کتابخانه
310

الذي يستتبع وجوده وجود (ب) استتباعاً ضرورياً، يكون عدمه مستتبعاً لعدم ذلك الشي‏ء استتباعاً ضرورياً أيضاً. فالسببيّة العدمية عند التجريبيين مجرّد اقتران مطّرد بين عدمين صدفة، وعند العقليين علاقة ضرورة بين عدم مفهوم وعدم مفهوم آخر.
والسببيّة العدمية بالمفهوم العقلي تعني: استحالة الصدفة المطلقة، أي أنّ وجود الشي‏ء مع عدم وجود سببه (أي مع عدم وجود ما يكون مستتبعاً لوجوده استتباعاً ضرورياً) مستحيل؛ لأنّ عدم السبب سبب لعدم الشي‏ء، فلا يمكن أن يكون العدم الأوّل ثابتاً دون الثاني.
فاستحالة الصدفة المطلقة متضمّنة في السببيّة العدميّة بالمفهوم العقلي، وأمّا السببيّة الوجوديّة بالمفهوم العقلي فلا تتضمّن استحالة الصدفة المطلقة؛ لأنّ مجرّد أنّ (أ) يرتبط به (ب) ارتباطاً يجعل وجود (ب) ضرورياً عند وجود (أ) لا ينفي إمكان وجود (ب) بدون سبب.
كما نعرف في هذا الضوء أنّ السببيّة الوجوديّة بالمفهوم التجريبي تناقض السببيّة العدميّة بالمفهوم العقلي؛ لأنّها تفترض أنّ الأشياء التي يقترن بها (ب) أو يتعقّبها دائماً قد اقترن بها (ب) أو تعقّبها على سبيل الصدفة دون أيّ استتباع ضروري، وهذا يعني إمكان الصدفة المطلقة، بينما تتضمّن السببيّة العدميّة بالمفهوم العقلي استحالة الصدفة المطلقة.
ونستخلص من ذلك ما يلي:
أوّلًا: أنّ السببيّة الوجوديّة بالمفهوم العقلي لا تنفي إمكان الصدفة المطلقة.
ثانياً: إنّ السببيّة الوجوديّة بالمفهوم التجريبي تساوي الصدفة المطلقة المتمثّلة في اقتران وجود شي‏ء بوجود شي‏ء آخر دون أيّ ضرورة.
ثالثاً: إنّ السببيّة العدميّة بالمفهوم العقلي تساوي استحالة الصدفة المطلقة.

309

سبباً، وذلك لأنّ السببيّة علاقة ضرورة بين مفهومين، فلا يمكن أن يحصل فرد من مفهوم على هذه العلاقة دون فرد آخر لنفس المفهوم، وهذا معنى «أنّ الأشياء المتماثلة تؤدّي إلى نتائج متماثلة».
وأمّا مجرّد التتابع أو الاقتران الذي تفسّر السببيّة على أساسه في المفهوم التجريبي، فهو بوصفه علاقة بين فردين لا بين مفهومين، فبالإمكان أن توجد هذه العلاقة لفرد دون فرد آخر مماثل له.
السببيّة الوجوديّة والعدميّة:
حتّى الآن كنّا نتحدّث عن تعميم من قبيل: «كلّ (أ) يعقبها (ب)»، وقد رأينا أنّ هذا التعميم متضمّن في السببيّة، سواء أخذناها بالمفهوم العقلي أو بالمفهوم التجريبي.
ويمكن أن نعتبر هذا التعميم وجودياً؛ لأنّه يؤكّد وجود شي‏ء عند وجود شي‏ء آخر، وعلى هذا الأساس نطلق على السببيّة التي تتضمّن هذا التعميم: اسم السببيّة الوجودية، سواء كانت بالمفهوم العقلي للسببيّة أو المفهوم التجريبي.
وهناك تعميمات عدميّة تؤكّد نفي شي‏ء عند نفي شي‏ء آخر، من قبيل التعميم القائل: «كلّما لم يكن هناك سبب لشي‏ء فلا يوجد ذلك الشي‏ء»، وهذه التعميمات تعبّر عن سببيّة عدميّة، أي أنّ عدم السبب لشي‏ء سبب لعدم ذلك الشي‏ء، وبكلمة اخرى: إنّ عدم السبب الوجودي لشي‏ء سبب عدمي لذلك الشي‏ء.
وهذه الكلمة بالمفهوم التجريبي للسببيّة تعني: أنّ الشي‏ء (أو الأشياء) الذي يقترن به (ب) دائماً على سبيل الصدفة، يقترن بعدمه عدم (ب) دائماً على سبيل الصدفة أيضاً.
وأمّا بالمفهوم العقلي للسببيّة فهذه الكلمة تعني: أنّ الشي‏ء (أو الأشياء)

308

الكتاب-)، وأنّ أيّ حادثة توجد عقيب حادثة اخرى فوجودها عقيبها صدفة ولا يعبّر عن أيّ لزوم، فالغليان عقيب الحرارة والحرارة عقيب الحركة صدفة، كما أنّ نزول المطر عقيب صلاتك صدفة. والفارق بين الصدفتين: أنّ الاولى تتكرّر على سبيل الصدفة بصورة مطّردة، وأنّ الثانية لا توجد إلّاأحياناً.
وما دام هذا التتابع مجرّد صدفة مطّردة، دون أن يقوم على أساس علاقة ضرورة بين مفهومين، فهو يعبّر عن علاقة بين فردين بدلًا عن مفهومين، وبهذا يكون التتابع بين كلّ فرد من الحرارة وفردٍ من الحركة علاقةً مستقلّة نشأت على سبيل الصدفة بين الفردين، فسببيّة الحركة للحرارة- بالمفهوم التجريبي- تعبّر عن علاقات كثيرة بعدد ما يوجد من أفراد للحرارة والحركة، دون أن تستقطب كلّ تلك العلاقات علاقة رئيسية بين المفهومين كما يفترضه المفهوم العقلي للسببيّة.
وهكذا نعرف:
أوّلًا: أنّ السببية بالمفهوم العقلي: علاقة ضرورة، والسببيّة بالمفهوم التجريبي هي: اقتران أو تتابع بين الحادثتين بصورة مطّردة صدفة.
ثانياً: أنّ السببيّة بالمفهوم العقلي علاقة واحدة رئيسية بين مفهومين، والعلاقات بين أفراد هذا المفهوم وأفراد ذاك ارتباطات متلازمة تنشأ من تلك العلاقة الرئيسية. والسببيّة بالمفهوم التجريبي تتمثّل في علاقات بين الأفراد، وكلّ علاقة تتابع بين فرد من الحرارة وفرد من الحركة- مثلًا- هي علاقة مستقلّة عن علاقات التتابع بين الحرارات والحركات الاخرى.
ثالثاً: أنّ أفراد المفهوم الواحد متلازمة في علاقاتها السببيّة على أساس المفهوم العقلي للسببيّة، بمعنى أنّ أيّ فرد من أفراد ماهية معيّنة إذا كان سبباً لفرد من أفراد ماهية معيّنة اخرى، فمن الضروري أن يكون كلّ فرد من الماهيّة الاولى سبباً لفرد من الماهيّة الثانية، في ظلّ نفس الشروط التي كان الفرد الأوّل فيها

307

التجريبي أوّلًا، ونميّز بصورة دقيقة أيضاً بين السببية الوجودية والسببية العدميّة ثانياً.

السببيّة العقليّة والتجريبيّة:

إنّ السببية بالمفهوم العقلي هي علاقة بين مفهومين من المفاهيم التي تحدث في الطبيعة- كمفهومي (أ) و (ب)- تجعل وجود أحدهما ضرورياً عند وجود الآخر، فالأوّل هو المسبّب والثاني هو السبب.
والسببية بالمفهوم التجريبي هي: أنّ كلّ (أ) يعقبها أو يقارنها (ب) بصورة مطّردة، دون أن يفترض في هذا الاطّراد أيّ ضرورة.
وهذان المفهومان عن السببيّة يختلفان اختلافاً أساسياً؛ لأنّ المفهوم الأوّل يفسّر السببيّة بوصفها علاقة ضرورة ولزوم قائمة بين مفهومين (أو ماهيّتين)، فهي علاقة واحدة تربط مفهوماً بمفهوم آخر في وجوده كالعلاقة بين الحركة والحرارة.
وهذه العلاقة بين المفهومين يقوم على أساسها ارتباط كلّ فرد من أحد المفهومين بفردٍ من المفهوم الآخر، فهناك ارتباطات عديدة بين هذه الحرارة وهذه الحركة، وتلك الحرارة وتلك الحركة، ولكن كلّ هذه الارتباطات بين الحرارات والحركات متلازمة؛ لأنّها تنبع جميعاً من تلك العلاقة بين المفهومين، أي علاقة السببية القائمة بين ماهية الحرارة وماهية الحركة.
وأمّا المفهوم التجريبي للسببية فهو لا يعترف بعلاقة السببية، إلّابوصفها اطّراداً في التتابع أو الاقتران بين حادثتين، دون أن يضيف إلى هذا التتابع أو الاقتران أيّ فكرة عن الإيجاد والضرورة واللزوم. ومن الواضح أنّ رفض فكرة الضرورة واللزوم نهائياً يؤدّي إلى أنّ وجود أيّ حادثة يعتبر صدفة مطلقة دائماً (لأنّ الصدفة هي نفس اللزوم- كما عرفنا في القسم الأوّل من بحوث هذا

306

السببية يختلف عن الموقف الذي ينطلق منه التطبيق الآخر.
ففي التطبيق الأوّل نفترض:
أوّلًا: أ نّه لا يوجد أيّ مبرّر قبلي لرفض علاقة السببيّة بين (أ) و (ب) بالمفهوم العقلي للسببيّة.
وثانياً: أ نّا نعلم مسبقاً باستحالة الصدفة المطلقة.
وفي التطبيق الثاني نفترض:
أوّلًا: أ نّه لا يوجد أيّ مبرّر قبلي لرفض علاقة السببية بين (أ) و (ب) بالمفهوم العقلي للسببية، كما في التطبيق الأوّل.
وثانياً: الشكّ المسبق في استحالة الصدفة المطلقة، أي نحتمل أنّ (ب) يمكن أن توجد بدون سبب، كما نحتمل- في مقابل ذلك- أنّ وجودها بدون سبب مستحيل.
وفي التطبيق الثالث نفترض:
أوّلًا: أ نّه لا يوجد أي مبرّر قبلي لرفض علاقة السببيّة بين (أ) و (ب) بالمفهوم العقلي للسببيّة، كما في التطبيقين السابقين.
وثانياً: العلم المسبق بإمكان الصدفة المطلقة ل (ب)، أي إمكان وجود (ب) بدون سبب.
وفي التطبيق الرابع نفترض: وجود مبرّر قبلي لرفض علاقة السببيّة بالمفهوم العقلي بين (أ) و (ب)، فلا يوجد أيّ احتمال قبل الاستقراء للسببيّة العقلية، وإنّما يحتمل قبلياً السببية بالمفهوم التجريبي بين (أ) و (ب) الذي يعني التتابع المطّرد بين (أ) و (ب).
ولكي نوضّح هذه المواقف الأربعة القبلية التي تختلف التطبيقات على أساسها، لا بدّ أن نميّز بصورة دقيقة بين السببيّة بمفهومها العقلي والسببية بالمفهوم‏

305
طريقتنا تتمثّل في أربعة تطبيقات مختلفة تبعاً لموقفها القبلي من السببيّة
[تمهيد]

ونقوم الآن بتطبيقات عديدة لهذه الطريقة على القضيّة الاستقرائية التالية، وهي: «أنّ كلّ (أ) يعقبها (ب)» عندما نرمز ب (أ) و (ب) إلى حادثتين من قبيل:
الحركة والحرارة، أو تعرّض المعدن للحرارة والتمدّد. فإذا أردنا أن نعرف صدق التعميم في هذه القضية عن طريق الدليل الاستقرائي، نوجد (أ) مراراً عديدة، فإذا وجدت (ب) نستدلّ استقرائيّاً- عن طريق التجارب الناجحة التي قمنا بها- على صدق التعميم الذي تقرّره تلك القضية، ولمّا كان التعميم متضمّناً في سببية (أ) ل (ب)- لأنّ (أ) إذا كان سبباً ل (ب) فإنّ (ب) يقترن به دائماً- فالاستدلال الاستقرائي بقدر ما يثبت سببية (أ) ل (ب) يثبت- بدرجة لا تقلّ عن ذلك- صدق التعميم القائل: «كلّ (أ) يعقبها (ب)» (ونقصد بسببية (أ) ل (ب) فعلًا التلازم السببي بينهما، سواءً كان حاصلًا نتيجة لسببية (أ) ل (ب) أو سببية شي‏ء ثالث لهما معاً). وعلى هذا يتّجه الاستدلال الاستقرائي- على أساس الطريقة التي حدّدناها- إلى إثبات علاقة السببية بين (أ) و (ب)، وعن طريق هذه العلاقة يثبت التعميم.
والتطبيقات العديدة التي سوف نقوم بها للطريقة العامّة التي حدّدناها، تختلف في تحديد موقفها القبلي من سببية (أ) ل (ب)، فإنّ كلّ تطبيق من التطبيقات التي نحاول القيام بها، سوف ننطلق فيه من موقف قبلي معيّن تجاه هذه‏

304

303

إنّ هذه الطريقة تتطلّب افتراض علم إجمالي على نحو يكون عدد كبير من أعضائه وأطرافه مستبطناً أو مستلزماً للقضية الاستقرائية، فتصبح القضية الاستقرائية محوراً لعدد من القيم الاحتمالية بقدر ذلك العدد من الأعضاء المستبطن أو المستلزم للقضية الاستقرائية. ولا بدّ أن يكون العلم الإجمالي المفترض مرناً بشكل يزداد فيه عدد الأعضاء التي تتضمّن إثبات القضيّة الاستقرائية، وينمو هذا العدد باستمرار تبعاً لازدياد عدد التجارب أو الملاحظات في عملية الاستقراء، وبهذا يصبح نموّ القيمة الاحتمالية للقضية الاستقرائية مطّرداً مع نموّ الاستقراء وامتداده.

302

ولُالخّص في البداية ما أستهدفه في بحثي لهذه المرحلة:
إنّي اريد في هذا البحث أن اثبت أنّ الاستقراء يمكنه أن ينمي قيمة احتمال التعميم، ويرتفع بها إلى درجة عالية من درجات التصديق الاحتمالي، مستنبطاً ذلك من نفس نظرية الاحتمال- بتعريفنا المتقدّم لها- وبديهياتها، من دون حاجة إلى مصادرات إضافية يختصّ بها الدليل الاستقرائي، أي أنّ الاستقراء ليس إلّا تطبيقاً للاحتمال بتعريفه وبديهياته التي عرفناها، ويمكن عن طريقه إثبات التعميم الاستقرائي بقيمة احتمالية كبيرة جدّاً.
وطريقتي في تفسير هذه المرحلة الاستنباطية للدليل الاستقرائي على هذا الأساس، تتميّز عن المحاولات التي عالجت هذه المرحلة من الدليل الاستقرائي- في حدود ما اتيح لي الاطلاع عليه-.
فهناك مثلًا محاولة ل (لابلاس) في تفسير الدليل الاستقرائي اتّجهت إلى اعتباره تطبيقاً لنظرية الاحتمال، ولكنّها لم تنجح في تفسيره على هذا الأساس، ولم تكتشف مبرّراته المنطقيّة.
وهناك بحوث عجزت عن تفسير الاستقراء بوصفه تطبيقاً خالصاً لنظرية الاحتمال، واتّجهت إلى القول بأنّ الدليل الاستقرائي بحاجة إلى مصادرات خاصّة، ولا يمكنه أن يمارس مرحلته الاستنباطية بدون تلك المصادرات، ومن هذا القبيل بحوث (رسل) في الدليل الاستقرائي، وهذا هو الاتجاه الغالب الذي يمثّل- في أكبر الظنّ- الرأي السائد اليوم بين المفكّرين المعنيّين بدراسة الدليل الاستقرائي.
وسوف أبدأ بتوضيح الطريقة التي أتبنّاها في تفسير الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية، ثمّ اقارن- بعد هذا- بينها وبين الاتجاهات المعارضة التي تتمثّل في تلك البحوث.