کتابخانه
39

الطريق أمام الباحثين المذهبيين‏[1].

وجاء بعد ذلك دور ماركس، فأضاف إلى الرصيد الفكري للمذهب الاقتصادي شيئاً جديداً، وهو علم التأريخ أو ما أسماه بالمادية التأريخية، التي زعم فيها أ نّه كشف القوانين الطبيعية التي تتحكّم في التأريخ، واعتبر المذهب نتاجاً حتمياً لتلك القوانين، فلكي نعرف المذهب الاقتصادي الذي يجب أن يسود في مرحلة معينة من التأريخ، يجب أن نرجع إلى تلك القوانين الحتمية لطبيعة التأريخ ونكشف عن مقتضياتها في تلك المرحلة[2].

ولأجل ذلك آمن ماركس بالمذهب الاشتراكي والشيوعي بوصفه النتاج الحتمي لقوانين التأريخ التي بدأت تتمخّض عنه في هذه المرحلة من حياة الإنسان، وبهذا ارتبط المذهب الاقتصادي بدراسة علم التأريخ، كما ارتبط قبل ذلك ببعض الدراسات في علم الاقتصاد السياسي.

وعلى هذا الأساس فنحن حين نطلق كلمة (الاقتصاد الإسلامي) لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة؛ لأنّ هذا العلم حديث الولادة نسبياً، ولأنّ الإسلام دين دعوة ومنهج حياة، وليس من وظيفته الأصيلة ممارسة البحوث العلمية .. وإنّما نعني بالاقتصاد الإسلامي: المذهب الاقتصادي للإسلام، الذي‏

 

[1] يجب أن نلاحظ هنا: أنّ كثيراً من النظريات العلمية في الاقتصاد السياسي ذات موقف سلبي بحت من المذهب، كالنظريات التي تشرح نقاطاً من الحياة الاقتصادية موضوعة في إطار مذهبي ثابت، وإنّما تتأثّر النظرة المذهبية مباشرة بالنظريات التي تعالج نقاطاً مطلقة في الحقل الاقتصادي، لا نقاطاً نسبية موضوعة في هذا الإطار المذهبي الخاصّ أو ذاك.( المؤلف قدس سره)

[2] راجع البيان الشيوعي: 51- 52، و 65، 78

38

أنّهم فسّروا من ناحية علمية كمية الثروة لدى كلّ امّة: بالمقدار الذي تملكه من النقد، استخدموا هذه الفكرة في وضع مذهبهم التجاري، فدعوا إلى تنشيط التجارة الخارجية بوصفها الأداة الوحيدة لجلب النقد من الخارج، ووضعوا معالم سياسة اقتصادية تؤدّي إلى زيادة قيمة البضائع المصدَّرة على قيمة البضائع المستوردة؛ لتدخل إلى البلاد نقود بقدر الزيادة في الصادرات.
والطبيعيون «1» حين جاؤوا بتفسير جديد للثروة، قائم على أساس الإيمان: بأنّ الإنتاج الزراعي وحده هو الإنتاج الكفيل بتنمية الثروة وخلق القيم الجديدة دون التجارة والصناعة .. وضعوا في ضوء التفسير العلمي المزعوم سياسة مذهبية جديدة، تهدف إلى العمل على ازدهار الزراعة وتقدّمها، بوصفها قوام الحياة الاقتصادية كلّها.
ومالتس حين قرّر في نظريته الشهيرة على ضوء إحصاءاته العلمية: أنّ نموّ البشر أسرع نسبياً من نموّ الإنتاج الزراعي، ممّا يؤدّي حتماً إلى مجاعة هائلة في مستقبل الإنسانية؛ لزيادة الناس على المواد الغذائية … تبنّى الدعوة إلى تحديد النسل، ووضع لهذه الدعوة أساليبها السياسية والاقتصادية والأخلاقية.
وحين فسّر الاشتراكيون قيمة السلعة: بالعمل المنفق على إنتاجها .. شجبوا الربح الرأسمالي، وتبنّوا المذهب الاشتراكي في التوزيع الذي يجعل الناتج من حقّ العامل وحده؛ لأنّه الخالق الوحيد للقيمة التي يتمتّع بها الناتج.
وهكذا أخذت جملة من النظريات العلمية تؤثّر على النظرة المذهبية، وتنير

37

وأمّا المذهب الاقتصادي للمجتمع فهو: عبارة عن الطريقة التي يفضّل المجتمع اتّباعها في حياته الاقتصادية وحلّ مشاكلها العملية.

وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نتصوّر مجتمعاً دون مذهب اقتصادي؛ لأنّ كلّ مجتمع يمارس إنتاج الثروة وتوزيعها لا بدّ له من طريقة يتفق عليها في تنظيم هذه العمليات الاقتصادية، وهذه الطريقة هي التي تحدّد موقفه المذهبي من الحياة الاقتصادية.

ولا شكّ في أنّ اختيار طريقة معيّنة لتنظيم الحياة الاقتصادية ليس اعتباطاً مطلقاً، وإنّما يقوم دائماً على أساس أفكار ومفاهيم معيّنة ذات طابع أخلاقي أو علمي أو أيّ طابع آخر، وهذه الأفكار والمفاهيم تكوّن الرصيد الفكري للمذهب الاقتصادي القائم على أساسها. وحين يدرس أيّ مذهب اقتصادي يجب أن يتناول من ناحية: طريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية، ومن ناحية اخرى:

رصيده من الأفكار والمفاهيم التي يرتبط المذهب بها. فإذا درسنا- مثلًا- المذهب الرأسمالي القائل بالحرية الاقتصادية .. كان لزاماً علينا أن نبحث الأفكار والمفاهيم الأساسية، التي يقوم على أساسها تقديس الرأسمالية للحرية وإيمانها بها .. وهكذا الحال في أيّ دراسة مذهبية اخرى.

ومنذ بدأ علم الاقتصاد السياسي يشقّ طريقه في مجال التفكير الاقتصادي أخذت بعض النظريات العلمية في الاقتصاد تكوّن جزءاً من هذا الرصيد الفكري للمذهب.

فالتجاريون‏[1] مثلًا- وهم طلائع التفكير الاقتصادي الحديث- حين زعموا

 

[1] راجع الرأسماليّة الناشئة: 61- 64

36

وكنت أرجو أن يكون لقاؤنا هذا أقرب ممّا كان، ولكن ظروفاً قاهرة اضطرت إلى شي‏ء من التأخير، بالرغم من الجهود التي بذلتها بالتضامن مع عضدي المفدّى العلّامة الجليل السيّد محمّد باقر الحكيم في سبيل إنجاز هذه الدراسة ووضعها بين أيديكم في أقرب وقت ممكن.
***
وبودّي أن أقول هنا وفي المقدّمة شيئاً عن كلمة (اقتصادنا) أو كلمة (الاقتصاد الإسلامي) الذي تدور حوله بحوث الكتاب، وما أعنيه بهذه الكلمة حين اطقلها؛ لأنّ كلمة (الاقتصاد) ذات تأريخ طويل في التفكير الإنساني، وقد أكسبها ذلك شيئاً من الغموض نتيجة للمعاني التي مرّت بها، وللازدواج في مدلولها بين الجانب العلمي من الاقتصاد والجانب المذهبي. فحين نريد أن نعرف مدلول الاقتصاد الإسلامي بالضبط يجب أن نميّز علم الاقتصاد عن المذهب الاقتصادي، وندرك مدى التفاعل بين التفكير العلمي والتفكير المذهبي، لننتهي من ذلك إلى تحديد المقصود من الاقتصاد الإسلامي الذي نتوفّر على دراسته في هذا الكتاب.
فعلم الاقتصاد: هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصاديّة وأحداثها وظواهرها، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامّة التي تتحكّم فيها.
وهذا العلم حديث الولادة، فهو لم يحدث- بالمعنى الدقيق للكلمة- إلّافي بداية العصر الرأسمالي منذ أربعة قرون تقريباً، وإن كانت جذوره البدائية تمتدّ إلى أعماق التأريخ، فقد ساهمت كلّ حضارة في التفكير الاقتصادي بمقدار ما اتيح لها من إمكانات، غير أنّ الاستنتاج العلمي الدقيق الذي نجده لأوّل مرّة في علم الاقتصاد السياسي مدين للقرون الأخيرة.

35

مقدّمة الطبعة الاولى‏

كلمة المؤلّف‏

كنّا يا قرّائي الأعزّاء على موعد منذ افترقنا في كتاب (فلسفتنا)، فقد حدّثتكم: أنّ (فلسفتنا) هي الحلقة الاولى من دراساتنا الإسلامية، بوصفها دراسة تعالج الصرح الإسلامي الشامخ، الصرح العقائدي للتوحيد، وتتلوها بعد ذلك الدراسات التي تتعلّق بالبنيات الفوقية في ذلك الصرح الإسلامي، لتكتمل لنا في نهاية المطاف صورة ذهنية كاملة عن الإسلام، بوصفه عقيدة حيّة في الأعماق، ونظاماً كاملًا للحياة، ومنهجاً خاصاً في التربية والتفكير.
قلنا هذا في مقدّمة (فلسفتنا)، وكنّا نقدّر أن يكون (مجتمعنا) هو الدراسة الثانية في بحوثنا، نتناول فيها أفكار الإسلام عن الإنسان وحياته الاجتماعية، وطريقته في تحليل المركّب الاجتماعي وتفسيره، لننتهي من ذلك إلى المرحلة الثالثة، إلى النظم الإسلامية للحياة التي تتّصل بأفكار الإسلام الاجتماعية، وترتكز على صرحه العقائدي الثابت. ولكن شاءت رغبة القرّاء الملحّة أن نؤجّل (مجتمعنا)، ونبدأ بإصدار (اقتصادنا) عجلة منهم في الاطلاع على دراسة مفصّلة للاقتصاد الإسلامي في فلسفته واسسه وخطوطه وتعاليمه.
وهكذا كان، فتوفّرنا على إنجاز (اقتصادنا) محاولين أن نقدّم فيه الصورة الكاملة نسبياً عن الاقتصاد الإسلامي، كما نفهمه اليوم من مصادره وينابيعه.

34

غير الإسلام على جانب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية من حياة الإنسان ومُثُله، فإذا أخذنا مناهجنا العامّة في الحياة من مصادر بشرية بدلًا عن النظام الإسلامي لم نستطع أن نكتفي بذلك عن تنظيم آخر للجانب الروحي، ولا يوجد مصدر صالح لتنظيم حياتنا الروحية إلّاالإسلام، فلا بدّ حينئذٍ من إقامة كلّ من الجانبين الروحي والاجتماعي على أساس خاصّ به، مع أنّ الجانبين ليسا منعزلين أحدهما عن الآخر، بل هما متفاعلان إلى درجة كبيرة، وهذا التفاعل يجعل إقامتهما على أساس واحد أسلم وأكثر انسجاماً مع التشابك الأكيد بين النشاطات الروحية والاجتماعية في حياة الإنسان.
محمّد باقر الصدر
العراق- النجف الأشرف‏

33

إمكان الاعتماد بصورة كاملة في إبراز هذه الأخطاء على ما كتبه الاستاذ الجليل محمّد المبارك في مقدّمة الكتاب والاستاذ الدكتور نبيل صبحي الطويل الذي ترجم الكتاب إلى العربية فإنّ بودّي أن أتوسّع في فرصة مقبلة بهذا الصدد، مكتفياً الآن بالقول بأنّ اتجاه إنسان العالم الإسلامي إلى السماء لا يعني بمدلوله الأصيل استسلام الإنسان للقدر واتكاله على الظروف والفرص وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والإبداع كما حاول ذلك جاك اوستروي، بل إنّ هذا الاتجاه لدى الإنسان المسلم يعبّر في الحقيقة عن مبدأ خلافة الإنسان في الأرض، فهو يميل بطبيعته إلى إدراك موقفه في الأرض باعتباره خليفة للّه، ولا أعرف مفهوماً أغنى من مفهوم الخلافة للّه في التأكيد على قدرة الإنسان وطاقاته التي تجعل منه خليفة السيّد المطلق في الكون، كما لا أعرف مفهوماً أبعد من مفهوم الخلافة للَّه‏عن الاستسلام للقدر والظروف؛ لأنّ الخلافة تستبطن معنى المسؤولية تجاه ما يستخلف عليه، ولا مسؤولية بدون حرية وشعور بالاختيار والتمكّن من التحكّم في الظروف، وإلّا فأيّ استخلاف هذا إذا كان الإنسان مقيّداً أو مسيّراً؟! ولهذا قلنا: إنّ إلباس الأرض إطار السماء يفجّر في الإنسان المسلم طاقاته ويثير إمكاناته، بينما قطع الأرض عن السماء يعطّل في الخلافة معناها ويجمّد نظرة الإنسان المسلم إلى الأرض في صيغة سلبية، فالسلبية لا تنبع عن طبيعة نظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء، بل عن تعطيل قوى التحريك الهائلة في هذه النظرة بتقديم الأرض إلى هذا الإنسان في إطار لا ينسجم مع تلك النظرة.
وإضافة إلى كلّ ما تقدّم نلاحظ أنّ الأخذ بالإسلام أساساً للتنظيم العامّ يتيح لنا أن نقيم حياتنا كلّها بجانبيها الروحي والاجتماعي على أساس واحد؛ لأنّ الإسلام يمتدّ إلى كلا الجانبين، بينما تقتصر كثير من المناهج الاجتماعية الاخرى‏

32

مبرّرات أخلاقية.

والإحساس بالجماعة والارتباط بها يمكن أن يساهم إلى جانب ما تقدّم في تعبئة طاقات الامّة الإسلامية للمعركة ضدّ التخلّف إذا اعطي للمعركة شعار يلتقي مع ذلك الإحساس، كشعار الجهاد في سبيل الحفاظ على كيان الامّة وبقائها الذي أعطاه القرآن الكريم حين قال: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ …»[1] فأمر بإعداد كلّ القوى بما فيها القوى الاقتصادية التي يمثّلها مستوى الإنتاج باعتباره جزءاً من معركة الامّة وجهادها للاحتفاظ بوجودها وسيادتها.

وهنا تبرز أهمية الاقتصاد الإسلامي بوصفه المنهج الاقتصادي القادر على الاستفادة من أخلاقية إنسان العالم الإسلامي التي رأيناها وتحويلها إلى طاقة دفع وبناء كبيرة في عمليات التنمية وإنجاح تخطيط سليم للحياة الاقتصادية.

فنحن حينما نأخذ بالنظام الإسلامي سوف نستفيد من هذه الأخلاقية ونستطيع أن نعبّئها في المعركة ضدّ التخلّف، على عكس ما إذا أخذنا بمناهج في الاقتصاد ترتبط نفسياً وتأريخياً بأرضية أخلاقية اخرى.

وقد أخذ بعض المفكّرين الاوروبيين يدركون هذه الحقيقة أيضاً ويلمّحون إليها معترفين بأنّ مناهجهم لا تتّفق مع طبيعة العالم الإسلامي، وأذكر- كمثال على ذلك- جاك اوستروي، فقد سجّل هذه الملاحظة بكلّ وضوح في كتابه «التنمية الاقتصادية» بالرغم من أ نّه لم يستطع أن يُبرز التسلسل الفنّي والمنطقي لتكوّن الأخلاقية الاوروبية وتكوّن الأخلاقية الإسلامية وترتّب حلقاتها، ولا الأبعاد الكاملة لمحتوى كلّ من الأخلاقيتين، وتورّط في عدّة أخطاء، وبالرغم من‏

 

[1] سورة الأنفال: 60

31

عالمية منفتحة على الجماعة البشرية يرسّخ في نفسه الشعور بالعالمية والارتباط بالجماعة. وهذه الأخلاقية التي يعيشها إنسان العالم الإسلامي إذا لاحظناها بوصفها حقيقة ماثلة في كيان الامّة يمكن الاستفادة منها في المنهجة للاقتصاد داخل العالم الإسلامي ووضعه في إطار يواكب تلك الأخلاقية لكي تصبح قوّة دفع وتحريك، كما كانت أخلاقية مناهج الاقتصاد الاوروبي الحديث عاملًا كبيراً في إنجاح تلك المناهج لما بينهما من انسجام.
فنظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض يمكن أن تؤدّي إلى موقف سلبي تجاه الأرض وما في الأرض من ثروات وخيرات يتمثّل في الزهد أو القناعة أو الكسل إذا فصلت الأرض عن السماء، وأمّا إذا البست الأرض إطار السماء واعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحوّل تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محرّكة وقوّة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي. وبدلًا عمّا يحسّه اليوم المسلم السلبي من برود تجاه الأرض أو ما يحسّه المسلم النشيط الذي يتحرّك وفق أساليب الاقتصاد الحرّ أو الاشتراكي من قلق نفسي في أكثر الأحيان ولو كان مسلماً متميّعاً سوف يولد انسجام كامل بين نفسية إنسان العالم الإسلامي ودوره الإيجابي المرتقب في عملية التنمية.
ومفهوم إنسان العالم الإسلامي عن التحديد الداخلي والرقابة الغيبية الذي يجعله لا يعيش فكرة الحرية بالطريقة الاوروبية يمكن أن يساعد إلى درجة كبيرة في تفادي الصعاب- التي تنجم عن الاقتصاد الحرّ والمشاكل التي تواجهها التنمية الاقتصادية في ظلّه- عن تخطيط عام يستمدّ مشروعيّته في ذهن إنسان العالم الإسلامي من مفهومه عن التحديد الداخلي والرقابة غير المنظورة، أي يستند إلى‏