کتابخانه
175

الذين كانوا يعجزون عن العمل أو يقعد بهم مجرّد الكسل عن الصيد كانوا يستطيعون رغم ذلك أن يدخلوا إلى أيّ منزل يشاؤون ويقتسمون الطعام مع من فيه، وبذلك كان الفرد في تلك المجتمعات يحصل على الطعام مهما تهرّب من التزاماته في إنتاج هذا الطعام، ودون أن يترتّب على تهرّبه إلّاإحساسه بفقدان ملحوظ لهيبته‏[1].

وهذه المعلومات التي تتحفنا بها الماركسيّة عن أخلاق المجتمعات الشيوعيّة البدائيّة وتقاليدها المتّبعة اجتماعيّاً توضّح أنّ مستوى القوى المنتجة لم يكن منخفضاً إلى الدرجة التي تعني أنّ زيادة نصيب أحد الأفراد من الإنتاج يؤدّي إلى موت شخص آخر جوعاً، بل كانت توجد وفرة يحصل على شي‏ء منها الضعيف والعاجز وغيرهما، فلماذا إذن كانت المساواة في التوزيع هي الطريقة الوحيدة الممكنة؟! وكيف لم يخطر على ذهن أحد فكرة الاستغلال والتلاعب في التوزيع ما دام في الإنتاج وفرة يمكن استغلالها؟! وإذا كانت قوى الإنتاج تسمح بقيام الاستغلال في تلك المجتمعات فيجب أن نجد سبب عدم ظهوره فيها ماثلًا في درجة وعي الإنسان البدائي وفكره العملي. فقد جاءت فكرة الاستغلال عنده كظاهرة متأخّرة لهذا الوعي والفكر العملي، وكنتيجة لنموّه وزيادة الخبرة الإنسانية بالحياة.

وإذا أمكن للماركسيّة أن تقول- أو أمكن لنا أن نقول من وجهة نظرها-: إنّ طريقة المساواة في التوزيع أتت في بادئ الأمر تبعاً لقلّة الإنتاج، ثمّ تأصّلت وأصبحت عادة، فهل نجد في ذلك تفسيراً معقولًا لموقف المجتمع البدائي من الأفراد الكسالى الذين يتركون العمل عن قصد واختيار، فيجدون كفايتهم في‏

 

[1] تطوّر الملكيّة الفرديّة: 18

174

بالدرجة البدائيّة التي كانت عليها قوى الإنتاج حينئذٍ وظروف الإنتاج السائدة، فإنّ الناس كانوا مضطرّين إلى ممارسة الإنتاج بشكل اجتماعي مشترك والتكتّل في وجه الطبيعة؛ نظراً إلى ما كان عليه الإنسان من ضعف وقلّة حيلة. والاشتراك في الإنتاج يحتّم قيام علاقات الملكيّة الاشتراكيّة، ولا يسمح بفكرة الملكيّة الخاصّة. فالملكيّة إنّما كانت اشتراكيّة لأنّ الإنتاج اشتراكي. ويقوم التوزيع بين أفراد المجتمع على أساس المساواة بسبب من ظروف الإنتاج أيضاً؛ لأنّ المستوى الشديد الانخفاض للقوى المنتجة فرض تقسيم الغذاء الضئيل والسلع البسيطة المنتجة إلى أجزاء متساوية، وكان من المستحيل قيام أيّ طريقة اخرى للتقسيم؛ لأنّ حصول أحد الأفراد على نصيب يزيد على نصيب الآخرين يعني أن يموت شخص آخر جوعاً[1].

بهذه الطريقة تفسّر الماركسيّة شيوعيّة المجتمع البدائي، وتشرح أسباب المساواة السائدة فيه، التي تحدّث عنها (مورغان) بصدد وصف القبائل البدائيّة التي شاهدها تعيش في سهول أمريكا الشماليّة، ورآها تقسّم لحوم الحيوانات إلى أجزاء متساوية توزّع على أفراد القبيلة كلّها.

تقول الماركسيّة هذا في نفس الوقت الذي تناقض ذلك عندما تتحدّث عن أخلاق المجتمع الشيوعي وتمجّد بفضائله، فتنقل عن (جيمس آديررز) الذي درس هنود أمريكا في القرن الماضي: أنّ تلك الجماعات البدائيّة كانت تعتبر عدم تقديم المعونة لمن يحتاجها جريمة كبرى يحتقر مرتكبها، وتنقل عن الباحث (كاتلين): أنّ كلّ فرد في القرية الهنديّة- رجلًا كان أو امرأة أو طفلًا- كان له الحقّ في أن يدخل إلى أيّ مسكن من المساكن ويأكل إن كان جائعاً، بل إنّ اولئك‏

 

[1] تطوّر الملكيّة الفرديّة: 14

173

اجتماعيّة بدائيّة حتّى عصرنا هذا بين كثير من الشعوب، كما هو الحال بالنسبة لبعض السكّان الملوّنين في أفريقيا وبولونيزيا وماليزيا واستراليا، وهنود أمريكا قبل اكتشافها، والأسكيمو واللاجئون … وأغلب المعلومات الكثيرة التي وصلتنا عن هذه المجتمعات البدائيّة قدّمها رجال البعثات التبشيريّة الذين حرّفوا الحقائق عن قصد أو غير قصد»[1].

ولنسلّم أنّ المعلومات التي اعتمدت عليها الماركسيّة عن تلك المجتمعات المعاصرة هي وحدها المعلومات الصحيحة، فمن حقّنا بعد ذلك أن نتساءل عن هذه المجتمعات: هل هي مجتمعات بدائيّة يمكن الاعتماد عليها في تصوير البدائيّة الاجتماعية؟ وبالنسبة إلى هذا السؤال الجديد لا تملك الماركسيّة دليلًا واحداً على بدائيّة هذه المجتمعات المعاصرة بالمعنى العلمي للّفظ، بل إنّ قوانين التطوّر الحتمي للتاريخ التي تؤمن بها الماركسيّة تقضي بأنّ تلك المجتمعات قد شملتها عمليّة التطوّر الاجتماعي حتماً، فالماركسيّة حين تزعم أنّ الحالة الحاضرة لتلك المجتمعات هي حالتها البدائيّة تُبطل قوانين التطوّر، وتقرّر الجمود عبر آلاف السنين.

كيف نفسّر الشيوعيّة البدائيّة؟

ولنترك هذا لنرى الماركسيّة كيف تفسّر هذه المرحلة الشيوعيّة المزعومة وفقاً لقوانين المادّية التاريخيّة؟

إنّ الماركسيّة تفسّر علاقات الملكيّة الشيوعيّة في المجتمع البدائي للبشريّة

 

[1] القوانين الأساسيّة للاقتصاد الرأسمالي: 10

172

التاريخ المأثور؟
وقد حاولت الماركسيّة تذليل هذه الصعوبة وتقديم الدليل العلمي على صحّة فهمها لتلك المرحلة المغمورة من حياة المجتمع البشري بالاستناد إلى ملاحظة عدّة مجتمعات معاصرة حكمت عليها الماركسيّة بالبدائيّة، واعتبرتها مادّة علميّة للبحث عمّا قبل عصر التاريخ، بوصفها ممثّلة للطفولة الاجتماعية ومعبّرة عن نفس الحالة البدائية التي مرّت بها المجتمعات البشريّة بصورة عامّة.
ولمّا كانت معلومات الماركسيّة عن هذه المجتمعات البدائية المعاصرة تؤكّد أنّ الشيوعيّة البدائيّة هي الحالة السائدة فيها فيجب إذن أن تكون هي المرحلة الاولى لكلّ المجتمعات البدائيّة في ظلمات التاريخ، وبذلك خيّل للماركسيّة أ نّها وضعت يدها على الدليل المادّي المحسوس.
ولكن يجب أن نعلم قبل كلّ شي‏ء أنّ الماركسيّة لم تتلقّ معلوماتها عن تلك المجتمعات البدائية المعاصرة بصورة مباشرة، وإنّما حصلت عليها عن طريق الأفراد الذين اتّفق لهم الذهاب إلى تلك المجتمعات والتعرّف على خصائصها.
وليس هذا فقط، بل إنّها لم تأخذ بعين الاعتبار إلّاالمعلومات التي تتّفق مع نظريّتها العامّة، واتّهمت كلّ المعلومات التي تتعارض معها بالتحريف والتزوير، وبهذا كانت البحوث الماركسيّة تتّجه إلى انتقاء المعلومات النافعة للنظريّة، وتحكيم النظريّة نفسها في تقدير قيمة المعلومات والأخبار التي تقدّم عن تلك المجتمعات، بدلًا عن تحكيم المعلومات في النظريّة وامتحان النظريّة في ضوئها.
ونستمع بهذه المناسبة إلى كاتب ماركسي كبير يقول:
«وبالقدر الذي نستطيع أن نتوغّل في الماضي نجد أنّ الإنسان كان يعيش في مجتمعات. وممّا يسهّل دراسة المجتمعات البدائيّة القديمة أ نّه ما زالت تسود ظروف‏

171

4- النظرية بتفاصيلها

حين نأخذ تفاصيل النظريّة بالدرس والتمحيص يجب أن نبدأ بالمرحلة الاولى من مراحل التاريخ في رأي الماركسيّة، وهي الشيوعيّة البدائيّة.

[1- الشيوعيّة البدائيّة]

فلقد مرّت الإنسانية- في عقيدة الماركسيين- بدور الشيوعية البدائيّة في مطلع حياتها الاجتماعيّة، وكان هذا الدور يحمل في طيّاته نقيضه وفقاً لقوانين الديالكتيك، وبعد صراع طويل نما النقيض واشتدّ حتّى حطّم الكيان الشيوعي للمجتمع، وبرز النقيض منتصراً في ثوب جديد، وهو النظام العبودي ومجتمع الرقّ بدلًا عن نظام الإشاعة ومجتمع المساواة.

هل وجد المجتمع الشيوعي؟

وقبل أن نستوعب تفاصيل هذه المرحلة يعترض البحث سؤال أساسي:
ما هو الدليل العلمي على أنّ البشريّة مرّت بدور الشيوعيّة البدائيّة حقّاً؟ بل كيف يمكن الحصول على هذا الدليل العلمي ما دمنا نتكلّم عن الإنسانية قبل عصور

170

في مفهومهما المادّي عن التاريخ اندفاعاً خاطئاً؟ فقد كتب أنجلز إلى يوسف بلوخ عام (1890 م) يقول:

«إنّ توجيه الكتّاب الناشئين الاهتمام إلى الجانب الاقتصادي بأكثر ممّا يستحقّ أمر يقع اللوم فيه على عاتقي وعاتق ماركس، لقد كان علينا أن نؤكّد هذا المبدأ الرئيسي لنعارض خصومنا الذين كانوا ينكرونه، ولم يكن لدينا الوقت أو المكان أو الفرصة لنضع العناصر الاخرى التي تتضمّنها العلاقة المتداخلة في مواضعها الحقيقيّة»[1].

 

[1] التفسير الاشتراكي للتاريخ: 116

169

بالفنّ الإنساني القديم زاعماً: أنّ الإنسان الحديث يلتذّ بروعة الفنّ القديم بوصفه ممثّلًا لطفولة النوع البشري، كما يلذّ لكلّ إنسان أن يستعرض أحوال طفولته البريئة الخالية من التعقيد[1].

ولكنّ ماركس لا يقول لنا شيئاً عن سرور الإنسان بأحوال الطفولة، فهل هو نزعة أصيلة في الإنسان، أو ظاهرة خاضعة للعامل الاقتصادي ومتغيّرة تبعاً له؟

ثمّ لماذا يجد الإنسان الحديث المتعة والسحر في روائع اليونان الفنّية مثلًا، ولا يجد هذه المتعة والسحر في استعراض بقيّة ظواهر حياتهم، من أفكار وعادات ومفاهيم بدائيّة، مع أ نّها جميعاً تمثّل طفولة النوع البشري؟!

وماذا يقول لنا ماركس عن المناظر الطبيعيّة الخالصة التي كانت منذ أبعد آماد التاريخ ولا تزال قادرة على إرضاء الحسّ الجمالي في الإنسان وبعث المتعة إلى نفسه؟! فكيف نجد المتعة في هذه المناظر كما كان يجدها الأسياد والرقيق، والإقطاعيّون والأقنان، مع أ نّها مظاهر طبيعيّة لا تمثّل شيئاً من طفولة النوع البشري التي يفسّر ماركس على أساسها إعجابنا بالفنّ القديم؟!

أفَلَسنا نعرف من هذا أنّ المسألة ليست مسألة الإعجاب بصور الطفولة، وإنّما هي مسألة الذوق الفنّي الأصيل العامّ الذي يجعل إنسان عصر الرقّ وإنسان عصر الحرّية يشعران بشعور واحد؟!

***

وفي ختام دراستنا هذه للنظريّة بما هي عامّة ألا نجد من الطبيعي أن يندم أنجلز- المؤسّس الثاني للمادّية التاريخيّة- على المبالغة بدور العامل الاقتصادي في التاريخ، ويعترف بأ نّه مع صديقه ماركس قد اندفعا بروح مذهبيّة

 

[1] كارل ماركس: 243

168

وقوى الإنتاج، فالوسائل الطبيعيّة هي التي تقرّر طريقة الرسم.
وكذلك يمكن للماركسيّة أن تجيب على السؤال الثاني زاعمةً: أنّ الفنّ استخدم دائماً لخدمة الطبقة الحاكمة، فالهدف الذي يدعو الفنّان إلى التفنّن والإبداع هو تعزيز هذه الطبقة ومصلحتها، ولمّا كانت هذه الطبقة وليدة القوى المنتجة فوسائل الإنتاج هي الجواب الأخير على هذا السؤال.
ولكن ماذا تصنع الماركسيّة بالسؤال الثالث: لماذا نعجب بالصورة ونستذوقها؟ فهل قوى الإنتاج أو المصلحة الطبقيّة هي التي تخلق في نفوسنا هذا الإعجاب وهذا الذوق الفنّي، أو هو شعور وجداني وذوق ينبع من صميم النفس، وليس مستورداً من وسائل الإنتاج وظروفها الطبقيّة؟
إنّ المادّية التاريخيّة تفرض على الماركسيّة أن تفسّر الذوق الفنّي بقوى الإنتاج والمصلحة الطبقيّة؛ لأنّ العامل الاقتصادي هو الذي يفسّر كلّ الظواهر الاجتماعية في المادّية التاريخيّة، ولكنّها لا تستطيع ذلك وإن حاولته؛ إذ لو كانت القوى المنتجة أو المصلحة الطبقيّة هي التي تخلق هذا الذوق الفنّي لزال بزوالها، ولتطوّر الذوق الفنّي تبعاً لتطوّر وسائل الإنتاج، كما تتطوّر سائر الظواهر والعلاقات الاجتماعيّة، مع أنّ الفنّ القديم بآياته الرائعة لا يزال في نظر الإنسانية حتّى اليوم منبعاً من منابع اللذّة الجماليّة، ولا يزال يتحف الإنسان وهو في عصر الذرّة بما كان يتحفه به قبل آلاف السنين من انشراح وسحر، فكيف ظلّت هذه المتعة النفسيّة حتّى أخذ الإنسان الاشتراكي والرأسمالي يتمتّع بفنّ مجتمعات الرقّ كما كان الأسياد والعبيد يتمتّعون بها؟! وبقدرة أيّ قادر استطاع الذوق الفنّي أن يتحرّر من قيود المادّية التاريخيّة ويخلد في وعي الإنسان؟! أليس العنصر الإنساني الأصيل هو التفسير الوحيد الذي يجيب على هذه الأسئلة؟!
ويقوم ماركس هنا بمحاولة للتوفيق بين قوانين المادّية التاريخيّة وإعجابنا

167

قوى الإنتاج هي التي أزاحت الستار عن هذا السرّ، وإلّا فلماذا لم يدركه سوى نفر خاصّ من العدد الكبير من العلماء الذرّيين الذين كانوا يمارسون التجارب الذرّية؟! فإنّ هذا يوضّح أنّ الاكتشاف مدين- بصورة خاصّة- للتركيب العضوي الخاصّ وشروطه الذهنيّة. ولو لم تتهيّأ هذه الشروط في شخص أو أشخاص معدودين من علماء الروس ولم يوجد النبوغ العلمي الخاصّ المرتهن بذلك التركيب وتلك الشروط لمنيت الاشتراكية بالدمار والهزيمة الكبرى بالرغم من قوانين المادّية التاريخيّة كلّها.
وإذا كان من الممكن أن توجد لحظات في حياة الإنسان تقرّر مصير التاريخ أو نوعيّة الأحداث الاجتماعيّة فكيف يمكن أن تكون قوانين الوسائل المنتجة هي القوانين الحتميّة للتاريخ؟!

5- الذوق الفنّي والماركسيّة:

والذوق الفنّي في الإنسان- بوصفه ظاهرة اجتماعيّة اشتركت فيها كلّ المجتمعات على اختلافها في النظم والعلاقات ووسائل الإنتاج- لون آخر من الحقائق الاجتماعيّة التي تضيق بها المادّية التاريخيّة كما سنرى.
والحديث عن الذوق الفنّي له جوانب عديدة. فالرسّام حين يبدع صورة رائعة لزعيم سياسي أو لمعركة حربيّة قد نسأل مرّة عن الطريقة التي اتّبعها هذا الفنّان في إبداع الصورة ونوعيّة الأدوات التي استعملها، وقد نسأل مرّة اخرى عن الهدف الذي كان يرمي إليه من وراء هذه الصورة، وقد نسأل ثالثةً لماذا نعجب بها ونمتلئ إحساساً بروعتها والتذاذاً بمنظرها؟
ويمكن للماركسيّة أن تجيب على السؤال الأوّل قائلة: إنّ الطريقة التي اتّبعها الرسّام خلال العمليّة هي الطريقة التي تفرضها درجة التطوّر في الأدوات‏