التقريبات الثلاثة المتقدّمة من ناحيةٍ اخرى، وهي:
أنّ التقريب الأوّل والثاني ينفعان بطي‏ء اليقين، وهو الثاني من الأنواع الثلاثة لغير المتعارف؛ لأنّه يمكن أن يلتفت إلى كون شكّه غير عقلائي، بمعنى أنّ غيره من العقلاء لا يشكّ على هذا النحو، ولا ينفعان الوسواسيّ الذي ينشأ شكّه من غلبة الوهم عليه مع وجود المبرّر الكافي لإزالته عقلياً؛ لِمَا تقدّم من أ نّه لا يمكنه أن يصدّق بأنّ شكّه هذا من هذا القبيل.
نعم، قد ينتفع بهما إذا خيّل له أ نّه من النوع الثاني، وأنّ شكّه غير المتعارف ينشأ من بطي‏ء اليقين، لا من وسوسة الوهم.
وأمّا التقريب الثالث فهو ينفع الوسواسيّ؛ لأنّه يلغي شكّ كثير الشكّ، لا خصوص الشكّ غير المتعارف، والوسواسيّ قد يلتفت إلى حالته النوعية وأ نّه وسواسي وكثير الشكّ ويكفي هذا لشمول الأخبار له، وإن لم يحرز أنّ شخص هذا الشكّ كان من هذا القبيل.
نعم، لو قيل بأنّ مفاد السيرة العقلائية المدّعاة متطابق مع مفاد الأخبار من هذه الناحية لم يبقَ فرق بين التقريبين: الثاني والثالث.
الجهة الثانية: في الشكّ غير العقلائيّ في طرف الترخيص، بأن يظلّ المكلّف يحتمل الطهارة- مثلًا- في موردٍ يقطع غيره عادةً بارتفاعها، وهذا يتصوّر في النوع الثاني دون الأوّل والثالث، والظاهر فيه: أنّ هذا الاحتمال لا يكون مؤمّناً، لا بلحاظ المؤمّن العقلي، ولا بلحاظ المؤمّنات الشرعية.

111

محاسبة المأمور في مقام الامتثال على مثل تلك الاحتمالات غير العقلائية مع إمضاء الشارع لها، وإذا تمّ ذلك كان هذا المؤمِّن وارداً على أصالة الاشتغال، ومخصِّصاً لدليل الاستصحاب المقتضي لإجراء استصحاب عدم الإتيان لو لم نقل بخروج المورد عنه تخصّصاً، باستظهار أنّ الغاية المأخوذة في دليله ليست هي اليقين بالانتقاض على وجه الصفتية ليقال بأ نّها لم تحصل، بل على وجه الكاشفية، ومرجعها حينئذٍ- بحسب الفهم العرفي- إلى أنّ الغاية هي توفّر اليقين العقلائيّ بالنقض، وهو حاصل.

الثالث: التمسّك بالروايات الخاصّة الدالّة على عدم لزوم الاعتناء بشكّ كثير الشكّ‏[1]، الشاملة للوسواسيّ بمنطوقها، أو بالأولوية، على أساس أ نّه أسوأ حالًا من كثير الشكّ. وهذه الروايات واردة في خصوص باب الصلاة.

ومن هنا يمكن أن يفرّق بين التقريبات الثلاثة ويقال: إنّه على الأوّلَيْن يكون عدم لزوم الاعتناء عامّاً لسائر الموارد. وعلى الثالث يختصّ بالأبواب الخاصّة المنصوصة في تلك الروايات، كالصلاة والوضوء[2].

ولكن لا يبعد مساعدة العرف على إلغاء الخصوصيّة في روايات كثير الشكّ بمناسبة الحكم والموضوع، خصوصاً بلحاظ جعل ذلك من الشيطان في مقام تقريب الحكم وتعدّيه إلى سائر الموارد؛ لأنّ ما كان من الشيطان لا يفرق في رفضه بين موردٍ ومورد.

فإن قيل: لعلّ خصوص كثرة الشكّ في مورد الصلاة من الشيطان، فلا يكون هذا التعليل موجباً للتعدّي.

 

[1] وسائل الشيعة 8: 227، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 1.

[2] وسائل الشيعة 1: 63، الباب 10 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1.

110

هذا بلا مبرّر، وإلّا لفقده، ولكن بإمكانه أن يلتفت إلى أ نّه أسرع يقيناً من غيره، وأنّ غيره لا يشاركه في يقينه، من دون أن يفقده ذلك يقينه، إذ قد يفسّر ذلك على أساس أ نّه يتميّز بتجارب وخبراتٍ تجعله يلغي جملةً من الاحتمالات التي يحتفظ بها غيره.
وعلى أيّ حالٍ فالكلام يقع في جهات:
الجهة الاولى‏: في الشكّ غير العقلائيّ في طرف الإلزام، أي التشكيك، حيث يحصل للإنسان الاعتياديّ اليقين أو الاطمئنان بعدم الإلزام، ويفرض ذلك في موردٍ يكون الشكّ فيه منجّزاً، كمورد الشكّ في الامتثال، فهل يجب على الوسواسيّ مراعاة احتماله غير المتعارف لعدم الامتثال، أوْ لا؟
الظاهر عدم وجوب المراعاة بأحد التقريبات التالية:
الأوّل: المنع عن جريان أصالة الاشتغال في نفسها، بدعوى: أ نّها تعني منجّزية التكليف بالاحتمال المذكور، وهو فرع أن يكون للمولى حقّ الطاعة بهذه المرتبة التي يسدّ بها باب هذه الاحتمالات غير العقلائية، وبالإمكان إنكار هذا الحقّ رأساً، وهو أمر واضح بالنسبة إلى الموالي العرفيّين، فإذا تمّ إنكاره فلا موضوع لأصالة الاشتغال في نفسها؛ لأنّ مرجع حكم العقل بوجوب الامتثال حينئذٍ إلى حكمه بلزوم التحفّظ من المخالفة من غير ناحية تلك الاحتمالات غير العقلائية، ولا ينفع في مثل ذلك استصحاب عدم الإتيان؛ لأنّه إنّما يجري حيث يكون الواقع المشكوك صالحاً للتنجيز، ومع ضيق دائرة حكم العقل بوجوب الامتثال من أول الأمر فلا أثر لإجرائه، إلّاإذا رجع إلى جعل حكمٍ واقعيٍّ مستقلٍّ، وهو خلف.
الثاني: بعد تسليم جريان أصالة الاشتغال في نفسها يقال بوجود المؤمِّن الشرعيّ الحاكم عليها، وهذا المؤمِّن يثبت بدليل السيرة العقلائية على عدم‏

109

وهناك فارق آخر بين الأنواع الثلاثة، وهو: أنّ الوسواسيّ لا يمكنه أن يصدّق بالنسبة إلى شخصٍ حالةً معيّنةً من حالات شكّه أو يقينه بأ نّها وسواس؛ لأنّ ذلك مساوق للاعتراف بنشوئها من الوهم، ووجود الدليل على خلافها، واليقين بذلك يساوق زوال تلك الحالة عادةً.

نعم، قد يعترف الوسواسيّ بأ نّه وسواسيٌّ بصورةٍ عامة، ولكنّه حينما يعيش حالةً معيّنة من الشكّ أو القطع لا يمكنه أن يعتقد بأ نّه وسواسيّ في تلك الحالة، وهذا بخلاف بطي‏ء اليقين الذي لا يؤثّر ضعف الاحتمال في فنائه في نفسه، إذ قد يعترف هذا الشخص الشكّاك بأنّ هذا الاحتمال يلغيه غيره ولا يستقرّ في ذهنه؛ لأنّ قيمته ضئيلة، ومع هذا يبقى مصرّاً على الاحتفاظ به؛ وذلك لأنّ هذا الاعتراف لا يساوق التنازل عن الاحتمال المذكور؛ لأنّ كونه يفنى‏ عند غيره بسبب الضآلة لا يبرهن على ضرورة ذلك، فإنّ هذا الفناء ليس أمراً برهانياً كما أوضحناه في الاسس المنطقية للاستقراء[1]، وإنّما هو مصادرة مشتقّة من تركيب ذهن الإنسان، الذي خلق بنحوٍ لا يحتفظ بالاحتمالات الضئيلة جدّاً، فلو وجد ذهن يختلف في خلقته عن ذلك طبعاً أو تطبّعاً فلا محذور في أن يلتفت إلى ذلك.

نعم، لو كان البطؤ في اليقين نتيجة عدم الالتفات إلى البديهيّات ومشتقّاتها فلا يمكن لهذا الشكّاك أن يعتقد بهذا الواقع بشأن شكّه، وأ نّه نشأ من عدم الالتفات إلى تلك البديهيّات.

وأمّا من يسرع إليه اليقين- وهو القطّاع- فهو لا يمكنه أن يعترف بأنّ يقينه‏

 

[1] يراجع الاسس المنطقية للاستقراء: الفصل الثاني الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالدالذاتي.

108

لا يحتملها غيره عادةً، أو يحصل له الجزم بها كذلك، خلافاً لغيره من الناس.
فالأول شكّ الوسواسيّ، والثاني علمه، وهو في موقفه هذا متأثّر بتشبّثٍ وهميٍّ بالإلزام ناشٍ عن حالةٍ نفسية، وهي خوفه منه وشدّة حرصه على امتثاله.
وهناك من يشابه الوسواسيّ في الخروج عن الوضع العقلائيّ المتعارف، ولكن لا بسبب التشبّث الوهميّ بالإلزام والكلفة والتخوّف منهما، بل للتشبّث العقليّ بأضعف الاحتمالات وأتفهها، التي تنفى‏ عادةً بحساب الاحتمالات. ومن هنا لم يكن هذا شاذّاً في طرف الإلزام فقط، بل في طرف الترخيص أيضاً، فكما يبطئ يقينه بالتطهير كذلك يبطئ يقينه بأن تنجس؛ لأنّه لا يسدّ الاحتمالات التي تسدّ عادةً بحساب الاحتمالات ارتكازاً، بينما الوسواسيّ بالمعنى المتقدّم لا يبطئ اليقين بالإلزام عنده عن المتعارف، وإنّما يبطئ عنده التصديق بنفي الإلزام لشدّة السيطرة الوهمية للإلزام على نفسه.
وفي مقابل هذا الأخير القطّاع، وهو شخص يسدّ بسرعة الاحتمالات التي لا تسدّ عادةً بحساب الاحتمالات، على العكس من سابقه فيلغي من ذهنه احتمالاتٍ معتدّاً بها عقلائياً، وبذلك يسرع إلى اليقين، وهي حالة عقلية أيضاً نسبتها إلى طرف الإلزام والترخيص على نحوٍ واحد.
فهناك إذن ثلاثة أنواعٍ غير متعارفة: الوسواسيّ، ومن لا يؤثّر ضعف الاحتمال في زواله من نفسه، ومن يزول الاحتمال بأدنى‏ ضعفٍ أو ملاحظةٍ من نفسه. والأوّل يختصّ شذوذه بطرف الإلزام، بخلاف الأخيرين. كما أنّ الطرفين يتصوّر شذوذهما في اليقين، بينما الوسط لا يشذّ في اليقين، بل في الشكّ، فهو يشكّك حيث لا ينبغي أن يشكّ، لا أ نّه يتيقّن حيث لا ينبغي أن يتيقّن، والأوّلان يتصوّر شذوذهما في الشكّ، بمعنى أنّهما يتشكّكان حيث لا ينبغي، ولا يتصوّر ذلك في الأخير.