کتابخانه
232

والإجابة بالتقدير الأوّل تلخّص الفلسفة الواقعية أو المفهوم الواقعي للعالم، والإجابة بالتقدير الثاني هي التي تقدّم المفهوم المثالي للعالم.
وفي المسألة الثانية يوضع السؤال على ضوء الفلسفة الواقعية هكذا: إذا كنّا نؤمن بواقع موضوعي للعالم، فهل نقف في الواقعية على حدود المادّة المحسوسة، فتكون هي السبب العامّ لجميع ظواهر الوجود والكون بما فيها من ظواهر الشعور والإدراك؟ أو نتخطّاها إلى سبب أعمق، إلى سبب أبدي ولانهائي بصفته المبدأ الأساسي لما ندركه من العالم بكلا مجاليه: الروحي والمادّي معاً؟
وبذلك يوجد في الحقل الفلسفي للواقعية مفهومان: يعتبر أحدهما، أنّ المادّة هي القاعدة الأساسية للوجود، وهو: المفهوم الواقعي المادّي. ويتخطّى الآخر المادّة إلى سبب فوق الروح والطبيعة معاً، وهو: المفهوم الواقعي الإلهي.
فبين يدينا- إذن- مفاهيم ثلاثة للعالم: المفهوم المثالي، والمفهوم الواقعي المادّي، والمفهوم الواقعي الإلهي. وقد يعبّر عن المثالية بالروحية نظراً إلى اعتبار الروح، أو الأنا، أو الشعور، الأساس الأوّل للوجود.

تصحيح أخطاء:

وعلى هذا الضوء يجب أن نصحّح عدّة أخطاء وقع فيها بعض الكتّاب المحدَثين:
الأوّل- محاولة اعتبار الصراع بين الإلهية والمادّية مظهراً من مظاهر التعارض بين المثالية والواقعية، فلم يفصلوا بين المسألتين اللتين قدّمناهما، وزعموا أنّ المفهوم الفلسفي للعالم أحد أمرين: إمّا المفهوم المثالي، وإمّا المفهوم المادّي. فتفسير العالم لا يمكن أن يقبل سوى وجهين اثنين، فإذا فسّرت العالم تفسيراً تصوّرياً خالصاً، وآمنت بأنّ التصوّر أو الأنا هو الينبوع الأساسي، فأنت‏

231

[مفاهيم ثلاثة للعالم:]

إنّ لمسألة تكوين مفهوم فلسفي عام عن العالم، مركزاً رئيسياً في العقل البشري، منذ حاولت الإنسانية تحديد علاقاتها بالعالم الموضوعي وارتباطها به.
ولسنا نحاول في دراستنا هذه أن نؤرّخ للمسألة في سيرها الفلسفي والديني والعلمي، وتطوّرها على مرّ الزمن منذ آمادها البعيدة، وإنّما نستهدف أن نعرض المفاهيم الأساسية في الحقل الفلسفي الحديث؛ لنحدّد موقفنا منها، وما هو المفهوم الذي يجب أن تتبلور نظرتنا العامّة على ضوئه ويرتكز مبدأنا في الحياة على أساسه.
ومردّ مسألتنا هذه إلى مسألتين: إحداهما، مسألة المثالية والواقعية.
والاخرى، مسألة المادّية والإلهية.
ففي المسألة الاولى يُعرَض السؤال على الوجه التالي: أنّ هذه الكائنات التي يتشكّل منها العالم، هل هي حقائق موجودة بصورة مستقلّة عن الشعور والإدراك؟ أو أ نّها ليست إلّاألواناً من تفكيرنا وتصوّرنا؟ بمعنى: أنّ الفكر أو الإدراك هو الحقيقة، وكلّ شي‏ء يرجع في نهاية المطاف إلى التصوّرات الذهنية، فإذا أسقطنا الشعور أو ال (أنا) فإنّ الواقع كلّه يزول. فهذان تقديران للمسألة.

230

229

المفهوم الفلسفي للعالم‏

تمهيد

مفاهيم ثلاثة للعالم.
تصحيح أخطاء.
إيضاح عدّة نقاط عن المفهومين.
الاتّجاه الديالكتيكي للمفهوم المادّي.

228

227

2- المفهوم الفلسفي للعالم‏

1- تمهيد.
2- الديالكتيك أو الجدل.
3- مبدأ العلّيّة.
4- المادّة أو اللَّه.
5- الإدراك.

226

وواضح: أنّ هذا الاتّجاه الماركسي يطبع كلّ معرفة بالعنصر الذاتي، ولكنّها ذاتية طبقية لا ذاتية فردية كما كان يقرّر النسبيون الذاتيون، وبالتالي تصبح (الحقيقة) هي: مطابقة الفكرة للمصالح الطبقية للمفكّر؛ لأنّ كلّ مفكّر لا يستطيع أن يدرك الواقع إلّافي حدود هذه المصالح، ولا يمكن لأحد في هذا الضوء أن يضمن وجود الحقيقة في أيّ فكرة فلسفية أو علمية بمعنى مطابقتها للواقع الموضوعي، وحتّى الماركسية نفسها لا تستطيع- ما دامت تؤمن بحتمية الطابع الطبقي- أن تقدّم لنا مفهومها عن الكون والمجتمع بوصفه تعبيراً مطابقاً للواقع، وإنّما كلّ ما تستطيع أن تقرّره هو: أ نّه يعكس ما يتّفق مع مصالح الطبقة العاملة من جوانب الواقع‏[1].

 

[1] لأجل التوضيح راجع كتاب( اقتصادنا) للمؤلف، مبحث: نظريّة المادّية التاريخيّة، تحت عنوان:« ب- الفلسفة»

225

أوّلًا- أنّ الحقيقة مطلقة وغير متطوّرة، وإن كان الواقع الموضوعي للطبيعة متطوّراً ومتحرّكاً على الدوام.

ثانياً- أنّ الحقيقة تتعارض تعارضاً مطلقاً مع الخطأ، فالقضية البسيطة الواحدة لا يمكن أن تكون حقيقة وخطأ.

ثالثاً- أنّ إجراء الديالكتيك على الحقيقة والمعرفة يحتّم علينا الشكّ المطلق في كلّ حقيقة ما دامت في تغيّر وتحرّك مستمرّ، بل يحكم على نفسه بالإعدام والتغيّر أيضاً؛ لأنّه بذاته من تلك الحقائق التي يجب أن تتغيّر بحكم منطقه التطوّري الخاصّ.

انتكاس الماركسية في الذاتية:

وفي النهاية يجب أن نشير إلى أنّ الماركسية بالرغم من إصرارها على رفض النسبية الذاتية بترفّع، وتأكيدها على الطابع الموضوعي لنسبيّتها، وأ نّها نسبية تواكب الواقع المتطوّر وتعكس نسبيّته، بالرغم من ذلك كلّه ارتدّت الماركسية مرّة اخرى، فانتكست في أحضان النسبية الذاتية حين ربطت المعرفة بالعامل الطبقي، وقرّرت: أنّ من المستحيل للفلسفة- مثلًا- أن تتخلّص من الطابع الطبقي والحزبي حتّى قال موريس كونفورت: (كانت الفلسفة دوماً تعبّر ولا تستطيع إلّاأن تعبّر عن وجهة نظر طبقية)[1].

وقال تشاغين: (لقد ناضل لينين بثبات وإصرار ضدّ النزعة الموضوعية في النظرية)[2].

 

[1] الماديّة الديالكتيكية والماديّة التاريخيّة: 32

[2] الروح الحزبية في الفلسفة والعلوم: 70

224

بالحرارة، والذهب يتمدّد بالحرارة، والرصاص يتمدّد بالحرارة …
والقضية البسيطة- باعتبارها قضية مفردة- لا يمكن أن تكون حقيقة من ناحية وخطأ من ناحية اخرى، فموت أفلاطون قبل أرسطو إمّا أن يكون حقيقة وإمّا أن يكون خطأ.
وأمّا القضية المركّبة فلمّا كانت في الحقيقة ملتقى قضايا متعدّدة، فمن الجائز أن توجد الحقيقة في جانب منها والخطأ في جانب آخر، كما إذا افترضنا أنّ الحديد يتمدّد بالحرارة دون الذهب، فإنّ القانون الطبيعي العام وهو: الفلزات تتمدّد بالحرارة، يعتبر صحيحاً على ناحية وخطأ من ناحية اخرى. ولكن ليس معنى ذلك: أنّ الحقيقة والخطأ اجتمعا فكانت القضية الواحدة خطأ وحقيقة، بل الخطأ إنّما يوجد في قضية: الذهب يتمدّد بالحرارة مثلًا، والحقيقة إنّما توجد في قضية: الحديد يتمدّد بالحرارة مثلًا، فلم يكن الخطأ حقيقة ولا الحقيقة خطأ.
وفي عودتنا على الحركة التطوّرية في الحقيقة والمعرفة بصفتها جزءاً من الديالكتيك- الذي خصّصنا لدراسته الجزء الثاني من المسألة الآتية (المفهوم الفلسفي للعالم)- سنستعرض مدارك الماركسية وألوان استدلالها على تطوّر الحقيقة والمعرفة، ومدى ضعفها ومغالطاتها، وعلى الأخصّ ما حاولته الماركسية من اعتبار العلوم الطبيعية- في تطوّرها الرائع على مرّ الزمن، ونشاطها المتضاعف، وقفزاتها الجبّارة- مصداقاً للحركة التطوّرية في الحقائق والمعارف، مع أنّ تطوّر العلوم في تأريخها الطويل لا صلة له بتطوّر الحقيقة والمعرفة بمعناها الفلسفي الذي تحاوله الماركسية. فالعلوم تتطوّر لا بمعنى أنّ حقائقها تنمو وتتكامل، بل بمعنى: أنّ حقائقها تزداد وتتكاثر، وأخطاءها تقلّ وتتقلّص. ونوكل إيضاح ذلك إلى البحث المقبل في المسألة الثانية.
ويخلص معنا من هذه الدراسة: