الاسس المنطقية للاستقراء
355

فإذا رمزنا إلى عدد الكرات المسحوبة ب (م)، وعدد مجموع الكرات ب (ن)، وصلنا إلى المعادلتين التاليتين اللتين وضعهما (لابلاس):

احتمال أنّ الحقيبة تحتوي على كرات كلّها بيضاء/ ن+ 1 م+ 1
احتمال أنّ الكرة التالية التي سوف نسحبها منها بيضاء/ م+ 2 م+ 1
وهذا كلّه تقييم صحيح؛ لأنّه ينسجم- كما رأينا- مع تعريف الاحتمال على أساس العلم الإجمالي، كما تقدّم.
ولكن (لابلاس) يريد أن يعمّم هذا التقييم إلى حالة وجود حقيبة واحدة- نرمز إليها ب (ن)- تحتوي على خمس كرات، ونريد أن نعرف أنّ عدد الكرات البيضاء فيها هل هو: 3 أو 4 أو 5؟ فهناك ثلاث إمكانيات في حقيبة (ن):
1- إمكانية أن تكون (ن) شبيهة ب (أ)، وهذا يعني احتمال أنّ فيها ثلاث كرات بيضاء فقط.
2- إمكانية أن تكون (ن) شبيهة ب (ج)، وهذا يعني احتمال أنّ فيها أربع كرات بيضاء فقط.
3- إمكانية أن تكون (ن) شبيهة ب (د)، وهذا يعني احتمال أنّ كلّ كراتها الخمس بيضاء.
ويفترض (لابلاس): أنّ هذه الاحتمالات متساوية، فتكون قيمة كلّ واحد منها: 3/ 1. وعلى افتراض كلّ واحد من تلك الاحتمالات الثلاثة، فهناك عشر صور محتملة لطريقة استخراج الكرات الثلاث من الخمس، وبهذا نحصل على 10+ 10+ 10/ 30.
والصور العشر الاولى المحتملة على افتراض أن تكون (ن) شبيهة ب (أ) تتضمّن صورة واحدة في صالح استخراج ثلاث كرات بيضاء، والصور العشر

354

وبين الطريقة التي شرحناها[1].

وبهذا الصدد يجب أن نتذكّر قصّة الحقائب التي مرّت بنا في بحث نظرية الاحتمال: فقد عرفنا في ذلك البحث أ نّا إذا كنّا نواجه ثلاث حقائب: (أ) و (ج) و (د)، في كلّ منها خمس كرات، و (أ) تحتوي على ثلاث كرات بيضاء فقط، و (ج) تحتوي على أربع كرات بيضاء فقط، و (د) كلّ كراتها الخمس بيضاء.

وافترضنا أ نّا اخترنا عشوائيّاً واحدة من تلك الحقائب، وسحبنا منها ثلاث كرات فظهرت بيضاء، فإنّ احتمال أنّ هذه الحقيبة هي حقيبة (د) سوف تزداد قيمته؛ لأنّ قيمته القبلية (أي قبل إخراج ثلاث كرات بيضاء) 3/ 1، وقيمته البعدية 15/ 10؛ لأنّ إخراج ثلاث كرات بيضاء له صورة واحدة ممكنة بالنسبة إلى حقيبة (أ)، وأربع صور ممكنة بالنسبة إلى حقيبة (ج)، وعشر صور ممكنة بالنسبة إلى حقيبة (د). فهناك- إذن- خمس عشرة صورة ممكنة نعلم علماً إجمالياً بأنّ واحدة منها قد تحقّقت، وعشر صور منها في صالح كون الحقيبة هي (د)، وبذلك يكون الاحتمال البعدي لذلك: 15/ 10/ 3/ 2.

كما أنّ قيمة احتمال أنّ الكرة التالية التي سوف نسحبها بيضاء سوف تصبح بعد الاختبار: 5/ 4؛ لأنّ الحقيبة بعد سحب ثلاث كرات منها تحتوي على كرتين، ولمّا كان من المحتمل أن نسحب أ يّاً منهما فهناك احتمالان إذا ضربناهما في الخمس عشرة صورة المتقدّمة نحصل على ثلاثين صورة تشكّل مجموعةً متكاملةً وعلماً إجمالياً، وأربع وعشرون صورة منها تتضمّن كون الكرة التالية بيضاء، وبذلك تكون قيمة هذا الاحتمال 30/ 24/ 5/ 4.

 

[1] وقد اعتمدت في عرض رأي( لابلاس) على كتاب المعرفة الإنسانية لرسل: 425.( المؤلّف قدس سره)

353
الدليل الاستقرائي في رأي (لابلاس‏[1])

رأينا في ما تقدّم: كيف يسير الدليل الاستقرائي في مرحلته الاولى، وعرفنا أ نّه يسير في هذه المرحلة سيراً استنباطياً، ولا يحتاج في مسيرته هذه إلى شي‏ء إضافة إلى بديهيات نظرية الاحتمال، سوى افتراض احتمالات قبلية لقضايا السببيّة.

ويبدو أنّ بعض أعلام نظرية الاحتمال قد حاولوا أن يجعلوا من الاستقراء نتيجةً مستنبطة من نفس بديهيات نظرية الاحتمال فحسب، دون أن يدخلوا في الموقف أيّ تصوّر مسبق لقضايا السببيّة ولو على مستوى الاحتمال.

وسوف أعرض هنا طريقة انتهجها (لابلاس) في تفسير المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي وربطها بنظرية الاحتمال مباشرة، واقارن بينها

 

[1] جاء في ترجمته: پيير لاپلاس(Pierre Laplace ):( 1749- 1827 م): فلكيّ ورياضيّ فرنسي، اشتهر بأعماله حول تطبيق نظريّة« نيوتن» في« الدوران» على حركة النظام الشمسي. من أعماله:« النظريّة التحليليّة للاحتمالات»( 1812 م) و« بحث فلسفي حول الاحتمالات»( 1814 م).( لجنة التحقيق)

352

قبلي لنفي علاقة السببيّة، يمكنه أن يثبت بنفسه- وبالطريقة العامّة التي حدّدناها له في مرحلته الاستنباطية- علاقة السببيّة العدمية بمفهومها العقلي، أي استحالة الصدفة. فقد رأينا أنّ من يبدأ من احتمال استحالة الصدفة المطلقة يمكنه أن يثبت- بدرجة كبيرة من الإثبات- هذه الاستحالة بنفس الدليل الاستقرائي، خلافاً لمن يبدأ من الاعتقاد بأنّ كلّ ما يوجد فهو صدفة، ويرفض علاقات السببيّة بمفهومها العقلي، فإنّه لا يمكنه أن ينمّي احتمال القانون السببي بالدليل الاستقرائي.

351
نتائج دراستنا للمرحلة الاستنباطية

وقد انتهينا من درسنا للمرحلة الاستنباطية للدليل الاستقرائي إلى نتائج في غاية الأهمية، لم تحصل حتّى الآن- فيما أعلم- على تبرير منطقي كامل بالطريقة التي أدّتها بحوث هذا الكتاب.
ويمكن تلخيص هذه النتائج فيما يلي:
أوّلًا: أنّ المرحلة الاولى من الدليل الاستقرائي (وهي التي نطلق عليها اسم المرحلة الاستنباطيّة) يمكن أن نعتبرها تطبيقاً دقيقاً لنظرية الاحتمال بالتعريف الذي اخترناه، ولا يحتاج الدليل الاستقرائي في هذه المرحلة إلى أيّ مصادرة تتوقّف على ثبوت مسبق، سوى مصادرات نظرية الاحتمال نفسها.
ثانياً: أنّ المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي- رغم عدم احتياجها إلى أيّ ثبوت مسبق لمصادرات اخرى إضافة إلى مصادرات نظرية الاحتمال- تتوقّف على افتراض عدم وجود مبرّر قبلي لرفض علاقات السببيّة بمفهومها العقلي، أي للاعتقاد بعدمها، وهذا لا يكلّف الدليل الاستقرائي إثباتاً مسبقاً؛ لأنّ الرفض هو الذي يحتاج إلى إثبات، وأمّا عدم الرفض القبلي فيكفي له عدم وجود مبرّر للرفض. وعلى هذا الأساس نعرف: أنّ من يرفض علاقات السببيّة بمفهومها العقلي رفضاً كاملًا لا يمكنه أبداً أن يفسّر الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية، ويبرّر نموّ الاحتمال بالقضية الاستقرائية. وعن هذا الطريق يمكننا أن نبرهن لكلّ من يعترف بقيمة حقيقية للدليل الاستقرائي في تنمية الاحتمال، على أ نّه مضطرّ إلى التنازل عن المبرّرات القبلية لرفض علاقات السببيّة ونفيها.
ثالثاً: أنّ الدليل الاستقرائي الذي يحتاج فقط إلى افتراض عدم وجود مبرّر

350

وعلى العكس من ذلك قيمة احتمال السببيّة بمفهومها العقلي في التطبيقات الثلاثة السابقة، فإنّها تتمثّل في نسبة كبيرة جدّاً، هي نسبة الحالات التي تستلزم السببيّة إلى مجموع الحالات التي يشتمل عليها العلم الإجمالي الحملي أو الشرطي؛ لأنّ العلم الإجمالي الذي كان أساساً لتنمية الاحتمال في التطبيقات السابقة لم يكن يضمّ كلّ الألفات كأعضاء له، وإنّما كانت أعضاؤه هي الحالات المحتملة لوجود (ت) في كلّ التجارب الناجحة، أو الحالات المحتملة لوجود (ب) على افتراض عدم سببيّة (أ) ل (ب) في كلّ التجارب الناجحة، وكلّ تلك الحالات- باستثناء حالة افتراض تكرّر الصدفة في كلّ التجارب الناجحة- في صالح السببيّة، وبهذا تكون النسبة المحدّدة لقيمة احتمال سببيّة (أ) ل (ب) كبيرة.

349

دراسة البديهية الإضافية الخامسة.
وعلى العكس من ذلك العلم الإجمالي الشرطي الذي اتّخذناه أساساً لتنمية احتمال السببيّة العدميّة في التطبيق الثاني، والعلم الإجمالي الشرطي الذي اتّخذناه أساساً لتنمية احتمال سببيّة (أ) ل (ب) في التطبيق الثالث، فإنّ الجزاء فيهما محدّد في الواقع.
النقطة الثانية: لو تجاوزنا عن الفارق الأساس الذي أبرزناه بين القسمين من العلوم الإجمالية الشرطية، وقبلنا كلا العلمين كأساس صالح لتنمية الاحتمال، فهناك نقطة اخرى تثبت أنّ العلم الإجمالي الشرطي الذي أبرزناه لا يكفي لإعطاء قيمة احتمالية ملحوظة للقانون السببي في التطبيق الرابع.
وهذه النقطة هي: أنّ أعضاء هذا العلم الشرطي يجب أن تفترض بعدد ما يوجد ل (أ) من أفراد؛ لأنّنا حين نقرّر تقريراً شرطياً: «إذا كان هناك (أ) واحد على الأقلّ ليس مقترناً ب (ب) فهو إمّا (أ 1) وإمّا (أ 2) …، وإمّا (أن)»، نجد أنّ محتملات الجزاء بعدد الألفات، وهذا يعني: أنّ عدد القضايا الشرطية التي يتكوّن منها أعضاء هذا العلم يساوي عدد أفراد (أ)، وأمّا القضايا الشرطية التي هي في صالح نفي الشرط وإثبات القانون السببي، فعددها يساوي عدد الألفات التي تمّ فحصها فعلًا ودخلت في نطاق الاستقراء. وهذا ينتج أنّ قيمة احتمال القانون السببي- التي يحدّدها العلم الشرطي المتقدّم- تساوي نسبة عدد الألفات التي شملها الاستقراء إلى العدد الكلّي لأفراد (أ) (أي مجموع الألفات)، فإذا كان العدد الكلّي لأفراد (أ) كبيراً جدّاً فسوف تكون النسبة ضئيلة، مهما ازدادت الألفات التي يمتدّ إليها الاستقراء ضمن الإمكانات الاعتيادية للاستقراء البشري.
وبهذا تصبح قيمة احتمال القانون السببي التي يحدّدها العلم الإجمالي الشرطي صغيرة جدّاً، مهما ازداد عدد التجارب الناجحة.

348

التي نعلم فعلًا بأنّ التالي فيها غير ثابت، وبذلك تزداد القيم الاحتمالية لنفي المقدّم، أي لإثبات القانون السببي.
وإذا كان هذا العلم الشرطي أساساً صالحاً لتنمية الاحتمال بدرجة معقولة، فهذا يعني: نجاح الطريقة العامّة التي حدّدناها، وقدرة الدليل الاستقرائي على استعمالها في التطبيق الرابع، رغم رفضه القبلي لعلاقات السببيّة، وإيمانه المطلق بالصدفة، فلا يحتاج الدليل الاستقرائي- على هذا الأساس- حتّى إلى احتمال قبلي لعلاقات السببيّة بمفهومها العقلي.

مناقشة دور العلم الشرطي:

ولكن الواقع: أنّ هذا العلم الشرطي لا يمكن أن يكون أساساً لتنمية احتمال القانون السببي بدرجة معقولة، وذلك لنقطتين:
النقطة الاولى: أنّ البديهية الإضافية الخامسة المتقدّمة في نظرية الاحتمال تميّز بين العلوم الإجمالية الشرطية التي يكون جزاؤها محدّداً في الواقع على تقدير صدق الشرط، والعلوم الإجمالية الشرطية التي لا يكون لجزائها واقع محدّد على تقدير صدق الشرط.
وتقرّر البديهية المذكورة: أنّ القسم الثاني من العلوم الشرطية لا يمكن أن يكون أساساً لتنمية الاحتمال، وتطبيق نظرية الاحتمال عليها.
وعلى أساس هذه البديهية نعرف: أنّ العلم الإجمالي الشرطي الذي أبرزناه لا يمكن أن يتّخذ أساساً لتنمية احتمال القانون السببي؛ لأنّه من القسم الثاني، بدليل أنّ الألفات إذا كانت كلّها مقترنة فعلًا بالباء، وأردنا أن نعرف ما هو الألف الذي لا يقترن بالباء على افتراض نفي القانون السببي، فسوف لن يتاح تعيين ذلك الألف حتّى لذات كلّية العلم، كما رأينا في مثال الحقيبة والكرات المتقدّم عند

347

المفترض هو في الألفات التي لم يشملها الاستقراء؛ لأنّ هذا التعيين لا يقوم على أساس إذا كانت الألفات التي لم يشملها الاستقراء مقترنة بالباء تماماً كالألفات التي استقرأناها، بل إنّ الألفات كلّها في هذه الحالة متساوية في صلاحيّتها لتطبيق ذلك الألف عليها، ويؤدّي ذلك إلى نشوء عشرة احتمالات بعدد أفراد (أ).
وبهذا نحصل على علم إجمالي شرطي يضمّ عشر قضايا شرطية محتملة، وهو العلم بأنّ الألفات إذا كان فيها ألف واحد- على الأقلّ- ليس مقترناً بالباء فهو إمّا (أ 1) أو (أ 2) أو (أ 3) أو (أ 4) أو (أ 5) أو (أ 6) أو (أ 7) أو (أ 8) أو (أ 9) أو (أ 10). وبعد الاحتمالات في الجزاء توجد قضايا شرطية محتملة، المقدّم فيها جميعاً هو افتراض أنّ ألفاً واحداً على الأقلّ ليس مقترناً بالباء، وهو يعني افتراض نفي القانون السببي. وتختصّ كلّ قضية شرطية بجزاء معيّن. وخمس من تلك القضايا الشرطية المحتملة نعلم فعلًا بأنّ التالي فيها غير ثابت، وهي القضايا التي تتضمّن جزاءاتها تعيين الألف المفترض في (أ 1) أو (أ 2) إلى (أ 5)، من قبيل القضية القائلة: إذا كان هناك ألف غير مقترن بالباء فهو (أ 1)، فإنّ هذه القضية الشرطية لا نحتمل جزاءها بالفعل، وإن كانت القضية الشرطية نفسها محتملة، وهذا يعني أنّ هذه القضايا الشرطية الخمس المحتملة التي نعلم فعلًا بأنّ التالي فيها غير ثابت، تشكّل قيماً احتمالية خمساً لنفي المقدّم، أي نفي وجود ألف لا يقترن به الباء (وهذا النفي تعبير آخر عن إثبات القانون السببي)، وذلك لأنّ كلّ قضية شرطية إذا كنّا نعلم بأنّ التالي فيها غير موجود فتكون برهاناً على نفي المقدّم، بنفس الدرجة التي تحظى بها القضية الشرطية من الإثبات.
وبهذا تصبح خمس قضايا شرطية في هذا العلم الشرطي لصالح إثبات القانون السببي، وخمس قضايا اخرى حيادية تجاه القانون السببي. وكلّما ازدادت الألفات التي ثبت بالاستقراء اقترانها بالباء ازداد عدد القضايا الشرطية