کتابخانه
314

(أ) و (ب) في التجربة التي أجريناها، وإذا كرّرنا التجربة، ونجحت التجربة الثانية أيضاً، واقترن (ب) فيها ب (أ) فسوف نواجه تجاهها نفس التفسيرين السابقين، إذ ما دامت الصدفة النسبية محتملة في التجربة الاولى، فهي محتملة أيضاً في التجربة الثانية.
وفي هذه الحالة يتدخّل علم إجمالي لتنمية احتمال سببيّة (أ) ل (ب)، وفقاً لنظرية الاحتمال. فبعد تجربتين ناجحتين، نحصل على علم إجمالي تضمّ مجموعة أطرافه أربعة أعضاء هي الحالات الأربع المحتملة في (ت) كما يلي:
1- أنّ (ت) لم يوجد مع كلتا التجربتين.
2- أ نّه وجد مع التجربة الاولى فقط.
3- أ نّه وجد مع التجربة الثانية فقط.
4- أ نّه وجد مع التجربتين.
وهذه الحالات الأربع مجموعة متكاملة، تتكوّن منها مجموعة أعضاء العلم الإجمالي، ولنرمز إلى كلّ عضو في هذه المجموعة ب (ع 2)، وإلى مجموعة أعضاء هذا العلم التي تضمّ كلّ الحالات المحتملة ل (ت) ب (ع 2 ن)، وإلى نفس هذا العلم الإجمالي ب (علم 2) أو (العلم الإجمالي 2). وإذالم يوجد أي مبرّر لتفضيل احتمال وجود (ت) أو احتمال عدمه على الآخر، فسوف ينقسم رقم اليقين على الأعضاء الأربعة بالتساوي.
وحين نلاحظ القائمة الرباعية، نجد أنّ ثلاث حالات منها تستلزم سببيّة (أ) ل (ب)، وهي الحالات الثلاث الاولى؛ لأنّ (ت) غير موجود بموجبها ولو في تجربة واحدة على الأقلّ، فلا يمكن أن يفسّر وجود (ب) في كلتا التجربتين إلّا على أساس افتراض سببيّة (أ) له، ما دمنا قد افترضنا- في الموقف القبلي- رفض الصدفة المطلقة. وأمّا الحالة الرابعة فهي حيادية تجاه ثبوت سببيّة (أ)

315

ل (ب) ونفيها؛ لأنّ فرضيّة وجود (ت) في كلتا التجربتين لا تتضمّن سببيّة (أ) ل (ب)، ولا تتعارض مع هذه السببيّة. وهذا يعني: أنّ ثلاث قيم احتمالية من القيم الاحتمالية الأربع التي تتمثّل في (العلم الإجمالي 2) هي في صالح سببيّة (أ) ل (ب)، وكذلك نصف القيمة الاحتمالية الرابعة بوصفها قيمة حيادية. وبذلك تكون درجة احتمال سببيّة (أ) ل (ب) بعد تجربتين ناجحتين هي: 24/ 31/ 8/ 7،

وتكون بعد ثلاث تجارب ناجحة: 16/ 15. وهكذا يزداد احتمال سببيّة (أ) ل (ب) كلّما ازدادت التجارب الناجحة، تبعاً لارتفاع عدد الحالات أو الأعضاء التي تثبت سببيّة (أ) ل (ب) في مجموعة أطراف (العلم الإجمالي 2). وقد نعبّر أيضاً عن هذا العلم الإجمالي الذي يستوعب الحالات الممكنة بعد عدد من التجارب الناجحة ب «العلم الإجمالي البعدي»؛ لأنّه يمارس دوره في تنمية احتمال السببيّة بعد الاستقراء، كما نعبّر عنه ب (العلم 2).

قاعدة الضرب أو الحكومة:

كما يوجد العلم الإجمالي البعدي، كذلك يوجد علم إجمالي آخر، وهو العلم الإجمالي بأنّ شيئاً ما سبب ل (ب)، وهذا العلم ثابت قبل الاستقراء. فإذا افترضنا أنّ (ب) له سبب واحد هو إمّا (أ) وإمّا (ت) كان معنى ذلك: أنّ هذا العلم يضمّ في مجموعته عضوين فقط هما: (أ) و (ت)، ولنرمز إلى هذا العلم ب (العلم 1)، وقد نعبّر عنه ب «العلم الإجمالي القبلي»؛ لأنّه هو الذي يحدّد قيمة احتمال سببيّة (أ) ل (ب) قبل الاستقراء، إذ تكون قيمته بموجب هذا الافتراض 2/ 1، كما أنّ قيمة نفي هذه السببيّة هو: 2/ 1 أيضاً. ولنرمز إلى كلّ عضو من أعضائه ب (ع 1)، وإلى مجموعة أعضائه ب (ع 1 ن)، وإلى مجموعة أعضائه‏

313

و (ب) وعن طريق هذه العلاقة يثبت التعميم بالصورة التي سوف نشرحها.
ونحن في تطبيق تلك الطريقة العامّة للاستدلال الاستقرائي، نحتاج إلى علم إجمالي يكون أساساً لتنمية احتمال السببيّة بالشكل الذي أشرنا إليه آنفاً، وما دمنا قد افترضنا العلم في الموقف القبلي باستحالة الصدفة المطلقة، فهذا يعني: أنّ (ب) لها سبب ترتبط به بعلاقة السببيّة؛ إذ لو لم يكن لها سبب لكان وجودها صدفة مطلقة، والصدفة المطلقة قد افترضنا- بصورة قبليّة- استحالتها. فإذا افترضنا أنّ هذا السبب الذي ترتبط به (ب) بعلاقة السببيّة، هو إمّا (أ) وإمّا (ت)، بمعنى أنّ سبب (ب) واحد منهما فقط، وأجرينا تجربة أوجدنا فيها (أ) لنلاحظ ما سوف يقترن به، فرأينا أنّ (ب) وجد في نفس الوقت، فهذا الاقتران له حالتان: الاولى هي الحالة التي نتأكّد فيها من عدم وجود (ت) في الظرف الذي أجرينا فيه تلك التجربة، والاخرى هي الحالة التي لا يتاح لنا ذلك، ونشكّ في أنّ (ت) موجود أو لا.
ففي الحالة الاولى سوف نستطيع أن نستنبط سببيّة (أ) ل (ب)، استنباطاً يقينيّاً على أساس موقفنا القبلي المفترض؛ لأنّ (ب) ما دام من المستحيل أن يوجد بدون سبب، وما دام لم يتقرن به من الأشياء المحتمل كونها سبباً إلّا (أ)، فمن الضروري أن يكون (أ) هو السبب. ولا حاجة في هذا الاستنباط إلى أيّ علم إجمالي، أو تنمية تدريجيّة للاحتمال؛ لأنّ الدليل على السببيّة هنا استنباطي محض، وليس استقرائيّاً.
وأمّا في الحالة الثانية فسوف تكون سببيّة (أ) ل (ب) مشكوكة رغم اقتران أحدهما بالآخر؛ لأنّ هذا الاقتران كما يمكن أن يفسّر على أساس وجود علاقة سببية بينهما، كذلك يمكن أن يفسّر بوصفه صدفة نسبية ويفترض أنّ (ب) وجد نتيجة لوجود (ت) في تلك اللحظة. فأمامنا- إذن- تفسيران لظاهرة الاقتران بين‏

312
التطبيق الأوّل‏

في هذا التطبيق نفترض أ نّه لا مبرّر قبلي للإيمان بنفي علاقة السببيّة الوجوديّة- بمفهومها العقلي- بين (أ) و (ب)، كما نفترض مبرّراً للاعتقاد باستحالة الصدفة المطلقة، أي للإيمان بعلاقة السببيّة العدميّة- بمفهومها العقلي- بين عدم السبب وعدم المسبّب.
وقد افترضنا أيضاً: أنّ القضيّة الاستقرائيّة التي نريد تطبيق الطريقة العامّة للدليل الاستقرائي عليها، هي: «أنّ كلّ (أ) يعقبها (ب)»، وبحكم الموقف القبلي المفترض في هذا التطبيق يوجد أمام الدليل الاستقرائي ثلاث صيغ لقضايا محتملة، وهي:
أوّلًا: التعميم القائل: كلّ (أ) يعقبها (ب).
ثانياً: أنّ (أ) سبب ل (ب) بالمفهوم التجريبي، ولنعبّر عن ذلك بالقانون السببي.
ثالثاً: أنّ (أ) سبب ل (ب) بالمفهوم العقلي، ولنعبّر عن ذلك بعلاقة السببيّة، فإنّ هذه السببيّة محتملة؛ لأنّنا افترضنا في الموقف القبلي أ نّه لا يوجد مبرّر مسبق للإيمان بنفي علاقة السببيّة- بالمفهوم العقلي- بين (أ) و (ب)، وكلّ ما لا يوجد مبرّر لرفضه فهو محتمل.
والصيغة الاولى والثانية تعبّران عن شي‏ء واحد؛ لأنّ السببيّة بالمفهوم التجريبي ليست إلّاالاقتران أو التعاقب المطّرد، وبذلك تعود الصيغ الثلاث إلى قضيّتي التعميم وعلاقة السببيّة، والثانية تتضمّن الاولى.
والدليل الاستقرائي- في تفسيرنا- يتّجه إلى إثبات علاقة السببيّة بين (أ)

311

وفي هذا الضوء نستطيع أن نفهم باستيعاب المواقف القبليّة الأربعة التي سبق أن استعرضناها كنقاط بدء أربع للتطبيقات المختلفة التي سوف نمارسها للمرحلة الاستنباطيّة من الدليل الاستقرائي:
ففي الموقف القبلي للتطبيق الأوّل نفترض: أ نّه لا يوجد أيّ مبرّر قبلي لرفض علاقة السببيّة الوجوديّة بمفهومها العقلي بين (أ) و (ب)، أي للإيمان بعدمها، ونقبل في نفس الوقت السببيّة العدميّة بمفهومها العقلي‏الذي يتضمّن استحالة الصدفة المطلقة.
وفي الموقف القبلي للتطبيق الثاني نفترض- كما في الأوّل-: أ نّه لا يوجد أيّ مبرّر قبلي لرفض علاقة السببيّة الوجوديّة بمفهومها العقلي بين (أ) و (ب)، وأمّا السببيّة العدميّة بمفهومها العقلي فنفترض أ نّه لا يوجد أيّ مبرّر قبلي للإيمان بها، كما لا مبرّر للإيمان بعدمها، وهذا يعني: الشكّ في إمكان الصدفة المطلقة.
وفي الموقف القبلي للتطبيق الثالث نفترض- كما في الموقفين السابقين-:
أ نّه لا يوجد أيّ مبرّر قبلي لرفض علاقة السببيّة الوجوديّة بمفهومها العقلي بين (أ) و (ب)، أي للإيمان بعدمها، ولكن يوجد مبرّر قبلي لرفض علاقة السببيّة العدميّة بمفهومها العقلي، وهذا يعني: الإيمان المسبق بإمكان الصدفة المطلقة، ولا تناقض بين الإيمان بإمكان الصدفة المطلقة وعدم رفض السببيّة الوجوديّة بالمفهوم العقلي كما عرفنا سابقاً.
وفي الموقف القبلي للتطبيق الرابع نفترض- خلافاً للمواقف الثلاثة السابقة-: أ نّا نملك مبرّراً قبليّاً لرفض علاقة السببيّة الوجوديّة بمفهومها العقلي بين (أ) و (ب)، أي للإيمان بعدمها، فلا يوجد أيّ احتمال قبل الاستقراء للسببيّة العقليّة، وإنّما يحتمل قبلياً السببيّة بالمفهوم التجريبي لها، أي أنّ (أ) تقترن بها أو تعقبها (ب) بصورة مطّردة.

310

الذي يستتبع وجوده وجود (ب) استتباعاً ضرورياً، يكون عدمه مستتبعاً لعدم ذلك الشي‏ء استتباعاً ضرورياً أيضاً. فالسببيّة العدمية عند التجريبيين مجرّد اقتران مطّرد بين عدمين صدفة، وعند العقليين علاقة ضرورة بين عدم مفهوم وعدم مفهوم آخر.
والسببيّة العدمية بالمفهوم العقلي تعني: استحالة الصدفة المطلقة، أي أنّ وجود الشي‏ء مع عدم وجود سببه (أي مع عدم وجود ما يكون مستتبعاً لوجوده استتباعاً ضرورياً) مستحيل؛ لأنّ عدم السبب سبب لعدم الشي‏ء، فلا يمكن أن يكون العدم الأوّل ثابتاً دون الثاني.
فاستحالة الصدفة المطلقة متضمّنة في السببيّة العدميّة بالمفهوم العقلي، وأمّا السببيّة الوجوديّة بالمفهوم العقلي فلا تتضمّن استحالة الصدفة المطلقة؛ لأنّ مجرّد أنّ (أ) يرتبط به (ب) ارتباطاً يجعل وجود (ب) ضرورياً عند وجود (أ) لا ينفي إمكان وجود (ب) بدون سبب.
كما نعرف في هذا الضوء أنّ السببيّة الوجوديّة بالمفهوم التجريبي تناقض السببيّة العدميّة بالمفهوم العقلي؛ لأنّها تفترض أنّ الأشياء التي يقترن بها (ب) أو يتعقّبها دائماً قد اقترن بها (ب) أو تعقّبها على سبيل الصدفة دون أيّ استتباع ضروري، وهذا يعني إمكان الصدفة المطلقة، بينما تتضمّن السببيّة العدميّة بالمفهوم العقلي استحالة الصدفة المطلقة.
ونستخلص من ذلك ما يلي:
أوّلًا: أنّ السببيّة الوجوديّة بالمفهوم العقلي لا تنفي إمكان الصدفة المطلقة.
ثانياً: إنّ السببيّة الوجوديّة بالمفهوم التجريبي تساوي الصدفة المطلقة المتمثّلة في اقتران وجود شي‏ء بوجود شي‏ء آخر دون أيّ ضرورة.
ثالثاً: إنّ السببيّة العدميّة بالمفهوم العقلي تساوي استحالة الصدفة المطلقة.

309

سبباً، وذلك لأنّ السببيّة علاقة ضرورة بين مفهومين، فلا يمكن أن يحصل فرد من مفهوم على هذه العلاقة دون فرد آخر لنفس المفهوم، وهذا معنى «أنّ الأشياء المتماثلة تؤدّي إلى نتائج متماثلة».
وأمّا مجرّد التتابع أو الاقتران الذي تفسّر السببيّة على أساسه في المفهوم التجريبي، فهو بوصفه علاقة بين فردين لا بين مفهومين، فبالإمكان أن توجد هذه العلاقة لفرد دون فرد آخر مماثل له.
السببيّة الوجوديّة والعدميّة:
حتّى الآن كنّا نتحدّث عن تعميم من قبيل: «كلّ (أ) يعقبها (ب)»، وقد رأينا أنّ هذا التعميم متضمّن في السببيّة، سواء أخذناها بالمفهوم العقلي أو بالمفهوم التجريبي.
ويمكن أن نعتبر هذا التعميم وجودياً؛ لأنّه يؤكّد وجود شي‏ء عند وجود شي‏ء آخر، وعلى هذا الأساس نطلق على السببيّة التي تتضمّن هذا التعميم: اسم السببيّة الوجودية، سواء كانت بالمفهوم العقلي للسببيّة أو المفهوم التجريبي.
وهناك تعميمات عدميّة تؤكّد نفي شي‏ء عند نفي شي‏ء آخر، من قبيل التعميم القائل: «كلّما لم يكن هناك سبب لشي‏ء فلا يوجد ذلك الشي‏ء»، وهذه التعميمات تعبّر عن سببيّة عدميّة، أي أنّ عدم السبب لشي‏ء سبب لعدم ذلك الشي‏ء، وبكلمة اخرى: إنّ عدم السبب الوجودي لشي‏ء سبب عدمي لذلك الشي‏ء.
وهذه الكلمة بالمفهوم التجريبي للسببيّة تعني: أنّ الشي‏ء (أو الأشياء) الذي يقترن به (ب) دائماً على سبيل الصدفة، يقترن بعدمه عدم (ب) دائماً على سبيل الصدفة أيضاً.
وأمّا بالمفهوم العقلي للسببيّة فهذه الكلمة تعني: أنّ الشي‏ء (أو الأشياء)

308

الكتاب-)، وأنّ أيّ حادثة توجد عقيب حادثة اخرى فوجودها عقيبها صدفة ولا يعبّر عن أيّ لزوم، فالغليان عقيب الحرارة والحرارة عقيب الحركة صدفة، كما أنّ نزول المطر عقيب صلاتك صدفة. والفارق بين الصدفتين: أنّ الاولى تتكرّر على سبيل الصدفة بصورة مطّردة، وأنّ الثانية لا توجد إلّاأحياناً.
وما دام هذا التتابع مجرّد صدفة مطّردة، دون أن يقوم على أساس علاقة ضرورة بين مفهومين، فهو يعبّر عن علاقة بين فردين بدلًا عن مفهومين، وبهذا يكون التتابع بين كلّ فرد من الحرارة وفردٍ من الحركة علاقةً مستقلّة نشأت على سبيل الصدفة بين الفردين، فسببيّة الحركة للحرارة- بالمفهوم التجريبي- تعبّر عن علاقات كثيرة بعدد ما يوجد من أفراد للحرارة والحركة، دون أن تستقطب كلّ تلك العلاقات علاقة رئيسية بين المفهومين كما يفترضه المفهوم العقلي للسببيّة.
وهكذا نعرف:
أوّلًا: أنّ السببية بالمفهوم العقلي: علاقة ضرورة، والسببيّة بالمفهوم التجريبي هي: اقتران أو تتابع بين الحادثتين بصورة مطّردة صدفة.
ثانياً: أنّ السببيّة بالمفهوم العقلي علاقة واحدة رئيسية بين مفهومين، والعلاقات بين أفراد هذا المفهوم وأفراد ذاك ارتباطات متلازمة تنشأ من تلك العلاقة الرئيسية. والسببيّة بالمفهوم التجريبي تتمثّل في علاقات بين الأفراد، وكلّ علاقة تتابع بين فرد من الحرارة وفرد من الحركة- مثلًا- هي علاقة مستقلّة عن علاقات التتابع بين الحرارات والحركات الاخرى.
ثالثاً: أنّ أفراد المفهوم الواحد متلازمة في علاقاتها السببيّة على أساس المفهوم العقلي للسببيّة، بمعنى أنّ أيّ فرد من أفراد ماهية معيّنة إذا كان سبباً لفرد من أفراد ماهية معيّنة اخرى، فمن الضروري أن يكون كلّ فرد من الماهيّة الاولى سبباً لفرد من الماهيّة الثانية، في ظلّ نفس الشروط التي كان الفرد الأوّل فيها

307

التجريبي أوّلًا، ونميّز بصورة دقيقة أيضاً بين السببية الوجودية والسببية العدميّة ثانياً.

السببيّة العقليّة والتجريبيّة:

إنّ السببية بالمفهوم العقلي هي علاقة بين مفهومين من المفاهيم التي تحدث في الطبيعة- كمفهومي (أ) و (ب)- تجعل وجود أحدهما ضرورياً عند وجود الآخر، فالأوّل هو المسبّب والثاني هو السبب.
والسببية بالمفهوم التجريبي هي: أنّ كلّ (أ) يعقبها أو يقارنها (ب) بصورة مطّردة، دون أن يفترض في هذا الاطّراد أيّ ضرورة.
وهذان المفهومان عن السببيّة يختلفان اختلافاً أساسياً؛ لأنّ المفهوم الأوّل يفسّر السببيّة بوصفها علاقة ضرورة ولزوم قائمة بين مفهومين (أو ماهيّتين)، فهي علاقة واحدة تربط مفهوماً بمفهوم آخر في وجوده كالعلاقة بين الحركة والحرارة.
وهذه العلاقة بين المفهومين يقوم على أساسها ارتباط كلّ فرد من أحد المفهومين بفردٍ من المفهوم الآخر، فهناك ارتباطات عديدة بين هذه الحرارة وهذه الحركة، وتلك الحرارة وتلك الحركة، ولكن كلّ هذه الارتباطات بين الحرارات والحركات متلازمة؛ لأنّها تنبع جميعاً من تلك العلاقة بين المفهومين، أي علاقة السببية القائمة بين ماهية الحرارة وماهية الحركة.
وأمّا المفهوم التجريبي للسببية فهو لا يعترف بعلاقة السببية، إلّابوصفها اطّراداً في التتابع أو الاقتران بين حادثتين، دون أن يضيف إلى هذا التتابع أو الاقتران أيّ فكرة عن الإيجاد والضرورة واللزوم. ومن الواضح أنّ رفض فكرة الضرورة واللزوم نهائياً يؤدّي إلى أنّ وجود أيّ حادثة يعتبر صدفة مطلقة دائماً (لأنّ الصدفة هي نفس اللزوم- كما عرفنا في القسم الأوّل من بحوث هذا