کتابخانه
306

السببية يختلف عن الموقف الذي ينطلق منه التطبيق الآخر.
ففي التطبيق الأوّل نفترض:
أوّلًا: أ نّه لا يوجد أيّ مبرّر قبلي لرفض علاقة السببيّة بين (أ) و (ب) بالمفهوم العقلي للسببيّة.
وثانياً: أ نّا نعلم مسبقاً باستحالة الصدفة المطلقة.
وفي التطبيق الثاني نفترض:
أوّلًا: أ نّه لا يوجد أيّ مبرّر قبلي لرفض علاقة السببية بين (أ) و (ب) بالمفهوم العقلي للسببية، كما في التطبيق الأوّل.
وثانياً: الشكّ المسبق في استحالة الصدفة المطلقة، أي نحتمل أنّ (ب) يمكن أن توجد بدون سبب، كما نحتمل- في مقابل ذلك- أنّ وجودها بدون سبب مستحيل.
وفي التطبيق الثالث نفترض:
أوّلًا: أ نّه لا يوجد أي مبرّر قبلي لرفض علاقة السببيّة بين (أ) و (ب) بالمفهوم العقلي للسببيّة، كما في التطبيقين السابقين.
وثانياً: العلم المسبق بإمكان الصدفة المطلقة ل (ب)، أي إمكان وجود (ب) بدون سبب.
وفي التطبيق الرابع نفترض: وجود مبرّر قبلي لرفض علاقة السببيّة بالمفهوم العقلي بين (أ) و (ب)، فلا يوجد أيّ احتمال قبل الاستقراء للسببيّة العقلية، وإنّما يحتمل قبلياً السببية بالمفهوم التجريبي بين (أ) و (ب) الذي يعني التتابع المطّرد بين (أ) و (ب).
ولكي نوضّح هذه المواقف الأربعة القبلية التي تختلف التطبيقات على أساسها، لا بدّ أن نميّز بصورة دقيقة بين السببيّة بمفهومها العقلي والسببية بالمفهوم‏

305
طريقتنا تتمثّل في أربعة تطبيقات مختلفة تبعاً لموقفها القبلي من السببيّة
[تمهيد]

ونقوم الآن بتطبيقات عديدة لهذه الطريقة على القضيّة الاستقرائية التالية، وهي: «أنّ كلّ (أ) يعقبها (ب)» عندما نرمز ب (أ) و (ب) إلى حادثتين من قبيل:
الحركة والحرارة، أو تعرّض المعدن للحرارة والتمدّد. فإذا أردنا أن نعرف صدق التعميم في هذه القضية عن طريق الدليل الاستقرائي، نوجد (أ) مراراً عديدة، فإذا وجدت (ب) نستدلّ استقرائيّاً- عن طريق التجارب الناجحة التي قمنا بها- على صدق التعميم الذي تقرّره تلك القضية، ولمّا كان التعميم متضمّناً في سببية (أ) ل (ب)- لأنّ (أ) إذا كان سبباً ل (ب) فإنّ (ب) يقترن به دائماً- فالاستدلال الاستقرائي بقدر ما يثبت سببية (أ) ل (ب) يثبت- بدرجة لا تقلّ عن ذلك- صدق التعميم القائل: «كلّ (أ) يعقبها (ب)» (ونقصد بسببية (أ) ل (ب) فعلًا التلازم السببي بينهما، سواءً كان حاصلًا نتيجة لسببية (أ) ل (ب) أو سببية شي‏ء ثالث لهما معاً). وعلى هذا يتّجه الاستدلال الاستقرائي- على أساس الطريقة التي حدّدناها- إلى إثبات علاقة السببية بين (أ) و (ب)، وعن طريق هذه العلاقة يثبت التعميم.
والتطبيقات العديدة التي سوف نقوم بها للطريقة العامّة التي حدّدناها، تختلف في تحديد موقفها القبلي من سببية (أ) ل (ب)، فإنّ كلّ تطبيق من التطبيقات التي نحاول القيام بها، سوف ننطلق فيه من موقف قبلي معيّن تجاه هذه‏

304

303

إنّ هذه الطريقة تتطلّب افتراض علم إجمالي على نحو يكون عدد كبير من أعضائه وأطرافه مستبطناً أو مستلزماً للقضية الاستقرائية، فتصبح القضية الاستقرائية محوراً لعدد من القيم الاحتمالية بقدر ذلك العدد من الأعضاء المستبطن أو المستلزم للقضية الاستقرائية. ولا بدّ أن يكون العلم الإجمالي المفترض مرناً بشكل يزداد فيه عدد الأعضاء التي تتضمّن إثبات القضيّة الاستقرائية، وينمو هذا العدد باستمرار تبعاً لازدياد عدد التجارب أو الملاحظات في عملية الاستقراء، وبهذا يصبح نموّ القيمة الاحتمالية للقضية الاستقرائية مطّرداً مع نموّ الاستقراء وامتداده.

302

ولُالخّص في البداية ما أستهدفه في بحثي لهذه المرحلة:
إنّي اريد في هذا البحث أن اثبت أنّ الاستقراء يمكنه أن ينمي قيمة احتمال التعميم، ويرتفع بها إلى درجة عالية من درجات التصديق الاحتمالي، مستنبطاً ذلك من نفس نظرية الاحتمال- بتعريفنا المتقدّم لها- وبديهياتها، من دون حاجة إلى مصادرات إضافية يختصّ بها الدليل الاستقرائي، أي أنّ الاستقراء ليس إلّا تطبيقاً للاحتمال بتعريفه وبديهياته التي عرفناها، ويمكن عن طريقه إثبات التعميم الاستقرائي بقيمة احتمالية كبيرة جدّاً.
وطريقتي في تفسير هذه المرحلة الاستنباطية للدليل الاستقرائي على هذا الأساس، تتميّز عن المحاولات التي عالجت هذه المرحلة من الدليل الاستقرائي- في حدود ما اتيح لي الاطلاع عليه-.
فهناك مثلًا محاولة ل (لابلاس) في تفسير الدليل الاستقرائي اتّجهت إلى اعتباره تطبيقاً لنظرية الاحتمال، ولكنّها لم تنجح في تفسيره على هذا الأساس، ولم تكتشف مبرّراته المنطقيّة.
وهناك بحوث عجزت عن تفسير الاستقراء بوصفه تطبيقاً خالصاً لنظرية الاحتمال، واتّجهت إلى القول بأنّ الدليل الاستقرائي بحاجة إلى مصادرات خاصّة، ولا يمكنه أن يمارس مرحلته الاستنباطية بدون تلك المصادرات، ومن هذا القبيل بحوث (رسل) في الدليل الاستقرائي، وهذا هو الاتجاه الغالب الذي يمثّل- في أكبر الظنّ- الرأي السائد اليوم بين المفكّرين المعنيّين بدراسة الدليل الاستقرائي.
وسوف أبدأ بتوضيح الطريقة التي أتبنّاها في تفسير الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية، ثمّ اقارن- بعد هذا- بينها وبين الاتجاهات المعارضة التي تتمثّل في تلك البحوث.

301
التعريف بطريقتنا في تفسير المرحلة الاستنباطيّة

عرفنا في بداية هذا القسم من بحوث الكتاب: أنّ الدليل الاستقرائي يمرّ بمرحلتين:
ففي المرحلة الاولى يقوم على أساس التوالد الموضوعي للفكر، وتسمّى هذه المرحلة بالمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي؛ لأنّ الدليل في هذه المرحلة يمارس عملية استنباط عقلي وفقاً لقواعد التوالد الموضوعي للفكر، التي يحدّدها المنطق الصوري.
والدليل الاستقرائي في هذه المرحلة ينمي احتمال التعميم الاستقرائي، ويصل به إلى أعلى درجة من درجات التصديق الاحتمالي، مستنتجاً تلك الدرجة بطريقة استنباطية من المبادئ والبديهيات. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعتبر درجة الاحتمال التي يبرهن عليها الدليل الاستقرائي في مرحلته الاولى، قضية مستنبطة.
ودرسنا- تمهيداً لتحديد هذه المرحلة، والتعرّف على سير الدليل الاستقرائي فيها- نظريةَ الاحتمال؛ لأنّ استنباط الدليل الاستقرائي في هذه المرحلة يرتبط بها. وعلى ضوء النتائج التي توصّلنا إليها في دراستنا لنظرية الاحتمال نشرح الآن طبيعة هذه المرحلة من الدليل الاستقرائي.

300

299

تفسير الدليل الاستقرائي على ضوء نظريّة الاحتمال‏

 

الفصل الأوّل الدليل الاستقرائي في مرحلة التوالد الموضوعي‏

(المرحلة الاستنباطيّة للدليل الاستقرائي)

التعريف بطريقتنا في تفسير المرحلة الاستنباطيّة.
طريقتنا تتمثّل في أربعة تطبيقات مختلفة.
الدليل الاستقرائي في رأي «لابلاس».
الدليل الاستقرائي عند «كينز».
تحقيق الشرط الأساس للمرحلة الاستنباطيّة.
الشكل الآخر للمرحلة الاستنباطيّة.
المتطلّبات اللازمة للمرحلة الاستنباطيّة.

298