الاسس المنطقية للاستقراء
526

المتضمّنة لعدم التماثل هي كلّ الافتراضات الممكنة للمشهد، باستثناء افتراض واحد- وهو افتراض التماثل الكامل-، كان احتمال رؤية مشهد مماثل تماماً، على تقدير افتراض الذاتية، ضئيلًا جدّاً.
وأمّا إذا كان المشهد موضوعياً فهناك صفة مشتركه في كلّ عناصر المشهد، وهي الجسمية التي تصدق على كلّ أجزاء زيد التي رأيناها في اللحظة الاولى، وهذه الصفة المشتركة من المحتمل أن تكون مقتضية للبقاء في اللحظة الثانية.
وهذا الاحتمال يقابله احتمال عدم كونها مقتضية لذلك. وكلّ من الاحتمالين- بوصفهما مجموعة متكاملة- يكتسب قيمة 2/ 1، وبهذا يصبح احتمال بقاء نفس المشهد على تقدير افتراض الموضوعية أكبر كثيراً من احتمال تكرّر المشهد بصورة مماثلة على تقدير الذاتية.
وقد يقال بهذا الصدد- اعتراضاً على هذا التفسير للتفاوت بين القيمتين-:
إنّه على تقدير افتراض الموضوعية في المشهد لا نواجه احتمالين فقط، وهما:
احتمال اقتضاء الجسمية للبقاء في اللحظة الثانية، واحتمال نفي هذا الاقتضاء. بل نواجه عدداً من الافتراضات، بقدر ما كنّا نواجه من افتراضات للمشهد في اللحظة الثانية على تقدير افتراض الذاتية، إذ قد يكون جسم زيد مقتضياً للبقاء بتمام أجزائه، وقد يكون مقتضياً للبقاء بذراع واحدة، أو بإضافة عين ثالثة، وهكذا.
وجوابنا على هذا الاعتراض: أنّ الحالة الجسمية إذا كانت مقتضية للبقاء، فلا يمكن أن نفترض أ نّها تقتضي بقاء جسم زيد بذراع واحدة؛ لأنّ هذا يعني: أنّ الذراع الثانية قد فقدت، والذراع المفقودة بنفسها حالة جسمية أيضاً، فافتراض اقتضاء الحالة الجسمية للبقاء يعني: افتراض اقتضاء هذه الذراع نفسها للبقاء.
وهكذا يتّضح أنّ افتراض اقتضاء الحالة الجسمية للبقاء، يستلزم اقتضاء جسم زيد بتمام عناصره للبقاء في اللحظة الثانية. فإذا أعطينا هذا الافتراض قيمة

525

المحتمل- بدرجة كبيرة جدّاً- صدق القضية الشرطية التالية، وهي: «إذا كان المشهد ذاتياً فسوف لن يتكرّر بصورة مماثلة».
ثانياً: نثبت أنّ احتمال رؤية نفس المشهد السابق، على تقدير افتراض أ نّه موضوعي، ليس ضئيلًا بدرجة احتمال رؤية مشهد مماثل على تقدير الذاتية.
ثالثاً: وحينما نجدّد رؤيتنا، فنجد مشهداً متطابقاً مع المشهد الذي رأيناه أوّلًا، نستطيع أن نبرهن بالقضية الشرطية التي أبرزناها في الخطوة الاولى أ نّه مشهد موضوعي؛ لأنّ تلك القضية تقرّر: أنّ المشهد إذا لم يكن موضوعياً فلا يتكرّر بصورة متماثلة، وحيث أ نّا نعلم بكذب الجزاء فعلًا فسوف يكون الطريق الوحيد للقضية الشرطية- لكي تحافظ على صدقها- أن تنفي شرطها، أي أن تثبت موضوعية الحادثة، وبهذا نحصل على قيمة احتمالية كبيرة لصالح احتمال موضوعية الحادثة.
وهذا البيان- كما رأينا- يتوقّف على إعطاء قيمة لاحتمال رؤية نفس المشهد السابق، على تقدير افتراض الموضوعية، أكبر من القيمة المعطاة لاحتمال رؤية مشهد مماثل على تقدير افتراض الذاتية، إذ لو كانت القيمتان متساويتين لكانت الحقيقة المحسوسة- وهي تطابق المشهدين- حيادية تجاه كلتا الفرضيّتين. فالتفاوت بين القيمتين شرط أساس لإنجاح هذا البيان.
وتفسير هذا التفاوت على أساس نظرية الاحتمال: أنّ مشهد زيد إذا كان ذاتياً فهو مسبّب عن ذاتي، وذاتي في اللحظة الثانية لا أعرف كيف تقتضي إيجاد المشهد؟ فهناك احتمالات في تحديد نوع اقتضائها في اللحظة الثانية، بعدد الافتراضات الممكنة للمشهد. وبما فيها أيضاً افتراض أن لا تكون ذاتي مقتضية لشي‏ء على الإطلاق في اللحظة الثانية، فقد تقتضي ذاتي في اللحظة الثانية أن يوجد زيد بذراع واحدة أو بثلاث عيون!! … وهكذا. ولمّا كانت الافتراضات‏

524

لدينا علم إجمالي ثانٍ بأنّ (ب) الذاتية هذه إمّا أن تكون ناشئة من (ب) الموضوعية، أو من حادثة ذاتية اخرى نرمز إليها ب (ج) مثلًا، إذ ليس من المحتمل أن تكون (ب) الذاتية في هذه الحالة ناشئة من (أ) الذاتية؛ لأنّ (أ) الذاتية غير محتملة. وهذا يعني: أنّ سببية (ب) الموضوعية ل (ب) الذاتية أصبحت طرفاً لعلمين إجماليين، وهذا يجعل احتمال علاقة السببيّة بين (ب) الذاتية و (ب) الموضوعية أكبر من احتمال علاقة السببيّة بين (ب) الذاتية و (ج) الذاتية. وإنّما أصبح ذلك الاحتمال أكبر؛ لأنّه يستمدّ قيمته من احتمال أن يكون هو المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل، ومن احتمال أن يكون هو المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني.
وبهذا يصبح احتمال تفسير (ب) الذاتية موضوعياً، أكبر من احتمال تفسيرها ذاتياً على أساس (ج)؛ لأنّ احتمال تفسير (ب) الذاتية موضوعياً يتضمّن افتراض علاقة السببيّة بين (ب) الموضوعية و (ب) الذاتية. واحتمال تفسير (ب) على أساس (ج) يتضمّن افتراض علاقة السببيّة بين (ب) الذاتية و (ج) الذاتية. وحيث أنّ الافتراض الأوّل أكبر احتمالًا من الافتراض الثاني يكون احتمال التفسير الموضوعي أكبر درجة.
10- وبالإمكان الاستدلال على الموضوعية عن طريق الثبات، ونعني به:
أ نّا حينما نكفّ عن إدراك مشهد حسّي معيّن، ثمّ نكرّر رؤيتنا في لحظة تالية، نجد المشهد نفسه، وذلك ضمن الخطوات التالية:
أوّلًا: نثبت أنّ احتمال تكرّر مشهد مماثل للمشهد الأوّل، على تقدير كون المشهد ذاتياً، ضئيل جدّاً؛ لأنّ المشهد إذا كان ذاتياً فسوف ينعدم بتوقّفنا عن إدراكه، وفي اللحظة التاليه حينما ينشأ مشهد ذاتي جديد يعتبر افتراض مماثلته للمشهد الأوّل تماماً واحداً من آلاف الافتراضات الممكنة، وهذا يعني أنّ من‏

523

فرضيّتين فقط: فإمّا أن تكون الحوادث كلّها مسبّبة عن حوادث موضوعية، وإمّا أن تكون مسبّبة بدورها عن حوادث ذاتية. وعلى هذا الأساس اعتبر أنّ افتراض كون (ب) الذاتية- التي نلاحظها مع عدم ملاحظة (أ) الذاتية- مسبّبة عن (ب) موضوعية، يعني الأخذ بالفرضية الاولى الذي يفرض التسليم في نفس الوقت باقتران مستمرّ في حالات سابقة بين (ب) الموضوعية و (أ) الموضوعية.
ويبرهن هذا الاقتران استقرائياً على السببيّة بينهما.
ولكن لا مبرّر لافتراض هذه النقطة، أي حصر الموقف في فرضيّتين على هذا الشكل، إذ لا مانع- من زاوية نظرية الاحتمال- عن افتراض أنّ (ب) الذاتية التي نلاحظها في تجربتنا، دون أن نلاحظ (أ) إلى جانبها، مسبّبة عن (ب) الموضوعية، دون أن تكون (ب) الذاتية و (أ) الذاتية- المقترنتان في تجربتنا سابقاً- مسبّبتين عن شي‏ء موضوعي. فلا يوجد لدينا إذن ما يبرهن على اقتران متكرّر بين (أ) الموضوعية و (ب) الموضوعية، لنستكشف علاقة السببيّة بينهما.
رابعاً- وعلى ضوء هذا نعرف: أنّ بالإمكان- على أساس البيان المتقدّم- أن ننمي احتمال الموضوعية، إذا حصرنا الموقف في افتراض موضوعية الحوادث كلّها وافتراض ذاتية الحوادث كلّها، أي أن تصبح قيمة احتمال الموضوعية المطلقة أكبر من قيمة احتمال الذاتية المطلقة، وإن كان لا يكفي ذلك أساساً لتنمية احتمال الموضوعية في أيّ حادثة بمفردها، وجعل قيمته أكبر من قيمة احتمال نفي موضوعية تلك الحادثة، وبالإمكان، من أجل الحصول على أساس لهذه التنمية، وضع البيان البديل التالي:
حينما تقترن في تجربتنا (أ) الذاتية و (ب) الذاتية، ينشأ لدينا علم إجمالي بأنّ (ب) الذاتية مسبّبة عن أحد أمرين: إمّا (أ) الذاتية، وإمّا (ب) الموضوعية.
وحينما نلاحظ في تجربتنا (ب) الذاتية، دون أن نلاحظ (أ) الذاتية، ينشأ

522

أنّ حادثة الرعد الذاتية التي نحسّ بها دون إحساس بالبرق: إمّا أن تكون مسبّبة عن حادثة رعد موضوعية، وإمّا أن تكون مسبّبة عن حادثة ذاتية اخرى ولنرمز إليها ب (ج). فأمامنا إذن فرضيّتان في سبيل تفسير حادثة الرعد الذاتية تلك.
ثانياً- إذا كانت الحادثة الذاتية مسبّبة عن حادثة ذاتية اخرى، مثلًا كانت (ب) الذاتية مسبّبة عن (ج)، ف (ج) بدورها تتطلّب في سبيل تفسير وجودها، افتراضين محتملين: أحدهما: أن تكون هناك حادثة ما ولنرمز إليها ب (ه)، والآخر: أن يكون بين (ه) و (ج) علاقة السببيّة لكي يوجد (ج) على أساس وجود (ه). وأمّا إذا كانت الحادثة الذاتية مسبّبة عن الحادثة الموضوعية، مثلًا كانت (ب) الذاتية مسبّبة عن (ب) الموضوعية، ف (ب) الموضوعية وإن كانت تتطلّب افتراض وجود حادثة ما وافتراض أن يكون بينها وبين (ب) الموضوعية علاقة السببيّة، إلّاأنّ الافتراض الثاني ثابت على تقدير افتراض أن تكون الحادثة الذاتية مسبّبة عن حادثة موضوعية؛ لأنّ هذا التقدير يفترض في كلّ الحالات التي اقترن فيها (أ) ب (ب)، اقتراناً موضوعياً بين (أ) موضوعية و (ب) موضوعية.
وهذا الاقتران يبرهن استقرائياً على أنّ (أ) الموضوعية سبب ل (ب) الموضوعية.
فسببية (أ) الموضوعية ل (ب)- الموضوعية على تقدير افتراض أنّ الحادثة الذاتية مسبّبة عن حادثة موضوعية- ثابتة ومعلومة. وأمّا سببية (ه) الذاتية ل (ج) الذاتية- على تقدير افتراض أنّ الحادثة الذاتية مسبّبة عن حادثة ذاتية- فهي غير ثابتة ولا معلومة، وهذا يعني أنّ تقدير افتراض الذاتية في الحوادث، يتطلّب افتراضات محتملة، أكثر ممّا يتطلّبه تقدير افتراض الموضوعية فيها، فيكبر احتمال الموضوعية.
ثالثاً- غير أنّ هناك نقطة قد افترضت ضمناً في هذا البيان، وهي: أ نّا نواجه‏

521

8- وهكذا يتّضح أ نّا حصلنا على قيم احتمالية تنمي احتمال موضوعية الحادثة، وهي القيم الاحتمالية التي تنفي في العلم البعدي سببية (ت) ل (ب)، وتحدّد درجة التنمية على أساس ضرب عدد أطراف العلم البعدي بعدد أطراف العلم القبلي الأوّل.
وكلّما كثرت أمثلة الحالة الثانية من حالات الشكل الثاني للاستدلال الاستقرائي، ازدادت القيم الاحتمالية المنمّية لاحتمال موضوعية الظاهرة، فهناك آلاف من الباءات يجري فيها الحساب نفسه لإثبات موضوعية الألفات التي هي أسباب تلك الباءات.

الاستدلال على أساس الصيغة الثانية لتبرير الشكّ:

9- في الفقرات السابقة طبّقنا الدليل الاستقرائي على أساس الصيغة الاولى للشكّ، وكنّا نثبت بالاستقراء موضوعية (أ) دائماً، ونثبت موضوعية (ب) بنفس الطريقة حينما نفترضه (أ)، أي سبباً لحادثة اخرى، ونشاهد أحياناً تلك الظاهرة دونه.
والآن نريد أن نفترض الصيغة الثانية للشكّ، مع الاحتفاظ بما تقدّم في الفقرة الثانية والثالثة.
وهذه الصيغة تعني: أنّ حادثة (ب) التي نحسّ بها هي حادثة ذاتية، فلا يوجد علم إجمالي بأ نّها إمّا ذاتية وإمّا موضوعية، غير أ نّنا- مع هذا- نتسلسل في تطبيق الدليل الاستقرائي بموجب النقاط التالية:
أوّلًا- أ نّا حين نحسّ ب (ب) دون (أ)- أي نحسّ بالرعد دون أن نحسّ بالبرق مثلًا- نعلم إجمالًا بأنّ هذه الحادثة للباء التي هي ذاتية بكلّ تأكيد: إمّا أن تكون مسبّبة عن باء موضوعية، وإمّا أن تكون مسبّبة عن حادثة ذاتية اخرى. أي‏

520

واحتمال نفي سببيّة (ت)- الذي يحدّده العلم البعدي- يثبت بنفس الدرجة التي ينفي بها سببية (ت) وجود (أ)؛ لأنّ (ت) إذا لم يكن سبباً ل (ب) وكان (ب) موجوداً- بحسب الفرض- فلا بدّ أن يكون (أ)- الذي ثبت باستقراء سابق أ نّه سبب ل (ب)- موجوداً. وبالدرجة ذاتها يثبت موضوعية (أ)؛ لأنّ (أ) إذا كان موجوداً رغم عدم إدراكنا له، فهذا يعني أ نّه لا يتوقّف على إدراكنا. وبهذا نعرف أنّ الاحتمال النافي لسببية (ت) المستمدّ من العلم البعدي يتنافى مع احتمال ذاتية الحادثة المستمدّ من العلم القبلي الأوّل، ويتنافى أيضاً مع احتمال وجود (ت)- في حالات رؤيتنا ل (ب) دون (أ)- المستمدّ من العلم القبلي الثاني.
6- وبالمقارنة بين احتمال نفي سببية (ت) والعلم القبلي الثاني، نجد أ نّه حاكم على القيمة التي يحدّدها ذلك العلم لاحتمال وجود (ت)؛ لأنّه ينفي مصداقية (ت) للكلّي المقيّد المعلوم بالعلم القبلي الثاني؛ لأنّ المعلوم بذلك العلم وجود مصداق لماهيّة بينها وبين ماهية (ب) علاقة السببيّة، واحتمال نفي سببية ماهية (ت) لماهية (ب) يعني: أنّ مصداق (ت) ليس مصداقاً لماهية بينها وبين (ب) علاقة السببيّة، وهذا يؤدّي إلى أ نّه ليس مصداقاً للكلّي المقيّد الذي تعلّق به العلم القبلي الثاني.
ويبرهن ذلك- تطبيقاً لبديهية الحكومة- على أنّ العلم الإجمالي البعدي، بقدر ما يمنح من قيمة لاحتمال نفي السببيّة بين ماهية (ت) وماهية (ب)، يضعّف احتمال وجود (ت)، ويقوّي احتمال وجود (أ).
7- وبالمقارنة بين احتمال نفي سببية (ت) والعلم القبلي الأوّل، نجد أنّ هذا الاحتمال ينفي أحد طرفي العلم القبلي الأوّل، وهو ذاتية (أ)، ولكنّه لا ينفي مصداقيّته للكلّي الذي تعلّق به العلم القبلي الأوّل. ولا بدّ في هذه الحالة من تطبيق قاعدة الضرب بدلًا عن بديهية الحكومة.

519

الظاهرتين للُاخرى، تطبيقاً للشكل الأوّل من الاستدلال الاستقرائي.
ويمكننا التوصّل إلى إثبات هذه السببيّة استقرائياً، مع احتفاظنا بالحياد تجاه موضوعية الحادثة وذاتيّتها.
4- وبعد ذلك يتّفق كثيراً أ نّا ندرك حسّياً الظاهرة المسبّبة: (ب)، دون الظاهرة (أ) التي عرفنا بالاستقراء أ نّها سبب ل (ب)، فنحسّ بالضوء دون أن نبصر قرص الشمس، ونسمع الرعد دون أن نرى البرق، ونشاهد الغليان دون أن نعاصر بإدراكنا الحسّي عملية وضع الماء على مسافة محدّدة من النار.
وفي هذه المرحلة نواجه مصداقاً للحالة الثانية من حالات الشكل الثاني للاستدلال الاستقرائي؛ لأنّنا نرى (ب) فعلًا ونعلم على هذا الأساس- علماً إجمالياً- بأ نّه قد وجد مصداق لماهية بينها وبين ماهية (ب) علاقة السببيّة، وهذه الماهية هي: إمّا ماهية (أ) التي ثبت بالاستقراء سببيّتها ل (ب)، وإمّا ماهية اخرى نجهل سببيّتها ل (ب) نرمز إليها ب (ت)، ولنعبّر عن هذا العلم ب «العلم الإجمالي القبلي الثاني». والافتراض الأوّل في هذا العلم الإجمالي يعني موضوعيّة (أ)؛ لأنّه يفترض وجوده رغم عدم إدراكنا له، وهو معنى كونه موضوعيّاً.
والمعلوم بهذا العلم الإجمالي القبلي الثاني كلّي مقيّد، أي فرد ما من ماهية مقيّدة بصفة، وهي أنّ بينها وبين ماهيّة (ب) علاقة السببيّة.
5- ويوجد- إلى جانب العلم الإجمالي القبلي الأوّل والقبلي الثاني- علم آخر نعبّر عنه ب «العلم الإجمالي البعدي»، وهو العلم الذي يحدّد قيمة احتمال عدم سببية ماهية (ت) لماهية (ب)، فإنّ هذه السببيّة ليست مؤكّدة بل محتملة، وما دامت محتملة فهناك- إذن- علم إجمالي يستوعب احتمالاتها، ويحدّد قيمة الإثبات وقيمة النفي.

518

وأعني بالحادثة الموضوعية: ما كان إدراكي لها يستمدّ وجوده منها، وأعني بالحادثة الذاتية: ما كان إدراكي لها هو الذي يمدّها بالوجود.
وكلتا الفرضيّتين- الموضوعية والذاتية- متساويتان في القيمة الاحتمالية؛ لأ نّنا لا نعلم عدد الافتراضات المحتملة التي تتضمّنها كلّ من فرضية كون حادثة البرق- مثلًا- ذاتية، وفرضية كونها موضوعية، وكلّ احتمال للعدد في إحدى الفرضيّتين يوازيه احتمال مناظر في الآخر.
وهذا يعني أنّ قيمة احتمال «أنّ حادثة البرق موضوعيّة»- أي لا تستمدّ وجودها من إدراكي للبرق- تساوي قيمة احتمال «أ نّها ذاتية»- أي تستمدّ وجودها من إدركي للبرق- وكلا الاحتمالين يتمثّلان في علم إجمالي يضمّ كلتا الفرضيّتين- الموضوعيّة والذاتية- كطرفين له، ونعبّر عن هذا العلم الإجمالي ب «العلم الإجمالي القبلي الأوّل». وبهذا نحدّد الاحتمال القبلي لفرضيّة كون الحادثة موضوعيّة.
2- ويمكنني قبل أن اثبت أنّ الحادثة موضوعيّة أو ذاتية، أن اثبت بالاستقراء مبدأ السببيّة، فاثبت باحتمال استقرائي كبير، وبالطريقة التي تقدّمت في الفصل السابق، مبدأ السببيّة وأنّ كلّ حادثة لها سبب، إذ لا يتوقّف استعمال تلك الطريقة الاستقرائية على أن نثبت مسبقاً موضوعية الحوادث، أو ذاتيّتها.
3- ومن خلال الملاحظة المستمرّة كثيراً ما نشاهد- في إدراكنا الحسّي- أشياء تقترن بأشياء اخرى أو تتلوها، فالضوء يقترن مع مقابلة قرص الشمس للأرض، وصوت الرعد يتلو البرق، وصمّامة الحوض إذا انتزعت تسرّب الماء إلى الحديقة، ووضع الماء على مسافة محدّدة من النار يقترن بعد برهة من الزمن بالغليان … وهكذا.
وهذا الاقتران المستمرّ يمكن أن يتّخذ أساساً لإثبات سببيّة إحدى‏