الاسس المنطقية للاستقراء
517

بينما راح المنطق الأرسطي يؤكّد أنّ موضوعية الحادثة المدركة بالحسّ الظاهر تدخل في نطاق المعرفة الأوّلية، كما لاحظنا في التصنيف الأرسطي للقضايا.

القضيّة المحسوسة مستدلّة كالقضيّة التجريبيّة:

والحقيقة أنّ افتراض موضوعية الحادثة ليس افتراضاً دون مبرّر كما تقول المثالية، وليس أيضاً افتراضاً أوّلياً ومعرفة أوّلية كما يقول المنطق الأرسطي، بل هو افتراض مستدلّ ومستنتج حسب مناهج الدليل الاستقرائي، كالقضايا التجريبية والحدسية والمتواترة تماماً. فالتصديق الموضوعي بالواقع يقوم على أساس تراكم القيم الاحتمالية في محور معيّن، وفقاً للطريقة العامّة التي فسّرنا بها المرحلة الاولى الاستنباطية من الدليل الاستقرائي، ويتحوّل هذا التراكم إلى اليقين عند توفّر الشروط اللازمة، وفقاً للمرحلة الثانية الذاتية من الدليل الاستقرائي.
ويتّخذ الاستدلال الاستقرائي لإثبات ذلك طرقاً كثيرة، نذكر فيما يلي بعضها:

الاستدلال على أساس الصيغة الاولى لتبرير الشكّ:

وسوف نطبق الدليل أوّلًا على أساس الصيغة الاولى للشكّ في الواقع الموضوعي، ونطبّقه ثانياً على أساس الصيغة الثانية للشكّ في ذلك.
1- أفترض أمامي ظواهر احسّ بها- كالبرق والرعد مثلًا-، لا أدري هل هي حوادث ذاتية أو موضوعية. فلا شكّ هنا- في البداية- في وجود مجموعة الحوادث المحسوسة، وإنّما الشكّ في تفسيرها على أساس ذاتي أو موضوعي.

516

بالبرق، ولكن هذا الاتصال المباشر وحده لا يكفي لكي يكشف لنا حقيقة هذا البرق الذي نتّصل به، وهل هو حادثة ذاتية يرتبط وجودها بنفس إدراكي لها وإحساسي بها، أو حادثة موضوعية يرتبط إحساسي بها وإدراكي لها بوجودها؟
فوجود برق حين أرى برقاً معرفة أوّلية، ولكن كون هذا البرق حادثة موضوعية لا ذاتية ليس معرفة أوّلية، ولا يثبته الحسّ الظاهر بصورة مباشرة.
ونحن في هذه الصيغة لتبرير الشكّ في الموضوعية افترضنا برقاً واحداً يؤكّده لنا الحسّ الظاهر، ولكنّه لا يستطيع أن يؤكّد بصورة مباشرة ذاتيّته أو موضوعيّته.
الثانية: نفترض أنّ من المؤكّد- على أساس التمييز بين الجانب الذاتي من المحسوس والجانب الموضوعي- أنّ الذي نتّصل به مباشرة في الحسّ الظاهر ليس حادثة موضوعية، بل هو حادثة ذاتية وصورة ذهنية في إدراكنا الحسّي؛ لأنّ للمحسوس جانبه الذاتي على أيّ حال، سواء كان له جانب موضوعي أو لا. وإنّما نحتمل أن تكون هذه الحادثة الذاتية مرتبطة ارتباطاً سببياً بحادثة موضوعية، فلسنا إذن على اتصال مباشر بالحادثة الموضوعية، حتّى ولو كانت هذه الحادثة موجودة حقاً، بل نحن على صلة مباشرة بالحادثة الذاتية.
وكلتا هاتين الصيغتين تؤدّيان إلى نتيجة واحدة، وهي: أنّ الموضوعية ليست معطىً مباشراً للحسّ، فكيف نستطيع أن نثبت الواقع الموضوعي؟
وعلى هذا الأساس رفضت المثالية الإيمان بالواقع الموضوعي، وانطلقت من التمييز بين الصورة الذهنية والواقع الموضوعي إلى القول بأنّ معرفتنا الحسّية لا تبرّر الاعتقاد بالواقع الموضوعي، ما دمنا لا نتّصل به مباشرة، وإنّما نتّصل بالصور الذهنية والحوادث الذاتية.

515

تفسير القضية المحسوسة

بقي علينا أن ندرس من القضايا الأوّلية الستّ في تصنيف المنطق الأرسطي القضية المحسوسة، التي يؤمن هذا المنطق بأ نّها قضية أوّلية وإحدى نقاط الابتداء في المعرفة البشرية:
وقد تقدّم أنّ الحسّ على قسمين: ظاهر وباطن، فالقضايا المتيقّنة بواسطة الحسّ الظاهر من قبيل: يقيننا بأنّ الشمس طالعة، والقضايا المتيقّنة بواسطة الحسّ الباطن من قبيل: يقيننا بالجوع، أو اللذّة، أو الخوف، ونحو ذلك.
ولا شكّ في أنّ القضايا المطلوب إثباتها بالحسّ الباطن أوّلية؛ لأنّ الإنسان في هذا القسم من الإدراك الحسّي، يتّصل بصورة مؤكّدة بمدلول القضية المطلوب إثباتها بهذا الحسّ مباشرة.
وأمّا القضايا المطلوب إثباتها بالحسّ الظاهر، فهي تختلف عن قضايا الحسّ الباطن؛ لأنّنا بالحسّ الظاهر نريد أن نثبت الواقع الموضوعي، أي أنّ هناك- حينما أرى البرق- برقاً موضوعياً موجوداً بصورة مستقلّة عن إدراكي، وهذا لا يكفي فيه الاتصال المباشر بالمحسوس في حالات الحسّ الظاهر.

صياغتان لتبرير الشكّ في القضية المحسوسة:

ويمكننا أن نوضح عدم كفاية ذلك، ونبرّر الشكّ في الواقع الموضوعي- رغم الإحساس به- بإحدى الصيغتين التاليتين:
الاولى: أ نّنا في إدراكنا الحسّي للبرق- مثلًا- وإن كنّا نتّصل مباشرة

514

العلم عدداً أكبر من الأطراف، وكلّ أطرافه- باستثناء واحد- تستلزم نفي الفرضية الرابعة، بينما لا يكون (العلم- 3) متضمّناً لنفس العدد من الأطراف؛ لأنّ جزءاً من المعرفة التي يتطلّبها تكوين التركيب الفسيولوجي لنوعية من تلك النوعيات كثيراً ما يكون بنفسه جزءاً من المعرفة التي يتطلّبها تكوين التركيب الفسيولوجي لنوعية اخرى. مثلًا: التكوين الفسيولوجي لجهاز التناسل عند الرجل، والتكوين الفسيولوجي لجهاز التناسل عند المرأة رغم تغايرهما يشتركان في جزء كبير من المعرفة التي تفترضها فرضية وجود ذات حكيمة صنعت الجهاز.

513

جديدة، بعدد الافتراضات المستقلّة التي كان افتراض إيجاده للمجموعة الاولى يتضمّنها. وأمّا افتراض إيجاد ذات حكيمة للمجموعة الثانية على افتراض إيجادها للمجموعة الاولى فلا يتضمّن افتراضات جديدة بذلك العدد؛ لأنّ الجزء الأكبر من المعرفة التي يتطلّبها صنع المجموعة الثانية هو نفس المعرفة التي كان صنع المجموعة الاولى يتطلّبها.
وأمّا الفرضية الرابعة- أي تفسير مجموعة الظواهر التي يمثّلها التركيب الفسيولوجي لسقراط مثلًا على أساس علاقة السببيّة بين نفس المادّة وكلّ ظاهرة من تلك الظواهر- فلا بدّ من إدخال تعديل على البيان السابق، لكي تنطبق نفس الطريقة المتقدّمة لإضعاف قيمة احتمال هذه الفرضية؛ لأنّنا إذا ضممنا إلى سقراط خالداً- أي إلى (العلم 1) (العلم 2)- لن نحصل على مجموعة أكبر من الافتراضات المستقلّة؛ لأنّ علاقات السببيّة هي علاقات مفهومية تقوم بين الماهيتين، فإذا افترضنا أنّ نوعية المادّة التي تكوّن منها سقراط تقتضي بطبيعتها التركيب الفسيولوجي المعيّن لسقراط، فهذا الافتراض نفسه يعني أنّ نوعية المادّة التي تكوّن منها خالد تقتضي تركيباً فسيولوجياً مماثلًا؛ لأنّ المادّتين من نوعية واحدة- أي من ماهية واحدة-. فلكي نحصل على مجموعة أكبر من الافتراضات المستقلّة يجب أن نلاحظ نوعيّات متعدّدة من المادّة، فلا يكون افتراض أنّ نوعية من تلك النوعيات مرتبطة ارتباطاً سببياً بوضعها الخاصّ، مستلزماً لافتراض أنّ النوعية الاخرى مرتبطة ارتباطاً سببياً بوضعها الخاصّ.
وبهذا نواجه مجموعتين أو مجاميع متغايرة من الافتراضات المستقلّة، وبالتركيب بينها نحصل على مجموعة أكبر، فيوجد (العلم 3)، ويتضمّن هذا

512

وحينما نضرب (العلم- 3) ب (العلم 3) لتكوين علم إجمالي ثالث وتحديد القيم على أساسه، سوف تكون قيمة احتمال نفي الفرضية الثانية في هذا العلم أكبر كثيراً من قيمة احتمال نفي الفرضية الاولى فيه، وذلك لأنّ أطراف (العلم- 3) النافية للفرضية الاولى- وهي كلّ أطرافه باستثناء واحد- لن تتعايش إلّا مع طرف واحد من أطراف (العلم 3)، كما أنّ أطراف (العلم 3) النافية للفرضية الثانية- وهي كلّ أطرافه باستثناء واحد- لن تتعايش إلّامع طرف واحد من أطراف (العلم- 3). وبهذا سوف يظلّ عدد العوامل النافية للفرضية الاولى وعدد العوامل النافية للفرضية الثانية ثابتاً في العلم الإجمالي الثالث. ولمّا كنّا نعلم بأنّ (العلم 3) في قوّة علم أكثر أطرافاً من (العلم- 3)، فمن الضروري أن تكون قيمة احتمال الفرضية الاولى المستمدّة من العلم الإجمالي الثالث أكبر كثيراً من قيمة احتمال الفرضية الثانية المستمدّة من هذا العلم.
وبذلك يبدأ احتمال الفرضية الاولى بالنموّ، وتزداد قيمته، كلّما ازدادت المجموعات من الظواهر التي يتشكّل على أساس كلّ واحد منها (علم-) و (علم).
سادساً: وبنفس الطريقة يمكننا أن نفسّر نموّ احتمال الفرضية الاولى في مقابل الفرضية الثالثة التي تتضمّن افتراض مجنون صنع الظواهر، فإنّنا كلّما أضفنا مجموعة جديدة من الظواهر المماثلة للمجموعة أو المجاميع السابقة نحصل على (علم) جديد، وبالتالي على (علم 3) جديد. وتكون قيمة احتمال وجود مجنون قام بإيجاد كلّ تلك الظواهر صدفة ضئيلة جدّاً، بينما لا تتضاءل بنفس الدرجة قيمة احتمال وجود الذات الحكيمة؛ لأنّ افتراض إيجاد مجنون للمجموعة الثانية على افتراض إيجاده للمجموعة الاولى، يتضمّن افتراضات‏

511

وهكذا نواجه ستّة علوم وهي: (العلم- 1)، (العلم- 2)، (العلم- 3)، (العلم 1)، (العلم 2)، (العلم 3).
ولا نعرف عدد الأعضاء في أيّ واحد منها، ولكنّا نعلم بأنّ عدد الأعضاء في (العلم 3) يزيد على عدد الأعضاء في (العلم 1) أو (العلم 2)، وأنّ عدد الأعضاء في (العلم- 3) يزيد على عدد الأعضاء في (العلم- 1) و (العلم- 2)، وأنّ نسبة الزيادة الاولى أكبر من نسبة الزيادة الثانية. وبهذا نحصل على حالة للفقرة الثالثة المتقدّمة في النقطة الرابعة، فنثبت أنّ (العلم 3) في قوّة علم أكثر أطرافاً من (العلم- 3)؛ لأنّ (العلم 3) يمثّل (ه) في تلك الفقرة، و (العلم- 3) يمثّل (س)، و (العلم 1) و (العلم 2) يمثّلان (ط)، و (العلم- 1) و (العلم- 2) يمثّلان (ي). وقد برهنّا في تلك الفقرة على أنّ (ه) في قوّة علم أكثر أطرافاً من (س). وهذا يعني أنّ قيمة العضو الواحد في (العلم 3) أصغر من قيمة العضو الواحد في (العلم- 3)، وأنّ قيمة نفي العضو الواحد في (العلم 3) أكبر من قيمة نفي العضو الواحد في (العلم- 3).
ونحن نعلم في نفس الوقت أنّ كلّ أعضاء (العلم 3) باستثناء عضو واحد يتضمّن نفي الفرضية الثانية- أي أنّ قيمة نفي الفرضية الثانية هي قيمة نفي العضو الواحد في (العلم 3)-، ونعلم أنّ كلّ أعضاء (العلم- 3) باستثناء عضو واحد يتضمّن نفي الفرضية الاولى- أي أنّ قيمة نفي الفرضية الاولى هي قيمة نفي العضو الواحد في (العلم- 3)-.
ولمّا كانت قيمة نفي العضو الواحد في (العلم 3) أكبر من قيمة نفي العضو الواحد في (العلم- 3)- كما برهنّا عليه- فسوف تكون قيمة نفي الفرضية الثانية أكبر من قيمة نفي الفرضية الاولى‏.

510

من قيمة احتمال وجود صدف مطلقة بعدد ما في المجموعة الاولى التي يمثّلها سقراط، وأقلّ كثيراً أيضاً من قيمة احتمال وجود صدف مطلقة بعدد ما في المجموعة الثانية التي يمثّلها خالد؛ لأنّه ناتج ضرب هاتين القيمتين إحداهما بالاخرى.
وكما يكون (العلم 3) أكبر من (العلم 2) ومن (العلم 1)، كذلك هو أكبر من (العلم- 1) ومن (العلم- 2)، تطبيقاً للفقرة الرابعة المتقدّمة في النقطة الرابعة؛ لأنّ (العلم 3) يمثّل (ه)، و (العلم 1) و (العلم 2) يمثّلان (ط)، و (العلم- 1) و (العلم- 2) يمثّلان (ي). وقد برهنّا في تلك الفقرة على أنّ (ه) في قوّة العلم الأكثر أطرافاً من (ي)، أي أنّ قيمة العضو الواحد فيه أصغر من قيمة العضو الواحد في (ي)، وقيمة نفي العضو الواحد فيه أكبر من قيمة نفي العضو الواحد في (ي).
وكما حصلنا على (علم 3) كذلك يمكن أن نحصل على (العلم- 3)، وهو العلم الذي يحدّد قيمة احتمال وجود الذات الحكيمة الصانعة لسقراط وخالد معاً، غير أنّ هذا العلم ليس أكثر أطرافاً من (العلم- 1) ولا من (العلم- 2)، بنفس الدرجة التي كان (العلم 3) أكثر أطرافاً من (العلم 1) أو من (العلم 2)؛ لأنّ قدراً كبيراً من الافتراضات التي تتضمّنها فرضية وجود ذات حكيمة تصنع سقراط هي نفسها الافتراضات التي تتضمّنها فرضية وجود ذات حكيمة تصنع خالداً. بسبب أنّ المعرفة التي يتطلّبها صنع سقراط نفس المعرفة التي يتطلّبها صنع خالد تقريباً. وهذا يعني أنّ (العلم- 3) سوف تكون نسبة زيادة عدد أطرافه على عدد أطراف (العلم- 1) و (العلم- 2) أصغر من نسبة زيادة عدد أطراف (العلم 3) على عدد أطراف (العلم 1) و (العلم 2)

509

موازياً لأيّ احتمال في أحدهما احتمال مناظر في الآخر. وهذا يعني أنّ قيمة احتمال تحقّق مجموع الافتراضات التي تتطلّبها فرضية وجود ذات حكيمة صانعة لسقراط مساوية لقيمة احتمال تحقّق مجموعة الافتراضات التي تتطلّبها فرضية وجود سقراط صدفة، ونفس الشي‏ء صحيح في احتمال النفي هناك واحتمال النفي هنا.
ويترتّب على ذلك أنّ (العلم- 1) و (العلم 1) إذا كانا يعالجان مجموعة من الظواهر التي يمثّلها وجود سقراط، ف (العلم- 1) يمنح لاحتمال نفي الفرضية الاولى- أي إثبات الفرضية الثانية- قيمة كبيرة، و (العلم 1) يمنح لاحتمال إثبات الفرضية الاولى- أي نفي الفرضية الثانية- قيمة كبيرة، وإذا افترضنا أنّ القيمتين متساويتان، فلا يؤدّي الضرب إلّاإلى قيمتين متساويتين للاحتمالين المتضادّين (احتمال الفرضية الاولى واحتمال الفرضية الثانية).
ولكنّ سقراط ليس هو الإنسان الوحيد، فهناك خالد مثلًا يعبّر عن مجموعة من الظواهر التي يمكن أن تفسّر على أساس كلّ من الفرضيّتين، وينشأ على أساسها (علم- 2) و (علم 2)، بصورة مناظرة ل (العلم- 1) و (العلم 1).
ويمكننا أن نركّب من مجموعة الظواهر التي يمثّلها سقراط، ومجموعة الظواهر التي يمثّلها خالد، فنكوّن منهما مجموعة أكبر، وسوف نحصل عندئذٍ على علم آخر يكون أكثر أطرافاً من (العلم 1) ومن (العلم 2)، لأنّه ناتج ضرب عدد أطراف أحدهما بعدد أطراف الآخر؛ لأنّ كلّ صدفة مطلقة افتراض مستقلّ لا يستلزم أيّ صدفة اخرى، ولنرمز إلى هذا العلم ب (العلم 3). وعلى أساس أنّ (العلم 3) أكثر أطرافاً من (العلم 2) ومن (العلم 1)، سوف تكون قيمة احتمال وجود صدف مطلقة بعدد ما في كلتا المجموعتين من ظواهر، أقلّ كثيرا