الاسس المنطقية للاستقراء
562

القضية إلّاالحصول على صورة ذهنية لها، فإذا افترضنا أنّ هذه القضايا الثلاث:
«زيد له حياة»، «زيد غير خالد»، «هناك جسم» ذات معنى على أساس استمداد المفردات فيها تصوّراتها من الخبرة الحسّية، فسوف يكون للقضية «هناك حياة بغير جسم» معنى أيضاً يتمثّل في تصوّر مركّب من التصوّرات المفردة فيها المستمدّة من الخبرة الحسّية، بالرغم من أنّ التصوّر المركّب نفسه ليس له مصداق في خبرتنا الحسّية.
الموقف الثاني: يقوم على أساس القول بأنّ التصوّر المركّب الذي يمثّل معنى القضية يجب أن يكون افتراض صدقه وكذبه مؤثّراً في تصوّر الخبرة الحسّية، بمعنى أنّ ما نتصوّره من خبرة حسّية إذا كان التصوّر المركّب صادقاً، مختلفاً عمّا نتصوّره من خبرة حسّية إذا كان كاذباً.
وهذا الموقف يجعل تلك القضية القائلة: «هناك حياة بغير جسم» جملة بدون معنى رغم أنّ مفرداتها تتمتّع بمدلولات منتزعة من الخبرة الحسّية؛ لأنّ التصوّر المركّب المفترض لهذه الجملة ليس لصدقه وكذبه تأثير في تصوّرنا للخبرة الحسّية، فنحن لا نترقّب أن تختلف خبرتنا الحسّية في حالة صدق هذه الجملة عنها في حالة كذبها؛ لأنّ الحياة بغير جسم إذا كانت ثابتة حقّاً لا تدخل في الخبرة الحسّية. فكلّ ما نتصوّره عن الخبرة الحسّية إذا كانت العبارة صادقة هو نفس ما نتصوّره من خبرة على افتراض كذب العبارة.
الموقف الثالث: نفترض أنّ معنى القضية لا يكفي فيه أن يكون للمفردات معانٍ مستمدّة من الخبرة الحسّية، ولا أن يكون للقضية تصوّر مركّب يختلف تصوّرنا للخبرة الحسّية على افتراض صدقه عن تصوّرنا لها على افتراض كذبه، بل لا بدّ أن يكون بالإمكان التحقّق من القضية، فالقضية التي ليس بالإمكان التحقّق منها، والتأكّد من صدقها وكذبها ليس لها معنى. وهذا يعني أنّ إمكان‏

561

هو أن نشير إلى شي‏ء في خبرتنا الحسّية ونقول: هذا ما تعنيه الكلمة. فإذا تعذّر علينا ذلك أصبحت الكلمة غير مفهومة، ويؤدّي ذلك إلى أنّ القضية التي تندسّ فيها كلمة من هذا القبيل تصبح غير مفهومة أيضاً وعديمة المعنى.

وقد كتب بعض المناطقة الوضعيين يقول:

«حين تقال لك عبارة فتقول: «إنّي لا أفهمها» فإنّما يعني عدم فهمك لها: أ نّك لا تتصوّر كيف يمكنك تحقيقها لتتبيّن صوابها أو خطأها. مثل ذلك: أن اخبرك بأنّ في هذا الصندوق مسكفاً، فلا تفهم، ومعنى عدم فهمك: أ نّك لا تستطيع أن ترسم لنفسك الصورة الحسّية التي تلاقيها بحواسّك لو نظرت في الصندوق»[1].

ففي هذا المثال فقدت القضية معناها؛ لأنّ كلمة «مسكف» اندسّت فيها، وهي كلمة ليس لها مدلول في الخبرة الحسّية.

وهذا الموقف يرتكز على أساس الرأي القائل: إنّ المصدر الأساس للتصوّر هو الحسّ، فما لم يكن مدلول الكلمة مستمدّاً من الحسّ تكون الكلمة عاجزة عن إعطاء أيّ تصوّر، وبالتالي تكون خاوية من المعنى، وتسبّب خواء القضية التي تدخل فيها.

ويرتبط معنى القضية- بموجب هذا الموقف- بسلامتها من أيّ مفرد لا يحمل مدلولًا مستمدّاً من الخبرة الحسّية، فإذا كان لكلّ مفرداتها مدلولات في خبرتنا الحسّية، أصبح للقضية معنى يتمثّل في تصوّر مركّب من التصوّرات التي تعبّر عنها المفردات. وليس من الضروري أن يكون بالإمكان أن نجد مثالًا أو مصداقاً لهذا التصوّر المركّب في خبرتنا الحسّية؛ لأنّ الذهن قادر على التركيب بين التصوّرات، ولو لم يجد مركّباً واقعياً مماثلًا في الخبرة الحسّية، وليس معنى‏

 

[1] المنطق الوضعي: 16

560

على هذا الأساس بكذبها وبوجود معرفة قبلية، وإن افترض أ نّها تقوم على أساس التجربة والخبرة الحسّية فيجب أن يعترف بأ نّها قضية محتملة فقط، ولا يمكنه أن يؤكّدها تأكيداً كاملًا؛ لأنّه يرى أنّ أيّ تعميم لمعطيات الخبرة والتجربة لا يمكن أن يحظى إلّابدرجة احتمالية من التصديق، وهذا يعني أنّ التجريبيين يحتملون أنّ المذهب العقلي على حقّ.

ما هو الأساس في تقييم معنى القضيّة؟

ولم يكتفِ المذهب التجريبي بالقول بأنّ التجربة والخبرة الحسّية هي المصدر الوحيد للمعرفة، بل مهّد لنشوء اتجاه يقول بأنّ الخبرة الحسّية هي الأساس في تكوين معنى القضية. فالقضية التي لا تخضع للخبرة الحسّية ليست فقط قضية غير ممكنة الإثبات، بل هي ليست قضية من الناحية المنطقية إطلاقاً، إذ لا معنى لها، فلا يمكن أن توصف بصدق أو كذب.
وقد أخذ المنطق الوضعي بهذا الرأي وبنى عليه استنتاجاته المنطقية.
وقد أشرنا- في الفصل السابق- إلى أنّ هذا المنطق يقدّم مبرّراً منطقياً لرفض قضايا السببيّة العقلية باعتبارها قضايا خاوية لا معنى لها، وسوف ندرس الآن وجهة النظر المنطقية هذه بصور عامّة:

مواقف ثلاثة لربط معنى القضية بالخبرة الحسّية:

وبهذا الصدد يجب أن نميّز بين ثلاثة مواقف مختلفة، كلّها تستهدف ربط المعنى بالخبرة الحسّية:
الموقف الأوّل: يقوم على أساس افتراض أنّ كلّ كلمة لا يمكن أن نجد لها مدلولًا في خبرتنا الحسّية، ليس لها معنى؛ لأنّ الطريق الوحيد إلى فهم كلّ كلمة

559

لأنّ التجربة هي التي تثبت أنّ المكان مسطّح أو غير مسطّح. ومن أجل ذلك كان بالإمكان إقامة هندسات اخرى، مختلفة عن هندسة إقليدس في كثير من نظريّاتها، بافتراض شكل آخر للمكان. ولكن هذا لا ينفي القول بأنّ بديهيات إقليدس ضرورية الصدق في المكان المسطّح، بمعنى أنّ أيّ مكان إذا كان مسطّحاً صدقت عليه بديهيات إقليدس بالضرورة.
وبهذا تتحوّل البديهيات الإقليدية إلى قضايا شرطية، شرطها أن يكون المكان مسطّحاً، وجزاؤها هي الأحكام التي تقرّرها البديهيات. وهذه القضايا الشرطية ليس فيها أيّ عنصر تجريبي، وتتمتّع بالضرورة كقضايا الرياضة البحتة.
وهي في نفس الوقت ليست تكرارية؛ لأنّ الجزاء ليس متضمّناً في الشرط، إذ ليس معنى كون المكان مسطّحاً أن يكون مجموع زوايا المثلّث 180 درجة، أو أن يكون الخطّ المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين، فهي إذن قضايا إخبارية ضرورية.
وهكذا يتّضح أنّ المذهب التجريبي يتوجّب رفضه على أساس المقياس الذي وضعناه لتقييم المذهبين؛ لأنّه عجز عن تفسير الحدّ الأدنى من التصديق المعترف به لقضايا المعرفة البشرية. وبذلك تثبت فرضية المذهب العقلي القائلة بوجود معارف عقلية قبلية.
ونلاحظ إلى جانب ذلك تهافتاً منطقياً في إيمان التجريبيين بمذهبهم القائل: إنّ التجربة هي المصدر الأساس لكلّ المعارف البشرية؛ لأنّ هذا القول نفسه قضية يعمّم فيها الحكم على كلّ معرفة، فهل هذه القضية مستمدّة من مصدر قبلي بصورة مستقلّة عن التجربة؟ أو أ نّها مستمدّة من التجربة كأيّ قضية اخرى؟
فإن افترض المذهب التجريبي أ نّها مستمدّة من مصدر قبلي فقد اعترف‏

558

قضية تكرارية.
وما دام مبدأ عدم التناقض قضية إخبارية تركيبية فالمشكلة تعود من جديد؛ لأنّ المنطق التجريبي مطالَب عندئذٍ بتفسير الضرورة واليقين في هذه القضية الإخبارية. فإن زعم أنّ هذه القضية الإخبارية مستمدّة من التجربة كسائر القضايا الطبيعية أصبح عاجزاً عن تفسير الفرق بينها وبين القضايا الطبيعية، وإذا اعترف المنطق التجريبي بأنّ مبدأ عدم التناقض يعبّر عن معرفة عقلية سابقة على التجربة، ويستمدّ ضرورته من طابعه العقلي الأصيل، كان هذا يعني: هدم القاعدة الأساسية في المذهب التجريبي، وإسقاط التجربة عن وصفها المصدر الأساس للمعرفة البشرية.
وبكلمة اخرى: إنّ قضية « (أ) هي (أ)» التي يعترف المنطق الوضعي لها باليقين بوصفها تكرارية، هل تساوي قولنا: « (أ) من الضروري أن تكون (أ) أو من المستحيل أن لا تكون (أ)»، أو تساوي قولنا: « (أ) هي (أ) فعلًا» دون أن نحكم بضرورة الإثبات أو استحالة النفي. فإن كانت تساوي القول الأوّل فهي قضية إخبارية وليست تكرارية؛ لأنّ الضرورة والاستحالة ليست متضمّنة في مفهوم (أ) الذي هو موضوع القضية. وإن كانت تساوي القول الثاني فهذا يعني الاعتراف بتجريدها من عنصر الضرورة، وجعل القضية القائلة: «الماء هو ماء» على مستوى القضية القائلة: «الماء ينجمد في درجة صفر».
ثانياً: إنّ قضايا الرياضة التطبيقية ليست ضرورية الصدق ضرورة مطلقة، ولكنّها ضرورية الصدق ضرورة مقيّدة. فمثلًا: بديهيات الهندسة الإقليدية ليست صادقة صدقاً ضرورياً مطلقاً على كلّ مكان، سواء كان مسطّحاً أو على أيّ هيئة اخرى، بل إنّما تصدق على المكان المسطّح، ولهذا يدخل عنصر تجريبي في الاعتقاد بصدق الهندسة الإقليدية فعلًا، وانطباقها على المكان الذي نعيش فيه؛

557
نقد موقف المنطق الوضعي:

ونعلّق على هذا الموقف من قضايا الرياضة بما يلي:
أوّلًا: إذا افترضنا أنّ قضايا الرياضة البحتة تكرارية كلّها، فهل يكفي القول بذلك لحلّ المشكلة، وتفسير الفرق بين القضية الرياضية وقضايا العلوم الطبيعية على أساس المنطق التجريبي؟
ونجيب على ذلك بالنفي؛ لأنّ من حقّنا أن نطالب المنطق التجريبي بتفسير الضرورة واليقين في القضايا التكرارية.
ولنأخذ القضية التكرارية النموذجية القائلة: «إنّ (أ) هي (أ)»، فإنّ مردّ اليقين بهذه القضية إلى الإيمان بمبدأ عدم التناقض، وهو المبدأ القائل: «إنّ النفي والإثبات يستحيل اجتماعهما»؛ لأنّنا لو لم نؤمن بهذا لكان من الممكن أن لا تكون (أ) هي (أ)، وإنّما كانت (أ) هي (أ) على أساس استحالة اجتماع النقيضين في وقت واحد.
وإذا عرفنا أنّ مبدأ عدم التناقض هو أساس الضرورة واليقين في القضايا التكرارية، فما هو تفسير الضرورة واليقين في نفس هذا المبدأ بالذات؟
ولا يمكن للمنطق الوضعي أن يجيب على ذلك بأنّ هذا المبدأ يشتمل على قضية تكرارية أيضاً؛ لأنّ القضية التي يعبّر عنها المبدأ إخبارية وليست تكرارية، والاستحالة التي يحكم بها ليست مستبطنة في اجتماع النقيضين، بمعنى أ نّنا حين نقول: «اجتماع النقيضين مستحيل» لا نستخرج هذه الاستحالة من نفس مفهوم اجتماع النقيضين؛ لأنّها ليست من عناصر هذا المفهوم. ولهذا كان قولنا ذلك يختلف عن قولنا: «اجتماع النقيضين هو اجتماع النقيضين»، وهذا الفارق المعنوي بين القولين يبرهن على أنّ القول الأوّل ليس مجرّد

556

القضية القائلة: «إنّ الخطّ المستقيم أقصر خطّ يصل بين نقطتين» لا يمكن القول بأ نّها قضية تكرارية، بل هي قضية إخبارية؛ لأنّ الخطّ المستقيم- وهو موضوع القضية- لا يتضمّن كونه أقصر خطّ يصل بين نقطتين. فالقضية ليست مجرّد إبراز لعنصر متضمّن في مدلول كلمة «الخطّ المستقيم»، بل هي إبراز لعنصر جديد.

ولكنّ المنطق الوضعي لا يقرّ القول بأنّ قضايا الرياضة التطبيقية قضايا عقلية ضرورية، ولا يمنحها الضرورة التي اعترف بها لقضايا الرياضة البحتة، فبديهيات الهندسة الإقليدية- مثلًا- لا تتمتّع بالضرورة التي تتمتّع بها قضايا الرياضة البحتة.

وقد كتب بعض المناطقة الوضعيين يقول: «وكان يقال أيضاً عن هندسة إقليدس مثلًا، أو أيّ بناء استنباطي آخر: إنّه يستنتج نظريّاته من بديهيات، والبديهيات لا تحتاج إلى برهان؛ لأنّها واضحة بذاتها وصادقة بالضرورة، مع أنّ كون الشي‏ء واضحاً بذاته أمر نسبي يتوقّف على علمنا السابق …، لكنّك تستطيع منطقياً أن لا تسلّم بصحّة ذلك العلم السابق، فلا تعود البديهية المزعومة واضحة بذاتها. (فلقد لبث نسق إقليدس في الهندسة مدى قرون طويلة مفروضاً فيه أ نّه قائم على بديهيات واضحة بذاتها، وأنّ ذلك معناه الصدق الذي لا يتطرّق إليه الشكّ …، لكن هذا الظنّ قد تبيّن اليوم ما فيه من خطأ، فبناء هندسات لا إقليدية قد أظهر أنّ من الممكن إقامة نسقات هندسية على أساس بديهيات اخرى غير بديهيات إقليدس، فننتهي إلى نتائج تختلف عن نتائجه‏[1][2].

 

[1] ما بين القوسين منقول- في عبارة زكي نجيب محمود- عن( ستبينگ) في كتابه« مقدّمة حديثة إلى المنطق»( باللغة الإنجليزيّة): 174( لجنة التحقيق)

[2] المنطق الوضعي: 324

555

الموضوع بوصف لم يكن مستبطناً في الموضوع نفسه. فإنّ الإنسان مثلًا بوصفه إنساناً ليس معناه أ نّه يموت، وسقراط بوصفه إنساناً معيّناً لا يعني أ نّه استاذ أفلاطون. فإذا قلنا: «إنّ كلّ إنسان يموت» أو «إنّ سقراط استاذ أفلاطون» كنّا نقرّر بذلك وصفاً جديداً للإنسان غير مجرّد أ نّه إنسان، ووصفاً جديداً لسقراط غير مجرّد أ نّه سقراط، وبذلك تكون القضية إخبارية تركيبية.
والقسم الآخر: القضايا التكرارية، وهي كلّ قضية تكرّر عناصر الموضوع بعضها أو كلّها، فلا تضيف إلى علمنا به شيئاً جديداً سوى إبرازها لتلك العناصر، بحيث تصبح مذكورة ذكراً صريحاً بعد أن كانت متضمّنة، نظير قولك: «الأعزب ليس له زوجة»، فإنّ هذا الوصف السلبي متضمّن في كلمة «الأعزب»؛ لأنّ الأعزب هو عبارة عمّن لا زوجة له من الرجال، فلم تضف هذه القضية إلى علمنا بالأعزب علماً جديداً، وبذلك تكون قضية تكرارية.
ففيما يتّصل ببحثنا الذي نعالجه الآن يحاول المناطقة الوضعيون من التجريبيين أن يدرجوا قضايا الرياضة البحتة والمنطق كلّها في القضايا التكرارية، ويفسّروا الضرورة واليقين فيها على أساس خلوّها عن الإخبار، وعقمها عن إعطاء معرفة بالموضوع. ففي الحقيقة الرياضية القائلة: «إنّ 1+ 1/ 2» لا نجد إلّا تكراراً عقيماً؛ لأنّ (2) رمز يدلّ على نفس ما يدلّ عليه (1+ 1)، فقد استخدمنا في هذه القضية رمزين متكافئين يدلّان على عدد معيّن، وقلنا: إنّ أحدهما يساوي الآخر، فهو في قوّة قولنا: «إنّ 2/ 2». وكذلك الأمر في أيّ قضية اخرى من هذا القبيل.
وأمّا قضايا الرياضة التطبيقية من قبيل بديهيات هندسة إقليدس، فهي تختلف عن قضايا الرياضة البحتة؛ لأنّها تشتمل على إخبار جديد ومعرفة جديدة. وأكبر الظنّ أنّ المناطقة الوضعيين يسلّمون بأ نّها قضايا إخبارية. فمثلًا:

554

مستمدّة من التجربة. وما دامت طريقة المعرفة مختلفة فيهما فمن الطبيعي أن تختلفا في طبيعة المعرفة ودرجتها.

موقف المنطق الوضعي من هذه الفروق:

وبقي المذهب التجريبي يعاني من هذه المشكلة أو هذا النقص في تفسير المعرفة، حتّى حاول المناطقة الوضعيون المحدثون أن يسدّوا هذا النقص، ويعالجوا تلك المشكلة علاجاً واقعياً قائماً على أساس الاعتراف بالفرق بين قضايا الرياضة والمنطق، وقضايا العلوم الطبيعية، بدلًا عن التهرّب من هذه الحقيقة وإنكارها، كما كان يصنع المذهب التجريبي. ويتلخّص موقف المنطق الوضعي من القضية الرياضية في تقسيم قضايا الرياضة إلى قسمين:
أحدهما: قضايا الرياضة البحتة التي لا تتّصل بالخبرة الحسّية من قبيل:
«1+ 1/ 2».
والقسم الآخر: قضايا الرياضة التطبيقية كمبادئ الهندسة الإقليدية، من قبيل القضية القائلة: «إنّ الخطّين المستقيمين يتقطعان في نقطة واحدة فقط».
أمّا قضايا الرياضة التي تنتمي إلى القسم الأوّل فهي في اصولها ومبادئها الأوّلية قضايا منطقية، وكلّ القضايا المنطقية والرياضية البحتة تتمتّع بالضرورة واليقين، لكونها قضايا تكرارية لا تخبر عن شي‏ء إطلاقاً. فيقيننا بأنّ 2+ 2/ 4 ليس نتيجة لوجود خبر مضمون الصحّة ومؤكّد التطابق مع الواقع في هذه القضية الرياضية، وإنّما هو نتيجة لخلوّ هذه القضية من الإخبار وكونها تكرارية.
ولكي تتّضح الفكرة في ذلك يجب أن نشير إلى معنى القضايا التكرارية والإخبارية، فإنّ المنطق الوضعي يقسّم القضايا إلى قسمين:
أحدهما: القضايا الإخبارية، وهي: كلّ قضية تتحفنا بعلم جديد، وتصف‏