حزب الدعوة الاسلامية مظهر آخر من عبقرية الامام الشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

حزب الدعوة الاسلامية مظهر آخر من عبقرية الامام الشهيد الصدر

لقد كان الغزو البريطاني للعراق عام 1914 ومن ثم فترة الاحتلال حدثاً مفاجئاً للامة ولعلماء المسلمين بصورة خاصة. وهم وان كانوا ـ في ظل الدولة العثمانية الاسلامية ـ يعيشون حالة التعصب الطائفي البغيض، الاّ انهم وجدوا ان وظيفتهم الشرعية تحتّم عليهم الوقوف بقوة امام الجيوش الكافرة الغازية دفاعاً عن بلاد المسلمين.

ولقد تنبّه علماء المسلمين قبل غيرهم الى ضرورة تشكيل احزاب اسلامية لمواجهة هذه الظاهرة الطارئة التي حلت بالبلاد.

فشهدت فترة الاحتلال العسكري المباشر للعراق اربع تجارب حزبية بصورة رئيسية وعدداً قليلا آخر من التجارب الصغيرة اندمج بعضها مع الوجودات الكبيرة.

كانت الحياة الحزبية ـ أنذاك ـ قوية مؤثرة في مجرى الأحداث، فلقد استمدّت عناصر القوة من ضرورات الظرف ومن تصدّي العلماء، وقامت على اسس واضحة في التنظيم والتخطيط والتحرك وفي الهدف العام.

واستطاع النشاط الحزبي في تلك الفترة ان يحرك الساحة والاحداث والمواقف بفضل العنصر الجماهيري الضخم.

ان اكبر انجاز حققه العمل الحزبي في سنوات الاحتلال البريطاني هوتحريكه الجماهير باتجاه الاهداف التي يسعى اليها وبالاسلوب الذي يتبنّاه، وقد سجل التاريخ العراقي هذه الخطوة الواسعة لصالح الاحزاب الاسلامية التي كان لها دور كبير في اشعال ثورتين جماهيريتين كبيرتين، الاولى ثورة النجف عام 1918 والثانية الثورة الاسلامية الكبرى في 30 حزيران 1920.

فان الاولى حدثت بتخطيط وتوجيه جمعية النهضة الاسلامية والاخرى جاءت بتظافر جهود حركية مكثفة اضطلع باكثرها الحزب النجفي السري.

وكان هذان الحزبان يتحركان تحت قيادة وارشاد مراجع الدين وكبار العلماء، وهوتطور هام في العمل الحركي الاسلامي أيامذاك ويأتي بعدهما ـ من بين الاحزاب الكبيرة ـ حرس الاستقلال في سيره وفق توجهات علماء الدين.

والاكثر من ذلك ان العديد من علماء الدين البارزين مارسوا بصورة مباشرة العمل الحزبي، فلقد اسسوا احزاباً سياسية وكانوا ضمن قياداتها وعلى رأس خطوطها التنظيمية.

اذان اربعة احزاب سياسية أسّسها واشترك في قيادتها علماء دين بارزون امثال السيد محمد علي بحر العلوم والشيخ محمد جواد الجزائري والسيد ابوالقاسم الكاشاني والشيخ محمد رضا نجل الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين.

وسوف نستعرض استعراضاً سريعاً الاحزاب الاسلامية خلال فترة الاحتلال البريطاني المباشر بين 1917 ـ 1920 وهي:

1ـ حزب النهضة الاسلامية.

2ـ الحزب النجفي السري.

3ـ الجمعية الاسلامية في كربلاء.

4ـ الجمعية الاسلامية في الكاظمية.

5ـ جمعية حرس الاستقلال.

اما جمعية النهضة الاسلامية، فقد تأسست في النجف الاشرف اواخر عام 1917، وكان في طليعة المؤسسين الشيخ محمد جواد الجزائري الذي تولى رئاسة الجمعية فيما كان السيد محمد علي بحر العلوم نائباً له. وهما اللذان رسما مناهج الحزب، وحدّدا خطوطها الفكرية والسياسية على اساس العقيدة الاسلامية، ولذلك لم تدخل في عضويتها الشخصيات ذات الميول القومية.

واتخذت جمعية النهضة الاسلامية من تحرير العراق هدفاً مرحلياً لها، واعتمدت اسلوباً تنظيمياً دقيقاً، اذ شكلت جناحين لها، الاول سياسي والآخر عسكري.

وجاء في منهاج الجمعية في المادة الثانية منه (السعي لاعلاء كلمة الاسلام وسعادته وترقيته ومراعاة القانون الاعظم وهوالشرع الشريف المحمدي والعمل به طبقاً لقوله تعالى «ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا».[1]

اما المادة الاولى فقد اكّدت على الوحدة الاسلامية بين المسلمين حيث نصّت «أجمع رأي علماء الاسلام وقادتهم الافاضل الاعلام على لزوم تفهيم الأمة الاسلامية ـ ووجوب تحكيم ارتباط افراد المسلمين بعضهم ببعض تحت عنوان «الجامعة الاسلامية» للتكاتف والتعاضد والاعتصام بحبل الله ليكون الاسلام كتلة واحدة على من سواهم».

وقد رأت أن يرأس المرجع الأعلى للمسلمين الجامعة الاسلامية التي لابدّ ان يكون مركزها في احدى المدن المقدسة (النجف الاشرف أوالكربلاء أوالكاظمية أوسامراء)حسب اقامة المرجع الاعلى كما نصت على ذلك المادة السادسة.

واما الحزب النجفي السري

فقد تأسس في عام 1918 بشكل سري واتخذ من غرفة معزولة في مدرسة الملا كاظم الخراساني في محلة الحويش في النجف الاشرف مقراً لها.

ضم هذا الحزب الكثير من علماء الدين الكبار امثال شيخ عبدالكريم الجزائري واخيه الشيخ محمد جواد والشيخ جواد الجواهري والشيخ محمد باقر الشبيبي واخيه الشيخ محمد رضا والشيخ حسين الحلي والشيخ عبدالحسين مطر وغيرهم.

وحظي هذا الحزب بتأييد مراجع الدين، حتى ان التنسيق كان قوياً حول ظروف الساحة واساليب التحرك ولاسيما مع الامام الميرزا محمد تقي الشيرازي الذي انتقل من سامراء الى كربلاء في نهايات 1918، فلقد وجد الميرزا الشيرازي في هذا الحزب ذراعاً فاعلة تستطيع ان تدفع الامة بالاتجاه الذي تريده المرجعية.

انصب نشاط الحزب على توفير مستلزمات الثورة المسلحة ضد الانجليز، وقد نجح في ذلك من خلال فروعه الكثيرة في الفرات الاوسط، واستطاع ان يعبّئ اعداداً كبيرة من المجاهدين باتجاه الثورة المسلحة.

واما الجمعية الاسلامية في كربلاء

فانها تأسست في تشرين الثاني من العام 1918 من قبل الشيخ محمد رضا نجل المرجع الميرزا محمد تقي الشيرازي، وقد ضمّت العديد من علماء الدين والشخصيات الاجتماعية المعروفة مثل السيد هبة الدين الشهرستاني والسيد حسين القزويني.

والجمعية هذه كانت تسير في حقيقتها وفق توجهات مرجعية الامام محمد تقي الشيرازي، وقد حظيت بدعمه وتأييده، خصوصاً بعد الفتوى التي اصدرها في 20 ربيع الثاني 1337، كانون الثاني 1919، والتي نصت:

(ليس لأحد من المسلمين ان ينتخب ويختار غير المسلم للامارة والسلطنة على المسلمين)

وتمتعت الجمعية الاسلامية بتأييد كبار العلماء حيث أيّد هذه الفتوى سبعة عشر عالماً من علماء كربلاء وطبعت على نسخ كثيرة في المدن العراقية ومناطق الفرات الاوسط.

ولكن الانجليز اعتقلوا رئيس الجمعية الشيخ محمد رضا الشيرازي وبعض اصحابه ونفوهم الى خارج العراق وبذلك انتهى امر هذه الجمعية.

واما الجمعية الاسلامية في الكاظمية

فقد أسسها اواخر عام 1918 آية الله السيد ابوالقاسم الكاشاني عند قدومه من كربلاء الى الكاظمية، كما كانت تحظى بدعم آية الله شيخ الشريعة الاصفهاني، وهوالذي طلب من السيد الكاشاني ان يتوجه الى الكاظمية لأهميتها.

وقد عزّز ارساله بالرسالة التالية:

(لا يخفى ان جناب العالم العامل الفاضل الكامل سيد المحققين وعمدة العلماء والمجتهدين الحاج ميرزا ابي القاسم الكاشاني دام علاه، مع انه من العلماء الروحانيين وله حق المطالبة بحقوق العراقيين، فهوكما انه معتمد المشايخ والرؤساء وزعماء القبائل فيما يرجع الى الاحتجاج لهم والمدافعة عنهم، فيما يؤدي الى اصلاح العراق، فهومعتمدي وثقتي والسكون الى قوله ورأيه، فليعرف كل احد سموشأنه وعلومقامه، ومن الله ارجوتوفيقه لما يجلب الخير الى العراقيين ان شاء الله).

وقد كان للجمعية هذه علاقات حسنة مع الاحزاب السياسية الاخرى، ولاسيما مع حزب حرس الاستقلال، وكانت نهايتها عند اندلاع ثورة العشرين، اذ توقف نشاطها، كما توقف نشاط بقية الاحزاب السياسية حيث دخلت الحياة العراقية واقعاً جديداً واصبحت على اعتاب مرحلة تختلف في الكثير من جوانبها عن الفترة السابقة.

واما جمعية حرس الاستقلال

فقد تأسست في نهاية شباط 1919، وكان من ابرز اعضائها السيد محمد الصدر والشيخ محمد باقر الشبيبي وجعفر ابوالتمن وآخرون.

وقد كان تأسيسها على اثر الاستفتاء الذي طرحته بريطانيا في نوعيه الحكم الذي يريده الشعب العراقي وشخص الحاكم فيه.

وكان الاستفتاء يجري صورياً مزيفاً حسب رغبة بريطانيا، ولذلك فقد برزت المعارضة الجماهيرية لهذا المخطط حيث اصدر مراجع الدين فتاواهم بحرمة انتخاب غير المسلم واعتبار كل شخص يرغب في حكومة غير اسلامية خارجاً عن الدين.

وكان الحزب طوال استمراره حزباً اسلامياً في طبيعته ورئيس الحزب هوالسيد محمد الصدر، وقد سانده الشيرازي المجتهد الاكبر وعضده وابدى ارتياحه للخطوط السياسية التي حددها الحزب لاتباعها.

واستطاعت هذه الاحزاب تحت ظل المرجعية العامة المتمثلة آنذاك بالميرزا الشيرازي ومن ثم شيخ الشريعة الاصفهاني ان تحرك الامة العراقية في ثورة عارمة هي ثورة العشرين التي لفّت العراق كله واستطاعت ان تغير السياسة البريطانية.

غير ان هذا الحضور الفاعل لعلماء الدين في الحياة الحزبية اخذ ينحسر بعد انتهاء ثورة العشرين وتشكيل الدولة العراقية.

فقد تحول نشاطهم من العمل خلال الاحزاب الى تبنّي بعض الاحزاب السياسية ذات التوجهات الاسلامية، دون ان يشتركوا في قياداتها كما كان سابقاً، مع ان هذه الاحزاب كانت وحدها تعمل في الساحة وتتصدى لمعارضة الانجليز وهي (حزب النهضة العراقية والحزب الوطني العراقي) واللذان كان لهما دور رئيسي في حركة المعارضة السياسية.

صحيح ان دعم بعض العلماء لهذين الحزبين اعطاهما زخماً جماهيرياً كبيراً لكن عدم اشتراكهم في التشكيلات التنظيمية افقد الحزبين عنصراً مهماً من عناصر الدعم والقوة والعمل، فسهل على الانجليز انهاؤهما بقرار واحد في آب 1922.

بعد ذلك لم تتكرر تجربة الحضور العلمائي في الميدان الحزبي رغم ان علماء الدين كانوا يتصدون للمعارضة السياسية ـ الساخنة ضد السلطة وهي تلك التي تركزت حول الموقف من انتخابات المجلس التأسيسي حيث اصدر المراجع فتاواهم بمقاطعة الانتخابات مما احرج الانجليز واضطروا لاستبدال اكثر من وزارة حتى اقدم عبدالمحسن السعدون على خطوته اللئيمة التي ابعد فيها المراجع الى ايران في 26 حزيران 1923.

وبإبعاد علماء الدين ومراجع المسلمين من العراق، لم يشهد العمل الحزبي اي تنسيق اوتعاون بين الاحزاب السياسية والاوساط العلمائية.

فلقد غاب العمل الحزبي الاسلامي بعد ان غاب الدور السياسي الاسلامي بشكل عام، كما اختفى التحرك الاسلامي بصورة عامة منذ عام 1924 لاسباب كثيرة ـ الاّ في حالات نادرة ولوقائع محددة تنتهي بانتهاء تلك الواقعة، مما ادى الى بروز حركات اخرى لا تمّت الى الاسلام ـ وساهمت في ذلك السياسة العامة للحكومة العراقية والسياسة البريطانية في محاصرة التصدي الاسلامي للسياسة وامور الدولة.

وبالتدريج اصبح التفكير بالامور السياسية يعتبر عزوفاً عن الورع والتقوى، ونشأت اجيال على ذلك وتعطلت احكام الاسلام.

يقول آية الله السيد مرتضى العسكري وهويصف تلك الحالة:

«كان هناك انصراف عن التفكير في الحكم الاسلامي، وهذا يعني انصرافاً عن التفكير في اجراء قسم كبير من الاحكام الاسلامية، القصاص، الديات…»

كنا ندرس شرح اللمعة، والطلبة عندما بلغوا باب احياء الموات تركوا دراسة هذا الباب لأنه لا حاجة اليوم به، فلماذا نقرأه؟

هكذا كانت تتعطل الاحكام الاسلامية حكماً بعد حكم ونحن لا نحسّ بذلك.

بعيد الحرب العالمية الثانية انتشرت الشيوعية في العراق وكذلك انتسبوا الى القومية الناصرية اوالبعثية.

ولم يكن اي صوت اسلامي، كنت قد كتبت كتاباً سميته بـ «الأمراض الاجتماعية» قلت فيه ان هذا العملاق يعني المسلم خدّر وهويعيش في خدر لذيذ.

يقول الامام الصادق سلام الله عليه: ان الوجع نعمة، سئل لماذا؟

قال: لأن المرض موجود فاذا لم يكن الانسان يحسّ بالوجع لايداويه. كان المرض موجوداً ولكن لاشعور ولا احساس ولا ادراك بوجود المرض…

ثم ماذا حدث في العراق بعدما كانت الأمة غافلة سادرة لاتجد من يوقظها من رقدتها ويبعث فيها امل الحياة في الاسلام، حتى قيض لهم الله الفئة المؤمنة من الدعاة الذين بعثوا فيهم الحياة من جديد».

فالكلام بالسياسة وبحاكمية الاسلام في تلك الايام، كان يواجه بالصدود والاستهجان،ولذلك فان الصفوة المؤمنة وعلى رأسهم الامام الشهيد الصدر كانوا يواجهون ثقافة نشأت عليها اجيال ترفض كل شي يدعولتغيير الواقع الذي ألفوه، بل ان بعضهم كان يرى ذلك منازعة لوظيفة الامام المهدي(عليه السلام)، حتى ان بعض الاصوات كانت تتمنّى ان يبتعد الناس عن الدين وتمتلئ الارض بالشرور والظلم والجور، ليعجّل ذلك في ظهور المهدي(عليه السلام).

ولعل اهم قضية بادر اليها حزب الدعوة الاسلامية والتي سبّبت له مشاكل ومتاعب من يوم تأسيسه الى الآن، هي ان هناك جدلا بين من يدعوالى الاصلاح الآني التدريجي وبين من يدعوالى التغيير والانقلاب فاختارت الدعوة القسم الثاني.

فالقسم الاول يرون ان بالامكان ان تبذل الجهود في سبيل الدعوة الاصلاحية اذ من الممكن مثلا قيام حملات لمقاومة الانحلال الخلقي والخلاعة والسفور وتعاطي المسكرات والمخدرات بتنظيم جماعة للحفاظ على مظاهر شهر الصيام بالترغيب والترهيب اولجمع الزكوات واستثارة العواطف الاسلامية من الاغنياء وتوزيع تلك الاموال على الفقراء والمعوزين وهكذا في كل الاعمال الاخرى.

وقد نقل لنا صورة ذلك آية الله السيد العسكري اذ يقول:

(كان المتدينون يطلبون من الحكومة ان تعمّر العتبة المقدسة كربلاء، المنارة مثلا اوالاضاءة، واما العامة فاذا سمح لهم بأن يخرجوا موكب القامات فالمتصرف متصرف جيد…).

والقسم الثاني وهو الذي كان يتبناه حزب الدعوة، فانهم يقولون:

ان الواقع الاجتماعي للأمة اليوم واقع فاسد من جذوره، والقيام بدعوة اصلاحية اعتراف ضمني بان الواقع سليم في اسسه وانه انما يحتاج الى الاصلاح والتنقيح، مضافاً الى هذا ما تقوم به الدعوة الاصلاحية من إبعاد الامة عن معركتها الاساسية مع قوى الفكر واشغالها بأمور جانبية من صراعها العنيف وإسدال الستار على التناقض المرير القائم بين متبنياتها من مفاهيم وأنظمة وبين ما يفرض عليها من افكار وقوانين، الامر الذي يؤدي بالتالي الى انخفاض وعيها الحقيقي لواقعها الفاسد.

فطبيعة الدعوة الاصلاحية اذن لاتتفق مع طبيعة الاسلام وواقع الامة اليوم، ولهذا فان الدعوات الاصلاحية ترتكب خطأ عندما تدعي ان عمليات الاصلاح التي تقوم بها هي قضية الاسلام التي لابد للأمة ان تتبناها.

ان قضية الاسلام اليوم ليست مسألة منظمة تجمع الزكوات من بعض المحسنين، اوجماعة تؤدب المتجاهرين بالإفطار اوتحثّ على الحجاب اوتطالب بزيادة اجور العمال وانما هي قضية التغيير الكلي والانقلاب الشامل، فكل محاولة لتغطية هذه الحقيقة وابراز حاجة الأمة بشكل غير شكله الحقيقي تكون تضليلا للأمة وإبعاداً لها عن جهادها الحقيقي مع قوى الفكر والتسلط ولكن هذا لايعني بحال من الأحوال ان تكون الاعمال التي تقوم بها الدعوات الاصلاحية خطأ ولايعني جواز اهمال تلك الأعمال واعتبارهالغواً، فان القائمين بها مبرورون في عملهم، مثابون عليه، ولكن الخطأ في جعله هوقضية الاسلام الكبرى وليس غيره.

ان الدعوة الى السلوك الخلقي النظيف وتطهير المجتمع من مفاسد الانحلال ليست دعوة خاطئة وانما الخطأ القيام بذلك على شكل دعوة اصلاحية للواقع القائم، على أنها قضية الاسلام وهدف الاسلام، لأن الهدف الحقيقي للاسلام هوقلب الواقع لا ترميمه، فحين يدعى الى القضاء على الرذيلة والشذوذ لابد ان يدعى اليه على انه جزء من عملية التغيير والانقلاب في الأمة.

وحين تكون الدعوة اليه قائمة على هذا الاعتبار تصبح دعوة الى جانب من جوانب الانقلاب الاساسي الشامل، وهي وان لم تختلف في المظهر عن الدعوة الاصلاحية الاّ آنهاتختلف عنها في الوعي وفي الفكرة التي تحملها، وكذلك الأمر في الدعوة الى احباط المعاهدات والاتفاقيات والأحلاف الاستعمارية وكل الأعمال الاصلاحية.

وعلى هذا فليس من طبيعة الدعوة الانقلابية ان تمتنع عن القيام بمثل تلك الدعوات وانما من طبيعتها ان تنظر الى كل شي تدعواليه نظرة انقلابية بصفته جزءً من كل، وهي لذلك تؤكد وتشرح للأمة دائماً عدم رضاها عن الواقع بكامله وتوضح ان دعوتها لمحاربة تعاطي المسكرات والمخدرات في مدينة اومحلة ليست لأن الواقع يتطلب اصلاحاً في هذا الجانب وحسب، بل باعتبار ان جزءً من المخطط الاسلامي الانقلابي قد تهيأ له من الاسباب والاجواء ما لم يتهيأ لمحاربة الربا والقمار والرشوة مثلا، وليس من الصحيح شرعاً ان يقال ان الدعوة الانقلابية لاترضى بتوجيه جهودها الى هذه الامور البسيطة، فان الانقلاب الشامل لايمكن ان يحصل دفعة واحدة في كيان الأمة، وحتى اذا اصبح الحكم اسلامياً فان هذا لايعني في بعض الحالات الانقلاب الشامل وانما هوالجزء الذي يختص بالحياة السياسية من الانقلاب.

الانقلاب اذن شي يسار فيه بالتدريج وتكون كل مرحلة فيه وكل خطوة فيه ممهدة للخطوة الاخرى، وكلما تهيأت الظروف والشروط الى تطبيق حكم شرعي واحد من احكام الاسلام فلا يجوز اهمال الدعوة اليه. ومادام الوعي الذي ترتكز عليه الدعوة اليه في محاربة المنكر واقامة المعروف وعياً انقلابياً، فسوف يكون نجاح الدعوة في كل جزء كسباً للانقلاب ذاته وتقريباً للأمة نحو الحياة الاسلامية الكاملة.

ان خطأ الدعوات الاصلاحية يكمن في وعيها لا في عملها الاصلاحي ونحن مع ايماننا بالدعوة الانقلابية الجذرية لانرى جواز اهمال المجال الاصلاحي وانما نرى ان يفهم بروحه الانقلابية وباعتبار انه جزء من كل مما يريده الاسلام.

ولذلك فان الدعوة الاسلامية كانت تدرك منذ اليوم الاول مدى الحملات المخططة في عملها ضد الاسلام وتوجيه الأمة الى المطالبات الآنية باصلاحات قد توافق عليها الحكومات وقد لاتوافق طبقاً لمزاجية الحكام وسياستهم والظروف التي تحيط بهم، وهي اذا ما وافقت يوماً على بعض الاصلاحات، فلربما تتغير ظروفها وسياستها واشخاصها فتعمد الى تلك الاصلاحات وتعيد الأمور الى ما كانت عليه، وتبقى القاعدة الاساسية للحكم قاعدة ليست اسلامية وانما هي قوانين وضعية تحمل عداء للاسلام.

ثم اصدرت الدعوة منشوراً الى الدعاة في عام 1380 هـ وكانت الدعوة في بداياتها لكي يتثقفوا عليه ويتخذوه نبراساًلهم في مسيرتهم الطويلة.

وقد كان المنشور ذلك قد حرره الشهيد الصدر بمشاركة بعض اخوانه الآخرين تحت عنوان (دعوتنا الى الاسلام يجب ان تكون انقلابية، اذ يبدأ المنشور هكذا:

ايها الدعاة المؤمنون المجاهدون في سبيل الاسلام لإعادة سيادته السياسية ووجوده الدولي.

في هذه الفترة من تاريخ الأمة الاسلامية انبثقت من هنا وهناك دعوات اسلامية كثيرة تستهدف بناء كيان الأمة واستئناف وجودها الاسلامي، ويمكننا ان نقسم هذه الدعوات الى قسمين: دعوات اصلاحية ودعوات انقلابية:

فالدعوة الاصلاحية هي التي تستهدف اصلاح جانب معين من جوانب الواقع متغاضية في حقل نشاطها العملي عن سائر جوانبه الاخرى وعن الركائز الاساسية التي يبتني عليها هذا الواقع بصورة عامة.

اما الدعوة الانقلابية فهي التي تدرك الواقع الذي تعيش فيه امتها ولاتدين بهذا الواقع لانه يناقض مبدأها جملة وتفصيلا فتعمل على تغييره وذلك بحمل رسالة فكرية تبشّر بها لانشاء الحياة على قواعد تلك الرسالة وركائزها المحددة حياة جديدة يعيش فيها الفرد وينتظم المجتمع وتعمل فيها الدولة.

ويواجهنا قبل كل شي، السؤال عن الطابع الذي يجب ان تتخذه الدعوة الاسلامية وهل هوالطابع الاصلاحي اوالطابع الانقلابي؟ ومن الضروري ان نحدد الجواب في ضوء الظروف التي يعيشهاالاسلام ومدى وجوده في واقع الامة الاسلامية، فالاسلام اذا كان هوالقاعدة الرئيسية التي يبتني عليها نظام الحياة فان على الدعوة الاسلامية ان تتخذ الطابع الاصلاحي.

وقد كان الاسلام حتى الظرف الذي انتهى بنهاية الحرب العالمية الاولى هو القاعدة الرئيسية التي يبتني عليها كيان الامة كلها، وكانت العقيدة الاسلامية هي القاعدة الفكرية للامة والقاعدة الدستورية للدولة والاساس العام لمختلف الوان النشاط الفردي والاجتماعي والسياسي.

غير ان اعتبار الاسلام هو القاعدة من قبل الأمة بما فيها السلطة لم يكن يعنى عدم وجود الانحراف عنها وعدم وقوع المخالفة والتحريف والاحتيال عليها، فقد كان يختلف مدى الثبات على هذه القاعدة باختلاف مدى وعي الأمة للاسلام ومدى اخلاص الحكام.

ومن الواضح ان ظرفاً للاسلام كهذا كان يتطلب بسبب ظهور الضعف والخلل الكبير في كيان الأمة والدولة ـ قيام دعوات ذات طابع اصلاحي لا انقلابي، كما قامت بالفعل عدة دعوات اصلاحية استهدفت الحفاظ على القاعدة الاسلامية للدولة اواصلاح الجوانب التي لاتنسجم مع هذه القاعدة.

واما حيث يفقد الاسلام مركزه من القاعدة الاساسية ويستبدل بغيره من القواعد المعادية اواللاقاعدة فان الدعوة الاسلامية في هذه الحالة يجب ان تكون انقلابية. وهذا هو الواقع الذي تعيشه الأمة منذ نهاية الحرب الاولى، اذ قوّض المستعمرون الدولة الاسلامية ودخلوا بلاد المسلمين وتقاسموها فيما بينهم، وما ان تمت عملية الاستعباد هذه للعالم الاسلامي حتى تمّ بذلك انقلاب كلي في حياة الأمة فأقصت العقيدة الاسلامية عن موقعها من القاعدة الرئيسية لكيان الأمة ووضعت الأمة في أطر فكرية وسياسية غريبة عن عقيدتها من الديمقراطية الرأسمالية في كثير من المناطق الاسلامية ومن الاشتراكية في البلاد التي تخضع لحكم روسيا.

ان الواقع الذي لاشك فيه أن استبدال انظمة الحكم والمجتمع بأنظمة اخرى لايعني مجرد تغيير قانون بقانون، ولا يعبر عن حادث طارئ في كيان الأمة، بل هو يعبر عن استبدال جميع الافكار والمفاهيم الاساسية عن الحياة والكون التي ترتكز الانظمة السابقة للحكم والمجتمع عليها بالافكار والمفاهيم التي تقوم عليها الانظمة الجديدة.

وعلى هذا فقد كان الثمن الذي دفعته الأمة للمستعمرين غالياً جداً، فقد كلفها ذلك التنازل عن رسالتها في الحياة وسر أصالتها في المجال الفكري والدولي معاً، وكلفها التبعية والخضوع لاعدائها الظالمين وكتب عليها ان تستجدي افكارها ومفاهيمها من ابناء اعدائها الصليبيين القدامى.

ان قضية الاسلام في مثل هذه الظروف ليست قضية اصلاح، بل قضية انقلاب، والدعوات الاصلاحية التي قامت بانشاء المدارس الدينية تارة واصدار الكتب والمجلات الاسلامية تارة اخرى، وتأسيس لجان الوعظ والارشاد مرة ثالثة، ونحوذلك من الوان الخدمة، ان هذه الدعوات وان قدمت للاسلام خدمات جلى تذكر فتشكر، ولكنها لاتعدوجميعاً ان تكون اعمالا جانبية وليست من صميم المعترك، فان المعركة الرئيسية التي يخوضها الاسلام اليوم مع اعدائه انما تستهدف قبل كل شي استرداد القاعدة للاسلام وجعل العقيدة الاسلامية في موضعها الرئيسي من حياة الامة والقضاء على الواقع الفاسد والكيان القائم برمته، وليست المدارس في مناهجها الدراسية ولا الصحف والمجلات بافكارها ومفاهيمها ولا المحطات ببثها وبرامجها الاّ ادوات بيد السلطة الحاكمة ونتائجها تتمخض عن قواعد المجتمع الذي تنشأ فيه، فلا يمكن ان يضمن تطويرها تطويراً اسلامياً الاّ اذا امتدت الدعوة الى الاسباب الرئيسية التي تمون تلك الادوات بطابعها وسياستها واهدافها.

الأمر ليس امر شبيبة تفسدها المدارس ولا أمر جماعة تحتاج الى وعظ وتوجيه ولا أمر بيئة يجب ان تهذب وتنظف من الدعارة والفساد، بل امر أمة يجب ان تقام على اساس الاسلام لتسعد في الدنيا والآخرة وتقبض على المفتاح الذي يفتح لها بركات الارض والسماء «ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض».[2]

ولهذا فان دعوتنا انقلابية لانقاذ الامة من واقعها الفاسد، متمثلة بذلك امر الله تعالى « يا ايها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وانفسكم، ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك هوالفوز العظيم واخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشّر المؤمنين».[3]

ان الامة التي كانت سادرة في سباتها ولا يعنيها من امور السياسة وتغيير الأمة شي، عندما تأسس حزب الدعوة الاسلامية وطرح تلك الافكار الجديدة، فكأنها أفاقت من سباتها، فسار البعض على منوال الوعي والادراك وتخبّط آخرون من شدّة الرجّة، فرفضوا هذا الفكر الجديد وبدأوا يخططون للقضاء عليه ويطلقون على الدعاة ما يرد على ألسنتهم من تهم واباطيل لكي يثنوهم عما يعتزمون.

وكان الامام الشهيد الصدر يدرك وهويتصدى لتأسيس حزب اسلامي في 17 ربيع الاول 1377هـ اواخر عام 1957 م، ان هذا الأمر سيثير الكثير من الاشكالات، حيث كان الوسط الذي يعيشه يعاني من حالة التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي، في نفس الوقت كانت الاوساط الدينية تستنكر العمل السياسي بشكل عام واسلوب العمل الحزبي في الدعوة للاسلام بشكل خاص.

فبادر السيد الصدر للدفاع عن العمل الحزبي قائلا «ان اسم الدعوة الاسلامية هو الاسم الطبيعي لعملنا والتعبير الشرعي عن واجبنا في دعوة الناس الى الاسلام، ولا مانع في ان نعبّر عن انفسنا بالحزب والحركة والتنظيم، فنحن حزب الله وانصار الله وانصار الاسلام ونحن حركة في المجتمع وتنظيم في العمل، وفي كل الحالات نحن دعاة الى الاسلام وعملنا دعوة الى الاسلام».

وحول مشروعية هذا العمل يقول «وحيث ان الشريعة الاسلامية لم تأمر باتباع اسلوب محدد في التبليغ والتغيير جازلنا شرعاً انتهاج اية طريقة نافعة في نشر مفاهيم الاسلام واحكامه وتغيير المجتمع بها مادامت طريقة لاتتضمن محرماً من المحرمات الشرعية، واية حرمة شرعية في ان تتشكل الأمة الداعية الى الخير الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر في هيئة وجهاز وتكون كياناً موحداً وفعالية منتجة في الدعوة الى الله عزوجل».

ولقد احسن آية الله السيد محمود الهاشمي ـ احد ابرز تلامذة الشهيد الصدر ـ في حديثه عن تلك الفترة، نقلتها عنه صحيفة جمهوري اسلامي الفارسية بتاريخ 19/1/1361 اذ يقول:

«لقد أسس الشهيد الصدر هذا الحزب على اساس الاصول الفقهية وعلى اصل ولاية الفقيه، ويمكن القول بجرأة: ان هذا الحزب هو اول حزب في تاريخ التشيع تكوّن على اساس ولاية الفقيه وعلى سير خط جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)، ومن المعلوم ان حزب الدعوة كان موضع غضب القوى الكبرى وعملائها في العراق فقد أصدروا القانون المعروف على ان كل من ينتمي الى حزب الدعوة او انتمى او يتعاون معهم بشكل مباشر او غير مباشر، فهو محكوم بالإعدام.

لقد كان الشهيد الصدر بمثابة الفقيه والأب الفكري والروحي لهذا الحزب، وكان السيد الشهيد الصدر احد الذين طرحوا فكرة الحزب إن لم يكن السيد الشهيد المقترح الأساسي لحزب الدعوة، وكان قصد الشهيد من هذا التنظيم انتشاره بين طبقة المثقفين والطلبة الجامعيين لكي يكونوا عوناً وسنداً سياسياً واجتماعياً لخط المرجعية وولاية الفقيه، وكان الشهيد يحسّ بأن هذه الفرصة يجب ان تغتنم والاّ ـ وبسبب عدم وجود تنظيم قوي مبني على اساس ولاية الفقيه في الشباب خصوصاً الجامعيين والمثقفين ـ يتجهون صوب التنظيمات الاخرى اللاإسلامية او النصف اسلامية او الاسلامية المبنية على غير هذا الخط، لهذا رأى في هذا الأمر ضرورة ملحة وطرح هذا الأمر وبقي يغذي التنظيم غذاءاً وبالتدريج نمت هذه البذرة التي بذرها الشهيد في الواقع بشكل حزب الدعوة الذي تنامى خصوصاً في طبقة الجامعيين والمثقفين، وفي تلك الفترة كان اغلب هؤلاء بشكل او بآخر ذا ارتباط مع هذا الحزب.

ان الكادر المركزي لحزب الدعوة يسير على هداه ويؤمن بلياقته الفقهية والايديولوجية ويمكن القول بان (95%) من الجوانب والمواضيع الفكرية لحزب الدعوة كانت تستلهم من كتابات وافكار الشهيد الصدر».

وكان لابد لكل فعل من رد فعل يتناسب مع الفعل نفسه وكان البركان الذي فجرّه حزب الدعوة الاسلامية في النجف بركاناً عظيماً احدث هزة في كثير من الاعراف التي اعتادها الحوزويون والتي نشأوا عليها وتعايشوا معها، وهم دائماً ضد كل جديد، والماضي يعتبرونه يمثل الخير والبركة، فالالتزام به والمحافظة عليه من مهمات كل فرد.

وكان المناوئون للدعوة يوجهون شتى التهم للفكرة ولأصحابها.

ومما كانوا يثيرونه: ان العمل الحزبي حرام في الاسلام، وهي تهمة ظاهرة الخلل والبطلان.

فقد جاء في كتاب (من الفقه السياسي في الاسلام) لمحمد صالح جعفر الظالمي كلام لآية الله السيد محسن الحكيم يقول «بسم الله الرحمن الرحيم، ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة،[4] والدعوة الى الاسلام ليس لها طريقة خاصة، فكلما يراه المبلغ أجدى وأنفع يلزمه العمل به».

ويقول آية الله السيد ابوالقاسم الخوئي: «بسمه تعالى شأنه ليس للدعوة الى الاسلام اسلوب خاص بل الداعي اذا توفرت فيه شروط الدعوة من العلم والعمل، له ان يدعو بأي اسلوب يراه مناسباً ومؤثراً».

وقد ذكر ان احدهم اراد ان يطعن بالشهيد الصدر امام استاذه السيد الخوئي وانه اسس حزباً، فقال الاستاذ (لو أسس السيد محمد باقر الصدر حزباً فاني اول من اسجل اسمي فيه).

اما المرحوم الامام الحكيم فان كل تصرفاته كانت تنبئ عن رضاه عن حزب الدعوة الاسلامية وتبنيه له.

ولسنا هنا نريد ان نثبت هذه القضية فالشواهد والاقوال كثيرة، كان منها لقاؤه بوفد حزب الدعوة الاسلامية الذي كنت احدهم، حيث التقينا بالامام الحكيم يوم 9/6/69 واخبرناه بان المعلومات المتوفرة لدينا تشير الى ان العفالقة ينوون شراً بالمرجعية واعلن الحزب عن استعداده لتحمّل مسؤولية المواجهة والوقوف بوجه السلطة وان بامكانه ان يثير الشعب من الجنوب الى الوسط، العشائر والأهالي حتى اذا كان يقدم الحزب مئة شخص من كوادره بشرط موافقتكم على ذلك.

اما الامام الحكيم فبعد استماعه لتقرير الحزب، اجابهم بهذا النص «لا.لا.لا أريد ذلك، ينبغي ان يكون حزبكم مكتوماً اي مخفياً».

وكان يشير بوضوح الى خوفه على الحركة من ان تكشف وتضرب.

ولقد كانت مكتبات (آية الله الحكيم العامة) مجالا خصباً للتعاون بين الدعاة وبين الامام الحكيم، تلك المكتبات التي انتشرت في مدن العراق بتخطيط من الدعاة انفسهم.

وصورة اخرى للتلاحم بين الدعاة والامام الحكيم هو اعتماده رحمة الله على وكلائه الدعاة وعلى رأسهم آية الله العلامة السيد العسكري الذي كان ولايزال شعلة من الحركة والتصدي لقضايا الاسلام والمسلمين.

اما ما يثار حول طلبه من ولده الشهيد السيد مهدي بالانسحاب من الحزب عام 1962، فليس ذلك لشبهة في العمل الحزبي وانما لأنه كان يجد ان الكيان المرجعي لاينبغي ان يحسب على فئة دون اخرى وانما هو لعامة المسلمين.

وهو ما فعله الامام الشهيد الصدر كذلك. والفتوى التي صدرت من الشهيد عام 1974 بحرمة انتساب بعض افراد الطلبة في الحوزة الى حزب الدعوة، فهي لحفظ الكيان الحوزوي في البقية الباقية من الطلاب بعد الهجمة الشرسة التي قام بها النظام الجائر في العراق ضد الحوزة بصورة عامة.

وقد تنبّه حزب الدعوة الاسلامية من بداية تأسيسه الى الخطة الاستعمارية الخبيثة الرامية الى فصل العلماء عن الأمة وخصوصاً عن الطلائع الرسالية المثقفة وعزلهم من مجال العمل السياسي، لذلك كرّس حزب الدعوة جانباً من نشاطه ومجال عمله لاحباط هذه الخطة الخبيثة.

فقد عمل الحزب على تأكيد التفاعل التام بين الحركة والعلماء العاملين… وكان العلماء والطلبة العاملون في صفوفه يعملون على اتخاذ الوسائل والاساليب الضرورية لإذابة هذه الاثنينية.

وتشهد مئات الخطب والبيانات والاحتفالات والندوات الثقافية التي كان يقيمها الدعاة في انحاء مختلفة من العراق، وفي المناسبات الاسلامية الهامة، والتي لايزال الكثير منها محفوظاً، مكتوباً اومسجلا على شكل اشرطة اومحفوظاً عن ظهر قلب، وتنظيم المسيرات والتظاهرات والوفود الى المرجعية لإسناد موقفها. وتحتفظ ذاكرة الشعب العراقي والعاملين في هذا المجال بالأحداث والأعمال.

كما وقف حزب الدعوة الاسلامية الى جانب المرجعية ايام الحكم العارفي بوجه خططه الاشتراكية وطائفيته المتحجرة والروح العنصرية التي حاول هذا النظام بثها.

وتأكيداً على ايجاد تفاعل حي ومتماسك بين العلماء ووكلاء المراجع وبين جيل الشباب، وجهت الدعوة امراً الى دعاتها بالالتفاف حول العلماء وأئمة المساجد الواعين ووضع خطة لتحريك العلماء الذين لايهمهم امر المشاركة في النشاط الاسلامي.

وعلى رغم المعوقات التي اعترضت المؤسسة الحزبية في بداية نشوئها، تلك المؤسسة التي سقاها الشهيد الصدر بافكاره ومشاريعه فانها بدأت تنفذ الى الحوزة في النجف الاشرف بطريقة انسيابية سريعة، ثم بدأت الأمة تلمس ثمرة هذه البذرة المباركة.

فبعد ان كانت القرى والارياف في العراق بالذات، لايذهب اليها المبلغون، فقد كان الشهيد الصدر يرسل لها تلامذته ومحبيه من الحزب الذي رعاه، يرسلهم الى هناك ويأمرهم ان لايأخذوا من الناس اجراً على عملهم التبليغي لأنه هو (الشهيد) تكفل برزقهم وتدبير شؤون حياتهم.

فوجدت الامة بهذه الحركة ظاهرة جديدة لم تألفها منذ عدة عقود مما جعلها تنسجم مع الدين والوعي والحوزة اكثر وتتأثر بالمراجع الذين يتقربون اليها.

فالحوزة كانت هي الباب المغلق على كل من يريد اقتحامه، ولكن الامام الصدر بمؤسسته الحزبية استطاع ان ينفذ اليها من بابها الواسع، تلك الحوزة التي كانت تكيل التهم للامام الشهيد ولمؤسسته، تغيرت واصبحت تحمل نفس الافكار والمفاهيم، وكان من الطبيعي ان تبقى فئة تعيش العناد والمكابرة، وذلك ديدنهم حتى مع الانبياء والمرسلين.

واذا كانت النجف قد انفتحت ابوابها، فان النفوذ الى الجامعات والى الأمة كان أيسر من ذلك.

فطلاب الجامعات الذين كانوا يتبجحون امام زملائهم انهم يشربون الخمر  ويقترفون المنكرات، تبدلت حالتهم، واصبحت لهم مصليات في اغلب الكليات، تقام فيها الصلاة ويذكر فيها اسم الله ويتم فيها الوعظ والارشاد من قبل الطلاب انفسهم.

ونقتبس هنا ما جاء في جريدة لواء الصدر الصادرة بتاريخ 25 ربيع الثاني/1403هـ، اذ تقول:

«وعاشت الجامعات العراقية افضل ايامها الاسلامية خلال السنوات العشر الاخيرة، فقد توسعت دائرة النشاط الاسلامي بجهود الصفوة المثقفة من الدعاة الى الله ونشطت ظاهرة الاستقطاب الشعبي الذي قادته الطليعة الرسالية المؤمنة بطريق ذات الشوكة والتفّت حولها الجماهير باعتبارها القوة الاكثر تأثيراً وفاعلية على تحريك الساحة العراقية في الوسط الجامعي… فصارت الجامعة مركزاً لانطلاقة إسلامية متصاعدة، وكان النشاط واضحاً جداً في جامعات بغداد والبصرة والموصل والسليمانية، مما اثار ثائرة السلطة الباغية واشعرها بأن هناك موجة اسلامية عارمة ستكتسح الساحة ان لم تواجه بقوة وعنف».

ولعل سبب النجاح ذلك، هو: خلو الساحة التي تحرك فيها الدعاة من العمل اسلامي المنظم، والظرف السياسي المواتي والصدمة النفسية التي هزت المشاعر لدى جمهور المسلمين والاستعداد الكامل لدى مجموعة الصفوة للعمل الاسلامي، ناهيك عن شخصية الامام الصدر الذي كان نابغة زمانه في الفقه والاصول والفلسفة والوعي بصورة عامة.

ثم لاننسى ان معروفية مثلث القياديين (الصدر والعسكري ومهدي الحكيم) كان يضفي على العمل صدقيته وحركيته ومقبوليته لدى الأمة.

وعلى رغم معروفية اولئك القياديين فان العمل الحزبي كان يتسم في بداية نشوئه بالسرية. ويقول الشهيد بهذا الصدد في نشرة داخلية:

«الطريقة العامة في عمل الدعوة في هذه المرحلة هي السرية، لأن الدعوة يجب ان لاتبرز الاّ في الوقت الذي تصبح فيه من الناحية الكمية والكيفية بدرجة من الاتساع والصلابة تجعل من العسير على اعدائها خنق انفاسها والقضاء عليها.

والسرية التي نعنيها في هذه المرحلة هي سرية تنظيم الدعوة وسرية الأعضاء والخطط والاجتماعات والتحركات التنظيمية، فلا يجوز للداعية ان يكشف للناس وجود الدعوة اواسماء من يعرف من الدعاة حتى لوتعرّض للأذى والضرر لأنه لايجوز في الاسلام ايقاع الضرر بالغير حتى لدفعه عن النفس، مضافاً الى ان كشف الدعاة يوقع الضرر بمصلحة الدعوة.

واما الافكار والاهداف التي تتبناها الدعوة فليست سرية ولا داعي للتكتم بها».

فما هي اهداف حزب الدعوة الاسلامية؟

اننا نستطيع ان نجملها فنقول:

يسعى حزب الدعوة الاسلامية الى اعادة الاسلام لحياة المسلمين من جديد، بعد ان عمل اعداء الاسلام وسعوا في اقصائه عنها.

ذلك ان المستعمرين الكافرين بذلوا جهوداً كبيرة في هذا الصدد، فأقصوا الاسلام عن حياة المسلمين في مجال الحكم والادارة والفكر والثقافة والأعراف، حتى في المصطلحات والأزياء والاخلاق، وعملوا على مسخ الشخصية الاسلامية والاسرة المسلمة والمجتمع الاسلامي.

ومن هنا فان شهيدنا الصدر والثلة المؤمنة الذين وعوا الحالة كانوا يبذلون جهودهم ويعملون على عودة الاسلام وتحكيم شريعة الله في المسلمين، بل وعلى كل الأرض واقامة حدود الله تعالى وتغيير النظام الجاهلي المتحكم فعلا في المجتمع الاسلامي في مجالات الحكم والادارة والاقتصاد والحرب والدفاع وتبديله بالنظام الاسلامي الذي ارتضاه الله تعالى لعباده.

ولا شك ان عملية التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الواسعة هذه لابد ان تنطلق من عملية تغيير داخلي وذلك وفق قوله تعالى «ان الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».[5]

ولذلك فلابد من السعي في تجديد بناء الشخصية الاسلامية والاسرة المسلمة بكل مقوماتها من تربية وثقافة وسلوك.

وقد قطعت الدعوة الاسلامية شوطاً مباركاً في اعادة الشخصية الاسلامية والأسرة المسلمة وتوثيق صلتهما بالله عزوجل، وتعميق روح العبودية والخشوع والتسليم لله في نفس الانسان المسلم، كما نشطت في اعادة الحياة الى الأعراف والمفاهيم الاسلامية.

ومن الاهداف المرحلية في خط سير الدعوة:

1ـ على الصعيد الفكري عمل حزب الدعوة الاسلامية على بعث الفكر الاسلامي الأصيل من جديد وازالة ما ادخل عليه وما الصق به من شبهات من قبل اعداء الاسلام التأريخيين ومن بعدهم المستشرفين عملاء الاستعمار الكافر ونشر الوعي الاسلامي في صفوف الأمة.

2ـ وفي اطار التنظيم والثقافة التنظيمية، لاحظ حزب الدعوة الاسلامية ان كثيراً من الحركات الاسلامية العاملة في الساحة تأثرت بتجارب لحركات لا اسلامية نجحت في بيئة تختلف تماماً عن البيئة الاسلامية، فعمل حزب الدعوة على بناء تنظيمه على اساس القرآن والسنّة.

3ـ وعلى المستوى السياسي، كانت الذهنية السائدة في التفكير والتقييم والتحليل السياسي عند الطبقة المثقفة من الأمة هي الذهنية الغربية التي صيغت في قوالب معينة غرضها الأول والأخير خدمة المصالح الاستعمارية في بلاد المسلمين فضلا عن السطحية السياسية  المنتشرة في الامة فوضع حزب الدعوة الاسلامية بين اهدافه هدف نشر الثقافة وتعميق المنهج الاسلامي في التقييم والتحليل السياسي وخلق الذهنية السياسية الاسلامية، التي ترى الاشياء بحقيقتها بعيداً عن التزييف والتضليل الاستعماري.

4ـ وفي الحقل الاجتماعي واجهت الدعوة مجتمعاً تسوده عادات وتقاليد واعراف متناقضة، بعضها كان اسلامياً في وجوده وقد فقد روحه ومغزاه، وبعضها كان غريباً دخيلا، وآخر جاهلياً منافياً للاسلام، فكان لابد لحزب الدعوة الاسلامية من اجل بناء المجتمع الاسلامي من تطهير المجتمع من التقاليد والاغراق الغربية وبعث الأعراف الاسلامية من جديد شكلا ومضموناً في حياة الناس.

5ـ ولما كانت العبادات والممارسات العبادية في الاسلام ليست اعمالا كهنوتية وطقوساً جامدة خالية من اي مضمون اوتأثير في النفس والمجتمع، فان حزب الدعوة ـ باعتباره حركة انقلابية ـ وضع في اهدافه مهمة تربية الأمة التربية الايمانية الصحيحة والتي لاينفصل فيها المضمون عن الشكل في العمل العبادي.

ولم يقتصر عمل حزب الدعوة الاسلامية على مساحة العراق فحسب، فهو كما قدمنا، كان ولايزال يطمح الى عودة الاسلام وتحكيم شريعة الله في المسلمين وعلى كل الارض.

وقد عمل في سبيل تحقيق هذه الأمنية مهما اوتي سبيلا، وانفتحت له الابواب خارج العراق من عدة قنوات، كان اهمها:

1ـ طلبة الحوزة وخصوصاً طلاب الشهيد الصدر الذين كانوا قد انتسبوا الى حزب الدعوة، وكانوا يرجعون الى بلادهم في مناسبات اشهر رمضان ومحرم وصفر من كل عام حيث تتعطل الدراسة في حوزة النجف، اويجدون انفسهم قد استوعبوا مقداراً من العلم فيرجعون الى بلادهم ليستقروا فيها علماء ومبلغين، فكان اولئك ينقلون الى هناك هذه الفكرة الجديدة (حزب الدعوة الاسلامية) وأنها من متبنيات الامام الصدر.

2ـ وكذلك من خلال طلاب البعثات العراقية الى اوربا بالخصوص الذين كانوا يبشرون بفكرة حزب الدعوة الى زملائهم من الجنسيات الاسلامية الاخرى.

وهكذا انتقل حزب الدعوة الاسلامية عبر الحدود العراقية الى كثير من بقاع العالم.

فلنقرأ هذا الخبر من حديث الشيخ عبدالعزيز عودة امام مسجد الشيخ عزالدين قسام في غزة بفلسطين اذ يقول:

«ان فكره (ويقصد فكر الشهيد الصدر) اشعل الثورة في قلوبنا و نفوسنا وفجّر الوعي في فكرنا وعقولنا في الوقت الذي كنا في جوع الى الفكر الاسلامي، بل ان بعض التنظيمات الاسلامية جعلت من كتبه منهاجاً لهم».

واذا كانت الرياح تسير باتجاه الامام الشهيد الصدر وفكرته الحزبية وتبشر بنجاحات كبرى في شتى المجالات في الداخل والخارج، فان المعارضين كانوا لايفتأون يحاولون عرقلة هذه المسيرة، فلقد اصبحت المسيرة شوكة في عيون الاعداء والمناوئين في الحوزة ذاتها.

اما الصنف الثاني فيحدثنا عنهم سماحة الشيخ محمد رضا النعماني الذي بقي مع الشهيد الصدر الى ان تمّ اعتقاله وشهادته عليه الرحمة والرضوان، وقد عايش افكاره وآماله وهمومه وآلامه، فلنستمع اليه:

«وحتى تأسيس حزب الدعوة الاسلامية الذي جعله البعض حربة لطعنه اوتشويه سمعته (اي سمعة الشهيد الصدر) بين ابناء الأمة، ما كان الاّ من اجل حماية الاسلام والأمة الاسلامية.

ومن الغريب ان البعض كان يسمح لأبنائه بالانتماء الى حزب البعث الصليبي ويحارب السيد الشهيد لتأسيسه حزب الدعوة الاسلامية، كان البعض ينتقد العلماء اثناء فترة الاحتلال الانجليزي للعراق فيقول:

انهم حرموا على ابنائنا دخول المدارس الانجليزية في العراق ولم يفتحوا لهم مدارس اسلامية واليوم اسس لهم العلماء حزباً اسلامياً ليحصنهم من الانتماء الى حزب البعث (العفلقي) او الحزب الشيوعي ومن الالحاد عموماً فاذا بهم كالبنيان المرصوص ضده، ولو أنهم وقفوا عند حدود معقولة وناقشوا الأمر بروح موضوعية وتعقّلوا مدى صحة هذا الاسلوب اوذاك لكان امراً سائغاً ومنطقياً، اما ان يعتبروا ذلك انحرافاً ويجعلوه حربة يحملونها بيد وتحملها السلطة باليد الأخرى فتسفك بها الدماء وتهتك بها الأعراض وتستحل بها الحرمات فهو امر بمكان من الخطورة جعل قلب الشهيد يتفجر دماً وروحه تفيض حزناً والماً.

ان الجهل الذي كان يملأ قلوبهم اوقل الحقد الذي اعماهم وأضلّهم، كان يخيل لهم ان المسألة محدودة بالشهيد الصدر ولن تتعداه الى سواه، فاذا كان اتهامه بالحزب خير وسيلة للقضاء عليه فليكن هوالاسلوب المتبع.

وكان رحمه الله حينما تبلغه الاتهامات والافتراءات التي توجه اليه من قبل بعض الأطراف في الحوزة يقول «ان السلطة ما استهدفتني من بين المراجع الآخرين الاّ بسبب ظروفي واوضاعي الخاصة، والاّ فان هدفها اكبر واشمل، انها استهدفت الوجود العام كله، المرجعيات كلها، والحوزات كلها بغض النظر عن فكرة الاتهامات الحزبية، وما ذريعة الحزب الاّ اداة لتظليل الناس».

واما اعداء الشهيد الصدر، من الاحزاب الاخرى، فانهم سلكوا سلوكاً آخر.

ففي عام 1962 كان قد توسع حزب الدعوة الاسلامية وانتشر في اوساط الحوزة العلمية في النجف اولا ثم في الجامعات العراقية، ومن ثم في ارجاء العراق.

وكان حزب البعث في العراق يخطط لانقلاب عسكري على عبدالكريم قاسم، ولقطع السبل امام الحركة الاسلامية ومنعها من ان تقف ضد مخططهم المنشود، بعد ان تأكدت السلطات والدوائر الاستعمارية ان هذا الكيان الرسالي قد ولد ونما في احضان الحوزة العلمية وانه يحظى بتأييد ورعاية المرجعية الدينية، بذلت جهدها وركزت نشاطها لعزل الحركة وقطع الأواصر بينها وبين المرجعية الدينية.فاوفدت (حسين الصافي) البعثي الذي كان يتزيا بزي رجال الدين للقيام بهذه المهمة الخبيثة، وتوجه الى المرجع الديني الراحل الامام السيد محسن الحكيم رحمة الله، وراح يبدي اهتمامه بالحوزة وخوفه عليها من وجود حزب سياسي يقوده السيد محمد باقر الصدر، وراح يؤكد من خلال كلامه ان الحوزة العلمية في خطر وأن حرصه واهتمامه هوالذي دفعه الى عرض هذه القضية على المرجعية الدينية.

اما المرجع الراحل السيد الحكيم، فقد كان يمتاز بخبرة اجتماعية ناضجة ومعرفة جيدة لأمثال هذه العناصر ودجلها، فكان يصغي له وحين اتمّ كلامه… سأله هل بقي عندك شي تقوله؟

وبنبرة تشعر بالانفعال وعدم الرضا.

ولم يكن حسين الصافي يتوقع مثل هذا الرد، فأجاب:

(العفو سيدنا… ليس لدي شي آخر، وان حرصي هوالذي دفعني الى ان اقول لكم مثل هذه الكلمة).

اجابه السيد الحكيم رحمه الله: وانت تتصور أنك احرص من السيد محمد باقر الصدر على الحوزة العلمية؟

فخرج الصافي يجر أذيال الخيبة.

لقد شعرت المرجعية ـ حينها ـ ان خطة خبيثة تخطط للاجهاز على السيد الصدر وعلى حزب الدعوة الاسلامية ككل، فأرسل الامام الحكيم رسولا هونجله (سيد مهدي) الى السيد الشهيد الصدر يخبره بالحادثة ويؤكد له ان يكون اباً راعياً للحركة من خارجها فهوأفضل من ان يكون في داخلها.

وحين ابلغ السيد الشهيد بهذا النبأ اصبح في وضع حرج… كان يبدو عليه التألم الشديد والانفعال من الموقف المعادي الذي وقفه حسين الصافي ووجد نفسه امام محاولة واستهداف من دوائر الاستعمار.

واخيراً قرر الشهيد الصدر ان ينسحب من قيادة الحزب وليس من الانتماء الفكري للحزب على ان يبقى يواصل توجيهه ورعايته وابوته للحركة، وان لم يكن في قيادتها.

ثم بدا للشهيد الصدر ـ عليه الرحمة ـ ان يمارس دور المرجعية ومهام الحوزة العلمية ويتفرغ لها بعدما تفرغ من مهام قيادة الحزب وكان يتمنى ان يصل الى درجة فيصدر فتوى يكون نتيجتها دخول ميليوني شخص الى حزب الدعوة الاسلامية.

وهنا لابد من ذكر نقطة مهمة عرضت للشهيد الصدر، ذلك انه رحمه الله كان يعتقد ان شكل الحكم لابد ان يتم بناء على نظرية (ولاية الفقيه) ثم غيّر رأيه فأصبح يعتقد بأن ذلك لابد ان يتم بناء على آية الشورى.

فالشك والتغيير في الرأي انما حصل في طريقة تشكيل الحكم، أهو بناء على ولاية الفقية اوالشورى ام انه شي آخر، وليس الشك في اصل العمل الاسلامي وتأسيس الحزب الذي يدعو الى تغيير الأمة وتعبيدها لله تعالى، ولا اتصور ان هناك من يرتضي بقاء الامة على جهلها وانحرافها بدعوى انه لايجوز تغيير الأمة بناء على آية الشورى.

ولكن البعض استغلوا هذه النقطة في تفكير الشهيد الصدر، وأرادو ان يتخذوها سيفاً ضد اصل العمل الاسلامي والحزبي.

في عام 1963 حدثت ثورة 15 خرداد في ايران التي قادها الامام الخميني رحمه الله.

وقد استثمر حزب الدعوة الاسلامية هذا الحدث، فراح ينشر أنباء الحركة الاسلامية هذه اولا بأول في الصحف اليومية في بغداد، كان الحزب ينشر فيها ان العلماء في ايران وعلى رأسهم الامام الخميني يريدون اقامة دولة اسلامية على انقاض حكومة الشاه.

ثم اقام الحزب مجالس الفاتحة، على ارواح الشهداء في الكاظمية والبصرة والنجف، كما وزع الحزب منشورات في تلك المناسبة تستنكر على الشاه اعماله العدوانية وجرائمه بحق علماء الدين والشعب الايراني المسلم.

وحين وصل الامام الى العراق قادماً من تركيا عام 1964، زاره وفد من الحزب في الكاظمية في اليوم الثاني من مجيئه ورحب بمقدمه واصفاً هجرته كهجرة النبي (ص) من مكة الى المدينة والتي اعقبها الفتح واعلن الوفد له الولاء والطاعة والاستماع الى توجيهاته.

وعندما ذهب الامام الى النجف، خرج الدعاة يستحثون غيرهم معهم لاستقباله من منتصف طريق كربلاء والنجف. وكذلك عندما استقر الامام بالنجف التزم كثير من الدعاة دروس الامام في الحكومة الاسلامية (ولاية الفقيه) وتبنّوا نشرها بين صفوف الدعاة والجماهير المؤمنة.

وكان لاصدار حكم الاعدام الجائر على الشهداء الخمسة من حزب الدعوة الاسلامية اصداء ساخنة غاضبة لدى شعبنا المسلم في العراق، وقد طلب الشهيد السعيد آية الله الصدر من الدعاة ان يبذلوا جهوداً كبيرة في سبيل انقاذهم رحمهم الله.

ومن جملة ما اقدم عليه في هذا الصدد ـ انه أوعز الى الشباب المؤمن بالتوجه الى المراجع العظام وعرض القضية عليهم من اجل ان يتخذوا الموقف الذي يتناسب وخطورة الحدث باعتبار ان إعدام هؤلاء يشكل انتهاكاً صارخاً لحرمة الاسلام والمسلمين.

وكان في مقدمة الذين زارتهم الوفود هم الامام الخميني رحمه الله وقد كان الامام في غاية التأثير وقال: يبدوان هؤلاء الحكام لايفهمون لغة الكلام.

ويقول احد تلامذة الامام: في ليلة وصول الخبر المشؤوم الى الامام ظهرت علامات التأثر على شخص الامام رغم ما عرف عنه من رباطة جأش وصلابة العظماء وقال: ارسلت الى هؤلاء المجرمين وقلت لهم ان والد الشاه سلك مع العلماء نفس الاساليب التي تسلكونها، فماذا كانت النتيجة؟ الآن الشعب الايراني يشتم ذلك الأب اللعين في الشوارع وسيأتي اليوم الذي يشتمكم فيه الشعب العراقي ايضاً.

وقد أبرق الامام ـ رضوان الله عليه ـ ببرقية الى الجهات الظالمة المسؤولة وكانت برقية احتجاجية رائعة تضمنت 96 كلمة.

كان ذلك قبل نجاح الثورة الاسلامية المباركة في 11/2/1979، ويوم نجحت الثورة كان اول من ايّدها في العراق الدعاة تلامذة الشهيد الصدر، وبالرغم من انهم كانوا يواجهون السجون والتعذيب والاستشهاد، فان المجرمين يخشون ان يحدث في العراق كما حدث في ايران لوجود القاعدة الاسلامية العريضة ولوجود القائد الصدر.

فكان المجرمون يطلبون من الدعاة المحكومين بالاعدام الظهور في التلفزيون والتبرؤ من الامام الخميني ليشملهم العفو، ولكنهم كانوا يرفضون الذل ويتقدمون الى المشانق.

وفي تلك الفترة، وبالتحديد بعد نجاح الثورة الاسلامية في ايران بأربعة اشهر فقط، فالثورة نجحت في 11/2/79، حدثت انتفاضة 17 رجب/1399 في 12/6/1979.

اصدر الامام الصدر ثلاثة بيانات ثورية وجهها الى الشعب العراقي بأكمله بشيعته وسنته، بعربه واكراده وسائر قومياته بالعزم على الجهاد والاتحاد لنيل حقوقهم المهدورة.

كان البيان الاول قد صدر بعد ثلاثة ايام من انتفاضة رجب اي في 15/6/79.والثاني في 5/7/79 والثالث بعده بأيام.

نقتطف منها بعض المقاطع التي يقول فيها:

يجب على كل مسلم في العراق وعلى كل عراقي خارج العراق ان يعمل كل ما بوسعه حتى لوكلّفه ذلك حياته من اجل مواصلة الجهاد والنضال للتخلص من هذا الكابوس الجاثم على صدر العراق الحبيب ويخلصوا انفسهم من هذه العصابة اللاإنسانية واقامة حكم عادل ونزيه يقوم على اساس الاسلام.

وأود ان أؤكد للمسئولين ان هذا الحكم الذي فرض بقوة الحديد والنار على الشعب العراقي وحرمته من ابسط حقوقه وحرياته في ممارسة شعائره الدينية لايمكن ان يستمر ولايمكن ان يعالج دائماً بالقوة والقمع وان القوة ما كانت علاجاً حاسماً دائماً الاّ للفراعنة والجبابرة.

يا شعبي العراقي العزيز… ايها الشعب العظيم اني اخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية بكل فئاتك وطوائفك… بعربك واكرادك بسنتك وشيعتك، لأن المحنة لاتخص مذهباً دون آخر ولا قومية دون اخرى، وكما ان المحنة هي محنة كل الشعب العراقي فيجب ان يكون الموقف الجهادي والرد البطولي والتلاحم النضالي هوواقع كل الشعب العراقي.

وكان الدعاة اول من استجاب لندائات الامام الصدر الذي كان قد اطلق قولته المشهورة (ذوبوا في الامام الخميني كما ذاب هوفي الاسلام) وتعرضوا لأبشع انواع الملاحقات والحبس والتعذيب والقتل وهتك الأعراض ومصادرة الاملاك والتهجير.

واشتدت الأزمة واتسع نطاقها وحاولت السلطة ان تضع إسفيناً بين الامام الصدر والدعاة الذين كانوا يتلاحمون معه في بياناته الثورية.

فأرسلت السلطة عدة وفود الى الامام الصدر وهوفي احتجازه في بيته في النجف، في محاولة لفك الارتباط بين الامام وأتباعه. فيصدر فتوى بتحريم الانتساب الى حزب الدعوة الاسلامية، لكي يرفع عنه الحجز وتفتح له الدنيا، ولكنهم خابوا بالفشل.

وعندما يئست السلطة في مساعيها تلك اصدرت قانوناً سيء الصيت باعدام الدعاة في 31/3/1980 الذي شمل الامام الصدر ايضاً فأعدم رحمه الله في 8/4/1980 وخلّف وصية عظيمة يعتز بها تلامذته الدعاة، حينما قال:

«اوصيكم بالدعوة خيراً فانها امل الأمة».

وعلى رغم قانون الاعدام وما سبقه وما لحقه من جرائم بشعة في الحبس والتعذيب والانتهاك، فان حزب الدعوة الاسلامية الذي غرسه شهيدنا الصدر بيده الكريمة، وسقاه بفكره النيّر، بقي حياً صامداً متفاعلا مع ارادة الشعب وتطلعاته للاسلام وعدالته.

وبقيت السلطة الجائرة في العراق تتخبط في تصريحات مسؤوليها، ففي عام 1980 يقول صدام انه تمّ القضاءاً على حزب الدعوة قضاء تاماً ولكنه في حديثه مع مراسل الصحافة البريطانية في تموز 1981 يكشف عن مرارته جرّاء تحرك (الدعوة) المستمر.

اما في المؤتمر القطري التاسع الذي انعقد في حزيران/1992، فقد صدر تقرير مسهب عن (المسألة الدينية) يتضمن تحذير البعثيين من اعضاء حزب الدعوة، والذي يظهر ارتباكهم من الظاهرة الدينية على رغم النشاط البعثي والسلطة القائمة.

نقتطف هنا مقطعاً منه، اذ يقول:

«… لذلك بقيت في المجتمع الثوري نسبة معينة، ولوكانت قلة من المواطنين ومن الشباب بوجه خاص خارج المسيرة الثورية فلم يعيشوا سخونة هذه المسيرة ولم يتأثروا بها بصورة مباشرة فوقفوا منها موقفاً سلبياً، وقد ركزت الاحزاب الدينية السياسية وبخاصة حزب الدعوة على هذه الفئة واصطادتها في فخاخها ووعدت الشباب منهم بالمعارك الساخنة والتحديات الملحمية. ولابد ان نشير الى ان اخطاءً قد ارتكبت في اساليب تنظيم الشباب والطلبة، مما دفع قسماً من هؤلاء الى الوقوع في شرك حزب الدعوة والحركات الدينية السياسية الاخرى…

وعلينا ان نلاحظ ان نسبة من الشباب الطموح اذا لم يتمكن الحزب من استقطابها وتلبية مطامحها فانها يمكن ان تبحث عن طموحات غير مشروعة ومنحرفة في اوساط القوى المعادية».

هكذا كانت ولادة حزب الدعوة الاسلامية وهكذا كانت مسيرته، صراع بين البقاء والفناء منذ اربعة واربعين عاماً، عندما تأسس في 17 ربيع الاول/1377 هـ.

وكثيرة هي الحركات والجمعيات الاسلامية التي تنشأ ولكنها سرعان ما تتضاءل وتتلاشى نتيجة للضربات التي تتلقاها.

وحزب الدعوة تلقى كثيراً من تلك الضربات منذ الولادة والى يومنا هذا، من اعداء الدين ومن المحسوبين على الدين، ولكنه استطاع ان يصمد امام كل تلك الرياح لأنه نشأ وسط العلماء وفي احضان المرجعية ورعايتها، وكأن تلك الضربات تزيده قوة وصلابة وتمنحه رسوخاً وثباتاً.

«اولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة واجر عظيم».[6]

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سيد حسن شبر

25/8/79

[1]– النساء: 141

[2]– الاعراف: 96

[3]– الصف: 10 ـ 13

[4]– النحل: 125

[5]– الرعد: 11

[6]– الحجرات: 3