المدرسة الاسلامیة
156

بالاكتساب عن إيجارها، وفقاً لنظريته العامة في التوزيع التي سوف نشرحها في الأعداد المقبلة بإذن اللَّه تعالى.
مواقف ثلاثة مختلفة، تبعاً لاختلاف وجهات النظر العامة في التوزيع.
فلماذا يوصف الموقف الرأسمالي والماركسي بالطابع المذهبي ولا يقال ذلك عن الموقف الإسلامي، مع أ نّه يعبّر عن وجهة نظر مذهبٍ اقتصاديٍّ ثالثٍ يختلف عن كلٍّ من المذهبين؟!

155

الملكية الخاصّة ركناً من أركان المذهب الرأسمالي، ويكون مبدأ الملكية العامة ركناً في المذهب الاشتراكي الماركسي، ولا يكون مبدأ الملكية المزدوجة- أي ذات الشكل العام والخاصّ- ركناً في مذهبٍ اقتصاديٍّ إسلامي؟!
والمثال الثاني يتعلّق بالكسب القائم على أساس ملكية مصادر الإنتاج.
فإنّ الرأسمالية تجيز هذا الكسب بمختلف ألوانه، فكلّ مَن يملك مصدراً من مصادر الإنتاج له أن يؤجره ويحصل على كسبٍ عن طريق الاجور التي يتقاضاها بدون عمل. والاشتراكية الماركسية تحرِّم كلَّ لونٍ من ألوان الكسب القائم على أساس ملكية مصادر الإنتاج؛ لأنّه كسب بدون عمل.
فالاجرة التي يتقاضاها صاحب الطاحونة ممَّن يستأجر طاحونته، والاجرة التي يتقاضاها الرأسمالي باسم فائدةٍ ممَّن يقترض منه غير مشروعةٍ في الاشتراكية الماركسية، بينما هي مشروعة في الرأسمالية.
والإسلام يعالج نفس الموضوع من وجهة نظرٍ ثالثة، فيميِّز بين بعض ألوان الكسب القائم على أساس ملكية مصادر الإنتاج، وبعضها الآخر، فيحرِّم الفائدة- مثلًا- ويسمح باجرة الطاحونة.
فالرأسمالية إذن تسمح بالفائدة وباجرة الطاحونة معاً، تجاوباً مع مبدأ الحرّية الاقتصادية.
والاشتراكية الماركسية لا تسمح للرأسمالي بأخذ الفائدة على القرض، ولا لصاحب الطاحونة بالحصول على اجور؛ لأنّ العمل هو المبرّر الوحيد للكسب، والرأسمالي حين يقرض مالًا، وصاحب الطاحونة حين يؤجر طاحونته لا يعمل شيئاً.
والإسلام لا يأذن للرأسمالي بتقاضي الفائدة، ويسمح لصاحب الطاحونة

154

اقتصادياً دون الاقتصاد الإسلامي؟
إنّنا نلاحظ أنّ الإسلام عالج نفس الموضوعات التي عالجتها الرأسمالية- مثلًا- وعلى نفس المستوى، وأعطى فيها أحكاماً من وجهة نظره الخاصّة تختلف عن وجهة النظر الرأسمالية، فلا مبرِّر للتفرقة بينهما، أو للقول بأنّ الرأسمالية مذهب وليس في الإسلام إلّاالمواعظ والاخلاق.
ولنوضِّح ذلك في مثالين، لنبرهن على أنّ الإسلام أعطى آراءه على نفس المستوى الذي عالجته المذاهب الاقتصادية.
والمثال الأول يتعلّق بالملكية، وهي المحور الرئيسي للاختلاف بين المذاهب الاقتصادية، فإنّ الرأسمالية ترى أنّ الملكية الخاصّة هي المبدأ، وليست الملكية العامة إلّااستثناء، بمعنى أنّ كلّ نوعٍ من أنواع الثروة، ومرافق الطبيعة يسمح بتملّكه ملكيةً خاصّةً ما لم تحتّم ضرورة معيّنة تأميمه وإخراجه عن حقل الملكية الخاصّة. والماركسية ترى أنّ الملكية العامة هي الأصل والمبدأ، ولا يسمح بالملكية الخاصّة لأيِّ نوعٍ من أنواع الثروة الطبيعية والمصادر المنتجة ما لم توجد ضرورة معيّنة تفرض ذلك، فيسمح بالملكية الخاصّة عندئذٍ في حدود تلك الضرورة وما دامت قائمة.
والإسلام يختلف عن كلٍّ من المذهبين في طريقة علاجه للموضوع، فهو ينادي بمدأ الملكية المزدوجة، أي ذات الأشكال المتنوّعة، ويرى أنّ الملكية العامة والملكية الخاصّة شَكلان أصيلان للملكية في مستوىً واحد، ولكلٍّ من الشكلين حقله الخاصّ.
أفليس هذا الموقف الإسلامي، يعبّر عن وجهة نظرٍ إسلاميةٍ على مستوى المدلول المذهبي للموقف الرأسمالي والموقف الاشتراكي؟! فلماذا يكون مبدأ

153

والزكاة هي عبادة من أهمّ العبادات الى صفّ الصلاة والصيام، لا شكّ في ذلك، ولكنَّ إطارها العبادي لا يكفي للبرهنة على أ نّها ليست ذات مضمونٍ اقتصادي، وأ نّها لا تعبِّر عن وجود تنظيمٍ اجتماعيٍّ للحياة الاقتصادية في الإسلام.
إنّ ربط الزكاة بوليِّ الأمر واعتبارها أداةً يستعين بها على تحقيق الضمان الاجتماعي في المجتمع الإسلامي- كما رأينا في النصِّ السابق- هو وحده يكفي لتمييز الزكاة عن سائر العبادات الشخصية، والتدليل على أ نّها ليست مجرَّدَ عبادةٍ فرديةٍ وتمرينٍ خلقيٍّ للغني على الإحسان الى الفقير، وإنّما هي على مستوى تنظيمٍ اجتماعيٍّ لحياة الناس.
أضف الى ذلك: أنّ نفس التصميم التشريعي لفريضة الزكاة يعبّر عن وجهةٍ مذهبيةٍ عامةٍ للإسلام؛ فإنّ نصوص الزكاة دلّت على أ نّها تعطى‏ للمُعوِزين، حتّى يلتحقوا بالمستوى العام للمعيشة. وهذا يدلّ على أنّ الزكاة جزء من مخطّطٍ إسلاميٍّ عامٍّ لإيجاد التوازن، وتحقيق مستوىً عامٍّ موحّدٍ من المعيشة في المجتمع الإسلامي. ومن الواضح أنّ التخطيط المتوازن ليس وعظاً، وإنّما هو فكر تنظيميّ على مستوى مذهبٍ اقتصادي.

ماذا ينقص الاقتصاد الإسلامي عن غيره؟

وأنا لا أدري لماذا يسخوا المنكرون للاقتصاد الإسلامي بلقب المذهب الاقتصادي على الرأسمالية والاشتراكية، ثمّ لا يمنحون هذا اللقب للاقتصاد الإسلامي، بل يجعلونه مجموعةً من التعاليم الاخلاقية.
فمن حقّنا أن نتساءل: بِمَ استحقّت الرأسمالية أو الاشتراكية أن تكون مذهبا

152

فرض على الدولة ضمان المُعوِزين وتوفير الحياة الكريمة لهم فرضاً يدخل في صلب النظام الذي ينظِّم العلاقات بين الراعي والرعية.

ففي الحديث عن الإمام موسى‏ بن جعفر عليهما السلام أ نّه ذكر وهو يحدِّد مسؤولية الوالي في أموال الزكاة: «أنّ الوالي يأخذ المال فيوجّهه الوجه الذي وجّه اللَّه على ثمانية أسهم، للفقراء والمساكين …، يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيقٍ ولا تقية. فإن فضل من ذلك شي‏ء رُدَّ الى الوالي، وإن نقص من ذلك شي‏ء ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يموِّنهم مِن عِنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا»[1].

وواضح في هذا النصّ أنّ فكرة الضمان وضرورة توفير الحياة الكريمة للجميع ليست هنا فكرةً وعظية، وإنّما هي من مسؤوليات الوالي في الإسلام.

وبذلك تدخل في صلب تنظيم المجتمع، وتعبّر عن جانبٍ من جوانب التصميم الإسلامي للحياة الاقتصادية.

إنّ هناك فرقاً كبيراً بين النصّ المأثور القائل: «ما آمن باللَّه واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع»[2] وهذا النصّ الذي يقول: «كان على الوالي أن يموِّنهم من عنده بقدر سعتهم حتّى يستغنوا». فالأول ذو طابعٍ وعظي، وهو يبرز الجانب الأخلاقي من التعاليم الإسلامية. وأمّا الثاني فطابعه تنظيمي، ويعكس لأجل ذلك جانباً من النظام الإسلامي، ولا يمكن أن يفسّر إلّابوصفه جزءاً من منهجٍ إسلاميٍّ عامٍّ للمجتمع.

 

[1] الكافي 1: 541، وتهذيب الأحكام 4: 130، مع اختلاف في اللفظ

[2] وسائل الشيعة 17: 209، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1

151

وهذا هو الفارق بين موقف الواعظ وموقف المذهب الاقتصادي، فإنّ الواعظ ينصح بالعدل، ويحذِّر من الظلم، ولكنّه لا يضع مقاييس العدل والظلم، وإنّما يَدَع هذه المقاييس الى العرف العام المتّبع لدى الواعظ وسامعيه. وأمّا المذهب الاقتصادي فهو يحاول أن يضع هذه المقاييس، ويجسّدها في نظامٍ اقتصاديٍّ مخطّط، ينظّم مختلف الحقول الاقتصادية.
فلو أنّ الإسلام جاء ليقول للناس: اتركوا الظلم، وطبِّقوا العدل، ولا تعتدوا على الآخرين، وتركَ للناس أن يحدِّدوا معنى الظلم، ويضعوا الصورة التي تُجسِّد العدل، ويتّفقوا على نوع الحقوق التي يتطلّبها العدل، وفقاً لظروفهم وثقافتهم، وما يؤمنون به من قيمٍ، وما يدركونه من مصالح وحاجات، لو أنّ الإسلام ترك كلّ هذا للناس واقتصر على الأمر بالعدل والترغيب فيه، والنهي عن الظلم والتحذير منه بالأساليب التي يملكها الدين للإغراء والتخويف لكان واعظاً فحسب.
ولكنّ الإسلام حين قال للناس: اتركوا الظلم وطبّقوا العدل، قدّم لهم في نفس الوقت مفاهيمه عن العدل والظلم، وميَّز بنفسه الطريقة العادلة في التوزيع والتداول والإنتاج عن الطريقة الظالمة. فذكر مثلًا: أنّ تملّك الأرض بالقوة وبدون إحياءٍ ظلم، وأنّ الاختصاص بها على أساس العمل والإحياء حق، وأنّ حصول رأس المال على نصيبٍ من الثروة المنتجة باسم فائدةٍ ظلم، وحصوله على ربحٍ عدل …، الى كثيرٍ من ألوان العلاقات والسلوك التي ميّز فيها الإسلام بين الظلم والعدل.
وأمّا حثّ الإسلام للأغنياء على مساعدة إخوانهم وجيرانهم من الفقراء فهو صحيح، ولكنّ الإسلام لم يكتفِ بهذا الحثّ وهذه التربية الخلقية للأغنياء، بل‏

150

بين الناس، ويحدّد الحقوق والواجبات.
وجوابنا على هذا كلّه: أنّ واقع الإسلام وواقع الاقتصاد الإسلامي لا يتّفقان إطلاقاً مع هذا التفسير الذي ينزل بالاقتصاد الإسلامي عن مستوى مذهبٍ الى مستوى نصائح وأوامر أخلاقية.
صحيح أنّ الاتّجاه الأخلاقي واضح في كلّ التعاليم الإسلامية.
وصحيح أنّ الإسلام يحتوي على مجموعةٍ ضخمةٍ من التعاليم والأوامر الأخلاقية في كلّ مجالات الحياة، والسلوك البشري. وفي المجال الاقتصادي خاصّة.
وصحيح أنّ الإسلام حشّد أروع الأساليب لتنشئة الفرد المسلم على القيم الخلقية، وتنمية طاقاته الخيِّرة، وتحقيق المثل الكامل فيه.
ولكنّ هذا لا يعني أنّ الإسلام اقتصر على تربية الفرد خلقياً وترك تنظيم المجتمع. ولا أنّ الإسلام كان واعظاً للفرد فحسب، ولم يكن الى جانب ذلك مذهباً ونظاماً للمجتمع في مختلف مجالات حياته، بما فيها حياته الاقتصادية.
إنّ الإسلام لم ينهَ عن الظلم، ولم ينصح الناس بالعدل، ولم يحذِّرهم من التجاوز على حقوق الآخرين بدون أن يحدِّد مفاهيم الظلم والعدل من وجهة نظره، ويحدِّد تلك الحقوق التي نهى‏ عن تجاوزها.
إنّ الإسلام لم يترك تلك المفاهيم- مفاهيم العدل والظلم والحقّ- غائمةً غامضة، ولم يَدَع تفسيرها لغيره كما يصنع الوعّاظ الأخلاقيون، بل إنّه جاء بصورةٍ محدّدةٍ للعدالة، وقواعد عامّةٍ للتعايش بين الناس في مجالات إنتاج الثروة وتوزيعها وتداولها، واعتبر كلّ شذوذٍ وانحرافٍ عن هذه القواعد وتلك الصورة التي حدّدها للعدالة ظلماً وتجاوزاً على حقوق الآخرين.

149

– مثلًا- كلّ ذلك يكوِّن فكرتنا عن موقف الإسلام من الحرّية الاقتصادية، ويعكس المبدأ الإسلامي العام.

أخلاقية الاقتصاد الإسلامي:

قد يقال: إنّ الاقتصاد الذي تزعمون وجوده في الإسلام ليس مذهباً اقتصادياً، وإنّما هو في الحقيقة تعاليم أخلاقية من شأن الدين أن يتقدّم بها الى الناس، ويرغِّبهم في اتّباعها. فالإسلام كما أمر بالصدق والأمانة، وحثّ على الصبر وحسن الخلق، ونهى‏ عن الغشّ والنميمة، كذلك أمر بمعونة الفقراء، ونهى‏ عن الظلم، ورغّب الأغنياء في مواساة البائسين، ونهاهم عن سلب حقوق الآخرين، وحذّرهم من اكتساب الثروة بطرقٍ غير مشروعة، وفرض عبادةً ماليةً في جملة ما فرض من عبادات وهي الزكاة، إذ شرّعها الى صفّ الصلاة والحجّ والصيام، تنويعاً لأساليب العبادة، وتأكيداً على ضرورة إعانة الفقير والإحسان اليه.
كلّ ذلك قام به الإسلام وفقاً لمنهج أخلاقيٍّ عامٍّ، ولا تعدو تلك الأوامر والنصائح والإرشادات عن كونها تعاليم أخلاقيةً تستهدف تنمية الطاقات الخيِّرة في نفس الفرد المسلم والمزيد من شَدِّهِ الى ربّه والى أخيه الإنسان، ولا يعني ذلك مذهباً اقتصادياً على مستوى تنظيمٍ شاملٍ للمجتمع.
وبكلمةٍ اخرى: أنّ التعاليم السابقه ذات طابعٍ فرديٍّ أخلاقي، هدفها إصلاح الفرد وتنمية الخير فيه، وليست ذات طابعٍ اجتماعيٍّ تنظيمي، فالفرق بين تلك التعاليم والمذهب الاقتصادي هو الفرق بين واعظٍ يعتلي المنبر فينصح الناس بالتراحم والتعاطف، ويحذّرهم من الظلم والإساءة، والاعتداء على حقوق الآخرين وبين مصلحٍ اجتماعيٍّ يضع تخطيطاً لنوع العلاقات التي يجب أن تقام‏

148

من نصوصه وأقواله أو من أفعاله وطريقته للعمل الاجتماعي بوصفه رئيساً للدولة، أو من تقريره لعرفٍ سائدٍ وقبوله به، وكلّ ذلك يسبغ على النظام الطابع الإسلامي.

المذهب يحتاج الى صياغة:

ونحن حين نقول بوجود اقتصادٍ إسلامي، أو مذهبٍ اقتصاديٍّ في الإسلام لا نريد بذلك أ نّنا سوف نجد في النصوص بصورةٍ مباشرةٍ نفس النظريات الأساسية في المذهب الاقتصادي الإسلامي بصيغها العامة، بل إنّ النصوص ومصادر التشريع تتحفنا بمجموعةٍ كبيرةٍ من التشريعات التي تنظّم الحياة الاقتصادية وعلاقات الإنسان بأخيه الإنسان في مجالات إنتاج الثروة وتوزيعها وتداولها، كأحكام الإسلام في إحياء الأراضي والمعادن، وأحكامه في الإجارة والمضاربة والربا، وأحكامه في الزكاة والخمس والخراج وبيت المال. وهذه المجموعة من الأحكام والتشريعات اذا نُسِّقت ودُرِست دراسةً مقارنةً بعضها ببعضٍ أمكن الوصول إلى اصولها والنظريات العامة التي تعبِّر عنها، ومن تلك النظريات نستخلص المذهب الاقتصادي في الإسلام.
فليس من الضروري- مثلًا- أن نجد في النصوص ومصادر الشريعة صيغةً عامةً لتحديد مبدأ يقابل مبدأ الحرّية الاقتصادية في المذهب الرأسمالي أو يماثله، ولكنّنا نجد في تلك النصوص والمصادر عدداً من التشريعات التي يستنتج منها موقف الإسلام من مبدأ الحرّية الاقتصادية، ويعرف عن طريقها ما هو المبدأ البديل له من وجهة النظر الإسلامية.
فتحريم الإسلام للاستثمار الرأسمالي الربوي، وتحريمه تملّك الأرض بدون إحياءٍ وعمل، وإعطاء وليّ الأمر صلاحية الإشراف على أثمان السلع‏