بمناسبة مرور ذكرى استشهاد آية الله الشهيد محمد باقر الصدر (رض) طلب بعض الأخوة الكرام معرفة المزيد عن جانب من الجوانب الفكرية في شخصية الشهيد، فكان أن تفضل سماحة الشيخ محمد علي التسخيري باعتباره أحد تلامذة الشهيد، فكتب الشرح التالي.
كما وردنا سؤال عن النظام التجاري الإسلامي وإن كان تطبيقه في هذا العصر، فتفضل سماحته بشرح ذلك في جوابه.
(التوحيد)[1]
س: نرجوا إعطاءنا فكرة عن شخصية الشهيد الصدر الفكرية وأهم مميزاتها.
ج: في الواقع أنني لأشعر بالغصة والألم الشديد والرعدة تنتابني كلما تذكرت الجريمة الكبرى التي أقدم عليها النظام البعثي المجرم الحاكم في العراق بإعدام هذه الشخصية الكبيرة وهو يتصور أنه بإعدام هذه الشخصية الكبيرة استطاع أن يحقق نصراً كبيراً في حين أن الواقع هو أن السيد الشهيد العظيم الصدر تحول من قائد لشعب إلى قائد لشعوب، وإلى قائد لتاريخ، وأن دماء كل قطرة منها تتحول ثورة في كل شعب مستضعف، أنني أحس بهذه الرجفة وأنا أتصور هذه الجريمة الكبرى التي أقدم عليها هذا النظام وأن قرفي ليزداد عندما أتصور أن نظماً تنسب نفسها إلى الإسلام وتدعي أنها تحمي حرمات الإسلام، هذه النظم المجرمة وقفت خلف صدام في جرائمه الكبرى التي منها جريمة إعدام سيدنا وأستاذنا الشهيد الصدر رحمة الله عليه. صمتت ولم تؤنب ولم تعترض، بل دعمت النظام المجرم كل الدعم. وأعتقد أن الاستكبار العالمي هو الذي خطط للقضاء على هذه الشخصية الفريدة التي انطلقت مكافحة ومناضلة في سبيل تربية الجيل الإسلامي وفي سبيل سد الفراغ الفكري في العالم الإسلامي.
خصائص هذه الشخصية العظيمة لا يمكن أبداً أن تطرح هنا حتى بإيجاز. وحتى لو اقتصرنا على الخصائص الفكرية فقط لهذه الشخصية العظيمة التي أدعو كل أبناء أمتنا الإسلامية لمطالعة آثارها ولدراسة كتبها التي غذت الفكر الإسلامي لفترة طويلة. من الخصائص الفكرية التي تستحق أن تعقد حولها بحوث هي الخصيصة العقائدية. ومن الخصائص الفكرية الروح الاجتماعية في الفكر ولها المجال الرحب في الحديث ومن الخصائص الفكرية الموسوعية يمكن القول بأن السيد الشهيد رحمة الله عليه كتب وحاضر في مجالات مختلفة من العلوم الإسلامية، وكان ضليعاً في كل مجال تحدث فيه. تحدث في الفلسفة، وتحدث في المنطق، وتحدث في العقائد، وتحدث في الفقه، وتحدثت في الأصول، وتحدث في الاقتصاد، تحدث في كل هذه المجالات فأبدع في أفكاره العميقة.
كل هذه يختص بالجوانب الفكرية. أما الجوانب الأخرى، فالحديث فيها واسع أيضاً. إلا أنني أود هنا أن أشير إلى خصيصة فكرية واحدة من خصائص السيد الشهيد العظيم، وتلك الخصيصة هي روح التنظير. كان المرحوم الشهيد منظراً إسلامياً كبيرا. روح التنظير واضحة في منهج السيد الصدر الفكري وحتى في المنهج العملي، فقد كان الشهيد ينظر للهدف الكلي العام ثم يدرس أية قضية جزئية في إطار ذلك الهدف الفكري العام. كان السيد الشهيد يدرس القضية من كل جوانبها على ضوء أسسها أو قد يدرسها على ضوءها ذاتها يقول لنفترض: إن هذه القضية كانت صحيحة في هذا القانون فما هو حكم هذا القانون في الافتراضات الأخرى؟ كان السيد الشهيد يحاول أن يستنبط النظرية من كل دراسة، ولو كان ذلك باستقراء جزئيات متعددة، فيحاول أن يستنبط الجانب المشترك من هذه الجزئيات، ويلاحظ النكات الدقيقة القائمة بين هذه الجزئيات ليطرح النظرية الإسلامية العامة. وكان أيضاً يلاحظ ما يقتضيه التدرج المنطقي في الدراسة لتأتي الصورة التي يقدمها صورة كاملة بعيدة عن أي نقص أو ضعف في التركيز. ولنضرب مثالاً على ما قلناه على هذه الحقائق التي تطوف كلها في إطار شخصيته التنظيرية. لنأخذ مثلاً كتابه الرائع: ” اقتصادنا ” الذي يدرس اليوم في شتى الجامعات الإسلامية، والذي يلتهمه الشباب المؤمن ليكتشف عظمة إسلامه وسخف المبادئ التي حاولت أن تقف بوجه الإسلام. يدرس الشهيد الصدر في الجزء الأول من هذا الكتاب المادية التاريخية، فيوضح أولا بأنها من نظريات العامل الواحد، وهي من النظريات المتطرفة. ثم يدرس هذه النظرية على ضوء أسسها الفلسفية فيدرسها على ضوء المادية التاريخية، ثم على ضوء القوانين الديالكتيكية، ثم على ضوئها هي، فيلاحظ أو يكتشف نقاط ضعفها على هذه الأضواء الثلاثة، يعني لا المادية الفلسفية تفرضها، ولا هي تنسجم مع قوانين الديالكتيك، ولا هي تنسجم حتى مع قوانينها هي. ثم يحاول أن يناقش الجانب العام في النظرية فيتساءل عن الدليل على صحة هذه النظرية التي ادعت الماركسية أنها اكتشفت بها سر التاريخ، فيناقش الدليل الفلسفي، ويناقش الدليل النفسي ثم الدليل العلمي، ويبطل كل هذه الأدلة. ثم يتساءل عن المقياس الذي يمكن أن تصحح به النظريات. فإذا اقتضى جواباً من المادية التاريخية طبق هذا الجواب عليها نفسها ليثبت أنها باطلة بالمقاييس التي قبلتها. ثم يتساءل: هل استطاعت أن تستوعب التاريخ ؟ فيدرسها ويدرس النقوض عليها في مجالات تطور القوى المنتجة، وفي مجالات تطور الأفكار الدينية والفلسفية والعلمية فيبطلها ثم يعترض عليها في تفسيرها للطبقية وكذلك تفسيرها للعوامل الطبيعة وتفسيرها أيضاً بالذوق الفني.
وبعد أن يناقش هذا الجانب العام في النظرية ينطلق لتفاصيلها خطوة خطوة، فيمشي معها وهي تعرض المجتمع العبودي فيبطل تفسيرها ويمشي معها في عرضها للمجتمع الإقطاعي، ثم الرأسمالي، ثم الاشتراكي، وهكذا يمشي مع المذهب الماركسي ويناقش طريقته هذا بالنسبة للمادية التاريخية.
الأسلوب الآخر الذي يتبعه مع الرأسمالية أيضاً أسلوب تحليلي يتابع ما ارتكزت عليه من أسس، وأن كانت الرأسمالية تفتقد حتى الأسس التي ترتكز عليها.
ثم بعد هذا ينطلق للإسلام فيتحدث عن معالمه الرئيسة وعن نظرياته الواسعة بأسلوب العالم المجتهد.
إنني في هذه العجالة لن أستطيع حتى أن أعطي لمحة خاطفة عن جانب صغير من جوانب هذه الشخصية العظيمة، فرحمك الله أيها السيد الشهيد، وجعلنا الله على خطاك سائرين، لتحقيق الأهداف العليا، أهداف تطبيق الإسلام على كل الأرض الإسلامية.
- س: كلنا نعلم أن النظام التجاري الدولي مبني على أسس غير إسلامية فكيف تستطيع جمهوريتنا المباركة أن توفق بين النظام الإسلامي التجاري وهذا النظام في علاقاته التجارية؟ الرجاء توضيح الأسس التي يمكن من خلالها بناء علاقات دولية بين جمهورية الإسلام في إيران ومختلف دول العالم.
الجواب: النظام التجاري الدولي ليس كل أسسه مرفوضة ولا كل أسسه مقبولة، وإنما له أسس مقبولة وأسس أخرى مرفوضة. فاعتماده مثلا على قوانين العرض والطلب الحقيقيين أمر مقبول من حيث الأساس، إلا أن بعض التعريفات والتحويرات له أحياناً قد تجعله أو تجعل هذه القوانين قوانين مزيفة.
مبدأ التأمين التجاري مبدأ مقبول وأن كانت عملية التأمين أحيانا تنحرف وتتحول إلى عمليات ربوية أو عمليات احتكارية أو خطط استعمارية لامتصاص أموال الفقراء. هذه أمور عارضة يجب تجنبها.
أما الربا والاحتكار وأمثالهما فهي من المبادئ المرفوضة على الصعيد التجاري الإسلامي سواء على الصعيد الداخلي أو الدولي. والإسلام يمنع كثيرا من العمليات التي يراها تمثل ظلما بالعامة وبالمجتمع، لذلك فقد يرفضها ويمنع ممارستها.
الإسلام كما قلنا، منع الربا، ومنع الاحتكار، ومنع الإلحاق، ومنع الغش، ومنع التباني لرفع القيم. فأحيانا يتبانى طرفان دون أن يكون أي منهما راغبا في الشراء ولكن لمجرد رفع القيمة وإيجاد التضخم المالي. الإسلام منع النجش ومنع الدعايات الكاذبة التي نراها هنا وهناك للسلع التجارية. والنجش هو التباني لرفع القيم وهو التعبير الاصطلاحي الفقهي للدعاية الكاذبة باعتبار حرمة الكذب، وهذا من جهة، ومن جهة أخرى باعتبار كراهة الإسلام أن يطري صاحب السلعة سلعته. والإسلام أيضا يحرم كل أنواع الإضرار، سواء كان الإضرار بالفرد أو بالمجتمع. ووضع واجبات للدولة لتقوم بتأديتها على النحو الصحيح.الدولة الإسلامية مكلفة في بالتخطيط الدقيق للتعامل السوقي العام ومكلفة بكسر احتكارات بكسر الاحتكارات بكل أنواعها، بما فيها احتكار التكنولوجيا أو القدرات القانونية. الدولة الإسلامية مكلفة بتشجيع الاستغلال التام للموارد القانونية وكذلك الاستغلال التام للقوى العمالية، وهي مكلفة أيضا بتحقيق جو من الضمان الاجتماعي والحد من الاتجاهات التجملية الكمالية المفرطة. لقد دعا الإسلام إلى إشاعة أخلاقية الاستهلاك المعقول من خلال مفاهيم الزهد، والمواساة، والكفاف، والإيثار، وعدم الحرص، وعدم الإسراف، وما إلى ذلك. وفي كل بند من هذه البنود حديث مفصل. الإسلام منع ما يؤدي لإهدار الثروة، سواء كانت الثروة إنسانية أو حيوانية، إذ يعتبر هذا الإهدار كفرا بالنعمة، والإسلام يعتبر الكفر بالنعمة أحد ركني المشكلة الاقتصادية. المشكلة الاقتصادية تتمثل في أمرين: في الظلم، وفي الكفر.الظلم عادة يتجه إلى مجالات التوزيع الظالم، والكفر يتجه إلى مجالات الإنتاج الذي يكفر بالنعمة ويهدد الثروة التي منحها الله تعالى للإنسان. وعلى أي حال، فإن على الدولة الإسلامية في تعاملها الدولي التجاري أن تراعي:
أولا: التزام الأحكام الإسلامية والامتناع عن تجاوزها. ومن الأحكام التزام العدالة، وعدم ظلم الآخرين، وعدم التجاوز على حقوقهم.
ثانياً: أن تراعي المصلحة الإسلامية العامة، إي أن تلاحظ شؤون المسلمين عموماً، وأن تراعي ما يحقق قوتهم الاقتصادية وقوتهم في المجالات الأخرى، وأن تتجنب ما فيه الإضرار بذلك.
ثالثاً: أن تراعي المصلحة الخاصة بالشعب المسلم في ذلك الإطار العام طبعاً.
هذه، كما قلنا، خطوط عريضة. أما تفصيل العلاقات فيتطلب منا تفصيل ما هو موجود ودراسته دراسة مستفيضة وهو ما لا نقدر عليه في هذه الفرصة، واعتقد أننا استطعنا أن نلقي بعض الضوء على نوع العلاقات التجارية. أما التفصيلات فهي أمور ترتبط بالضرورة الزمانية والمكانية ونوعية التعامل وما يحتاجه هذا المجتمع المسلم أو ذلك من روابط وعلاقات اقتصادية تجارية. على كل هذه الأسس تقوم الدولة الإسلامية بوضع نظامها التجاري.
[1] التوحيد:33/140