کتابخانه
297

وفي الواقع: أنّ هذا النصّ أكثر النصوص السابقة غرابة؛ إذ يعتبر فيها (ماو تسي تونغ) الحرب كائناً حقيقياً ينطوي على النقيضين، على النصر والهزيمة، مع أنّ هذا المفهوم عن الحرب لا يصحّ إلّافي ذهنية بدائية، تعوّدت على أخذ الأشياء في إطارها العام. فالحرب في التحليل الفلسفي عبارة عن كثرة من الحوادث، لم تتوحّد إلّافي اسلوب التعبير. فالنصر غير الهزيمة، والجيش المنتصر غير الجيش المنهزم، والوسائل أو نقاط القوّة التي مهّدت للانتصار، غير الوسائل أو نقاط الضعف التي أدّت إلى الهزيمة. والنتائج الحاسمة التي أدّت إليها الحرب، لم تكن بسبب صراع ديالكتيكي وتناقضات موحّدة، بل بسبب الصراع بين قوّتين خارجيّتين، وغلبة إحداهما على الاخرى.

7- تناقضات الحكم، كما يحدّث عنها (كيدروف) قائلًا:

«أيّاً ما كانت بساطة حكم مّا، ومهما بدا عادياً هذا الحكم، فهو يحتوي على بذور أو عناصر تناقضات ديالكتية، تتحرّك وتنمو داخل نطاقها المعرفة البشرية كلّها»[1].

ويؤكّد على ذلك (لينين) في قوله:

«البدء بأ يّة قضية كانت، بأبسط القضايا، وأكثرها عادية وشيوعاً … أوراق الشجر خضراء، إيفان هو رجل، (جوتشكا) هي كلبة … فحتّى هنا- أيضاً- ديالكتيك.

فالخاصّ هو عامّ … يعني: أنّ الأضداد- والخاصّ هو ضدّ العامّ- هي متماثلة، وحتّى هنا أيضاً ثمّة مبادئ أوّلية، ثمّة

 

[1] المنطق الشكلي والمنطق الديالكتي: 20- 21

296

مضطرّين إلى التأكيد على أنّ قانون (نيوتن) هذا لا يبرّر التناقضات الديالكتيكية بلون من الألوان؛ لأنّ الفعل وردّ الفعل قوّتان قائمتان بجسمين، لا نقيضان مجتمعان في جسم واحد. فعجلتا السيّارة الخلفيّتان تدفعان الأرض بقوّة، وهذا هو الفعل. والأرض تدفع عجلتي السيّارة بقوّة اخرى مساوية في المقدار ومعاكسة في الاتّجاه للُاولى، وهذا هو ردّ الفعل، وبسببه تتحرّك السيارة. فلم يحتوِ الجسم الواحد على دفعين متناقضين، ولم يقم في محتواه الداخلي صراع بين النفي والإثبات، بين النقيض والنقيض، بل السيارة تدفع الأرض من ناحية، والأرض تدفع السيارة من ناحية اخرى، والديالكتيك إنّما يحاول أن يشرح كيفية نموّ الأشياء وحركتها باحتوائها داخلياً على قوّتين متدافعتين، ونقيضين متخاصمين، يصارع كلّ منهما الآخر لينتصر عليه، ويبلور الشي‏ء تبعاً له. وأين هذا من قوّتين خارجيتين يتولّد من إحداهما فعل خاصّ، ومن الاخرى ردّ الفعل؟ ونحن نعرف جميعاً أنّ الزخمين المتعاكسين اللذين يولّدهما الفعل وردّ الفعل، يقومان في جسمين، ولا يمكن أن يكونا في جسم واحد؛ لأنّهما متعاكسان ومتنافيان، وليس هذا إلّالأجل مبدأ عدم التناقض.

6- تناقضات الحرب التي يعرضها (ماو تسي تونغ) في قوله:

«والواقع: أنّ الهجوم والدفاع في الحرب، والتقدّم والتراجع، والنصر والهزيمة، كلّها ظواهر متناقضة، ولا وجود للواحدة من دون الثانية. وهذان الطرفان يتصارعان، كما أ نّهما يتّحدان ببعضهما فيؤلّفان مجموع الحرب، ويفرضان تطوّرها، ويحلّان مشكلاتها»[1]

 

[1] حول التناقض: 14- 15

295

بالسالبة، مع أ نّا جميعاً نعلم أنّ هذا التعبير مجرّد اصطلاح فيزيائي، ولا يعني أ نّهما نقيضان حقيقة، كما يتناقض النفي والإثبات، أو السلب والإيجاب. فالكهربائية الموجبة هي المماثلة للكهربائية المتولّدة في القضيب الزجاجي المدلوك بقطعة من الحرير. والكهربائية السالبة هي المماثلة للكهربائية المتولّدة على الآيونين المدلوك بجلد الهرّ. فكلّ من الكهربائيتين نوع خاصّ من الشحنات الكهربائية، وليست إحداهما وجود الشي‏ء، والاخرى عدماً لذلك الشي‏ء.

الثاني- اعتبار التجاذب لوناً من الاجتماع. وعلى هذا الأساس فسّرت علاقة التجاذب القائمة بين الشحنة الموجبة، والشحنة السالبة بالتناقض، واعتبر هذا التناقض مظهراً من مظاهر الديالكتيك، مع أنّ الواقع: أنّ السلبية والإيجابية الكهربائيتين لم تجتمعا في شحنة واحدة، وإنّما هما شحنتان مستقلّتان تتجاذبان، كما يتجاذب القطبان المغناطيسيان المختلفان، من دون أن يعني ذلك وجود شحنة واحدة موجبة وسالبة في وقت واحد، أو وجود قطب مغناطيسي شمالي وجنوبي معاً. فالتجاذب بين الشحنات المتخالفة لون من ألوان التفاعل بين الأضداد الخارجية المستقلّ بعضها في الوجود عن بعض. وقد عرفنا فيما سبق أنّ التفاعل بين الأضداد الخارجية ليس من الديالكتيك بشي‏ء، ولا يمتّ إلى التناقض الذي يرفضه المنطق الميتافيزيقي بصلة، فالمسألة مسألة قوّتين، تؤثّر إحداهما في الاخرى، لا مسألة قوّة تتناقض في محتواها الداخلي، كما يزعم الديالكتيك.

5- تناقض الفعل وردّ الفعل في الميكانيك‏[1]. فالقانون الميكانيكي- القائل: إنّ لكلّ فعل ردّ فعل، يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتّجاه- مظهر من مظاهر التناقض الديالكتي في زعم الماركسية. ومرّة اخرى نجد أنفسنا

 

[1] حول التناقض: 14- 15

294

«كما رأينا بأنّ التناقض- مثلًا- بين مقدرة الإنسان على المعرفة مقدرة متأصّلة ولامحدودة، وبين تحقيق هذه المقدرة تحقّقاً فعلياً في البشر الذين هم مقيّدون بظروفهم الخارجية وبقابلياتهم الذهنية، يجد حلوله في تعاقب الأجيال تعاقباً لامحدوداً في التقدّم اللامتناهي، بالنسبة لنا على الأقلّ، وبحسب وجهة النظر العملية»[1].

نجد في هذا مثالًا جديداً لا على مبدأ التناقض، بل على عدم إجادة الماركسية فهم مبدأ عدم التناقض. فإنّه إذا كان من الصحيح: أنّ البشرية قادرة على المعرفة الكاملة، وأنّ كلّ بشر غير قادر على اكتساب تلك المعرفة بمفرده، فليس هذا مصداقاً للديالكتيك، ولا ظاهرة شاذّة عن المنطق الميتافيزيقي ومبدئه الأساسي، بل هو نظير تأكيدنا على أنّ الجيش قادر على الدفاع عن البلد، وأنّ كلّ فرد منهم لا يملك هذه القدرة. فهل هذا هو التناقض؟! وهل هذا هو الذي ارتكز المنطق الميتافيزيقي على رفضه؟! كلّا. فإنّ التناقض إنّما يقوم بين النفي والإثبات، فيما إذا تناولا موضوعاً واحداً. وأمّا إذا تناول الإثبات البشرية بمجموعها، وتناول النفي كلّ فرد بصورة مستقلّة- كما في المثال الذي عرضه أنجلز- فلا يوجد- عندئذٍ- تعارض بين النفي والإثبات.

4- التناقض في الفيزياء، بين الكهربائية الموجبة والسالبة[2].

وهذا التناقض المزعوم ينطوي على خطأين:

الأوّل- اعتبار الشحنة الموجبة والسالبة من قبيل النفي والإثبات، والسلب والإيجاب، نظراً إلى التعبير العلمي عن إحداهما بالموجبة، وعن الاخرى‏

 

[1] ضد دوهرنك: 203- 204

[2] حول التناقض: 14

293

وقال أنجلز:

«رأينا فيما سبق بأنّ قوام الحياة هو: أنّ الجسم الحيّ في كلّ لحظة هو هو نفسه، وفي عين تلك اللحظة هو ليس إيّاه، هو شي‏ء آخر سواه. فالحياة- إذن- هي تناقض مستحكم في الكائنات والعمليات ذاتها»[1].

لا شكّ في أنّ الكائن الحيّ يحتوي على عمليتين- حياة وموت- متجدّدتين، وما دامت هاتان العمليتان تعملان عملهما، فالحياة قائمة. ولكن ليس في ذلك شي‏ء من التناقض؛ لأنّنا إذا حلّلنا هاتين العمليتين اللتين نضيفهما بادئ الأمر إلى كائن حيّ واحد، نعرف أنّ عملية الموت وعملية الحياة لا تتّفقان في موضوع واحد. فالكائن الحيّ يستقبل في كلّ دور خلايا جديدة، ويودّع خلايا بالية. فالموت والحياة يتقاسمان الخلايا، والخلية التي تفنى في لحظة، غير الخلية التي توجد وتحيا في تلك اللحظة. وهكذا يبقى الكائن الحيّ الكبير متماسكاً؛ لأنّ عملية الحياة تعوّضه عن الخلايا التي ينسفها الموت بخلايا جديدة، فتستمرّ الحياة حتّى تنتهي إمكاناته، وتنطفئ شعلة الحياة منه. وإنّما يوجد التناقض لو أنّ الموت والحياة استوعبا في لحظة خاصّة جميع خلايا الكائن الحيّ. وهذا ما لا نعرفه من طبيعة الحياة والأحياء؛ فإنّ الكائن الحيّ لا يحمل في طيّاته إلّا إمكان الموت، وإمكان الموت لا يناقض الحياة، وإنّما يناقضها الموت بالفعل.

3- التناقض في مقدرة الإنسان على المعرفة، قال أنجلز يعرض مبدأ التناقض في الديالكتيك:

 

[1] ضد دوهرنك: 203

292

دجاجة. فقد اجتمع في صميم البيضة إمكان الدجاجة وصفة البيضة، لا صفة البيضة وصفة الدجاجة معاً. بل قد عرفنا أكثر من ذلك، عرفنا أنّ الحركة التطوّرية لا يمكن فهمها إلّاعلى ضوء مبدأ عدم التناقض؛ فإنّ المتناقضات لو كان من الممكن أن تجتمع حقّاً في صميم الشي‏ء، لما حصل تغيّر، ولما تبدّل الشي‏ء من حالة إلى حالة، ولما وجد بالتالي تغيّر وتطوّر.

وإذا كانت الماركسية تريد أن تدلّنا على تناقض في عملية الحركة، يتنافى مع مبدأ عدم التناقض حقّاً، فلتقدّم مثالًا للتطوّر توجد فيه حركة ولا توجد، أي:

يصحّ فيه النفي والإثبات على التطوّر معاً. فهل يجوز في مفهومها بعد أن أسقطت مبدأ عدم التناقض، أن يتطوّر الشي‏ء ولا يتطوّر في وقت معاً؟! فإن كان هذا جائزاً فلتدلّنا على شاهد له في الطبيعة والوجود، وإن لم يجز فليس ذلك إلّا اعترافاً بمبدأ عدم التناقض وقواعد المنطق الميتافيزيقي.

2- تناقضات الحياة، أو الجسم الحي. قال هنري لوفافر:

«ورغم ذلك، أفليس من الواضح: أنّ الحياة هي الولادة والنموّ والتطوّر؟ غير أنّ الكائن الحيّ لا يمكن أن ينمو دون أن يتغيّر ويتطوّر، يعني: دون أن يكفّ عن كونه ما كان. وكي يصير رجلًا عليه أن يترك الصبا ويفقده، وكلّ شي‏ء يلازم السكون ينحطّ ويتأخّر … إلى أن يقول: فكلّ كائن حيّ- إذن- يناضل الموت؛ لأنّه يحمل موته في طوية ذاته»[1].

 

[1] كارل ماركس: 60

291

الموقّت، أم بلحظة من الازدهار، فإنّ الكائن أو الشي‏ء غير المتناقض في ذاته، يكون في مرحلة ساكنة موقتاً»[1].

وقال ماو تسي تونغ:

«لقضية عمومية التناقض، أو الوجود المطلق للتناقض، معنىً مزدوج: الأوّل هو: أنّ التناقض قائم في عملية تطوّر كافة الأشياء. والثاني هو: أ نّه في عملية تطوّر كلّ شي‏ء، تقوم حركة أضداد من البداية حتّى النهاية. يقول أنجلز: إنّ الحركة نفسها تناقض»[2].

وهذه النصوص توضّح: أنّ الماركسية تؤمن بوجود تعارض بين قانون التطوّر والتكامل، وقانون عدم التناقض. وتعتقد أنّ التطوّر والتكامل لا يتحقّق إلّا على أساس تناقض مستمرّ. وما دام التطوّر أو الحركة محقّقين في دنيا الطبيعة، فيجب طرح فكرة عدم التناقض، والأخذ بالديالكتيك؛ ليفسّر لنا الحركة بمختلف أشكالها وألوانها.

وقد ألمعنا سابقاً- عند درس حركة التطوّر- إلى أنّ التطوّر والتكامل لا يتنافى مطلقاً مع مبدأ عدم التناقض، وأنّ الفكرة القائلة بوجود التنافي بينهما، تقوم على أساس الخلط بين القوّة والفعل. فالحركة هي في كلّ درجة إثبات بالفعل ونفي بالقوّة. فالكائن الحيّ حينما تتطوّر جرثومته في البيض حتّى تصبح فرخاً، ويصبح الفرخ دجاجة، لا يعني هذا التطوّر أنّ البيضة لم تكن في دورها الأوّل بيضة بالفعل، بل هي بيضة في الواقع، ودجاجة بالقوّة، أي: يمكن أن تصبح‏

 

[1] كارل ماركس: 58

[2] حول التناقض: 13

290

يمكن معاً أنّ الشبيه ينمو بالشبيه، وبجهة اخرى أن يكون ذلك باللاشبيه»[1].

وهكذا يتّضح: أنّ العمليات المشتركة للأضداد الخارجية، ليست كشفاً للديالكتيك، ولا نقضاً للمنطق الميتافيزيقي، ولا شيئاً جديداً في الميدان الفلسفي، وإنّما هي حقيقة مقرّرة بكلّ وضوح في مختلف الفلسفات منذ فجر التأريخ الفلسفي، وليس فيها ما يحقّق أغراض الماركسية الفلسفية التي تستهدف تحقيقها على ضوء الديالكتيك.

وأمّا إذا كانت الماركسية تعني بالتناقض مفهومه الحقيقي الذي يجعل للحركة رصيداً داخلياً، ويرفضه المبدأ الأساسي في منطقنا، فهذا ما لا يمكن لفكر سليم قبوله، ولا تملك الماركسية شاهداً عليه من الطبيعة وظواهر الوجود مطلقاً.

وكلّ ما تعرض لنا الماركسية من تناقضات الطبيعة المزعومة، فهو لا يمتّ إلى الديالكتيك بصلة.

ولنعرض عدّة من تلك الشواهد التي حاولت أن تبرهن بها على منطقها الديالكتيكي؛ لنتبيّن مدى عجز الماركسية وفشلها في الاستدلال على منطقها الخاصّ:

1- تناقضات الحركة. قال هنري لوفافر:

«حين لا يجري شي‏ء فليست ثمّة مناقضة. ومن ناحية مقابلة، حين لا يكون ثمّة مناقضة لا يحدث شي‏ء، ولا يوجَد أيّ شي‏ء، ولا يلاحظ ظهور أيّ نشاط، ولا يظهر شي‏ء جديد. وسواءٌ أكان الأمر يتعلّق بحال من الركود، أم التوازن‏

 

[1] الكون والفساد: 154

289

وهذا النحو من الصراع بين الأضداد الخارجية وعملياتها المشتركة، ليس من مستكشفات المادّية أو الديالكتيك، بل هو أمر واضح يقرّه كلّ منطق وكلّ فيلسوف- سواءٌ كان مادّياً أم كان إلهياً- منذ أبعد عصور الفلسفة المادّية والإلهية وإلى اليوم. ولنأخذ مثلًا على ذلك أرسطو إمام المدرسة الميتافيزيقية في فلسفة اليونان، وإنّما نأخذه بالخصوص لا لأنّه فيلسوف إلهي فحسب، بل لأنّه واضع قواعد المنطق العامّ- الذي يسمّيه الماركسيون بالمنطق الشكلي- ومبادئه واسسه. فهو يؤمن بالصراع بين الأضداد الخارجية، مع إقامته للمنطق على مبدأ عدم التناقض، ولم يخطر على فكره أنّ شخصاً سينبغ بعد مئات السنين فيعتبر ذلك الصراع دليلًا على سقوط هذا المبدأ الضروري. وفيما يلي شي‏ء من نصوص أرسطو في شأن الصراع بين الأضداد الخارجية:

«وعلى جملة من القول، إنّ شيئاً مجانساً يمكن أن يقبل فعلًا من قبل الشي‏ء المجانس؛ والسبب فيه أنّ جميع الأضداد هي في جنس واحد، وأنّ الأضداد تفعل بعضها في بعض، وتقبل بعضها من قبل البعض الآخر»[1].

«فبحسب الصورة قد انضمّ شي‏ء ما لكلّ جزء كيف ما اتّفق، ولكن لا بحسب المادّة، ومع ذلك فإنّ الكلّ صار أعظم؛ لأنّ شيئاً جاء وانضمّ إليه. وهذا الشي‏ء يُسمّى الغذاء، ويُسمّى- أيضاً- الضدّ، ولكن هذا الشي‏ء لا يزيد من أن يتغيّر في النوع بعينه، كمثل ما يأتي الرطب ينضمّ إلى اليابس، وبانضمامه إليه يتغيّر، بأن يصير هو نفسه يابساً، وفي الواقع‏

 

[1] الكون والفساد: 168- 169