نظرية العمل السياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصىدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

كُتب هذا البحث “نظرية العمل السياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصىدر” في جمادى الثانية ورجب من عام 1408هـ.ق. قبيل الذكرى الثَّامنة لاستشهاد آية اللَّه العظمى الصَّدر (رض). ولا بد من أن ننبِّه إلى أنّ اللَّقب العلمي والدِّيني، في أوساط الحوزة العلميَّة للشَّهيد الصَّدر، هو «آية اللَّه العظمى»؛ حيث يعدّ هذا اللَّقب خاصَّاً بالمراجع المعترف بهم، ولكنَّنا اقتصرنا في حديثنا على لقب «الشَّهيد» لما فيه من بعد معنوي وسياسي، واختصاراً في الحديث.

وقد طُبع هذا البحث في نسخ متعدِّدة لا تتجاوز الثَّلاثين نسخة، ووزِّع على عدد محدود أيضاً، ثم أدخلت عليه بعض التوضيحات، وطبع بهذا الشكل، وتوجد ملاحظات ونقاط تكميلية أخرى سيتمُّ درجها في المستقبل إن شاء اللَّه، والبحث إنّما كتب بهدف التَّوثيق والأمانة التاريخيَّة وتدوين أفكار الشَّهيد الصَّدر ونظريَّاته ومواقفه كما فهمتها ورأيتها عن كثب. وأرجو من اللَّه القبول ومن القارئين والمطَّلعين أن ينظروا إليه نظرة موضوعيَّة بعيدة عن التحيُّز أو الظُّنون، واللَّه الموفق للسَّداد، وهو نعم المولى ونعم النصير.

المقدمة

عندما نريد أن نتناول النَّظريَّة السِّياسيَّة عند الشَّهيد الصَّدر (رض) لا بُدَّ من أن نفهم، منذ البداية، المراد من مصطلح «النَّظريَّة السياسية»؛ حيث يوجد جانبان من البحث في هذا المجال: أحدهما الجانب الذي يرتبط بنظريَّة الحكم والدَّولة، والآخر الجانب الذي يرتبط بالعمل السياسي الحركي وإطاره العام في المجتمع والأمَّة، ولا سيَّما في ظروف، ما قبل قيام الدَّولة الشَّرعية، سواء كانت الدَّولة القائمة كافرة أم إسلاميَّة جائرة.

وفي هذا البحث، نحاول أن نتناول الجانب الثَّاني، ونقصد به نظام العمل السِّياسي، أو الإطار العام للتَّحرُّك السِّياسي في المجتمع الإسلامي لممارسة عمليَّة التغيير والهداية للنَّاس، ضمن الخطوط الثَّابتة والضَّوابط والمقاييس العامَّة والأخلاق الإسلاميَّة التي جاءت بها الشَّريعة والقرآن الكريم.

أمَّا الجانب الأوَّل، فقد كتب فيه الشَّهيد الصَّدر في أواخر أيَّامه ضمن كرّاسات طُبعت تحت عنوان: «الإسلام يقود الحياة»، ولا سيَّما كرَّاس «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء» وكرَّاس «تصوُّر عن دستور الجمهوريَّة الإسلاميَّة»، وسوف نشير إجمالاً إلى تصوُّراته في هذا المجال.

ونسبة «النَّظريَّة السِّياسيَّة» إلى الشَّهيد الصَّدر نقصد منها ما كان يفهمه في تصوُّر هذا «النِّظام للعمل» و «الإطار العام» للتَّحرُّك في الإسلام والشَّريعة الإسلاميَّة. ويمكن أن نتعرَّف إلى معالم وجهة نظره في هذه النَّظريَّة السِّياسيَّة من خلال مراجعتنا الإجماليَّة للأعمال الفكرية والنَّشاطات السِّياسية التي قام بها، أو أسهم فيها، ومن خلال قراءتنا لأقواله وتصريحاته وبعض محاضراته، وهي كثيرة. ولكن يمكن أن نشير بشكل إجمالي إلى مجموعة منها:

فعلى مستوى الأعمال الفكريَّة يمكن أن نذكر ما دوَّنه الشَّهيد الصَّدر في الكرَّاس الصَّغير الذي تناول فيه أطروحة المرجعيَّة الموضوعيَّة، أو ما كتبه من شرح أسس «الدَّولة الإسلاميَّة».[2] وكذلك ما دوَّنه في بعض رسائله الخاصَّة حول دلالة آية الشُّورى على أساس الحكم الإسلامي. وكذلك ما دوَّنه في بعض الكرَّاسات التي كتبها، في أواخر حياته، تحت عنوان: «الإسلام يقود الحياة»، مثل كرَّاس «دستور الجمهورية الإسلامية» و «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء»، وكذلك تبنِّيه فأخيراًف لنظرية «ولاية الفقيه» التي يستند فيها إلى التوقيع المعروف المروي عن الإمام الحجَّة (عج)، وهو: «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حجَّتي عليكم، وأنا حجَّة اللَّه»[3]

وعلى مستوى الأعمال والنَّشاطات السِّياسية، يمكن أن نذكر منها إسهامه في تأسيس «حزب الدَّعوة الإسلامية» في أواخر صيف 1378هـ/1958م. ثم خروجه من الحزب في صيف عام 1380هـ/1960م، وأيضاً إسهامه في تأسيس «جماعة العلماء في النجف الأشرف» وإسنادها، وكذلك إسناده لمرجعيَّة آية اللَّه العظمى المغفور له الإمام السيِّد الحكيم(قده) ومشاركته في مجمل الأعمال السياسيَّة التي كانت تتصدَّى لها هذه المرجعيَّة، وكذلك رعايته للحركة الإسلاميَّة في العراق بشكل عام، ثم تصوُّره لتطوُّر المرجعيَّة الدينيَّة وطيِّها للمراحل الأربع التي مرَّت بها والتي كانت آخرها مرحلة «القيادة»، ثم تأسيسه لبذرة شورى المرجعيَّة في إطار مرجعيّته الخاصَّة وطرحه لمسألة فصل العمل المرجعي وجهازه عن العمل التنظيمي الخاص (الحزب) عملياً، ثم تطوّر ذلك إلى فكرة فصل الحوزة العلمية بشكل عام عن العمل التنظيمي الخاص (الحزب) وتصريحاته وفتاواه بهذا الصدد التي تعبّر عن موقف سياسي عملي ينطلق من جذور فكرية، ثم موقفه بعد ذلك من دور التَّنظيم الإسلامي في الحركة السياسية العامَّة والذي تجسَّد بتعيين ممثل له لدى بعض أطراف الحركة الإسلامية، ثم تسليم بعض الأطراف الأخرى لقيادته بعد انتصار الثورة الإسلامية، ومبادرته لتأسيس حركات ومكاتب إسلامية في الخارج وتعيين الممثِّلين الوكلاء والعلماء في مختلف المناطق بعد تصدِّيه للمرجعية الدينية وقبل ذلك.

لقد كانت حياة الشَّهيد الصَّدر(رض) زاخرة بالأحداث والمواقف والأعمال والنَّشاطات السِّياسية والفكريّة، ولذلك يحتاج هذا البحث إلى دراسة مستفيضة وتتبُّع لجميع الأقوال والنَّشاطات والكتابات التي دوّنها الشَّهيد الصَّدر، ولكن من خلال معايشة قريبة لمسيرة أعماله ومواقفه استمرَّت لمدة أكثر من أربع وعشرين سنة، أي منذ سنة 1376هـ حتى سنة 1400هـ التي استشهد فيها (رضوان اللَّه عليه)، وكذلك من خلال مراجعة سريعة لمجمل أعماله، وبذلك يمكن أن نتعرّف إلى تصوُّر إجمالي واضح لنظريَّته السِّياسيَّة[4].

ومن الواضح أنَّ البحث، في هذا الموضوع الشائك، قد يثير بعض التحفظات، أو الأسئلة، أو ردود الفعل والانفعالات، لدى هذه الجماعة أو تلك، بسبب متبنَّياتها الفكريَّة والسِّياسية أو مواقفها، مع حرصها على أن لا تبدو بعيدة عن الشَّهيد الصَّدر، ولكن يبقى من الضَّروري أن نثبت الأفكار والمواقف التي تبنَّاها الشَّهيد الصَّدر، باعتبار ذلك واجباً أخلاقيَّاً وعلميّاً وتاريخيّاً، ولذلك نرى فانسجاماً مع الظروف التي تعيشها المرحلة السياسية الحاضرة للقضية الإسلامية العراقية والتي نرى أهميَّة أن نتجنّب فيها الإثارات ذات ردود الفعل العاطفيَّة والنفسيَّة -أن نتناول هذا الموضوع بالقدر المحدود الواقعي الذي لا يكون على حساب المصالح الأساسية والمبادى ذات القيمة العملية في حياتنا. وأداءً مني لبعض الحق والواجب والمسؤولية التي أشعر بها تجاه سيِّدنا وأستاذنا الشَّهيد الصَّدر‏[5].

ولذلك، سوف نحاول -قدر الإمكان‏- تجنُّب المناطق الحسَّاسة، أو الأرقام ذات الطبيعة السَّلبية، أو التفسير بالنوايا، ونكتفي بذكر الشواهد التي تؤكِّد النظرية مع قطع النَّظر عن ملابساتها الخارجية أو علاقاتها ذات الطَّبيعة الشَّخصيَّة.

مسار البحث‏

وأعتقد أنّ البحث لا بدَّ من أن يأخذ مسارين من أجل توضيح الفكرة كما أشرت في البداية.

أحدهما: المسار النَّظري الذي يمكن تتبُّعه من خلال أعمال الشَّهيد الصَّدر الثَّقافيَّة والفكريَّة.

والآخر: المسار العملي الذي تمكن معرفته من خلال تتبُّع الحركة والمواقف السِّياسيَّة للشَّهيد الصَّدر ومراقبته.

ومن خلال المقارنة والموازنة بينهما، تصبح الفكرة أكثر وضوحاً، ويمكن أن نجد التفسير لبعض المواقف والأفكار التي قد تبدو – أحياناً- أنّها غير منسجمة أو متناسقة.

وقد كتبت هذه الأوراق -على الأكثر- اعتماداً على الذَّاكرة والمشاهدات التي عشتها طوال المرحلة السابقة، وأرجو ألاَّ تكون ذاكرتي قد خانتني.

كما أرجو منه تعالى السَّداد والتَّوفيق والقبول، فهو وليُّ التَّوفيق والسَّداد، وهو نعم المولى ونعم النَّصير.

أوَّلاً ـ النظرية السياسية ـ المسار النظري‏

نظريَّة الشُّورى والحزب‏

لقد بدأ الشَّهيد الصَّدر(رض) تصوُّره للنَّظرية السِّياسية انطلاقاً من عدة نقاط فقهيَّة وعمليَّة.

الأولى: إنّ الشَّهيد لم يتمّ لديه دليل واضح على صيغة الحكم الإسلاميّ بشكل خاص؛ حيث كتب، في بداية تكوين التصوُّر السياسي، رسالة ناقش فيها جميع الأدلَّة التي يذكرها الفقهاء على الصيغة الخاصَّة للحكم الإسلامي، سواء روايات ولاية الفقيه المطلقة أم دليل الحسبة وحفظ النظام[6] الذي كان يراه دليلاً قاصراً عن الوفاء بجميع متطلَّبات الدَّولة والحكم الإسلامي في العصر الحاضر. وأتذكّر في هذا الصدد، أنه بعد أن دوّن هذه الرِّسالة قمت بطرحها على أحد الفقهاء المعروفين في النجف الأشرف، وهو آية اللَّه الشيخ حسين الحلِّي، فأعجب بها، وإن لم يكن يتَّفق مع الشَّهيد الصَّدر في نتائجه.

الثَّانية: الاستفادة من آية الشُّورى «وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم» الشُّورى‏/38 للدلالة على إمكان إقامة الحكم الإسلامي على قاعدة الشُّورى باعتبار أنّ الحكم وإقامة الدَّولة يمثِّل أمراً مهمَّاً من أمور المسلمين، ولا يمكن تجاهله في مجتمعهم، لأنَّ التجاهل يؤدِّي إلى تهديد أصل الدِّين، بالإضافة إلى سيطرة الكفار وعقائدهم على المجتمع الإسلامي.

ولا بدَّ من الالتزام بحكم الأكثريَّة في الشُّورى، لأنَّ الإجماع في الأمور الاجتماعيَّة أمر نادر، وهذا يعني أنّ إقامة الحكم على أساس الشُّورى يعني الرجوع إلى الأكثريَّة وإلاّ تعطّلت آية الشورى ولم يكن لها مدلول عملي‏‏[7].

الثَّالثة: إنّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والدَّعوة إلى الإسلام والدِّين من أهمِّ الواجبات الإسلاميَّة، ولمَّا لم تكن هناك طريقة محدَّدة وإطار سياسي عام مشخَّص لهذه الدَّعوة، كان ممكناً انتهاج كل أسلوب مؤثِّر في هذا المجال يعطي للمسلمين القوَّة والقدرة على تحقيق هذا الهدف أو القيام بهذا الواجب الإسلاميّ.

وحينئذٍ يُمكن طرح أسلوب «التنظيم الحزبي» بوصفه أفضل طريقة تجريبيَّة توصَّل إليها الإنسان في التحرُّك السياسي؛ حيث إنها الطريقة المتَّبعة والمعروفة الآن في المجتمعات الإنسانيّة (الحضارة الغربية والشرقية) والتي أثبتت جدواها وتأثيرها من خلال التجربة.

كما أنّ هذه الطريقة هي التي يمكن أن تواجه هذا الأسلوب الجذّاب في المجتمع الإنساني الذي اعتمدته الأيديولوجيَّات والنظريَّات الحديثة الوضعية‏[8].

الرَّابعة: إنّ للفقهاء، في النَّظرية الإسلاميَّة، وفي التَّاريخ الإسلامي، دوراً متميّزاً. أمَّا على مستوى النَّظرية، فنجد ذلك واضحاً في مجال استنباط الأحكام الشرعيَّة وفي القضاء الإسلامي. أمَّا على مستوى التَّاريخ الإسلامي فإنَّ الأمَّة ارتبطت بالفقهاء عمليَّاً وواقعياً، خصوصاً في أوساط أتباع أهل البيت(عليهم السلام)؛ إذ أصبحت تقدِّسهم وتنقاد لهم وتنظر إليهم بوصفهم نوَّاباً عن الإمام(عليه السلام) وحكَّاماً للناس والشريعة. وهذه حقيقة عقدية وتاريخية لا يمكن تجاهلها في العمل السياسي، ولا يمكن التفكيك عملياً بين هذا الواقع العقدي والتَّحرُّك السياسي حتى لو انتهينا إلى التفكيك بين المرجعيَّة في الفتوى والقيادة السياسية على المستوى النظري، ولذا لا بدَّ من منحهم هذا الدور في التَّصوُّر النَّظري للتَّحرُّك السِّياسي.

القيادة الواقعيَّة والقيادة الواجهيَّة

وعند التَّركيب بين هذه المفردات الأربع، نجد أنَّه يمكن تأسيس الحزب الإسلامي الذي يتبنَّى الدَّعوة إلى الإسلام وتنظيم جماعة المسلمين، ويدعو إلى إقامة الحكم الإسلامي على أساس الشُّورى والديمقراطيَّة التعدُّدية ضمن الإطار والضَّوابط الإسلاميَّة العامَّة، ويكون للفقهاء في هذا الحزب والحكم الإسلامي دور المتخصِّصين في القضايا الإسلامية النظرية التي يمكن الرجوع إليهم فيها، شأنهم في ذلك شأن ذوي الاختصاص الآخرين في مختلف القضايا العلمية.

وتتم إدارة البلاد من المتخصِّصين في الأمور السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة والماليَّة… تحت إشراف الفقهاء الذين لا بدَّ لهم من أن يمارسوا تخصُّصهم من أجل ضمان سلامة المسيرة الإسلامية في هذه المجالات، من دون أن يكون لهم دور خاص بما هم فقهاء في القيادة والإدارة الإسلامية، هذا على مستوى النَّظرية.

ولكن من الناحية العمليَّة والواقعيَّة، يمكن الاستفادة من الطَّاقات الهائلة التي يملكها المراجع والحوزة العلمية والإمكانات الكبيرة في التبليغ والتوعية وعلاقة التقديس من الأمَّة لهؤلاء الفقهاء، ويتمُّ ذلك عن طريق تحويل الواجهة القيادية في الأمَّة إلى العلماء، وعن طريق المزاوجة والتلفيق بين التنظيم الخاص والجماعة الواعية في الحوزة والمرجعية الرشيدة، بحيث يتحوَّل الحزب إلى قيادة واقعية تنظِّم حركة الأمَّة، والمرجعيَّة إلى قيادة واجهية تمنح الفكر الإسلامي الأصالة والقدسية للتَّحرك الإسلامي في أوساط الأمَّة، كما أنّها توظّف أكبر الطَّاقات لخدمة هذا العمل الإسلامي.

وهذه النتائج التي توصَّل إليها آية اللَّه الشَّهيد الصَّدر تعني، بطبيعة الحال، مشروعيَّة العمل الحزبي من خلال اختيار الأمَّة له، ككل أو كجماعة من الأمَّة، باعتبار دلالة آية الشُّورى، بحيث تكون الأمَّة لها القيمومة والنَّظارة والاختيار بشأن العمل الحزبي من ناحية. كما أنّه يمكن لها أن تختار تعدُّد الأحزاب والتشكيلات السياسيَّة، أو اختيار أي منهج آخر للعمل تراه مناسباً لحركتها وتطلّعاتها وأهدافها من ناحية أخرى؛ حيث إنَّ هذا التَّصوُّر للنَّظرية يعني أنّ الشَّارع المقدّس لم يعيِّن أسلوب العمل السياسي ومنهجه، وإنَّما تركه للإنسان، ويفترض أنَّ منهج العمل الحزبي هو أفضل أسلوب توصَّل إليه الإنسان في العصر الحديث، فعندما يتوصّل الإنسان، في ضمن ظروف معيّنة، أو من خلال دراسة التاريخ الإنساني، إلى منهج أفضل فلا بدَّ من أن يكون ذلك المنهج هو المختار.

وهذه النقطة كانت ولا تزال تشكِّل نقطة ضعف مهمَّة في هذه النظرية؛ حيث تفترض أنّ الإسلام الذي عالج مختلف القضايا في الكون والمجتمع قد ترك معالجة هذه النقطة المهمَّة في حياة الإنسان، وهي «منهج العمل السِّياسي» فلم يحدِّد المنهج العام لها، وإنَّما تركها نقطة فراغ يعالجها الإنسان حسب الظروف والتطوُّرات. مع أنّ التاريخ الذي يعرضه القرآن الكريم عن سيرة الأنبياء وأعمالهم لا توجد فيه أي إشارة إلى منهجٍ مثل المنهج الحزبي، وإنَّما كان يتمثَّل في منهج عام متشابه، وهو منهج النبوَّة والإمامة والبلاغ‏‏[9].

رؤية الإمام الحكيم (قده) للعمل السِّياسي‏

ومن الجدير بالذِّكر، أنّ رؤية الإمام الحكيم (قده) -الذي كان يمثِّل «المرجعيَّة» في ذلك العصر- للأمور ومسلكيَّته كانت تختلف، في هذه المرحلة، عن رؤية الشَّهيد الصّدر ومتبنيَّاته العمليَّة، إلاّ أنّ هذا الاختلاف بينهما لم تكن له آثار عمليَّة مهمَّة تنعكس على الواقع الخارجي في هذه المرحلة، وإن انعكست آثاره بعد ذلك على الواقع العملي، والسَّبب في ذلك يعود إلى عدَّة نقاط:

أ ـ إنّ معالم النَّظرية لم تكن واضحة بشكلها الكامل في البداية، وإنَّما أخذت تتوضَّح تدريجيَّاً من خلال الممارسة الخارجيَّة.

ب -إنَّ طبيعة المرحلة كانت طبيعة عمليَّة عامَّة في مواجهة التيَّارات الفكريَّة والسِّياسيَّة الكافرة أو المنحرفة، والقضايا فيها كانت مشتركة. كما أنّ التنظيم الخاص – في ذلك الوقت‏ف لم يكن له وجود واضح ليكون له دور مهمٌّ في مجرى الأحداث الواقعية، وكانت أفكاره وتشكيلاته سرّية، وكان يمرُّ بمرحلة التأسيس، ثم بالمرحلة الثقافية.

بالإضافة إلى أنّ أبناءه كانوا يرتبطون واقعيَّاً بمرجعيَّة الإمام الحكيم، بشكل عام، في التقليد وفي التَّحرُّك الثقافي والسِّياسي العام.

ج ـ سعة الصَّدر والإخلاص والأخلاقية العالية التي يتمتّع بها كلٌّ من الإمام الحكيم والشَّهيد الصَّدر (رحمهما اللَّه).

ويمكن أن نلخّص نقاط الاختلاف، في هذا المجال، بين رؤية الإمام الحكيم والشَّهيد الصَّدر في الأمور الآتية:

1ـ ولاية الفقيه؛ حيث كان الإمام الحكيم يرى الولاية للفقيه بمستوى معيَّن مستنداً إلى دليل «الحسبة» وبعض النُّصوص الأخرى في بعض الموارد[10]وضرورة إقامة الحكم الإسلامي حفاظاً على كرامة الدِّين وعزَّته وعقيدة المسلمين، وأنّ الفقيه يمثِّل القدر المتيقَّن الذي يتولَّى ذلك، وكان يمارس هذا الدَّور عمليَّاً في حدود المجالات التي تنالها يده وقدرته.

2ـ «المرجعيَّة الدِّينيَّة» هي الإطار الأفضل للعمل الإسلامي ونشاطاته، ولذا لم يتَّخذ الإمام الحكيم العمل المنظَّم الخاص قاعدة أساسيَّة للعمل السِّياسي، بل اتَّجه بشكل عام لتشجيع العمل العلمائي قاعدةً وأساساً، وإن كان يؤيِّد العمل الحزبي المنظَّم باعتباره مؤسَّسة ومفردة إسلامية يمكن أن يكون لها دور محدَّد في خدمة الإسلام، وكان يتعامل مع هذه المفردة بتحفظ ملحوظ.

3ـ إنّ الوسط الحوزوي والوكلاء وأمثالهم يشكّلون حلقة الوصل الطبيعية بين الأمَّة والقيادة الإسلامية المتمثِّلة بالفقيه الجامع للشَّرائط، وفي الوقت نفسه يمكن للأحزاب السِّياسيَّة والجمعيَّات ذات الأهداف المختلفة القيام بهذا الدور في أوساط محدودة، كوسط طلاَّب الجامعات والموظَّفين وأمثالهم.

4ـ إستقلاليَّة المرجعيَّة عن العمل المنظّم الخاص (العمل الحزبي) وأصالتها وضرورة بقائها على قدسيَّتها ونقائها، بعيداً عن الظُّنون أو الشكوك أو الأوهام التي قد تحيط بالعمل الحزبي.

ومن هنا نجد الإمام الحكيم يطلب من ولده السيِّد مهدي، وكذلك من الشَّهيد الصَّدر، الخروج من التنظيم‏‏[11]، ويعلّل ذلك بأنَّهما مرتبطان به ولا يصحُّ أن يكونا مرتبطين بالتنظيم، الأمر الذي قد تكون له آثار سلبيَّة على المرجعيَّة نفسه.

5ـ «السِّرِّية»؛ حيث كان الإمام الحكيم يرى أنّ القيادة لا يصحُّ أن تكون سريّة في إطار الجماعة التي ترتبط بها، وأنَّ ذلك يؤدِّي إلى احتمال وقوع القيادة في خطر الانحراف أو التأثير عليها من الخارج من خلال ارتباطات مشبوهة أو فاسدة، وقد لخّص ذلك في جواب أحد الاستفتاءات بقوله: «إذا كانت القيادة سرِّية فلا يمكن الانقياد إليها، لأنَّها إذا كانت ذكية يخاف منها وإذا لم تكن ذكية فيخاف عليها»، وهذا التَّصوُّر ينطلق من نقطة نظريَّة مبدئيَّة ترتبط بالرِّواية المشهورة المتواترة: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليَّة»؛ حيث يفهم من هذا الحديث أنّ «معرفة» المأمومين للإمام قضية أساسية في النظرية الإسلامية، وذلك انطلاقاً من نقطة سياسية أدركها الإمام الحكيم من خلال تجربته ومعاناته السياسية ومراقبته للأحداث التي اجتاحت العالم الإسلامي، منذ حركة المشروطة في إيران، وحركة الجهاد ضد الإنجليز في العراق، وثورة العشرين والتَّطوُّرات السِّياسية الأخرى حتى سقوط الملكية؛ حيث إنَّ القيادة عندما تكون معروفة تكون تحت رقابة الجماعة، ويشكِّل ذلك ضمانة نسبيَّة كبيرة من الانحراف، أو أن تدرك الأمَّة ذلك الانحراف بسرعة عندما تكون تفاصيل الحركة تحت الأضواء.

وقد انتهى الشَّهيد الصَّدر (قده)، بعد ذلك، إلى الالتقاء مع رؤية الإمام الحكيم، كما سوف يتَّضح ذلك نظريَّاً وعمليَّ.

وهذا الاختلاف في الرؤية أدَّى، بعد ذلك، إلى بروز حالة الانفصال النِّسبي تدريجياً في التحرُّك السياسي بين موقف المرجعية والكادر الإسلامي الذي تربَّى في أحضان التنظيم الحزبي والذي كان يرتبط بالمرجعيَّة في تحرّكها العام كما سوف نلاحظ في المرحلة التالية.

وأدَّى، أيضاً، إلى حصول ضعف في الجهاز العام للمرجعيَّة التي كانت تعتمد، في بعض الأحيان، على هذا الكادر في تحرُّكها العام، وذلك من خلال تداخل في الجهاز كانت له آثار سلبية على التَّحرُّك العام، وقد أدرك الشَّهيد الصَّدر (رض) كل ذلك في ما بعد، كما سوف يتَّضِح.

الشَّكُّ في الشُّورى والحزب‏

وفي تطوُّر آخر أصاب الشَّهيد الصَّدر (رض) الشَّك في دلالة آية الشُّورى على الحكم الإسلامي من خلال شبهة كنت قد أثرتها حول آية الشورى في بداية تكوّن النَّظريَّة، ولكنه أجاب عنها في حينه، ثم بدت له صحَّتها بعد ذلك. وقد دوّن هذه الملاحظات ضمن مجموعة من المراسلات‏‏[12].

وهذا الشَّك في دلالة آية الشورى انتهى به إلى الشَّك في صحَّة العمل الحزبي بمعناه الواسع الذي لا معنى له‏- في نظر الشَّهيد الصَّدر آنذاك -إلاّ إذا كان يتضمَّن تصوُّراً كاملاً عن نظريَّة الحكم الإسلامي وطريقة ممارسته، فإذا لم تكن النّظرية حول الحكم الإسلامي وإطاره ومؤسَّساته واضحة، فكيف يمكن إيجاد تنظيم يسعى إلى هذا الهدف، من دون أن يكون الهدف نفسه واضح المعالم؟

وعلى هذا الأساس انسحب الشَّهيد الصَّدر من تنظيم حزب الدَّعوة[13]بعد أن كان ـ يمارس فيه دور القيادة الفكريَّة والإشراف العام.

ولكنه كان، في الوقت نفسه، يشعر بضرورة العمل السياسي الإسلامي المنظَّم وأهمّيته. ولذا بقي يؤيِّد التَّحرك السياسي (الخاص) بمستوى من المستويات، وسمح للحزب -من أجل أن يحلَّ الإشكال الشرعي له -أن يستند في شرعيته إلى فتوى بعض الفقهاء، أمثال خاله الشيخ مرتضى آل ياسين أو غيره.

كما أنّه، في الوقت نفسه، نقل جهوده بشكل عام إلى العمل المرجعي من خلال مرجعيَّة الإمام الحكيم‏(ره)، ومن خلال التوجُّه الأساسي لبناء الحوزة العلميَّة الواعية -وتربية الطَّلبة والمبلّغين‏- وتنظيم هذه الحوزة الذي تجسَّد في أحد مفرداته بتبنِّي الشَّهيد الصَّدر لـ «مدرسة العلوم الإسلامية» في النَّجف الأشرف التي كان قد أسَّسها الإمام الحكيم (ره).

نظريَّة ولاية الفقيه والمرجعيَّة

وبعد مدَّة من الزَّمن، توصّل الشَّهيد الصَّدر (رض) إلى توثيق التوقيع المعروف عن الإمام الحجَّة (عج)، وهو: «أمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة اللَّه»، كما أنَّه استفاد من التوقيع المذكور للدَّلالة على ولاية الفقيه بعد أن كان الفقهاء يستفيدون منه للدَّلالة على صحَّة تقليد المجتهد وجوازه في الفتاوى الشَّرعيَّة فقط؛ حيث كانوا يفسِّرون الرجوع فيه بخصوص الرجوع إليهم بالفتوى. أمَّا الشَّهيد ففهم منه الرُّجوع إليهم في قضايا الولاية أيضاً بقرينة «الحوادث الواقعة».

وكان الالتزام بولاية الفقيه فقهيَّاً يمثِّل تطوُّراً نوعيَّاً في النَّظريَّة السِّياسية للشَّهيد الصَّدر(قده)، ومن هنا نجده يبدأ بإعادة ترتيب المفردات السياسيَّة نظريَّاً في الأمَّة وفي واقع العمل المرجعي، وينتهي بهذا الترتيب إلى النتائج الآتية:

أوَّلاً: أطروحة المرجعيَّة الموضوعيَّة، وهي الأطروحة التي يكوّن الشهيد فيها تصوّره عن التركيب الذَّاتي للقيادة وأجهزتها ودورها في الأمَّة؛ حيث يرى أنّ المرجعية القائمة في المجتمع الإسلامي، في هذه المرحلة، لها الدور القيادي، وهي مرجعيَّة في الفتوى وفي الأمور السياسيَّة والاجتماعيَّة المرتبطة بالولاية.

والمرجعيَّة الدِّينية، وإن كانت من النَّاحية الواقعيَّة والعمليَّة، تؤدِّي هذا الدور إلى حدٍّ كبير -فعلاً- في حركة الأمَّة وتحفظها من الانحراف وتقوم بقيادتها في المواقف المهمَّة، إلاّ أنّ هذه القيادة لا بدَّ لها من أن تتكامل ذاتياً، من أجل أن تؤدِّي دورها بشكل أفضل ومناسب مع متطلَّبات ظروف ما بعد سقوط الدَّولة الإسلاميَّة بعد الحرب العالميَّة الأولى وطبيعة تطوُّر العلاقات والاتِّصالات بين أطراف القاعدة الشعبيَّة والإسلاميَّة.

وهذا التكامل الذَّاتي يتحقَّق من خلال تحوُّلها من الحالة الذاتيَّة التي تعتمد فيها على:

(أ) المرجع بوصفه إنساناً له خصوصيَّاته العلميَّة والأخلاقيَّة وأوضاعه وعلاقاته الاجتماعيَّة التي تنمو معه طبيعيَّاً.(ب) جهازه الخاص (الحاشية).

(ج) الوكلاء والمعتمدون الخاصُّون، إضافةً إلى الحالة الموضوعية التي تعتمد على المرجعيَّة بوصفها موقعاً يتَّخذ شكل مؤسَّسة تتحرَّك في الأمَّة، وتمتلك جهازاً له ديمومته وشموليَّته واستمراريَّته ومقدّماته المبدئيَّة والنَّظرية وقدرته القياديَّة.

وكان يعتقد أنّ هذا التحوّل يحتاج إلى توافر شروط موضوعيَّة مناسبة، وإلى مدّة زمنيَّة، وإلى سعي متواصل بهذا الاتِّجاه، وأنّ المرحلة التي تعيشها المرجعية الآن فأي ما قبل قيام الدَّولة الإسلاميَّة- وظروفها القائمة تتناسب مع المرجعية الذَّاتية أكثر من المرجعية الموضوعية ما لم تحدث تطوُّرات مهمَّة في وضع المجتمع والمرجعيَّة وتبقى المرجعيَّة (الموضوعية) تمثِّل هدفاً لحركة المرجعية في طريق التكامل‏‏[14].

ثانياً: إنّ المرجعيَّة الموضوعيَّة ليست مجرَّد المرجع والقائد، أو جهازه الخاص (الحاشية)، بل المرجعية الموضوعية تعني شيئاً أوسع من ذلك، فهي مؤسَّسة واسعة تتكوَّن بالإضافة إلى المرجع الذي يمثِّل موقع القيادة فيها وجهازه الخاص الذي يمثِّل الحاشية المتمثِّلة بالمستشارين، وكذلك أيضاً الجهاز الإداري التنفيذي لمسؤوليَّاتها ونشاطاتها، والذي يجب أن تكون له الديمومة والاستمرار من خلال ارتباطه بالمؤسَّسة -لا بشخص المرجع والقائد- من جهاز الحوزة والوكلاء (العلماء) والمبلِّغين وامتداداتها، ولا بدّ من أن ترتبط الأمَّة بمجموعها مع المرجعيَّة من خلال الاتِّصال المباشر بهذه المرجعيَّة وأجهزته.

ثالثاً: لا بدَّ من أن يكون الإطار العام للتَّحرُّك سياسياً في الأمَّة هو الإطار العام لجهاز المرجعية الذي يبدأ في تكوينه (ذاتياً) ليتحوَّل إلى مؤسَّسة ذات طابع (موضوعي) حسب ما أشير إليه في النقطة الأولى والثانية إذا تحقَّقت شروطه وظروفه ومقوِّماته، ومن هنا لا بدَّ من تطوير الحوزة العلمية والوكلاء والمبلِّغين… إلى غير ذلك من أجهزة المرجعية والاهتمام بالمساجد والحسينيات والمدارس العلمية والمؤسَّسات الإسلامية لتصبح قادرة على استيعاب هذا التحرُّك.

رابعاً: إنّ هذا الإطار السياسي ليس شيئاً جديداً في تاريخ التحرُّك السياسي البشري، بل هو امتداد لحركة الأنبياء جميعهم ولحركة الأئمَّة(عليهم السلام)، وإنَّ هذا يمثِّل النظرية الإسلامية في خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، وإنّ المرجع يمثل امتداداً للأنبياء والأئمَّة‏[15].

خامساً: إنّ الحركة الإسلامية تمثِّل مفردة ومؤسَّسة في السَّاحة الإسلامية شأنها شأن بقيَّة المفردات والمؤسَّسات المؤثِّرة والمتحرِّكة في الأمَّة، والعلاقة بين القيادة (المرجعية) والحركة الإسلامية (التنظيم الخاص) هي علاقة قيمومة من «القيادة» على «الحركة الإسلامية» مع واجب الإسناد والدَّعم من المرجعيَّة للحركة الإسلاميَّة ضمن الدعم أو الإسناد لمجمل العمل الإسلامي في الساحة.

ولا بدَّ لهذه القيادة من أن تمارس تجاهها هذا الدور المزدوج.

غاية الأمر أنّ هذه المؤسَّسة (الحركة الإسلامية) لها دور خاص، وهو دور الكادر الوسطي الذي له خبرة نسبيَّة وتجربة. فهي حالة متطوِّرة في حركة عموم الأمَّة باتِّجاه الإسلام وأهدافه وإقامة الحكم الإسلامي. ولا بدَّ لها من أن تتحرَّك ضمن الإطار العام الذي تتحرَّك فيه المرجعيَّة وتكون تابعة لها لتقوم بدور خاص أو مهمَّة خاصَّة حسب متطلبات الظُّروف.

كما أنّ الحركة الإسلاميَّة (التنظيم الخاص) يجب[16] ألاَّ تقتصر على صيغة واحدة شمولية تستوعب كل الأمَّة أو جلّها، بل يمكن أن تكون ضمن صيغ ومؤسَّسات (متعدِّدة) ومتكثِّرة في وجودها وأهدافها العملية أو المرحلية أو المحدودة لتصبَّ جميعها في الهدف الكبير الأصيل والعام الذي تحمل همّه القيادة الإسلاميَّة.

سادساً: إنّ الأمَّة لها دور الرَّقابة على حركة المرجعيَّة، كما أنّ لها دور انتخاب المرجع من خلال الوسائل الشرعية، أي لها دور اختياره مرجعاً لها من خلال اكتشاف الخصائص الموضوعيَّة التي تؤهّله للمرجعية بالطرق التي ذكرها الفقهاء في رسائلهم العمليَّة، إمَّا بشكل طبيعي تدريجي كما هو المتعارف عليه في الانتخاب من خلال التقليد والرجوع إليه، أو من خلال الاقتراع في الصَّناديق الخاصَّة عندما تملك إرادتها في الاختيار.

وبهذه الطريقة أصبحت النَّظرية السِّياسية، لدى الشَّهيد الصَّدر، واضحة المعالم؛ حيث أصبح المرجع (الوليّ الفقيه) يمثِّل «المحور» الأساس في هذا التحرُّك وفي العلاقات السِّياسية. ذلك لأنه يقوم بقيادة التحرُّك من «جهة»، ويمارس عملية الإشراف الفكري والسياسي من «جهة أخرى»، ويمثِّل محور الولاء السياسي للأمَّة بكل قطاعاتها من جهة ثالثة، وأجهزته هي التي تتحرَّك في الأمَّة من خلال النشاطات العامة والخاصة فيه.

النشاطات العامَّة: «نشاط المساجد والحسينيات والمدارس..».

النشاطات الخاصَّة: «نشاط تربية العلماء والمبلِّغين والمتفقِّهين والحواريِّين والصَّفوة، بناء التنظيمات الإسلامية ذات الأهداف المحدودة أو المرحلية: الأحزاب والجمعيات والحركات..

ومن الملاحظ، أيضاً، في هذا التَّصوُّر النَّظري للسَّيد الشَّهيد(رض) أنّه حاول أن يوفق بين ولاية الفقيه ونظريَّة الشورى من خلال:

1ـ انتخاب الأمَّة للفقيه الولي والرَّقابة العامَّة التي تمارسها تجاه الحركة السياسية له.

2ـ المستشارون الذين لا بدَّ من أن يرجع إليهم الفقيه في إطار المرجعيَّة الذاتيَّة وحتى المرجعيَّة الموضوعية.

3ـ المؤسَّسات المرجعيَّة التي لا بدَّ من أن يتم انتخابها أو تأسيسها من قبل المرجع أجهزةً للتَّحرُّك في الأمَّة والتي يتم بناؤها على أساس الانتخاب الطَّبيعي أو التَّشريعي‏‏[17].

ثانياً ـ المسار العملي للنظرية السياسية

إذا أردنا أن نؤرِّخ للمسار العملي للنَّظرية علينا أن نؤرِّخ للمعالم الرئيسيَّة في التَّحرُّك السِّياسي للشَّهيد الصَّدر طوال مرحلة من حياته تمتدُّ حوالى أربعة وعشرين عاماً، وهذا يحتاج إلى تفصيل كثير، ولكن نودُّ هنا أن نرسم الخطوط العامَّة لهذا التَّحرُّك خلال هذه المدَّة بالشَّكل الذي يوضح الجانب النَّظري. وسوف أشير إلى ذلك ضمن تقسيم هذا التَّحرُّك إلى مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: الحزب، وجماعة العلماء، والمرجعيَّة الرشيدة

لقد كانت هناك، في المرحلة الأولى، مفردات ثلاث مهمّة في تصوُّر الشَّهيد الصَّدر عمليَّاً لا بدَّ لها من أن تتجانس وتنسجم وتتحرَّك باستمرار في السَّاحة السِّياسيَّة.

الحزب الإسلامي:

الأولى: الحزب الإسلامي الذي يعتمد الفكر الإسلامي الأصيل ويتحمَّل مسؤوليَّات التَّوعية في مختلف المجالات، وهي:

أ ـ مجال الأمَّة والجماهير؛ حيث يمكن أن يكون للحزب دور خاص في الأوساط المثقَّفة من الطَّلبة الجامعيين وأساتذتهم والأوساط التعليمية وموظَّفي الدولة… باعتبار أنّ هذه الأوساط كانت تعيش في عزلة نسبية عن نشاط المرجعيَّة والحوزة العلميَّة للحواجز المصطنعة -التي رسّخها الاستعمار الثَّقافي والسِّياسي‏- بين الحوزات العلميَّة وهذه الأوساط، بحيث أصبح من العسير بناء الجسور والعلاقات المباشرة بين الحوزة وهذه الأوساط.

بالإضافة إلى أنّ فكرة التنظيم السياسي (الحزب) كانت فكرة رائجة لها تأثير نفسي؛ حيث كانت تستهوي هذه الأوساط بسبب تماسِّها المستمرّ مع التنظيمات السِّياسية الأخرى الموجودة في السَّاحة السِّياسية، وتعدّ الوسيلة الطبيعية للوصول إلى الحكم في تصوُّر الحضارة الأوروبية ذات التأثير الكبير في أوساطنا السِّياسية.

ب – مجال الحوزة العلمية؛ وذلك بتربية جيل من طلبة العلوم الدِّينية الواعين والمنظَّمين والذين يمكن أن يشكِّلوا قاعدة قويَّة يعتمد عليها الحزب في هذا الوسط ذي الأهمية الخاصة والمتميّز إسلامياً واجتماعياً. وفي الوقت نفسه يقومون بدورهم في توعية الأمَّة والجماهير وتوعية الوسط العام للحوزة، كما يمكن أن تستند إلى هذه القاعدة المرجعيَّة الرشيدة في تحرُّكها العام.

ج ـ مجال أجهزة المرجعيَّة الدِّينية (الجهاز الخاص للمرجعية (الحاشية) أو الجهاز العام للمرجعية المتمثِّل بالوكلاء والمبلِّغين والمؤسَّسات الأخرى للمرجعية) وحتى إقناع المرجعيَّة الدِّينية نفسها بضرورة الحزب ودوره وأهمّيته واعتماده وتبنِّيه، أو تبنِّي أعماله ونشاطاته، أو السَّماح له بالتواجد ضمن هذه النَّشاطات على الأقل.

ومن خلال هذه النَّظرة سعى الشَّهيد الصَّدر، بشكل مباشر وغير مباشر، إلى دفع الحزب في هذه الاتجاهات المذكورة، من خلال التحرُّك في الأوساط المثقَّفة في الأمَّة، وكذلك التَّحرُّك من خلال عناصر مختارة ومتميِّزة في الحوزة والاهتمام بقبول الطلبة في الحوزة، أو الحثّ على انتمائهم إليها وكسبهم إلى جانب التنظيم الخاص وربطهم به. وتبنَّى شخصياً – في بعض الأدوار الأولى‏- إدارة بعض الحلقات الخاصة أو توجيهها وحتى مخاطبة بعض الأشخاص للانتماء إلى التَّنظيم.

جماعة العلماء:

الثانية: جماعة العلماء، وكانت الفكرة العمليَّة لدى الشَّهيد الصَّدر حولها هي أنّ إيجاد تنظيم يضمُّ نخبة من العلماء الواعين الذين لديهم استعداد لممارسة العمل السِّياسي، ولو بالحدِّ الأدنى، أمر مهم، وعندها يكون التَّحرُّك، من خلالها، ذا طابع جماعي ويمكن أن يحقِّق الأهداف الآتية:

أ ـ الواجهة السِّياسية ذات الصِّيغة الشَّرعية في نظر الأمَّة، وذات العمق التَّاريخي المتجذِّر والتي يمكن -تحت غطائها- أن يتمَّ التحرُّك المرحلي في بناء الحزب والقيام بالنشاطات الفكرية والثقافية… في المقاطع المختلفة.

ب – دفع الأمَّة باتِّجاه العمل السِّياسي وإضفاء الشَّرعيَّة عليه، وكسر الحاجز النَّفسي الذي بناه الاستعمار في محاولته لفصل الدِّين عن السِّياسة، خصوصاً في أوساط الحوزة العلمية؛ حيث كانت تعيش تحت تأثير هذا الاتجاه من ناحية، وتحت تأثير ما خلّفته إحباطات العمل السِّياسي للحوزة العلميَّة من آثار ونتائج في السابق من ناحيةٍ ثانية.

ج ـ تطوير العمل السِّياسي في وسط الحوزة العلمية بعد أن عمل الاستعمار على عزلها وتحجيم دورها، بل منعها في بعض الأحيان بالقوَّة عن ممارسة هذا الدَّور، بحيث أصبح العمل السِّياسي كأنّه من الأمور الغريبة والمرفوضة في بعض أوساط الحوزة العلمية. ومن ثمّ يمكن لهذه الجماعة أن يكون لها دور مهمٌّ في إسناد دور المرجعيَّة الدِّينية الرَّشيدة ودعمه في التصدِّي للعمل السياسي.

د ـ مواجهة التيَّارات الثقافية والسِّياسية ذات البعد الإلحادي، وكذلك الانحرافات الأخلاقيَّة والسلوكيَّة في الأمَّة التي كانت تحتاج إلى تصدٍّ واسع وفعّال من قبل الحوزة العلميَّة.

وقد كانت المرجعيَّة الدينية الرَّشيدة حينذاك، المتمثِّلة بالإمام الحكيم، تلتقي في تحرُّكها السِّياسي وتصوُّراتها العمليَّة مع الأهداف الثلاثة الأخيرة من وراء تأسيس جماعة العلماء، بالإضافة إلى أهداف أخرى، الأمر الذي أدَّى إلى أن يقوم الإمام الحكيم (قده) بالمساهمة مع بقيَّة العلماء المنضوين تحت هذا التشكيل بتأسيس جماعة العلماء ودعمها التي كانت تضمُّ كبار علماء النجف الأشرف من الطبقة الثانية والثالثة بعد المراجع الكبار[18]، والذين كانوا ينطلقون في نشاطاتهم وتصوُّراتهم من أهداف

(17)

[241]

المرجعيَّة. ويمكن تلخيص الأهداف الأخرى المرحلية -لتأسيس جماعة العلماء من وجهة نظر المرجعية وفي إطارها- بالأهداف التالية:

أ ـ المطالبة بالحقوق المهضومة للمسلمين بشكل عام والشِّيعة بشكل خاص، سواء على المستوى المدني أم الديني، وطرح الفكر السِّياسي الإسلامي على الأمَّة.

ب – اتِّخاذ المواقف السِّياسيَّة تجاه الأحداث التي تواجهها الأمَّة وتطوراتها. وإيجاد تيَّار سياسي إسلامي في مقابل التيَّارات الأخرى الوضعيَّة التي غزت العراق وبلاد المسلمين، مع الاهتمام بطرح هذا التيَّار والفكر من خلال العمل الجماعي للحوزة العلميَّة.

ج ـ محاولة الجمع بين جميع أطراف الحوزة العلمية المتمثِّلة بالمراجع العظام في صف واحد تجاه الأحداث والمواقف؛ حيث كانت هذه الجماعة تمثِّل في انتماءاتها الحوزوية مختلف الأطراف المهمَّة فيها، بالرغم من أنّ المرجع الأعلى آنذاك هو الإمام الحكيم(رض) الذي برزت المرجعية فيه بشكل واضح بعد وفاة آية اللَّه البروجردي (رض) سنة 1380ه.

وعلى هذا الأساس أمكن أن تتكوَّن هذه الجماعة في النَّجف الأشرف التي كانت تسندها المرجعيَّة الدِّينية، وتلقى، في الوقت نفسه، تبنّياً غير محدود من الشَّهيد الصَّدر (رض) الذي كان حينذاك شاباً معروفاً بالفضل في أوساط الحوزة العلمية، ولكن لا يسمح له عمره بالانضمام إلى قائمة أسماء الجماعة.

ولكنَّه، مع ذلك، كتب جميع بياناتها السَّبعة، كما كان يكتب باسمها «كلمتنا» في مجلة الأضواء على الغالب.

وكان يفكِّر، في البداية، أن ينشر باسمها كتاب «فلسفتنا» إلاّ أنَّه عدل عن هذه الفكرة بعد ذلك لما أثاره بعض الأشخاص ضدَّه من «تهمة» أنه يرغب في استخدام اسم الجماعة للتَّستُّر على تحرُّكه السياسي الواقعي، وهو التَّحرُّك الحزبي.

كما أنَّه انقطع عن كتابة «كلمتنا» بعد ذلك باسمها، بعد أن أثير هذا الموضوع ضدَّه أيضاً‏[19].

وكانت لعلاقته الخاصَّة برئيس هذه الجماعة، خاله آية اللَّه الشيخ مرتضى آل ياسين، وببعض أعضائها من أرحامه وأصدقائه، أمثال ابن عمِّه السَّيد محمَّد صادق الصدر وأخيه السيِّد إسماعيل الصدر وآية اللَّه السيِّد محمَّد تقي بحر العلوم وحجَّة الإسلام والمسلمين السيِّد باقر الشخص وغيرهم الأثر الكبير في قدرته على التأثير في مسار هذه الجماعة‏[20].

كما كان لوجود حجَّة الإسلام السيِّد مهدي الحكيم وأخيه السيِّد محمَّد باقر الحكيم (كاتب هذه السُّطور) في جهاز مرجعيَّة الإمام الحكيم الأثر المهمّ في التَّنسيق بين أهداف المرجعيَّة من تشكيل جماعة العلماء وفكرتها والأهداف الخاصة للحزب الذي كان حينذاك في بداية وجوده، ولم يكن قادراً على ممارسة التأثير إلاّ من خلال هذه العلاقات الطبيعية التي كانت موجودة قبل وجود الحزب نفسه[21].

وبهذا الشَّكل، تمكَّنت هذه الجماعة من أن تحظى بتأييد المرجع العام وجميع المراجع الآخرين كما تحظى في الوقت نفسه بقبول شباب الحوزة الذي يتطلَّع للعمل المنظم الخاص؛ لأنها كانت تمثِّل حاجة فعلية وضرورية للمرجعية وللحوزة العلمية من جهة وللتنظيم السياسي الخاص من جهة أخرى. كما أنّ أعضاءها كانوا يمثِّلون الطَّبقة الثانية في الحوزة العلمية الذين يأتون بعد المراجع العظام.

وبهذا أصبحت جماعة العلماء، في النَّجف الأشرف، أُنموذجاً يقتدى به في ساحة العمل السِّياسي في وسط المرجعية الرَّشيدة والحوزات العلمية والتَّنظيم الخاص‏‏[22].

وعندما توقَّفت جماعة العلماء في النَّجف الأشرف، أو تقلَّص نشاطها لأسباب لا مجال لتفصيلها الآن[23]، نجد انبثاق فكرة جماعة علماء في بغداد والكاظميَّة لتحقيق أهداف المرجعيَّة نفسها، بعد أن تولّت المرجعيَّة مباشرة قيادة العمل السياسي، وأصبحت قادرة على تجسيد وحدة الحوزة العلمية باعتبارها المرجعيَّة العليا. وقد تميّزت جماعة في بغداد والكاظمية‏[24] بنشاطها في الستِّينات وكانت تضمُّ في أعضائها كبار علماء بغداد والكاظمية، وكانت غالبيّتهم السَّاحقة من المستقلِّين والعاملين في إطار المرجعية وحدها، بالإضافة إلى بعض العلماء المعدودين الذين يرتبطون بالتَّنظيم.

المرجعيَّة الرشيدة:

الثالثة: المرجعيَّة الرشيدة؛ حيث اهتمّ الشَّهيد الصَّدر (رض)، بالإضافة إلى المفردتين السابقتين، بمفردة المرجعيَّة الرَّشيدة (الواعية) التي كان يتصوَّر دورها الأساس في هذه المرحلة العملية ضمن النقاط والأهداف التي ذكرناها لجماعة العلماء مضافاً إلى ذلك:

أ ـ المرجعية هي التي تملك القدرة الواقعية في الأوساط الدينية:

أوَّلاً: من خلال الارتباط الدِّيني بها في الأحكام الشرعية (التقليد) الذي يخلق ارتباطاً روحيَّاً مهمَّاً بين الأمَّة والمرجع.

وثانياً: من خلال الإمكانات المادِّية التي تملكها المرجعية (الحقوق الشرعية) وكذلك أجهزتها الدِّينية (الوكلاء والمؤسَّسات والحوزات العلمية والمدارس) ذات التَّاريخ الطَّويل.

ب – إنّ المرجعيَّة تمثِّل الواجهة العليا الدِّينية والبارزة في العمل الإسلامي والشَّرعي في مجتمع أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، ولها قدسيَّتها الخاصَّة دينياً واجتماعياً، ولا يمكن التَّعويض عنها بأيِّ مفردة أخرى سواء كانت «جماعة العلماء» أو «الحزب»، أم غير ذلك من المؤسَّسات في هذا المجال.

وعلى هذا الأساس، كان الشَّهيد الصَّدر (رض) يرى أنَّه لا بدَّ للعمل السياسي والتَّنظيم (الخاص) من أن يكون مدعوماً ومؤيَّداً من المرجعيَّة الدينية ومنسجماً معها، وإلاّ لواجه الفشل، أو التناقض معها على أقلِّ تقدير.

وهذا يفرض، في الوقت نفسه، أن تكون المرجعية واعية للأوضاع العامَّة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، ورشيدة في خبرتها ومعرفتها ودرايتها ومتصدِّية للعمل السياسي والاجتماعي، حتى يمكنها أن تستوعب هذا النَّوع من العمل السياسي، وترضى أن تصبح غطاءً شرعيَّاً له وتضع إمكاناتها في خدمة أهدافه العامَّة.

ومن هنا يمكن أن نفهم ارتباط الشَّهيد الصَّدر، في بداية تحرُّكه السِّياسي، عمليَّاً بمرجعيَّة الإمام الحكيم(رض)، مع أنّ موقعه «الجغرافي» في الحوزة العلمية لم يكن إلى جانب مرجعيَّة الإمام الحكيم في تلك الآونة على الأقل. حيث كان ارتباطه العلمي بآية اللَّه العظمى السَّيد الخوئي وارتباطه المرجعي من خلال حوزة خاله المرحوم آية اللَّه العظمى الشيخ محمد رضا آل ياسين التي ارتبط بعضها بعده فبشكل عام‏ف بآية اللَّه العظمى السيد عبد الهادي الشيرازي وآية اللَّه العظمى السيد البروجردي، وبقي بعضها الآخر مستقلاًّ في انتمائه المرجعي، وارتبط بعض عناصرها بالإمام الحكيم.

الشهيد الصدر (رض) ومرجعيَّة الإمام الحكيم (قده)

وهذا الارتباط بمرجعيَّة الإمام الحكيم‏(رض) كان على أساس إدراك الشَّهيد الصَّدر (قده) الخصائص الذّاتية والموضوعية التي تتميّز بها مرجعيَّة الإمام الحكيم(رض) في تلك الآونة، وهي: الوعي السياسي، والانفتاح على الحوزة وأوساط الأمَّة، والقدرة على الاستيعاب، والتصدِّي للعمل السِّياسي والاجتماعي، والشُّعور بالمسؤوليَّة تجاه الأوضاع الفاسدة وتغييرها، والفهم للظُّروف السِّياسية وملابساتها في العراق، والقاعدة الجماهيرية الواسعة التي كانت تتمتَّع بها، والأخلاقية المتميِّزة في الشجاعة والصبر والتسامح، والانعطاف نحو الطَّبقة المحرومة والمستضعفة في الحوزة العلمية التي يمكن أن تشكِّل قاعدة التَّحرك السياسي الجديد. والتَّحرُّر من ضغوط تاريخ السكوت والعزلة أو المهادنة، والاعتزاز بالكرامة المرجعيَّة والتَّصوُّر الواضح لتطلُّعات المرجعيَّة الواسعة…

وبهذا الشكل، تحوّل الشَّهيد الصَّدر إلى موقع العمل مع مرجعيَّة الإمام الحكيم، ولكن بالمفهوم الصَّحيح للعمل الذي يعني تحمُّل مسؤوليَّات المرجعيَّة وهمومها والتَّخطيط لها وإبداء النُّصح والمشورة والاستعداد للتَّضحية من أجل أهدافها الكبيرة، بعيداً عن المصالح والمنافع الذاتية، ودعمها وتأييدها في المفاصل الرئيسية لحركتها وقضاياه.

وفي الوقت نفسه، فتحت مرجعيَّة الإمام الحكيم الأبواب أمام العمل السِّياسي الخاص والعام، بمستوى عالٍ فاق تصوُّرات «النُّخبة» من الإسلاميين، فضلاً عن الجمهور، وتمكَّنت من أن تهدم الحواجز أمام العمل الإسلامي، وحتى القوية منها، في مدَّة قياسيَّة سواء في مستويات التصدّي وأساليبه، أم في مضمونه السياسي، أم في العلاقات السِّياسية الرَّسمية والشَّعبية.

في الوقت الذي يمتنع الإمام الحكيم فيه عن استقبال الملك فقبل تأسيس العمل المنظَّم الخاص‏- وعبد الكريم قاسم -بعده‏- يقوم الإمام الحكيم باستقبال قادة «الحزب الإسلامي» الذي أسَّسته مجموعة من شباب أبناء «السنَّة»، وامتنعت حكومة «عبد الكريم قاسم» من إجازته بعد أن أجازت مجموعة من الأحزاب السياسية، ومنها الحزب الشيوعي مثلاً، ويقدِّم الإمام الحكيم توجيهاته إلى قادة الحزب ويدعم فكرة هذا النَّوع من الأعمال.

وفي الوقت الذي تتعرَّض فيه «جماعة العلماء» إلى الأذى بمستوى الاعتداء على بعض أشخاصها والتهديد بقتل «وسحل» الأشخاص الآخرين بالحبال، وتصاب بعض أوساط العلماء والحوزة والأمَّة بالخوف‏‏[25]، يقف السَّيد الحكيم ليغطِّي تحرُّك الجماعة بقوَّة ويصدر فتواه بصلاحيتها ودعمها وسلامة أهدافها، بحيث يفرض هذا الموقف بشكل طبيعي على بقية المراجع فيقومون بإسناده.

ويواجه التَّهديد من قبل السُّلطة والعناصر الفوضوية الملحدة بصلابة ومن دون تنازل. وعندما تتوقَّف «جماعة العلماء» عن التحرُّك، يأخذ الإمام الحكيم زمام المبادرة ويتصدَّى بشكل مباشر لقيادة المسيرة السياسية، وهو المرجع العام الذي تضغط عليه الظُّروف ومخلَّفات الماضي حينذاك ليكون محافظاً ومحتاطاً، خصوصاً مع وجود المراجع الآخرين في النجف وقم الذين كانوا يلتزمون الخط المحافظ والمحتاط.

وفي الوقت الذي يتعرَّض فيه بعض علماء السنَّة وبعض جماهيرهم إلى الاضطهاد والامتهان بسبب ارتباطهم الجغرافي والعاطفي مع بعض العناصر القومية المعارضة للحكم القاسمي، يقوم الإمام الحكيم بدعوة بعض هؤلاء العلماء إلى النَّجف لحضور الاحتفالات فيها، ويرسل وفداً لحضور الاحتفال الذي أقامه هؤلاء العلماء في جامع أبي حنيفة في بغداد وغيرها، بالرغم من موقف هؤلاء العلماء السلبي من قضايا المسلمين الشيعة (بشكل خاص) في العهود السابقة، ووجود الحساسيات المذهبيَّة السَّلبية في بعض الأوساط الحوزويَّة والأوساط العامة.

وفي الوقت الذي كان الشباب المتديِّن يتعرَّض فيه للمطاردة، ويشعر بالخوف من التيَّار الشِّيوعي الأحمر الذي شجَّعه عبد الكريم قاسم لأغراضه الخاصة، وتقوم منظَّمات «أنصار السلام» و «الشباب الديمقراطي» و «المقاومة الشعبية» و «لجان نصرة الجمهورية»… بمراقبة أنفاسه وإحصائها، تقوم مرجعيَّة الإمام الحكيم بفتح أبواب المساجد والحسينيات والمكتبات لهذا الشباب الواعي. ولتمارس أيضاً ضغطاً واسعاً كبيراً تجاه بعض العناصر من العلماء أو كبار السنِّ ممَّن لم يكن يؤمن بالعمل السياسي، أو كان قد وقع تحت تأثير مواقف التيَّارات السياسية المنحرفة أو الضالَّة من أجل هدايتها أو عزلها أو تحجيمها. وفي الوقت نفسه يوجِّه جميع إمكاناته لمقاومة هذا التيَّار الملحد‏[26].

وقد كان هذا النَّجاح للمرجعيَّة في تطوير العمل السِّياسي وإدارته يمثِّل نقطة البداية في تحوُّل النظرية للشَّهيد الصَّدر نحو فكرة المرجعية الموضوعية التي أشرنا إليها سابقاً، كما أنَّه، في الوقت نفسه، يمثِّل المنعطف العملي في المسار السياسي الحركي كما سوف نعرف ذلك.

لقد كان الشَّهيد الصَّدر(رض)، في هذه المرحلة، يرى في المرجعيَّة الرَّشيدة واجهة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها في العمل المنظّم الخاص، وفي الوقت نفسه لا بدَّ للمرجعية من أن تكون رشيدة وواعية حتى تتكامل الصُّورة.

ومن هنا كان يعتقد أنَّ البديل للإمام الحكيم لا بدَّ من أن يكون مرجعاً رشيداً في المستقبل متطابقاً في تصوُّراته مع العمل المنظَّم الخاص حتى تصبح الصُّورة أكثر تماسك.

وكان يخطِّط للمستقبل من أجل أن يصبح هو ذلك المرجع الذي يمكنه من أن يتحمَّل المسؤوليات كاملة‏[27].

المرحلة الثانية: المرجعيَّة الرَّشيدة واقع يتقدَّم ويتطوَّر

وتبدأ المرحلة الثانية من المسار العملي للنَّظرية عندما يبرز الشَّكُّ عند الشَّهيد الصَّدر(رض) في دلالة آية الشُّورى على طبيعة الحكم الإسلامي، وذلك في صيف 1960م/1380هـ؛ حيث انتهى إلى قرار الخروج من الحزب الإسلامي -الذي كان يتولَّى قيادته الفكرية والإشراف الدِّيني عليه‏- لوجود الشّبهة الشَّرعيَّة في هذا العمل.

واقترن ذلك بأزمة سياسية أثيرت حول الحزب وعلاقته به، وكذلك حول كتابة الشَّهيد الصَّدر لافتتاحيَّة مجلَّة «الأضواء» باسم «جماعة العلماء» من دون اطِّلاع أعضاء الجماعة، بعد أن كان نشاط «الجماعة» قد تجمَّد واقعياً، وانتهت الأزمة باستقالته من الحزب واستقالة العلاّمة السيِّد مهدي الحكيم منه بطلب من الإمام الحكيم.

والسَّيِّدان الشَّهيدان، وإن كانا قد خرجا من الحزب في آن واحد، إلاّ أنّ المسوِّغ للشَّهيد الصَّدر كان هو الشكُّ في دلالة آية الشُّورى على النَّظرية، بالإضافة إلى العامل الرُّوحي والنَّفسي بطلب الإمام الحكيم‏.[28] أما المسوِّغ للشَّهيد الحكيم فهو طلب والده منه والذي فسَّره الإمام الحكيم(رض) بأنَّ جهاز المرجعية يجب أن ينفصل عن الحزب، لئلاَّ تفسَّر مواقف المرجعيَّة بأنها مواقف تتأثَّر بموقف حزبي. وكان طلب السَّيد الإمام الحكيم موجَّهاً إلى كلٍّ من السَّيد مهدي والسَّيد الشَّهيد الصَّدر.

علماً بأنَّ الإمام الحكيم كان مطّلعاً على وجود الحزب وعلى وجود علاقات المودَّة والتنسيق بينه وبين بعض أولاده، وإن لم يكن له اطِّلاع على كثير من التَّفاصيل.

وفي هذه المرحلة، لم تكن تفاصيل إطار العمل السِّياسي وشكله واضحة لدى الشَّهيد الصَّدر بعد أن اهتزّت الصُّورة الشَّرعية للعمل السياسي (الخاص) الذي كان يستحسنه، ولكن في الوقت نفسه بدأت تتبلور صورة جديدة من خلال الممارسة العمليَّة لمرجعية الإمام الحكيم وقدرتها على التطوُّر والتعبئة الجماهيرية والاستفادة من إمكانات الأمَّة وتوعيتها على مختلف المستويات الثَّقافية والسِّياسية. ومن هنا نجد أنّ الشَّهيد بدأ يعمل على خطوط ومحاور أساسية مع وجود الفارق في مستوى الاهتمام بينه.

الأوَّل: العمل في إطار المرجعيَّة الدِّينية الرَّشيدة؛ حيث طوَّر الشَّهيد الصَّدر علاقته بمرجعيَّة الإمام الحكيم، وظهر ذلك واضحاً في نهاية سنة 1380هـ، عندما توفي المرجع الكبير آية اللَّه العظمى السَّيد البروجردي (قدس سره) حتّى أصبحت فكما أشرت سابقاًف على درجة كبيرة وعالية بحيث عُدّ، في الأوساط الحوزوية في النَّجف الأشرف، أنَّه محسوب على مرجعيَّة الإمام الحكيم. وأخذ الشَّهيد الصَّدر يسهم في مختلف النشاطات السياسية والحوزوية العامَّة التي تمارسها مرجعيَّة الإمام الحكيم مثل:

أ ـ النَّشاطات الجماهيرية، كالاحتفالات والزِّيارات؛ حيث كان يخطِّط لها في جملة العلماء الواعين في إطار المرجعيَّة.

ب – نشاطات الحوزة العلمية، كتربية الطَّلبة وتأسيس الدِّراسة المنظَّمة، ومنها مدرسة العلوم الإسلامية.

ج ـ النَّشاطات الثَّقافية والاجتماعية، كالمكتبات والمدارس وكلِّية أصول الدِّين وجامعة الكوفة…

د ـ النَّشاطات السِّياسية العامَّة التي كانت تتبنّاها المرجعيَّة، والتزم بذلك حتى الأيَّام الأخيرة من حياة الإمام الحكيم، مثل كتابة نصِّ الخطاب الذي ألقي في الصَّحن الحيدري في يوم السابع والعشرين من صفر 1389هـ، والذي حدَّد الإمام الحكيم فيه موقفه العام من الأوضاع السياسية، وكذلك نصُّ المذكِّرة التي أريد تقديمها إلى حكومة انقلاب 17 تموز في الأيَّام الأولى، وكذلك سفرة الإمام الحكيم إلى سامرَّاء 1383هـ، واستقبال ضريح العبَّاس، والسَّفر التَّاريخي لحجِّ الإمام الحكيم، والزِّيارة التاريخية الأخيرة لبغداد وملابساتها المختلفة، وحتى سفر الشَّهيد الصَّدر إلى لبنان لمتابعة قضيَّة محنة المرجعيَّة وقيامه هناك بحملة سياسية وإعلامية واسعة وتضحيته من أجلها‏[29].

ھ-الاهتمام بإرسال الوكلاء ومل‏ء الفراغات في هذا المجال؛ حيث تمَّ إرسال آية اللَّه السَّيد «إسماعيل الصدر» إلى الكاظمية وحجَّة الإسلام السَّيد «مهدي الحكيم» إلى بغداد ونقل العلاَّمة السيِّد العسكري من البياع إلى الكرادة الشرقية وإرسال العلاَّمة الشيخ «علي الكوراني» إلى الكويت وتدعيم تحرُّك آية اللَّه السَّيد «موسى الصَّدر» في لبنان وتطوير هذا التَّحرُّك، وغير ذلك من النَّشاطات المهمَّة.

و ـ المساهمة في التَّخطيط العام لمرجعية السَّيد الحكيم على مستوى الحوزة في قضايا الرَّواتب والمدارس وغيره.

الثاني: بناء الوضع المرجعي الخاص للشَّهيد نفسه؛ وذلك بالاتِّجاه، بشكل مكثَّف، إلى البحث الفقهي والأصولي في الحوزة العلمية وإعطاء هذا البعد، في عمله الحوزوي، أهمِّية خاصة، بحيث يصبح الطابع العلمي الخاص هو الوجه الظَّاهر له في الحوزة.

وفي الوقت نفسه اتَّجه نحو دراسة تاريخ الأئمَّة(عليهم السلام) وتعميق هذه الدِّراسات وتطويرها للخروج منها بنظريَّة في العمل والمواقف وربط حركة المرجعية به.

وكانت محاضراته حول الأئمَّة(عليهم السلام) والتي طبع قسم منها تحت عنوان: «أهل البيت(عليهم السلام) وحدة هدف وتعدُّد أدوار» وكذلك محاضرته حول المحنة التي تعرَّضت لها المرجعيَّة الرشيدة للإمام الحكيم، في آخر أيَّامها، أنموذجاً لهذا اللَّون من التفكير والدِّراسة.

الثالث: رعاية العمل الإسلامي المنظَّم الخاص من خلال ترشيده بالنصائح والآراء وحلّ المشكلات ومعالجة الصِّراعات الداخلية له التي بدأت تهدِّد وجوده. وكذلك رعاية الوسط الحوزوي والمثقَّف بشكل عام المرتبط به وتربيته أخلاقياً وعملي.

الرابع: بناء العنصر الحوزوي الواعي بناءً علمياً وفكرياً وأخلاقياً من أجل أن يكون الوسيط بين المرجع والأمَّة في عملية التوعية والتوجيه والإدارة، والاهتمام بشكل خاص بإدخال دم جديد في هذا الوسط من عناصر خرِّيجي الجامعات العلمية والإنسانية لتأكيد الصِّلة والوحدة مع هذا القطاع المهمّ من الأمَّة.

الخامس: التفكير الجدّي والبحث العلمي للتَّوصُّل إلى تصوّر نظري كامل حول التَّحرُّك السِّياسي للعمل الإسلامي، بحيث يتَّصف بالشُّمولية، ويتمكَّن من تفسير جميع هذه المواقف وكشف الواقع الموضوعي المعيش، ويكون قادراً على ترتيب أجزاء الصورة ويضع المفردات في مواضعها وحسب أولويَّتها وأدوارها الصَّحيحة الشرعيَّة.

ومن خلال مراجعة سريعة لاهتمامات الشَّهيد الصَّدر نجده يتَّجه في هذه المرحلة، عمليَّاً إلى أطروحة «المرجعيَّة»، ويلتزم بإطارها وحركتها، انطلاقاً من مجموعة حقائق هي:

أ ـ الواقع الموضوعي الفعلي الذي كان يعيشه.

ب – الحالة الوجدانية والارتباط الرُّوحي الذي كان يحسُّ به.

ج ـ طبيعة واقع الأوضاع السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة التي كانت تعيشها الأمَّة حينذاك، والتي أصبح من الواضح، من خلالها، أنّ حركة المرجعية كانت متقدّمة عدَّة أشواط على الحركة الإسلامية والعمل المنظَّم الخاص، سواء في عمق وجودها في الأمَّة وارتباط الأمَّة بها، أم في إدراكها لطبيعة الظروف وتحليلها لهذه الظروف، أم في مواقفها من الأحداث؛ حيث كانت تتَّخذ المواقف ذات العلاقة بهذا الواقع وعلى أساس هذا التحليل وتتفاعل مع ـ الجماهير والأمَّة.

ولذا كان هذا الموضوع بالذات يحظى بالاهتمام الأكبر للشَّهيد الصَّدر، ويقف إلى جانب حركة المرجعية في النقاط التي كانت تختلف فيها زوايا رؤية المرجعية إلى الأحداث عن زوايا رؤية العمل الحزبي لها، أو تختلف فيها المواقف تجاهه.

مع العلم أنّ المساحة المشتركة بين عمل المرجعية والتنظيم الخاص كانت واسعة وكبيرة، كما أنَّ العمل الحزبي المنظَّم آنذاك كان محدوداً في وجوده السِّياسي وفي تصدِّياته السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، ويمارس وجوده من خلال التَّحرُّك العام للمرجعية باستثناء اللقاءات الحزبية الخاصة أو بعض المنشورات الثقافية محدودة التَّداول.

وهناك أمثلة كثيرة على هذه الحقيقة:

1ـ الرؤية والموقف من عموم النشاط الإجمالي للمرجعيَّة والمواقف السياسية لها تجاه الأحداث، مثل: نشاط الاحتفالات والزيارات العامَّة التي كانت تستخدم وسيلةً للتعبئة العامَّة السياسية وكذلك مضمونها ومحتواها السياسي. ومثل تأسيس المدارس الرسمية وكلِّية أصول الدِّين في بغداد، ومثل الانفتاح في العمل المرجعي وفي الحوزة على العلماء والطّلبة غير المنظَّمين والاعتماد عليهم في الأعمال الرئيسة.[30] فقد كان الشَّهيد الصَّدر مع المرجعية في جميع هذه النشاطات مع أنّ مجمل هذه النشاطات كان يواجه انتقاداً -أحياناً- من قادة العمل الحزبي، بادّعاء أنَّها لا جدوى منها ولا تنسجم مع المرحلة التي تعيشها الأمَّة.[31]

2ـ المشاركة عمليَّاً في المواقف السِّياسية المهمَّة في السَّاحة الإسلامية، مثل الموقف ضدّ تشريع قانون الأحوال الشخصية، وسياسة التمييز الطائفي، وسياسة تأميم التجارة وتحويل النظام الاقتصادي إلى «الاشتراكية» وغيرها. مع أنّ العمل المنظَّم الخاص لم يكن لديه موقف سياسي حركي تجاهها، ولم يتناولها في أدبيَّاته إلاّ على المستوى الفكري أحياناً، بالرغم من ضخامة بعض الأحداث التي عاشتها الأمَّة في هذه المرحلة الزمنيَّة.

ولعلّ العمل الحزبي، في تلك المرحلة، كان يعتمد على تحرُّك المرجعيَّة في هذه المجالات بشكل عام، ويكتفي به، إلاّ أنّه يلاحظ عليه عدم التَّصدِّي المباشر حتَّى على مستوى البيانات العامة أو الخاصة في داخل التنظيم.

3ـ الموقف السياسي من حكومة «البعث العفلقي» وانقلاب 17 تموز والأحداث التي تعاقبت بعده ومحاولتها القضاء على الوجود الإسلامي من خلال ضرب القواعد المهمَّة له، مثل الحوزة العلمية والشعائر الحسينية؛ وذلك من خلال الإجراءات التي اتَّخذها النظام، مثل تسفير طلبة الحوزة العلمية والمقيمين الإيرانيين، ومنع الزائرين من زيارة العتبات المقدَّسة، والتحرُّش بالشعائر الحسينية، وشنّ حملة الاعتقالات العامَّة للمتصدِّين للعمل السياسي والإرهاصات باتِّهام المرجعية. الأمر الذي انتهى إلى قيام الإمام الحكيم بزيارته إلى بغداد للمواجهة، وقد تردَّد الحزب في القيام بعمل سياسي في هذا المجال، واكتفى بمراقبة الأوضاع، وبعد ضغط الشَّهيد الصَّدر والعلاَّمة السَّيد مرتضى العسكري وغيرهما من العناصر المؤثِّرة على الحزب استجاب جزئياً في أوَّل الطريق، ثم عدل عن المواجهة بدعوى الالتزام بمنهج المرحلية‏[32]؛ وذلك في الوقت الذي كانت المرجعية تمرُّ فيه بأشدِّ المحن والأزمات وأقساها، ويكون الشَّهيد الصَّدر مستعدَّاً للتَّضحية بدمه الشريف في هذا المجال؛ حيث طرح مشروع التوقيع على مذكَّرة احتجاج بالأسماء الصريحة بعد المذكّرة التي قدَّمها السيِّد مهدي الحكيم للنظام باسم جماعة علماء بغداد والكاظمية والتي يحتجُّ بها على مجمل التَّصرفات ويدين النظام على أساسها ويقدّم اقتراحات محدَّدة بشأنها‏[33].

وقد سافر الشَّهيد الصَّدر، بعد ذلك، إلى لبنان متحمِّلاً أشدّ الأخطار من أجل أن يقوم بحملة سياسية وإعلامية لدعم موقف المرجعيَّة وإسنادها والدفاع عنها…

في مثل هذا الظَّرف، لم تكن القيادة في التنظيم الخاص على استعداد لإصدار منشور يشجب هذا الموقف من السلطة تجاه الأمَّة والمرجعيَّة، بل ولا لتوزيع منشور أبسط من ذلك[34].

وانسحبت القيادة من تعهُّدها بالقيام بتظاهرات عندما يقوم البعثيون بالتحرُّش بالمرجعيَّة‏[35].

4ـ الموقف من أزمة إخراج آية اللَّه، السيِّد «إسماعيل الصَّدر»، من الكاظمية وملابساتها؛ حيث اهتمَّ الشَّهيد الصَّدر بالمواجهة مع النظام وتطوُّراتها، وعبَّرَت عن الموقف الحقيقي في إسناد المرجعيَّة ودعمها الأوساط العشائرية العراقية، سواء في الكاظمية أم في منطقة الفرات الأوسط‏[36].

5ـ الموقف من المواكب الحسينية؛ حيث تمَّ إيقاف مواكب الطَّلبة في الجامعة والتي كان وراء تنظيمها «التنظيم الخاص»، والتي كانت تحظى بتأييد متميّز من المرجعيَّة الدِّينية؛ إذ تحوَّلت بهذا الإسناد إلى ثقل سياسي؛ حيث أخذت تشترك فيه عناصر ذات انتماءات عامَّة؛ الأمر الذي أدَّى بالتنظيم إلى أن يوقف إخراج هذه المواكب تجنُّباً للمواجهة مع النِّظام.

ولكن استمرَّت المواكب في المناطق الأخرى انسجاماً مع التوجُّه المرجعي.. وهذا الموقف من «التَّنظيم الخاص» كان بخلاف موقف الشَّهيد الصَّدر الذي كان يرى في وجود المواكب الحسينية واستمرارها ضرورة وأهمِّية خاصَّة، وكان يحثُّ طلاّبه على الاهتمام بها وتشجيع الآخرين على الاستمرار، حتى كان أحد الأسباب الحقيقية لشهادة حجَّة الإسلام السيِّد «عماد الدين الطباطبائي» ورفاقه هو هذا الموقف من الشَّعائر.

وبالإضافة إلى هذا التوجُّه في العمل المرجعي، قام الشَّهيد الصَّدر بالانفتاح على الأوساط الشَّعبية كخطوة أخرى في هذا المجال، ولا سيَّما بعد وفاة أخيه آية اللَّه السيِّد «إسماعيل الصَّدر»؛ حيث أخذ يهتمّ بالسَّفر إلى الكاظمية وبغداد، ويلتقي بالأوساط الشعبية والاجتماعية هناك بشكل واسع ومفتوح، وكان للتنظيم الخاص دور في تأييد هذا التوجُّه وإسناده بطبيعة الحال.

ونجد الشهيد، بعد ذلك، يركّز على الجانب العلمي ويعطيه أولوية خاصَّة في عمله، ويبني القاعدة الحوزوية القوية في المجال العلمي، ويتجنّب إلى حدٍّ كبير مواطن الإثارة ضمن العمل المنظّم الخاص، وكل ذلك كان يتمُّ ضمن تنسيق وتفاهم عمليَّين وواقعيَّين مع التَّنظيم الخاص غير مكتوبين أو مقرَّرين، بحيث كانت الصورة مختلطة ومبهمة في نظر الكثير من القريبين أو المراقبين للشهيد الصَّدر، سواء في أوساط التنظيم الخاص أم في أوساط الحوزة العلمية أو غيرهم.

وقد كان التَّنظيم حريصاً، في هذه المرحلة، على أن يعرف الشَّهيد الصَّدر، في أوساطه، بطريقة الإيحاء أو التلميح، بأنَّه قائده، بل كان بعضهم يجرؤ ويروّج ذلك صراحة كما اتّضح في ما بعد‏[37].

المرحلة الثالثة: المرجعية وولاية الفقيه‏

ولا أتذكَّر بالضَّبط في أي وقت انتهى الشَّهيد الصَّدر إلى رأيه الفقهي القائل بولاية الفقيه المطلقة[38]، ولكن يمكن أن نؤرِّخ للمرحلة الثَّالثة في المسار العملي لنظريته في التحرُّك السياسي في هذا التاريخ الذي يقع، على ما أظنُّ، في أواخر الثَّمانينات الهجرية، أي أواخر مرجعية الإمام الحكيم‏(رض).

ويكون الشَّهيد الصَّدر، بوصوله إلى هذه الرؤية الفقهية، قد توَّج توجُّهه العملي السِّياسي بهذه النظرية الفقهية؛ حيث عرفنا، من خلال المرحلة الثانية، أنَّه اتَّجه عملياً إلى مضمون هذه الرؤية الفقهية، وإن لم يكن قد قال بها بالفعل.

ومن خلال هذه الرُّؤية بدأت تتطوَّر الأحداث في التَّطبيق العملي بعد المسيرة السابقة التي أشرنا إليه.

أنشأ الشَّهيد الصدر، في جهازه الخاص، مجلساً للاستشارة أراد له أن يكون بذرة لمجلس استشاري يكون ضمن جهاز المرجعية، وهو يضمُّ مجموعة من خيرة طلاَّبه المتقدِّمين اختارهم لهذا المجلس، وكان يضيف إليهم من يراه قد وصل درجة النُّضج والكمال لبعضهم أو من أجل الإعداد والتَّدريب السِّياسي والاجتماعي لبعضهم الآخر.

وأعضاء هذا المجلس، وإن كانوا يتفاوتون في مستواهم العلمي والفهم الاجتماعي، فإنَّهم كانوا يشتركون في الإيمان بمرجعية الشَّهيد الصَّدر، وأنَّه يمثِّل الأطروحة الصالحة للمرجعيَّة الرَّشيدة مستقبلاً، بالإضافة إلى انتمائهم جميعاً إلى الوسط العلمي والحوزوي.

وكانت تطرح القضايا والمشاكل والنَّشاطات المهمَّة في هذا المجلس الاستشاري، بالإضافة إلى الأبحاث الجانبية، وتنضج بهذا الشكل الرؤية تجاهها، وتُتَّخذ بحقِّها القرارات المختلفة.

مرجعيَّة الإمام الخوئي‏

وفي البداية -بعد وفاة الإمام الحكيم عام 1390هـ ـ قرّر الشَّهيد الصَّدر دعم مرجعيَّة آية اللَّه العظمى السَّيد الخوئي اعتماداً على النقاط الآتية:

1ـ انفتاح آية اللَّه العظمى السَّيد الخوئي على مشاكل مرجعيَّة الإمام الحكيم الميدانية في العراق وموقفه الإيجابي، نسبياً، من الإمام الحكيم وحركته السِّياسيَّة في أيَّامه الأخيرة على الأقل.

2ـ العلاقات القويَّة التي تربط الشَّهيد الصَّدر بآية اللَّه الخوئي والثَّقة المتبادلة بينهما، وهي علاقات كان الشَّهيد الصَّدر يرى، من خلالها، إمكانية التأثير على آية اللَّه الخوئي في البقاء فولو نسبياًف في خطِّ مرجعية الإمام الحكيم، لا سيَّما وأنّ تصوُّرات آية اللَّه الخوئي عن العمل الإسلامي، نظريَّاً، كانت قريبة من نظريَّة الشَّهيد قبل أن يقول بولاية الفقيه المطلقة.

3ـ الشُّعور بالفراغ ووجود الأخطار بعد وفاة الإمام الحكيم في تلك الظروف المأساوية (المحنة) التي تهدِّد المرجعية والعمل الإسلامي العام والإنجازات التي توصَّلت إليها مرجعية الإمام الحكيم، وكذلك الاهتمام بمل‏ء هذا الفراغ من خلال وحدة المرجعية في العراق، وكان آية اللَّه الخوئي هو المرجع الوحيد الذي يمكن أن تجتمع عليه الكلمة في العراق نسبيَّ.

ولعلّ هذه النقطة هي أهمّ النُّقاط الثلاث.

وقد حاول الشَّهيد الصَّدر أن يتوثّق من ذلك عن طريق أحاديث مباشرة وغير مباشرة -بوساطة بعض طلاَّبه‏- مع آية اللَّه الخوئي لمعرفة وجهة نظره في هذا المجال، وكانت نتائج المباحثات إيجابية.

ولكن لم يمرّ وقت طويل حتى أصبح من الواضح أنّ آية اللَّه الخوئي فكما صرّح هو بنفسه أيضاً- لم يكن قادراً أو مؤهَّلاً للقيام بهذا الدور الدِّيني بأبعاده الاجتماعية والسياسية، لا سيَّما في ظروف المحنة والحكم القمعي الوحشي الذي يمارسه البعثيون العراقيُّون.

الشَّهيد الصَّدر (رض) في واجهة التَّصدّي‏

ولا أريد، هنا، أن أتناول هذا الموضوع الشَّائك بتفاصيله وملابساته، ولكن الواقع الذي واجهه الشَّهيد الصَّدر وتتابع الأحداث دفع به، على غير رغبة منه، إلى أن يدخل في مواجهة الأحداث بشكل مباشر.

ومن هذه الأحداث المحاولة الأولى للتَّسفير العام للحوزة العلمية ـ بعد وفاة الإمام الحكيم في أواخر سنة 1392هـ.ق؛ حيث كان آية اللَّه الخوئي مريضاً راقداً في المستشفى في بغداد وعلى أبواب السَّفر إلى لندن للمعالجة، وكان طلاَّب الحوزة العلمية والعلماء في حيرةٍ من موقفهم تجاه الإنذار بالسفر الذي وجَّهته الحكومة المجرمة عن طريق مكبِّرات الصوت السيَّارة، وكان الشَّهيد الصَّدر في زيارة توديعيَّة لآية اللَّه الخوئي ونقل له مجمل الأوضاع في النجف، ورجّح له أن يتَّخذ موقفاً واضحاً من هذه القضيَّة، وهو الطَّلب من الحوزة الامتناع عن السفر، ووافق آية اللَّه الخوئي على ذلك، ونقل الشَّهيد رسالته إلى حاشية السَّيد الخوئي وكبار الحوزة العلمية.

ويبدو أنّ الحاشية كان لها رأي آخر بالموضوع وتقدير آخر للموقف، فلم تستجب لمتطلَّبات الرسالة، بل أمعن بعضهم في الموقف السلبي بأن أبرز التَّشكيك بصحَّته.

وهكذا تمَّ تسفير عدد كبير من العلماء والطلبة حتى أنقذ الموقف الإمام الخميني‏(رض) الذي تدخَّل في الأمر، ولأوَّل مرَّة، وأعلن تعطيل الحوزة احتجاجاً على هذا القرار، وطلب عدم الاستجابة للسَّفر، فأعلنت الحكومة العدول عن قرارها، بعد أن أرسلت «علي رضا»، أحد كبار مسؤولي المخابرات العراقية آنذاك‏‏[39]، للتَّفاوض مع العلماء في النجف؛ حيث اجتمع بالإمام الخميني وغيره من العلماء، وأسمعه الإمام كلاماً واضحاً وقوياً تجاه هذا الموضوع.

وكان للشَّهيد الصَّدر دور كبير في التَّنسيق ودعم هذا الموقف القوي الجديد في الحوزة تجاه الحكم العفلقي المجرم.

كما كان من هذه المواقف والأحداث البرقيَّة التي أرسلتها الحوزة العلميَّة إلى أحمد حسن البكر تطالبه بإيقاف التَّسفيرات بتوقيع كبار العلماء، أمثال آية اللَّه الشيخ مرتضى آل ياسين وآية اللَّه السيِّد محمَّد سعيد الحكيم وآية اللَّه الشيخ محمَّد جواد آل شيخ راضي وغيرهم، والتي سعى الشَّهيد الصَّدر إلى ترتيبها‏[40].

ومنها التهيُّؤ لمواجهة التوقُّعات التي كانت موجودة في إقدام حزب البعث العفلقي المجرم على تحجيم المواكب الحسينية في الأربعين واحتوائها؛ حيث قام الشَّهيد الصَّدر بتوعية أصحاب المواكب وإلفاتهم إلى هذه المؤامرة الدَّنيئة ضد الشَّعائر الحسينية والتي تطوَّرت الأحداث تجاهها تدريجياً بعد ذلك في السنوات التالية حتى كانت انتفاضة صفر المحدودة سنة 1396هـ، وانتفاضة صفر الدموية الأخرى سنة 1397هـ، والأحداث المؤلمة التي رافقتها‏[41].

وكان لتلك الجهود التي يبذلها الشَّهيد الصَّدر أثر مهمٌّ في مجال تأخير تنفيذ الحكم المجرم لمؤامرته ضدّ الإسلام وضدّ الشَّعائر الحسينية بشكل خاص من ناحية، وتوعية الجماهير في الوقوف تجاه هذه المؤامرة الإجرامية من ناحية أخرى.

وبسبب هذه الجهود التي كنت أساهم فيها مع شهيدنا الغالي كانت ردّة فعل النِّظام المتمثّلة باعتقالي وبالمحاولة الفاشلة لاعتقال الشَّهيد الصَّدر ونقله إلى بغداد سنة 1392هـ‏[42] وكذلك اعتقال عدد من العلماء والمجاهدين في الوقت نفسه وإطلاق سراحهم في النجف. ولكن موقف آية اللَّه الشيخ مرتضى آل ياسين [43]وجماعة من العلماء وطلاَّب العلوم الدينية من ناحية، وصمودي أمام عمليَّات التعذيب التي مورست ليلة الاعتقال لانتزاع الاعترافات الكاذبة‏ [44]والنشاط السياسي الذي قمت به بعد الاعتقال لكسر حاجز الرُّعب والخوف الذي حاول البعثيُّون إيجاده أفشل المؤامرة بكاملها، بل أعطى التَّحرُّك المرجعي للشَّهيد الصَّدر زخماً جديداً من ناحية، ووضع الشَّهيد الصَّدر وحوزته في الخطِّ الأوَّل من المواجهة من ناحية أخرى، وأصبح الشَّهيد الصَّدر أطروحة المرجع الديني المتصدِّي للنظام العفلقي.

وفي هذه الأثناء، وبعد هذا التطوُّر في التَّصدِّي، أي في أواخر سنة 1393هـ ـ 1973م، قام الشَّهيد الصَّدر بطرح موضوع حسّاس ومهمّ حول العلاقة بين الحوزة العلمية والتنظيم الخاص الذي كان يوليه حينذاك رعاية خاصة، وكان هذا الطرح في المجلس الاستشاري الخاصّ به.

وكانت تصوّرات الشَّهيد الصَّدر تقوم على أساس أنّ الحوزة، بتشكيلاتها وتنظيماتها، تمثِّل القيادة الأساسية للعمل الإسلامي، ولا بدَّ لهذه الحوزة من أن تكون مستقلَّة عن العمل المنظّم الخاص.

وقد تمَّ بحث هذا الموضوع في عدَّة اجتماعات، وكان يوجد اتِّجاهان في المجلس:

أحدهما: كان يتبنّى ضرورة إبقاء المجال مفتوحاً أمام العمل المنظَّم الخاص ليمارس نشاطه في الحوزة استناداً إلى أنّ هذا هو السَّبيل الطَّبيعي المتيسِّر أمامنا لتوعية طلبة الحوزة العلميَّة على العمل السِّياسي وحمل همومه. ومن دون ذلك فسوف ينخفض هذا الوعي في الأوساط الحوزويَّة خصوصاً الطلبة الجدد الذين لا يخضعون لضوابط أو توعية في الحوزة، ويتعرَّضون عادةً إلى الضغوط الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة في الحوزة، بحيث قد يتعرَّضون إلى العزلة أو الانكفاء على الذات أو ترك الهموم السِّياسيَّة.

مضافاً إلى أنّ فصل الارتباط العضوي قد يؤدِّي بالعمل المنظّم الخاص إلى الانحراف والابتعاد تدريجيَّاً عن المرجعيَّة الرَّشيدة الصالحة وتأثيرها فيه، لأنَّ وجود العلاقة العضوية بين الطلبة والعلماء والعمل المنظَّم الخاص سوف يسمح بشكل طبيعي بوجود التأثير المتبادل بين الحوزة والعمل المنظَّم الخاص.

وثانيهما: الاتِّجاه الذي كان يرى ضرورة فصل الحوزة عن هذا العمل باعتبار وجود المحور الصالح وأطروحة المرجع الواعي المتمثِّلة بالشَّهيد الصَّدر وحوزته الذي يمكن أن يكون مصدر الهداية والتوعية في هذا المجال، وباعتبار الإيمان الفعلي للعمل المنظَّم الخاص بالمرجعيَّة الرشيدة للشَّهيد الصَّدر على مستوى الواقع العملي من ناحية، وباعتبار وجود الأجهزة النامية للمرجعيَّة التي يمكنها أن تمارس التوعية في أوساط الحوزة العلمية من ناحية أخرى.

مضافاً إلى أنّ ضرورة استقلال الحوزة تنبع من موقعها القيادي في الأمَّة الذي يفرض هذا الاستقلال، لأنَّه هو الذي يمكِّنها من التأثير في الأمَّة من خلال هذا الموقع بعيداً عن الشُّبهات مع ضرورة ممارسة التوعية في الحوزة وانطلاقاً من المراكز الحوزويَّة الأصيلة.

وكان كلٌّ من الاتِّجاهين يؤمن فعلى مستوى المجلس الاستشاري والأحاديث المطروحة فيه على الأقلّ‏ف بصحَّة الفصل والاستقلال نظرياً، ولكن المشكلة التي كانت مطروحةً للبحث هي النتائج العملية لهذا الفصل التي قد تكون مقرونة ببعض المواقف السلبية أو الخسائر في مجال التوعية.

وفي النِّهاية، تمَّ التوصُّل إلى قرار عملي فمع التحفظ تجاهه من قبل بعض أعضاء الجلسة إيجابياً وسلبياًف وهو يتضمَّن النُّقاط الآتية:

1ـ أن يتمّ الفصل كلِّياً، على مستوى أجهزة المرجعية الخاصة، والعناصر الإدارية والاستشارية لها، وبين العمل المنظَّم الخاص لتحقيق الاستقلال على هذا المستوى.

2ـ أن يتمَّ الفصل بين الحوزة، بشكل عام، والعمل المنظَّم على مستوى دراسة السَّطح والخارج[45]، بحيث يتمّ إبلاغ الطلبة المنظّمين على هذا المستوى بشكل خاص بفكِّ الارتباط العضوي مع التَّنظيم الخاص.

3 ـ يسمح للطَّلبة ذوي الدراسات الأوَّلية (المقدّمات) بأن يرتبطوا بالتَّنظيم الخاص مؤقَّتاً من أجل تحقيق التوعية السياسية في هذا القطاع مؤقَّت.

4 ـ يستثنى من البند الثاني الأشخاص المرتبطون بالتَّنظيم الخاص الذين يكون لوجودهم دور مهمٌّ في إدارته وتثقيفه، بحيث يؤدِّي فكُّ ارتباطهم منه إلى إيجاد الاختلال في الوضع التَّنظيمي الخاصّ على المستوى العملي والثقافي.

الحوزة العلميَّة.. وموقفها من مرجعيَّة الشَّهيد الصَّدر(رض)

وكانت هناك تساؤلات وشبهات حادَّة ومهمَّة مطروحة، على مستوى الحوزة العلميَّة والأمَّة، حول الشَّهيد الصَّدر وعلاقته -بالتنظيم الخاص- خصوصاً بعد تصدِّيه للمرجعيَّة وبروزه في صدر الأحداث؛ وذلك باعتبار عدَّة عوامل وأسباب، منها وجود العلاقة التاريخية ابتداءً بينه وبين التنظيم الخاص، ومنها وجود الرعاية للتنظيم الخاص بقاءً واستمراراً من قبله، ومنها ارتباط عناصر التَّنظيم الخاص به روحيَّاً ومعنويَّ.

وكانت وراء هذه التساؤلات دوافع عديدة، منها دوافع «مخلصة»، لأنَّ قدسيّة المرجعيَّة ودورها المهمّ في الأمَّة وموقعها من العمل الإسلامي وسعة دائرتها وعمق نفوذها لم يكن يسمح لها، في ذهن الحوزة والأمَّة معاً، أن تكون في إطار تنظيم خاص أو حزب محدود. وكان هذا الموضوع يعيش في وجدان الأمَّة ومشاعرها وأذهانها بعيداً عن النظريَّات والمفاهيم. علماً أنّ النظرية والإحساس معاً يدعمان هذا التصوُّر في فهم الشهيد الصدر كما ذكرنا، كما أنّ هذا الأمر هو الذي دعا الإمام الحكيم لأن يطلب من الشَّهيد الصَّدر ومن ولده السَّيد مهدي الحكيم الخروج من التنظيم الخاص.

ومن هنا كان بعض المخلصين من الأمَّة يقفون من مرجعيَّته موقفاً سلبياً أو متردِّداً تشوبه الحيرة والارتياب ويطرحون هذا التساؤل: ما هو مدى علاقة الشَّهيد الصَّدر بالتَّنظيم الخاص؟ وما هي طبيعة هذه العلاقة؟

وعندما يجابون بنفي العلاقة يذكرون الشَّواهد والأرقام ذات المداليل الظنِّية الحدسية أو شبه الحسِّية، ومنها هذه الشواهد، وهي أنّ أكثر المرتبطين به وخاصتهم يرتبطون عضوياً بالعمل المنظَّم الخاص.

ولكن كان إلى جانب هذا الدافع المخلص المشوب بالكدر والظَّن دوافع أخرى تتراوح بين «الحرص» على مصلحة الشَّهيد الصَّدر وف«التَّخلُّف» في الرؤية السياسية وف«مرض القلب». لأن بعض هؤلاء الناس كانوا يتساءلون بدافع آخر ينطلق من عدم إيمانهم بالعمل السياسي مطلقاً، فكيف إذا كان العمل السياسي بهذا المستوى الصارخ الشامل، ويرون في الارتباط بالعمل الحزبي أوضح ألوان الممارسة السياسية ذات الأسلوب الغريب عن المجتمع الإسلامي والتي عرفها من خلال التأثُّر بالحضارة الغربية وأساليبها في العمل السياسي‏‏[46].

وبعض آخر كان يعادي مرجعيَّة الشَّهيد الصَّدر لأسباب شخصية أو إقليمية أو سياسيَّة، وكان يستغلُّ هذا السُّؤال ويعطيه أبعاداً مختلفة وحجماً كبيراً، ويستفيد إلى حد كبير من حالة الغموض والسِّرية في تشويه الصُّورة العامة لمرجعية الشَّهيد الصَّدر، لا سيما أنّ مرجعيته كانت «ناشئة»، وقد طرحت من خلال العمل السياسي والمواجهة مع النِّظام المجرم. ولعب بعض الأفراد – في حاشية بعض المراجع في هذه الآونة بالذات‏ف دوراً غير أخلاقي في هذا المجال.

كما أنّ تصرُّفات بعض المحبِّين للشَّهيد الصَّدر وأساليب التعبير عن حبّهم ومودّتهم واعتقادهم، التي لا تتصف بالحكمة والحنكة، ساعدت هؤلاء على تحقيق أغراضهم الفاسدة، فكانت تثير كوامن الحسد أو الحقد أو الغيظ، أو غير ذلك من المشاعر التي يبتلى بها عامَّة النَّاس.

وإلى جانب ذلك، كان يوجد بعض المحبِّين والعارفين بالشَّهيد الصَّدر، ومنهم آية اللَّه العظمى السَّيد الخوئي، كانوا يرون أنَّ تصدِّيه للمرجعيَّة في هذا الوقت المبكِّر، سوف يعرِّضه للأذى والتحجيم وأنّ من الضروري الانتظار قليلاً، وعندئذٍ فسوف تكون المرجعيَّة له بلا شكّ.

كما أنّ بعضهم كان يرى، في هذا التصدِّي، خرقاً للقواعد العرفية الحوزوية التي يراعى فيها عادة موقع الطبقة العلمية وأنَّ وجود أستاذه في قيد الحياة وفي موقع المرجعية لا يناسب هذا التصدِّي.

وقد كان النظام المجرم يضغط بأساليبه الخبيثة، والقاسية، باتِّجاه «إسقاط» شخصيَّة الشَّهيد الصَّدر وتحجيمها في دائرة معيَّنة، ليسهل عليه الانفراد به؛ حيث كان يطلق الإشاعات ويهدِّد ويتوعَّد بهذا الاتِّجاه. وذلك لأنَّ النِّظام المجرم يدرك أنّ المرجعية الرَّشيدة الصَّالحة هي أقوى وجود إسلامي يمكنه تعبئة الأمَّة ضد النِّظام الفاسد المستبدّ وقيادتها في مسيرتها الإسلامية.

كما كانت الأمَّة، أيضاً، تدرك هذه الحقيقة، لا سيَّما إنّ مرجعية الإمام الحكيم التي حقَّقت الإنجازات الكبيرة، في هذا المجال، على مستوى الأمَّة، كانت قد نبّهت الأعداء إلى هذه الحقيقة الكبيرة لدور المرجعية والتي نامت عنها عيون الأعداء بعد عزلة المرجعية السابقة‏[47].

كلّ هذه الأمور جعلت الشَّهيد الصَّدر يفكِّر بشكل أعمق وأكثر جدية بأن يتبنَّى عملياً ونظرياً الاتِّجاه إلى بناء المرجعية والحوزة العلمية وجهازها واستقلالها، ويعطي ذلك الأولويَّة في الاهتمام، مع اهتمامه، في الوقت نفسه، برعاية العمل المنظّم الخاص الذي يمكن أن يكون ذا أهمِّية في بعض المجالات والأعمال.

وكان من جملة النَّشاطات لبناء الحوزة الاتِّجاه إلى رعاية الطَّلبة علمياً ومادياً، ومحاولة تطوير «نظام طبيعي»‏[48] ومشجّع للحوزة عن طريق الدِّراسة المنظَّمة فيها من جهة، وتعميق الضَّوابط الموضوعية والأخلاقية التي تحكمها وتطبيقها تدريجياً من جهة ثانية.

فكّ الارتباط بين المرجعيَّة والتَّنظيم الخاص‏

وفي تطوُّر آخر للأحداث، على مستوى العمل المنظَّم الخاص والحوزة، تمَّ اعتقال أحد العناصر المهمَّة في التنظيم الخاص الذي قدَّم اعترافات واسعة عن التنظيم تشمل مجموعة من خيرة طلبة العلوم الدينية؛ حيث تمَّ اعتقالهم أيضاً‏[49].

وتكشَّفت خطوط العمل لتطول مجموعة من طلاَّب الشَّهيد الصَّدر وطلاّب حوزته وبعض خاصَّته.

وقد كان ذلك «مفاجأة كبيرة» للشَّهيد الصَّدر بهذه الحقيقة والواقع، وتبيَّن له أنّ مجموعة من طلاَّبه ومقرّبيه قد انتموا إلى التنظيم الخاص، معتقدين أنّ ذلك برأيه ونظره وموافقته وبسعي من أحد طلاَّبه المقرَّبين إليه جداً، الذي لم يتمّ إبلاغهم بالقرار السابق المذكور بشكل مناسب على الأقل، وكانت صدمة نفسية فوسياسية- قاسية وكبيرة لخطَّته وتصوُّراته السِّياسيَّة عن العمل حتَّى أصيب على أثر ذلك بالمرض عندما قام هذا الأخ (الطالب الفاضل) المقرّب إليه باعتراف للشَّهيد الصَّدر بالحقيقة كاملة مع إخباره بعزمه على الهجرة من النجف خوفاً من الاعتقال لأنَّه كان يحتمل قوياً أن يعترف عليه بعض المعتقلين، ويكون ـ ذلك كارثة للشَّهيد الصَّدر وللحوزة العلمية فاحتاط بالخروج. وقد كان ظنّه صحيحاً، وتوالت عليه الاعترافات الصحيحة وغير الصحيحة خصوصاً بعد أن خرج من العراق.

وقد استفاد هذا الأخ في الخروج من الاختلاف بين اللقب الرسمي له المثبت في الجواز ووثيقة الإقامة، وبين اللقب المعروف عنه في الأوساط العلمية والاجتماعية، وتمكَّن من الخروج من النجف إلى إيران‏‏[50].

وعلى أثر ذلك، قام الشَّهيد الصَّدر(رض) باتِّخاذ إجراء عاجل، وهو إبلاغ جميع هؤلاء الطلاَّب والمقرَّبين بضرورة الخروج من العمل المنظّم الخاص.

كما قام بإبلاغ بعض المسؤولين الكبار في التَّنظيم بضرورة إصدار بلاغ من القيادة إلى التنظيم الخاص يطلب منهم فكّ الارتباط مع جميع طلاَّب الحوزة ومدرِّسيها والوكلاء في البلدان. ومن دون ذلك فسوف يقوم الشَّهيد الصَّدر بإصدار حكم، باعتباره الفقيه الوليّ، بحرمة الانتماء إلى التنظيم الخاص بالنسبة إلى طلاَّب الحوزة العلمية وغيرهم من الأجهزة‏[51].

وبعد ذلك، أُعتقل عدد كبير من طلاَّب الشَّهيد الصَّدر ووكلائه وأصدقائه من العلماء وغيرهم، وكانت هناك قوائم معدَّة للمزيد من الاعتقالات كان الشَّهيد الصَّدر ضمنها وكذلك «كاتب هذه السُّطور» وغيرهما. وكان ضمن المعتقلين طلاّب لم يكن لهم انتماء إلى التنظيم الخاص مطلقاً، وآخرون كان لهم انتماء إلى التنظيم الخاص، ولكنَّهم كانوا قد خرجوا منه بطلب الشَّهيد الصَّدر، وآخرون كانوا منتمين إليه بالفعل.

ثمَّ بعد مداخلات كثيرة من الحوزة، ومنها مداخلة آية اللَّه السَّيد الخوئي، ومن خارجها، ومنها مداخلة السَّيد موسى الصَّدر، تمَّ إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين مع الاحتفاظ ببعضهم. وتبيّن بعد الإفراج عنهم عدَّة قضايا:

1ـ أنّ معظم المعتقلين قد انتزعت منهم اعترافات بالانتماء إلى التنظيم الخاص، وبعضهم تمَّ ترتيب هذا الاعتراف له في المعتقل، تفادياً للتَّعذيب مع عدم كونه منتمياً حقيقياً أو له ارتباط بأشخاص غير الذين تمَّ الاعتراف عليهم.

2ـ أنَّ التفكير العام الذي كان يسود أفراد التنظيم الخاص هو صحَّة الاعتراف بالانتساب إليه والتَّكتُّم مهما أمكن على أكبر قدر ممكن من المعلومات، وأنَّ هذا هو أفضل طريق لمواجهة حملة القمع والاعتقالات باعتبار وجود تجربة سابقة مشابهة في السِّنين الماضية.

3ـ أنَّ هناك ضغطاً شديداً تمَّت ممارسته من قبل السُّلطة لانتزاع اعتراف ضدّ الشَّهيد الصَّدر، في هذا المجال، من بعض المقرَّبين إليه وبتشجيع بعض المعتقلين انسياقاً مع الجو العام، ولكنَّ صمود بعض الأخوة، كالسيِّد «محمود الهاشمي»، وتشجيع الشَّهيدين: الشيخ عارف البصري والسيِّد عماد الدين الطباطبائي على الصمود، منع وقوع هذه الكارثة للشعور بخطورة هذا الاعتراف بشكل خاص.

4ـ أنّ الفكرة العامَّة التي تمَّ استنتاجها، لدى النِّظام، وكذلك لدى الأوساط العلمية في النجف، هو: أنّ الشَّهيد الصَّدر مرتبط بالتنظيم، باعتبار أنّ جميع هؤلاء الأخوة كان لهم ارتباط وثيق وقريب جدَّاً به، بالرغم من أنّ أكثرهم حاول أن يدفع هذه الشبهة في داخل المعتقل من طريق الجواب عن سؤال: لمن ترجع بالتقليد؟ بأنَّ مرجعهم هو آية اللَّه السَّيد الخوئي.

وكان الشَّهيد الصَّدر يقول: إنّ هذا الاستنتاج طبيعي بعد أن كانت الاعترافات سهلة وعامَّة تقريباً من قبل الأخوة وإنّ هؤلاء يشكّلون القاعدة ـ الظَّاهرية لحوزته.

5ـ أنّ هناك مجموعة من أفراد التنظيم الخاص كانت تعتقد فعلاً أنَّ الشَّهيد الصَّدر هو رأس التنظيم أو المنظّر له أو الفقيه الذي يرجع إليه التنظيم، وكانت هذه الفكرة تلقى بشكل أو بآخر إلى أفراد التنظيم من قبل بعض المسؤولين في الحلقات.

ومن هنا نجد الشَّهيد الصَّدر يتَّخذ عدَّة إجراءات احترازية:

1ـ إصدار جواب لاستفتاء مكتوب[52] ينصّ على أنَّه كان قد أصدر حكماً بعدم جواز انتساب طلاَّب العلوم الدِّينية إلى التنظيمات الخاصَّة.

2ـ منع بعض الوجوه المعروفة بانتمائها إلى التنظيم الخاص، لا سيَّما من صدر منه الاعتراف بذلك، عن التردُّد إلى منزله من أجل تغيير الصورة الشكليَّة لحوزته وإعطائها البعد الدِّيني العام.

3ـ المنع من الحديث عن علاقته بالتنظيم الخاص، سواء على مستوى التاريخ أو التأييد أو الرِّعاية، وكان يظهر انفعالاً شديداً من سماع ذلك.

4ـ التوجُّه بشكل أشمل وأوضح إلى الأعمال الحوزوية بالصِّيغ المعروفة والانفتاح الواسع عملياً على القطاعات العامَّة للأمَّة والحوزة، كمجلس التعزية الأسبوعي والمقابلة العامَّة مع الناس والاهتمام ببعض الوجوه الحوزوية التقليدية النظيفة والمعروفة، بل وغيرهم وإدخالهم في بعض نشاطاته.

5ـ تشكيل لجان عمل في داخل جهاز مرجعيَّته تقوم بالنشاطات الحوزوية من رعاية الطَّلبة إلى إرسال الوكلاء والاتِّصال بهم، إلى تأليف بعض الكتب الدينية والثقافية لإعداد منهج ثقافي للحوزة.

6ـ التصدِّي العام للقضايا التي تهمُّ الأمَّة وفتح الحوار نيابةً عن الأمَّة مع السلطة حول هذه القضايا، وقد تجلّى ذلك بشكل واضح في قضية الدفاع عن الحوزة العلمية وتسفيرات سنة 1392هـ ـ 1972م، التي مرَّ ذكره.

وقضية المواكب والشعائر الحسينية وقضايا أخرى.

ومنها قضية (17) صفر 1977م ـ 1397هـ التي قام الشهيد الصدر بإرسال وفد فيها عندما طلبت منه الحكومة ذلك بوساطة «السيِّد مصطفى جمال الدين» بعد إعلان موافقتها على التراجع عن موقفها تجاه قضية منع المواكب، وكنت ممثِّلاً له في هذا الشأن بعد إلحاحه عليَّ بالقيام بهذه الخطوة، وانتهى الأمر، بعد ذلك، بالموقف الخياني للحكومة والموقف البطولي للجماهير والرعاية الواعية للمرجعية؛ حيث كانت الجهة الإسلامية الوحيدة التي تبنَّت الجماهير وانتفاضتها وتحمَّلت نتائج ذلك.

وقد تمَّ اعتقالي بعد ذلك والحكم بالسجن المؤبَّد عليّ، والتهمة التي كانت موجَّهة هي تحريض الجماهير على الانتفاضة والتَّخطيط لها، وكان مستند الحكومة في هذه التهمة مضمون الحديث الذي تحدَّثت به مع مجموعة من قادة الانتفاضة في ليلة (18) صفر في خان النخيلة‏[53].

واستمرّ هذا المنهج للشَّهيد الصَّدر حتى انتصار الثورة الإسلامية وبعده.

7ـ إيجاد صلة محدودة مع أجهزة السلطة المحلِّية لإنجاز المعاملات الروتينية ذات العلاقة بالطَّلبة وغيرهم كما هو شأن المراجع، والانفتاح في استقبالهم في الديوان في بعض المناسبات.

خطوط عامَّة جديدة في تصوُّر الشَّهيد الصَّدر (رض)

وقد توضّحت للشَّهيد الصَّدر(رض)، في هذه الآونة، مجموعة من القضايا الاستراتيجية في العمل السياسي، إضافةً إلى النقاط السابقة منها:

1ـ إنّ منهج العمل السياسي القائم على فكرة «المرحليَّة»، وبمعنى أن يقوم التَّحرُّك السِّياسي على أساس الفصل الكامل بين طبيعة مرحلة، ومرحلة أخرى.. غير سليم، وأنّ التدرّج في الدعوة والعمل إلى اللَّه لا يعني بالضرورة هذا التَّصوُّر للمرحلية. وأنّ الصحيح في منهج العمل الميداني الفعلي هو الدمج بين العمل الثقافي والعمل السياسي والتصدِّي للمواجهة، ولكن مع مراعاة التدرّج في الطَّرح، والظروف الموضوعية القائمة فعلاً، سواء على صعيد الأمَّة أو الحكم أو أجهزة المرجعية وإمكاناتها. وبذلك أعطى الشهيد الصدر «المرحلية» معناها القرآني الأصيل.

2ـ إنّ المرجعيَّة الدينيَّة يجب أن تعتمد بصورة «أساسية» على تشكيلاتها الخاصة، التي يجب العناية بها وتطويرها كماً وكيفاً، وهذه التشكيلات هي مؤسَّسات: الحوزة، والوكلاء، والمساجد، والمؤسسات المرتبطة مباشرة بها، والصفوة المؤمنون الذين يلتفون حول هؤلاء العلماء ويشكّلون القاعدة العامة لهم.

3ـ إنّ التَّنظيمات الخاصَّة يمكن أن يكون لها دور «مهم» في العمل السياسي وفي إطار المرجعية ونشاطها العام، لا سيما في بعض الأوساط أو بعض الأعمال والنشاطات، ولكن من خلال تحولها إلى مؤسسات تعبوية للمرجعية وتحركها السياسي ومواقفها المتحركة، وإلاّ فقد تصبح أجهزة معوِّقة للتحرك في بعض المقاطع أو المواقف، وإنّ هذه التنظيمات يجب أن تخضع لإشراف المرجعية ورقابتها، وبهذا الصدد نجد الشَّهيد الصَّدر يقوم بتعيين بعض طلاَّبه مشرفين على بعض هذه التنظيمات الإسلامية‏[54]، ويطالب بعضها الآخر بالالتزام بقراراته والانسجام معه.

وكانت معاناة الشَّهيد الصَّدر اللاَّحقة تؤكِّد هذه الحقيقة؛ حيث عاش حالة الإحباط التي شهدتها مرجعية الإمام الحكيم تجاه هذا الموضوع في الأزمات، لا سيما عند سفره إلى لبنان لتعبئة الأمَّة سياسياً وإعلامياً لإسناد المرجعية في محنتها. حيث كانت النتائج والملابسات توضح هذه المقولة بجانبيها: الإيجابي والسلبي‏‏[55].

4ـ إنّ قدرة المرجعية -بصورها عامة- بأجهزتها الصَّالحة على التعبئة السياسيَّة والجهاديَّة في مواجهة القمع والأنظمة الفاسدة، أكبر من قدرة التنظيم الخاص. كما أنّ قدرتها على حماية نفسها وعلى المناورة أفضل، لأنّ المنهج الذي تتبعه المرجعية هو منهج اللاَّمركزية الأكثر قدرة على التعبئة والأكثر مرونة في المواجهة والمناورة مع وجود الحماية الواسعة لها على مستوى التَّاريخ والأمَّة.

5ـ الفصل بين أجهزة المرجعيَّة وأجهزة التنظيم الخاص حتى على مستوى الوكلاء، حتى أنَّه امتنع أن يمنح أحد كبار طلاَّبه وكالة عنه بعد أن أصرَّ هذا الأخ على البقاء في الحزب لمصلحة كان يعتقد بوجودها، بالرغم من طلب الشَّهيد الصَّدر منه الخروج من التنظيم الخاص، علماً بأنّ الشهيد كان يثق بتديُّنه وفضله. كما أنَّه لم يرشِّحه للقيادة النائبة لهذا السبب على ما أعتقد.

وقد اهتمَّ الشَّهيد الصَّدر بتدوين بعض أفكاره ونظريَّاته هذه إلى حدٍّ بعيد؛ وذلك من خلال كتابته لكرَّاس: «المرجعية الموضوعية» بعد مناقشته له في المجلس الاستشاري وإرساله إلى المناطق المختلفة والطلب من بعض طلاَّبه‏‏[56] القيام بشرحه إلى القواعد المؤمنة، كما أنّ رؤيته لذلك أصبحت أكثر وضوحاً من بعد في مرحلة التَّطبيق.

كما كان يتحدَّث ببعض هذه الأفكار في جلساته الخاصَّة إلى طلاَّبه ويناقش بعضها في جلسة الشّورى.

المرحلة الجهادية

وبعد انتصار الثَّورة الإسلامية، أصبحت الحقائق والمفاهيم في العمل السِّياسي التي كان قد توصَّل إليها الشَّهيد الصَّدر(رض) أكثر وضوحاً وواقعيةً، وبدأت بذلك مرحلة جديدة من العمل السياسي تؤكِّد المفاهيم والتصوُّرات السِّياسية السابقة نفسها؛ إذ من الواضح أنّ الثورة الإسلامية في إيران اعتمدت في تحرُّكها السياسي -بالأصل‏- على نظريَّة «المرجعيَّة الدِّينية» بالمعالم السابقة التي أشرنا إليه.

وكان للحوزة العلمية والوكلاء والمبلّغين والمساجد.

وكان التَّحرُّك الجماهيري العام مع تحرُّك «الحواريين» المؤمنين من وراء هذه المساجد، وحلقات التدريس العام للفقه والقرآن والمعرفة الإسلامية.

وكان تبنِّي مصالح الأمَّة الفعلية والمرحلية وطرحها سياسياً إلى جانب الطَّرح المفاهيمي والثقافي العام.

وكان الدُّخول في الصِّراع مع السُّلطة والاستكبار العالمي إلى جانب البناء الروحي والأخلاقي والثقافي… كان لجميع هذه المفردات المساهمة الفعَّالة في تحقيق التعبئة السياسيَّة والروحيَّة، ومن ثمَّ الوصول إلى النصر بإذن اللَّه‏‏[57].

ومن هنا كان تقييم الشَّهيد الصَّدر لهذه الثورة أنها حقَّقت الأهداف التي عمل من أجلها الأنبياء، ومن هنا كان هذا الذوبان منه في الثورة وقيادتها الحكيمة.

وأصبح من الواضح، لدى الشَّهيد الصَّدر، ضرورة الانتقال من حالة «الانتظار للفرصة المواتية» لبدء المواجهة، إلى حالة «المواجهة الفعلية». وقد عبّر عن ذلك في بعض الاجتماعات الخاصَّة للتداول والتشاور بما مضمونه: أنه من قال إنه سوف يبقى لنا شي‏ء إذا انتظرنا الفرصة المناسبة، بعد أن كان العفالقة المجرمون جادِّين في مسخ شخصية الإنسان المسلم في العراق وتغيير كل المعالم الإسلامية وسحق المثل والقيم الربّانية، واستخدموا جميع الأساليب الفاسدة والخبيثة والوحشية لتحقيق أهدافهم!؟

كما أصبح واضحاً للشَّهيد الصَّدر أنّ الجهود التي كانت تبذل في سبيل بناء التنظيم الخاص لو بذلت ووظّفت في سبيل بناء الحوزة العلمية وتشكيلاتها الخاصة، لكانت النتائج أكبر بكثير من النتائج التي توصّلنا إليها طوال المدَّة السابقة كما صرّح بذلك.

كما أصبح من الواضح لديه أنَّه لا بدَّ من مضاعفة الجهد لمل‏ء جميع الفراغات الموجودة في ساحة العمل التبليغي، وعلى صعيد المساجد ومراكز الهداية والتوجيه، وبأسرع وقت انطلاقاً بالعمل الجماهيري باتِّجاه الأهداف الإسلامية.

خطَّة العمل في المرحلة الجهاديَّة

وقد بدأ الشَّهيد الصَّدر (رض) عمليَّة فحص وإحصاء وتقييم للمرحلة ومستلزماتها ومتطلَّباتها لتحقيق الأهداف الآنفة، فقام بالخطوات الآتية:

1ـ إرسال الوكلاء والمبلِّغين إلى مختلف المناطق الخالية، وقد تمَّ إرسال عدد كبير من الطلبة لمل‏ء الفراغ.

2ـ مطالبة الأمَّة بطرد علماء السوء أو الأدعياء منهم وكشفهم وملاحقتهم، وقد وقعت حوادث حاصرت فيها الأمَّة هؤلاء الأدعياء وأخرجتهم من مواقعهم.

3ـ ضرورة طرح «المرجعيَّة الرَّشيدة» بشكل عام؛ حيث أصبح ذلك مطلباً ضرورياً واضحاً، وتوسَّعت بذلك قاعدة مرجعيَّته في التقليد والولاء بدرجة كبيرة، ولا سيَّما في صفوف الشباب.

4ـ القيام بعمل ثقافي وروحي شامل في أوساط الحوزة العلميَّة.

5ـ التلاحم مع الثَّورة الإسلامية في إيران. وكان من الإجراءات التي اتَّخذها في هذا المجال التصدِّي لإصدار بيان في تأييد الثورة الإسلامية، وتعطيل درسه أيَّام انتصارها، وتشجيع طلاَّبه على الإعداد لتظاهرة تأييد للثورة في النَّجف الأشرف. وقد خرجت بالفعل هذه التظاهرة، ولأوَّل مرَّة، وواجهت عملية مطاردة من السلطة العفلقية.

6ـ قام، أيضاً، بتأسيس درس التفسير الموضوعي في الأيَّام الأساسية للتدريس في النَّجف وعلى حساب بعض حصص درس الفقه المهم‏‏[58]؛ حيث كان درس التفسير هذا من الدروس المهمَّة التي لاقت إقبالاً عظيماً في أوساط الحوزة، وتناول فيه موضوعاً حسَّاساً يرتبط بالتحليل التاريخي والاجتماعي النظري للقضايا المعاصرة والملحَّة.

وعندما استشهد آية اللَّه المطهَّري، وهو في الوقت نفسه رئيس مجلس قيادة الثورة، أقام مجلس الفاتحة على روحه الطَّاهرة انسجاماً مع الثورة الإسلامية؛ حيث فسَّرت السلطة هذا الموقف بهذا التفسير، لأنَّه لم يقدم على هذا العمل غير الشَّهيد الصَّدر.

7ـ قام، في الوقت نفسه، بالتَّنسيق مع بعض قيادات العمل المنظَّم الخاص في التحرُّك للمواجهة الجهادية من خلال وجهة نظره لموقع المرجعية والعمل المنظَّم الخاص؛ حيث تمَّت الموافقة على أن يسلّم العمل المنظَّم الخاص على مستوى العراق على الأقل بقيادة المرجعية، ويرتبط بقرارها السياسي العام‏‏[59].

8ـ قام، في الوقت نفسه، بالتَّخطيط للتحرُّك الإعلامي والسِّياسي في الخارج، وكتب رسالة في هذا المجال‏‏[60] تمثِّل رؤيته لهذا التحرُّك السياسي والإعلامي.

9ـ وعلى أساس هذا التَّخطيط، أيضاً، قام بإرسال ممثِّل له إلى إيران لينطلق بالعمل الخارجي من هناك، وينسِّق مع قيادة الثورة الإسلامية، وهو سماحة السيِّد محمود الهاشمي.

10ـ أصدر توجيهه بتأسيس حركة التَّحرُّر الإسلامي في لندن، وهي تضمُّ مجموعة من عناصر منظَّمة لأكثر من جهة إسلامية وعناصر مستقلَّة أيضاً، وبدأت تعمل وتمارس النشاط السياسي العام لأوَّل مرَّة في الخارج وبشكل علني من أجل طرح القضية على صعيد المجتمع الدولي‏‏[61].

11ـ وكان قمّة التحرُّك السياسي العام في الداخل هو أسبوع البيعة الذي قامت به جماهير ووفود وهيئات، بقيادة العلماء، من مناطق مختلفة من العراق، تتوافد فيه على النَّجف الأشرف لتعلن البيعة للشَّهيد الصَّدر والاستعداد للتَّضحية، واشترك في هذه الوفود علماء وشباب وعناصر منظَّمة وجماهير مؤمنة عامَّة، وتجاوب مع هذا الأسبوع تنظيم حزب الدَّعوة الإسلامية مع بقيَّة المؤمنين الواعين؛ حيث كان يعبّر ذلك عن مظهر من مظاهر التنسيق وتطبيق الاتِّفاق آنف الذكر.

ردّ فعل النِّظام تجاه خطَّة الشَّهيد الصَّدر (ض)

وإزاء هذا التحرُّك فقد النظام أعصابه -بالرغم من أنّ تحرّك الشهيد الصدر كان سياسيَّاً وسلميَّاًف إلاّ أنّ النظام كان يرى أمامه التَّجربة الإسلامية في إيران ونتائجها، لا سيَّما أنَّه أدرك التَّرابط العقدي والعناصر الثابتة بين هذا التحرُّك وتحرُّك الثورة الإسلامية في إيران مضافاً إلى الطبيعة العدوانية والغرور الذي يتّصف به حزب العفالقة ومجموعة صدام.

واقترن أسبوع البيعة مع برقية الإمام الخميني (قدس سره) إلى الشهيد الصدر (رض) التي يطلب فيها منه البقاء في النجف؛ حيث بلغت مسامعه أنباء عزمه على الهجرة إلى الخارج‏‏[62].

وعلى أثر ذلك، قام النِّظام باعتقال بعض أفراد الوفود ومطاردة بعضها الآخر، أو وضعهم تحت الرقابة، وطلب الشَّهيد الصَّدر -لامتصاص ردّ الفعل‏- من الوفود التوقُّف وأغلق بابه احتجاجاً على موقف السُّلطة. ولكن السُّلطة قامت على الفور باعتقال الشهيد الصدر في 16 رجب 1399ه.

وانفجر الوضع بتظاهرة في النَّجف -بعد أن خرجت الشَّهيدة بنت الهدى تعلن عن اعتقال الشَّهيد الصَّدر وتستنهض الأمَّة -وأخرى في مدينة الثورة وثالثة في الكاظمية وأماكن أخرى من العراق، ووقعت مصادمات مع رجال الأمن، فأطلق سراح الشَّهيد الصَّدر في اليوم الثاني، ثم وضع رهن المراقبة وتمَّ احتجازه في بيته‏‏[63].

وفي التَّحقيق، عند اعتقاله، طُلب منه التخلّي عن تأييده للثَّورة الإسلامية، وتعرّض للتهديد الشديد إذا استمر في هذا الطريق.

وفي الوقت نفسه، تم إلقاء القبض على عدة آلاف من الأشخاص، وتعرَّضوا للتَّعذيب الوحشي أثناء التحقيق.

وفي هذه الأثناء، وبسبب هذه التطوُّرات والأحداث ولمواجهة الثَّورة الإسلامية والنهضة المحمَّدية في العراق وإيران وتطبيق سياسة التَّصفية الشاملة والقبضة الحديدية والأرض المحروقة، حدثت تغييرات مهمة وأساسية سياسية في أوساط النظام الحاكم؛ حيث أُزيح أحمد حسن البكر؛ وذلك من خلال الضغط عليه لتقديم الاستقالة من رئاسة الجمهورية، وتم تنصيب صدام مكانه، فاستهلَّ حكمه بإراقة الدماء بصورة وحشية، ثم تمَّت تصفية العناصر المعتدلة المحسوبة على البكر أو غير الموالية لصدام بتهمة التعاون مع الحكم في سوريا للإطاحة بنظام صدام؛ حيث قُتل عدد كبير من قادة حزب البعث وسجن عدد آخر؛ وذلك ضمن سياسة القبضة الحديدية الجديدة والسيطرة الكاملة لصدام ومجموعته.

كما اتخذ قرار التعامل الوحشي ضد الإسلاميين في العراق، وكانت النتائج الحكم بالإعدام بعد أيام قليلة وتنفيذه على أكثر من سبعين شخصاً، فيهم مجموعة كبيرة من العلماء البارزين في ليلة النصف من شعبان 1399هـ، والحكم بالسّجن المؤبَّد على أكثر من مئتي شخص فيهم العلماء والمثقفون من مختلف أوساط الشعب العراقي.

وقد حاول النظام عدة مرات، في مدة الاحتجاز، من خلال الحوار والوسطاء، أن يثني الشَّهيد الصَّدر عن موقفه المؤيِّد للجمهورية الإسلامية، أو الكف عن مواصلة تنفيذ هذه الخطة.

ومارس، من أجل ذلك، مجموعة من الضُّغوط النفسية والبدنية والتهديد، بالإضافة إلى محاولات الإغراء والاستمالة، ولكنه بقي صامداً على موقفه، بل أذن بتصعيد الموقف السياسي والجهادي ضدّ النظام في الداخل والخارج، بعد أن منع النظام الجمهور من الممارسة العادية للعمل السياسي وقام بعمليات القمع والإعدام.

وعلى أثر ذلك، قام بعض المؤمنين في التنظيمات الخاصَّة وفي غيرها بتشكيل مجموعات جهادية في الداخل، وأخذ جهاز الشَّهيد الصَّدر المرجعي يخطِّط لهذا العمل الجهادي بشكل واسع.

كما قام بعض طلاَّب الشَّهيد الصَّدر وأنصاره بتأسيس حركة المجاهدين العراقيين في لبنان للقيام بأعمال جهادية ضدّ النظام.

وبذلك، دخل الشَّهيد الصَّدر المواجهة الجهادية المسلَّحة بعد أن بدأها النِّظام بقسوة وتصفيات بدنية، وأصبحت الشهادة ماثلة أمام عينيه بسبب ظروف هذه المواجهة.

التَّخطيط لما بعد الشَّهادة

وأخذ الشَّهيد الصَّدر(رض) يخطِّط لما بعد شهادته، وكانت هناك قضايا أساسية أمامه:

1ـ قضية القيادة النَّائبة التي يمكنها أن تنوب عنه، وهو في الاحتجاز وتقوم بدورها بعده في قيادة التحرُّك الأساسي. وقد رشّح أربعة أشخاص غير مرتبطين بالعمل المنظَّم الخاص، وكتب بذلك رسالة مغلَّفة للإمام الخميني بهذا الترشيح، وكلَّفني بالاحتفاظ بها للوقت المناسب، ولكنه سحب ترشيحه بعد ذلك‏‏[64] وطلب إتلاف الرِّسالة بعد أن وصلته أخبار عن الوضع الخاص له في إيران غير مشجّعة، وكذلك عن الموقف العام تجاه حركته وتقييمها‏[65] ولا سيَّما من قبل بعض العناصر المتنفذة في الأجهزة المسؤولة عن إسناد الحركات الإسلامية مثل مهدي هاشمي وغيره.

2ـ قضيَّة تطوير خط الجهاد في بناء الخط العسكري الجهادي، وقد طلب منّي الخروج من العراق للقيام بهذا العمل، وكانت لديَّ ملاحظات عرضتها عليه فتوقَّف عن الطلب في حينه‏‏[66].

3ـ قضية تعبئة الشعب العراقي، بجميع فئاته وقطاعاته، سياسياً، ضد البعث العفلقي، وقد وجَّه نداءاته الثلاثة إلى الشعب والتي سجَّلها بصوته، وطلب أن تبثَّ وتنشر بعد شهادته مباشرة، ووضعها أمانة لديّ حيث أرسلتها مع أوَّل رسول بعد شهادته‏‏[67].

4ـ قضية الوقوف إلى جانب الثورة الإسلامية وقيادتها الحكيمة والدولة المباركة التي كان يعدّها تجسيداً لحركة الأنبياء، وقد أكَّد ذلك في رسائله الخاصَّة قبل تطوُّر الأحداث وكتبه، بعد ذلك، بدمه الزكي عندما أصرَّ على الاستمرار في موقفه المساند لها حتى لو كان على حساب حياته الشريفة التي قدَّمها غاليةً في سبيل الإسلام‏‏[68].

5ـ قضية الاهتمام بالشَّباب المؤمن المخلص المجاهد الذي كان ينتمي إلى التنظيمات الإسلامية كحزب الدَّعوة، أو غيرهم من أبناء الإسلام والذين أثبتوا فناءهم في الإسلام وتعاليهم على جميع الانتماءات الأخرى غير الإسلام، وقدَّموا التضحيات في سبيل القضية الإسلامية؛ حيث أوصى بهم خيراً لأنَّهم يمثِّلون القاعدة الإسلامية التي يمكن أن تستند إليها الثورة، وقد كان يدرك بوضوح الفرق بين موقفهم واستعدادهم للتضحية وموقف بعض العناصر القيادية المتردِّدة.

وقد أثبتت تجربة السنين الماضية في الحرب العدوانية ضدّ الجمهورية الإسلامية كيف تحوّل هؤلاء الشباب، ومن سار في خطّهم، إلى قوَّة جهادية ارتبطت بالولاية الشرعية وبالقيادة السياسية الدينية، ووظّفت قدراتها من أجل القضية، وأكَّدت انتماءها المطلق للإسلام قبل كلِّ شي‏ء.

6ـ الاهتمام بدور المرأة في العمل الإسلامي وأهمِّية دورها المساند والمكمل لدور الرجل في العملية التغييرية؛ حيث جسَّدت أخته الشهيدة بنت الهدى هذا الدَّور عملياً في مدَّة الاعتقال والاحتجاز وفي التحرُّك السياسي قبل ذلك، ثم في شهادتها العظيمة مع أخيها الشَّهيد.

وانتهت هذه المرحلة بشهادته، رضوان اللَّه عليه، مع أخته الفاضلة العلوية بنت الهدى (رض) التي وقفت إلى جانبه في جميع مسيرته، وانتهت حياتهما الطاهرة بالشهادة بعد إبلاغهما الرسالة. وكانت هذه النهاية العظيمة والمفخرة بعد حوالى سنة من الاحتجاز ومحاولات الاحتواء والتفاوض وعروض الحرِّية المشروطة. وبعد أن قام ـ النظام بإعدام كوكبات من الشباب المؤمن الذين قاموا بالعمليات الجهادية أو خطَّطوا لها أو تعاطفوا معها، بعد أن أصدر القانون المشؤوم الذي لا يعرف التاريخ الإسلامي له نظيراً، وذلك بقتل كلِّ من ينتمي إلى حزب الدَّعوة أو يروّج أفكاره وجعل له أثراً رجعياً وطبّقه على عشرات الآلاف من الناس، وفيهم الكثير ممَّن لم ينتمِ إلى حزب الدَّعوة، كما طبّقه على الشَّهيد الصَّدر نفسه.

خاتمة المطاف‏

ويمكن أن نستنتج، من هذا الاستعراض السريع للأحداث والمواقف والنشاطات، في هذه المرحلة، الأبعاد النظرية التي كان يؤمن بها الشَّهيد الصَّدر في العمل الإسلامي، وهي:

1ـ إنّ المرجعيَّة الدِّينية السِّياسية المتصدِّية والرشيدة هي القيادة السِّياسية الشَّرعية والفعلية لمجمل العمل السياسي والجهادي في الساحة الإسلامية.

2ـ إنّ المرجعية، وبتشكيلاتها ونشاطاتها العامة، هي الإطار العام الصالح للعمل السياسي والجهادي، كما هي محور الولاء فيه.

3ـ إنّ المجتهد العادل الجامع لشرائط الدِّراية والخبرة السياسيَّة والاجتماعيَّة والتصدِّي يمكن أن يتولَّى «القيادة السِّياسية النائبة» عن المرجعية الدِّينية السِّياسية العامة عندما لا تتمكَّن القيام بدورها المباشر‏[69]، وذلك من خلال التكامل مع العمل المرجعي التقليدي.

4ـ إنّ العمل المنظّم الخاص (حزب أو حركة أو منظمة أو جمعية) هو مؤسسة يمكن أن يكون لها دور هام‏‏[70] ومتفاوت المستوى ضمن الإطار العام للمرجعيَّة السِّياسيَّة وتحت قيادتها وإشرافه.

5ـ اللاَّمركزيَّة في العمل السياسي على مستوى التَّنفيذ والتعدُّدية على مستوى التشكيلات المرجعيَّة والمؤسَّسات وغيرها مع المركزية في القيادة السياسية للمرجعية، أي في تشخيص الخطوط السياسية العامة، والمواقف الأساسية في التغيير والمواجهة، والإشراف على عموم التحرُّك الإسلامي والأموال والحقوق الشرعية، والتخطيط العام.

6ـ القيادة المرجعية السياسية لا بدَّ من أن تتوافر فيها الشروط الأساسية، وهي: «الاجتهاد» و «العدالة» و «الكفاءة السياسية» و «الكفاءة الشخصية» و «التصدِّي» لقيادة الأمَّة ولقضاياه.

7ـ تجاوز فكرة «المرحلية» في العمل الثقافي والسياسي والجهادي، والإيمان بفكرة التدرُّج في العمل، مع الإيمان بالتداخل بين العمل الثقافي والمواقف السياسية. ونلاحظ أنّ الشَّهيد الصَّدر انتقل في مدَّة قصيرة من العمل الثقافي إلى المواجهة السياسية ثم إلى المواجهة الجهادية.

8ـ إن انتصار الثورة الإسلامية يمثل منعطفاً أساسياً ومهماً في المسيرة الإسلامية، فقد قلبت الثّورة الكثير من الموازين والتصوُّرات تجاه العمل الإسلامي، ووضعت المسلمين أمام مسؤوليات جديدة تهون إزاءها التضحية الكبيرة والفداء العظيم[71]، وتفرض المزيد من التصدِّي والالتحام معها في موقف واحد أمام قوى الاستكبار العالمي.

9ـ أهميَّة الوحدة بين المسلمين وتجاوز الخلافات المذهبية والقومية والفئوية في مثل هذه المواجهات الشاملة.

10ـ ضرورة التَّركيز في الطرح على القضايا الأساسية والمصيرية للأمَّة وحقوقها الشَّرعية والتعامل مع القضايا التي تعيشها الأمة أو تعانيها فعلاً بشكل واقعي وميداني.

11ـ الانفتاح على قطاعات الأمَّة وجمهورها في القضايا المختلفة والتخاطب معها بشكل مباشر والاعتماد على اللَّه تعالى وعلى قدرة الشعب في التغيير، ولا سيما قطاع الشباب والمرأة.

12ـ أهمية العناية البالغة بالقاعدة الإيمانية العامة، وخصوصاً الطَّاقات (الشَّابة) المستعدَّة دائماً للتضحية والفداء، وكذلك أهمية دور «المرأة» و «النُّخبة» الإسلامية في العمل التعبوي.

السيِّد محمَّد باقر الحكيم[1]

مجلّة المنهاج / 17

[1] رئيس المجلس الأعلي للثورة الإسلامية في العراق وأحد خرّيجي مدرسة الشهيد الصدر البارزين. والأمين العام لمجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية

[2] كتب الشَّهيد الصَّدر(رض) هذه الأسس في بداية تأسيس حزب الدَّعوة الإسلامية في أوائل سنة 1378هـ، أواخر سنة 1958م، ثم شرحها، وأصبحت مادَّة ثقافية تدرَّس في حلقات الحزب، ولم تنشر هذه المادة عن الشَّهيد الصَّدر، لأنَّه عدل عن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها أسس الدولة الإسلامية، وهي فكرة تعيين الولاية من خلال الشورى في الحكم الإسلامي، كما سوف نشير إلى ذلك.

[3] يذكر مصدر الحديث مع الإشارة إلى موضع بحثه في الكرَّاسين.

[4] إنّ هذه الدراسة الإجمالية يمكن أن تكون أساساً لبحث واسع حول أفكار الشَّهيد الصَّدر في هذا المجال، ولعلّ بعض الأخوة الأعزاء، من طلاب الشهيد الصدر(رض)، أو مريديه، تتوافر لهم الفرصة الكافية لتناول هذا البحث.

[5] لقد طلب منّي الشَّهيد الصَّدر(رض)، قبل وفاته وشهادته، أن أكتب عن حياته، ولم أوفق إلى ذلك حتى الآن بالرغم من أني وظَّفت «بعض الطاقات» لذلك، وتحدثت عن الشَّهيد الصَّدر في كثير من المجالات، وهذه الكتابة وغيرها مثل التفسير عند الشهيد الصدر، أو بعض رؤاه السياسية والفكرية حول المرجعية والقيادة تأتي إسهاماً جزئيَّاً في هذا المجال.

[6] دليل الحسبة هو دليل يستند إليه الفقهاء في الحالات والموارد التي لا يثبت فيها دليل خاص على الولاية، سواء كانت في الشؤون العامة للأمة كولاية الحكم وإدارة شؤون الأمة أم في تعيين المواقف العامة لها أم الخاصة كولاية الأوقاف والأيتام أو القاصرين.. وفي حالة لا يمكن أن تترك فيها الأمة أو المورد من دون ولي؛ حيث ثبت في الشرع اهتمام الشارع بها بشكل يؤدِّي إلى القطع بضرورة وجود الولي لها وعدم جواز إهمالها، مثل حفظ النظام أو الدفاع عن العقيدة الإسلامية أو حفظ أموال القاصرين. وعندئذٍ يعمد الفقهاء إلى انتخاب الولي الذي يجمع أفضل المواصفات، وهو المجتهد العادل الجامع للشرائط، وعند فقدانه يتم الانتقال إلى الفرد الأقل، إلى أن يصل إلى عدول المؤمنين أو المتصدِّين للولاية إن لم يتصدَّ لها أحد.

[7] شرح أسس الدولة الإسلامية الذي كتبه الشهيد الصدر يقوم على قاعدة الشورى وانطلاقاً من الاستدلال بها. وقد تناولنا هذا الموضوع في كتابنا: «الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق».

[8] مقالة منشورة في أدبيَّات حزب الدعوة الإسلامية منسوبة إلى الشَّهيد الصَّدر يشير فيها إلى هذه الفكرة، على أنه اعتمدنا بالأصل على ما كان يذكره‏(قده) في أحاديثه حول هذا الموضوع.

[9] هناك بحث مستقلّ لنا حول هذا الموضوع لعلّنا نوفق لطبعه، وقد تمَّ نشر بعض فصوله ومعالمه في جريدة «لواء الصَّدر» تحت عنوان: «النظرية الإسلامية في التحرك السياسي». وهنا لا بد من أن نشير إلى أنّ المقصود من نظرية المرجعية هو نظرية «الولاية» أو «الإمامة».

[10] الحسبة مصطلح فقهي يراد منه ضرورة ووجوب التصدِّي للقيام ببعض الأعمال التي يقطع بأن الشارع المقدَّس لا يرضى بإهمالها وتركها على حالها، مثل إدارة شؤون الأيتام والأوقاف التي لا ولي لها، وكذلك إقامة النظام للحياة الاجتماعية وتنفيذ الواجبات العامة كما أشرنا سابقاً.

[11] كان لخروج الشهيد الصدر من التنظيم سبب آخر مضافاً إلى هذا الطلب سوف نشير إليه. (يذكر هنا النَّص حول طلب الإمام الحكيم الموجود في رسائل الشهيد الصدر).

[12] لقد كتب الشَّهيد الصَّدر رسالة إليَّ، في محرم 1380هـ، حيث كنت حينذاك في لبنان، أشار فيها إلى هذا الأمر -لا أزال محتفظاً بها- نذكر مقتطفات منها: «… وقعت منذ أسبوعين، أو قريب من ذلك، في مشكلة؛ وذلك أثناء مراجعتي أسس الأحكام الشرعية وبعدها، وحاصل المشكلة التوقف في آية وأمرهم شورى بينهمالتي هي أهم تلك الأسس وبدونها لا يمكن ـ العمل في سبيل تلك الأسس مطلقاً، كما كنت أكرر ذلك في النجف مراراً، ومنشأ التوقف وجهان أو وجوه أهمها أني لم أستطع أن أجيب على الاعتراض الذي اعترضته أنت على الاستدلال بالآية وإن كنت أجبت عنه في حينه، ولكن الجواب يبدو لي الآن خطأ…». «… وإذا تم الإشكال فإنّ الموقف الشرعي لنا سوف يتغيّر بصورة أساسية، وإنَّ لحظات تمر عليَّ في هذه الأثناء وأنا أشعر بمدى ضرورة ظهور الفرج وقيام المهدي المنتظر (صلوات اللَّه عليه)، ولا زلت أتوسّل إلى اللَّه تعالى أن يعرّفني على حقيقة الموضوع ويوفقني إلى حل الإشكال، ولكني من جهة أخرى أخشى وأخاف كل الخوف من أن تكون رغبتي النفسية في دفع الإشكال وتصحيح مدعياتنا الأولية هي التي تدفعني إلى محاولة ذلك. وعلى كل حال فإنّ حالتي النفسية لأجل هذا مضطربة وقلقة غاية القلق، وما الاعتصام إلا باللَّه، وإني أكتب هذه المسألة إليك، أيها الحبيب المفدى، لمشاركتي التأمّل فيها وتعيين موقفنا منها بصورة أساسية…».

[13] اقترن هذا الشك في دلالة آية الشورى مع طلب الإمام الحكيم‏(قده) منه الانسحاب من الحزب في الحادثة المعروفة التي أشرت إليها في بعض الكتابات، وكان السبب الشرعي الواقعي للانسحاب هو الشك في صحة العمل الحزبي كما أشرنا، بالإضافة إلى المصلحة التي كان قد شخَّصها الإمام الحكيم وكان يرى الشَّهيد الصَّدر نفسه ملزماً روحياً وأدبياً بمراعاتها. وقد دوّن ذلك الشَّهيد الصَّدر في رسائله الخاصة التي أشرت إليها في الهامش السابق.

[14] يمكن الرجوع، في هذا التصور، إلى الكرَّاس المطبوع بهذا الشأن، كما أنه يوجد تلخيص لأفكار الشَّهيد الصَّدر حول الموضوع كتبه الحجة السيد كاظم الحائري عندما كان يطرح الشَّهيد الصَّدر هذا الموضوع للمناقشة، وعلّقت عليه ثم علّق عليه الشهيد الصدر بعد ذلك، وفي هذا التلخيص توضيح وتفصيل لبعض الأفكار المطروحة في الكرَّاس المطبوع.

[15] يمكن التعرّف إلى معالم هذه النظرية من خلال مراجعة كراس «المرجعية الموضوعية» وكراس «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء» وكراس «دستور الجمهورية الإسلامية» للشَّهيد الصَّدر (رض).

[16] بل نعتقد أنه لا يصح ذلك، حيث يؤدِّي ـ ذلك إلى أن تأخذ الحركة الإسلامية (التنظيم الخاص) فواقعياً أو ادعاءف موقع القيادة الإسلامية وإطارها العام في العمل الإسلامي.

[17] للاطِّلاع على معالم هذه الفكرة وخلفياتها، راجع كتاب «الإسلام يقود الحياة» وكرَّاس الإنسان وشهادة الأنبياء»، ص 167 ـ 172، وأيضاً كراس «العلاقة بين الشورى والولاية» للكاتب، ص 10 ـ 14.

[18] كانت اللجنة المشرفة على جماعة العلماء في النجف الأشرف تتألف من: 1 ـ آية اللَّه المرحوم الشيخ مرتضى آل ياسين (خال الشهيد الصدر). 2 آية اللَّه المرحوم الشيخ حسين الهمدان ـ ي – من كبار علماء النجف. 3 ـ آية اللَّه المرحوم الشيخ خضر الدجيلي ـ من كبار علماء النجف. وهم يشكلون هيئة الإشراف.أما باقي أعضاء الجماعة فهم: 1 ـ آية اللَّه المرحوم السيد محمد تقي بحر العلوم.2 ـ آية اللَّه المرحوم السيد موسى بحر العلوم. 3 ـ آية اللَّه المرحوم السيد محمد باقر الشخص. 4 ـ آية اللَّه المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر. 5 ـ آية اللَّه السيد مرتضى الخلخالي. 6 ـ آية اللَّه المرحوم الشيخ محمد طاهر آل شيخ راضي. 7 ـ آية اللَّه الشيخ محمد جواد آل شيخ راضي. 8 ـ آية اللَّه المرحوم السيد محمد صادق الصدر. 9 ـ آية اللَّه المرحوم الشيخ محمد حسن الجوهري. 10 ـ آية اللَّه المرحوم السيد إسماعيل الصدر. 11 ـ آية اللَّه الشيخ محمد تقي الإيرواني.

[19] لقد كان لهذه التعددية في الاتجاهات والأهداف في أوضاع الجماعة من ناحية، وتمركز المرجعية الدينية في الإمام الحكيم من ناحية أخرى، والضغوط السياسية الخارجية والداخلية على الجماعة من ناحية ثالثة، أثر بالغ في توقف الجماعة عن فعاليتها السياسية الجماعية، لكنها بقيت فكرة مقبولة في الوسط الحوزوي.

[20] طبعاً لا يعني هذا الاستعراض لجماعة العلماء هو أنّ الشهيد الصدر (رض) كان وراء تأسيسها، بل كان العلماء والمرجعية وراء تأسيسها، وإنما نقصد بذلك أنّ التنظيم «الناشى» كان يؤمن بضرورة هذه الواجهة وهذه المفردة في تلك المرحلة واهتمام «الشهيد» بها، وكذلك التنظيم كان ينطلق من هذا التصور. وإلاّ فإنّ في جماعة العلماء من كان لا يؤمن بالتنظيم وكان يحذر ويحتاط من إلصاق هذه التهمة بالجماعة ويسعى لإيجاد مشاكل في وجهه، كما أنها كانت تحظى بدعم وتأييد قطاعات كبيرة جداً في الأمة أوسع من التنظيم الذي بدأ تأسيسه في أجواء تأسيس جماعة العلماء ومقترناً معه تقريباً. كما أنّ تأسيس الجماعة كان بمبادرة من الإمام الحكيم وبعض العلماء وأجهزة المرجعية حينذاك.

[21] كان حجة الإسلام السيد محمد مهدي الحكيم وأخوه السيد محمد باقر الحكيم (كاتب السطور) يرتبطان بالشهيد الصدر بعدة روابط روحية وعملية قبل الإيمان بالعمل التنظيمي الخاص. ولكن كان منها هذا الارتباط، وأشرنا إلى بعضها في الهامش الأسبق.

[22] لقد كان تأسيس جماعة العلماء في النجف الأشرف قبل تأسيس جماعة العلماء المجاهدين في إيران، ويمكن أن نقول إنّ هذا الأنموذج كان له تأثير على طبيعة التحرك في إيران أيضاً، بل يمكن أن نقول إنَّ مجمل التحرك في حوزة النجف بقيادة الإمام الحكيم كان متقدماً على مجمل التحرك في حوزة قم، وكان له تأثير بالغ على الأوضاع هناك خصوصاً بعد وفاة آية اللَّه العظمى السيد البروجردي (رض). ويمكن أن نذكر، في هذا الصدد، عدة قضايا: منها قضية الفتوى المعروفة ضد الحزب الشيوعي ـ والتي كان لها تأثير بالغ في الأوساط الشعبية والرسمية -مع أنّ الحزب الشيوعي في إيران كان نشيط. وكذلك الموقف من الاعتراف بإسرائيل؛ حيث بادرت المرجعية في النجف لانتقاد موقف الشاه من إسرائيل علناً، ولم يتم ذلك من قبل المرجعية في قم. وقضية تصدِّي المرجعية لطرح الإسلام والمطالبة بتطبيق أحكامه، وقضية موقف التأييد للعمل الفدائي الفلسطيني وموقف التأييد للحركة الإسلامية المنظمة… إلخ.

[23] ذكرناها في الكراس الذي تحدثنا فيه عن جماعة العلماء.

[24] كانت جماعة علماء بغداد والكاظمية تتألف من الآيات وحجج الإسلام التالية أسماءهم (تم الحصول على هذه الأسماء استناداً إلى بيانات ومذكِّرات الجماعة التي صدرت في الستينات ونشرتها مجلَّة الإيمان آنذاك). وقد كانت مجموعة منهم تمثل اللجنة التنفيذية أو المركزية لهذه الجماعة، وفي مقدمتهم السيد مرتضى العسكري والسيد مهدي الحكيم والشيخ علي الصغير والسيد محمد الحيدري الخلاني والسيد هادي الحكيم والشيخ محمد حسن آل ياسين. ومجموعة أخرى كان لها دور المساند، ويمثل الجمعية العامة للجماعة:1 ـ السيد إسماعيل الصدر. 2 ـ السيد مرتضى العسكري. 3 ـ السيد محمد مهدي الحكيم. 4 ـ السيد أحمد الموسوي الهندي.5ـ الشيخ جعفر الساعدي. 6 ـ السيد جعفر شبر ـ الكرادة الشرقية.7 ـ السيد حسن الحيدري. 8 ـ السيد حسين العلاق ـ الثورة. 9 ـ السيد صادق السيد جواد الموسوي. 10 ـ السيد صادق الموسوي الهندي11 ـ السيد عباس الحيدري ـ الكاظمية. 12ـ السيد عبد المطلب الحيدري ـ الكرادة.13 ـ الشيخ عبد الحسين الخالصي ـ الكاظمية.14 ـ السيد علي الحيدري ـ الشيخ بشار15 ـ الشيخ علي الصغير ـ العطيفية.16 ـ السيد محسن الموسوي.17 ـ السيد محمد الحيدري (الخلاني) ـ الكرادة وجامع الخلاني. 18 ـ الشيخ محمد حسن آل ياسين ـ الكاظمية.19ـ الشيخ محمد حيدر ـ بغداد الجديدة.20 ـ الشيخ محمد الشيخ صادق الخالصي ـ الكاظمية21 ـ السيد محمد طاهر الموسوي – الكريعات.22ـ السيد محمد علي الأعرجي – الكريعات.23ـ الشيخ موسى السوداني – الحرية.24ـ السيد مهدي الصدر ـ الكاظمية.25 ـ الشيخ مهدي النمدي – الكاظمية.26ـ الشيخ نجم الدين العسكري – البياع.27 ـ السيد هاشم الحيدري – الكاظمية.28ـ السيد هادي الحكيم ـ اسكانر غربي بغداد.29 ـ السيد صادق الخلخالي. 30 ـ السيد محمد طاهر الحيدري ـ جامع المصلوب31ـ السيد علي نقي الحيدري – الكسرة. 32 ـ السيد محمد هادي الصدر ـ الكاظمية.33 ـ الشيخ هادي الشيخ جعفر الساعدي. 34 ـ الشيخ كاظم العظيمي – الثورة.35 ـ الشيخ جواد الظالمي – البياع36 ـ السيد عبد الرزاق الموسوي. 37 ـ السيد علي العلوي. كما أنّ هناك أسماء أخرى كانت تشترك في مجمل نشاطاتها مثل الشيخ عارف البصري والسيد عبد الرحيم الشوكي.

[25] اتبع الشيوعيون هذه الطريقة الهمجية في التعامل مع المعارضين السياسيين في الأيام الأولى لحكم عبد الكريم قاسم، وخصوصاً في الحوادث التي جرت بعد فشل محاولة «الشواف» أحد الضباط العراقيين بالتمرد على حكم عبد الكريم قاسم في القاعدة العسكرية في الموصل أوائل سنة 1959م في أواخر شعبان 1378هـ، وقد توقف نشاط جماعة العلماء بسبب هذه الحوادث بشكل عام.

[26] لقد أصدر الإمام الحكيم فتواه المعروفة حول الشيوعيين؛ حيث هزم الحزب الشيوعي في الشارع العراقي وفي غيره بعد ذلك بسبب هذه الفتوى. وقد كان لها أصداء واسعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وخصوصاً في أوساط أتباع أهل البيت‏(عليهم السلام) واعتبرت حصانة مهمَّة لهم في هذا المجال؛ حيث كان يتعرض العالم الإسلامي، ولا سيما المستضعفين منهم، إلى تأثير واسع لهذا التيار اليساري الذي كان يعيش في قمة صعوده السياسي وفي أوج قدرته العلمية والسياسية والثقافية، كما كان الاستكبار الغربي يعيش حالة المقت من الأوساط المسلمة بسبب عهود الاستعمار والاستغلال وقضايا العدوان ومنها قضية فلسطين، وقد صدرت في أعقاب هذه الفتوى فتاوى للعلماء والمراجع في النجف الأشرف وكتب ومنشورات تؤيد هذا الموقف البطولي الرائع، وتشرحه وتبيِّن خلفيته الفكرية والثقافية والسياسية، ولا يزال هذا الموقف هو أحد المواقف المهمة الجهادية الإسلامية الذي تذكره الأوساط العلمية الدينية والإسلامية للإمام الحكيم بالتقدير والاهتمام.

[27] هناك بحث مستقل للكاتب حول موقف الشَّهيد الصَّدر من المرجعية لا بدَّ من مراجعته لإكمال الصُّورة حول موقفه من المرجعية ورؤيته لها.

[28] هناك رسالة خاصة موجودة لدى الكاتب يذكر فيها الشهيد الصدر هذين المسوِّغين، وقد أشرت إلى جانب من نصِّها في الحديث عن المسار النظري.

[29] يوجد حديث مستقل عن هذا الموقف الجليل للشَّهيد الصَّدر نذكره في المواقف.

[30] كان الوسط الحزبي يعبِّر عن جميع العلماء غير الحزبيين بأنهم غير واعين لأنّ مفهوم الوعي كان يعني الإيمان بالعمل الحزبي والارتباط به. كان الوسط الحزبي يعبِّر عن جميع العلماء غير الحزبيين بأنهم غير واعين لأنّ مفهوم الوعي كان يعني الإيمان بالعمل الحزبي والارتباط به.

[31] كانت بعض أوساط العمل الحزبي تعمل في مجال هذه النشاطات باعتبار ذلك فرصةً للكسب الحزبي، وأحياناً وسيلةً لنشر الوعي الثقافي في الأمَّة، ولا تؤمن بأن هذه النشاطات أساسية ومركزية، وخصوصاً ذات الطابع السياسي منها. كما أنه كانت توجد بعض المبادرات العامة للعمل الحزبي مثل مواكب الطلبة، ولكن الهدف منها لم يكن التعبئة السياسية بقدر ما كانت تستهدف إيجاد البديل الثقافي في مجال الشعائر الحسينية، وهو مضمون ثقافي.

[32] لقد تجاوبت أوساط الحزب وقواعده مع حركة المرجعية في كثير من الأحيان، لأنها كانت تمثل عناصر مؤمنة ومرتبطة بالمرجعية في التقليد والمشاعر الروحية وتتفاعل مع الأحداث بشكل طبيعي من خلال حركة المرجعية، وعندما نتحدث عن الحزب هنا نقصد القرار السياسي الذي كان يصدر عن القيادة.

[33] راجع المذكِّرة.

[34] حيث طلبت من أحد أبرز قادة التنظيم الخاص.. شخصياً إصدار منشور يتضمَّن على الأقل «دعاء الفرج» لإشعار الأمة بالمحنة، ووعد بذلك، ولكن لم ينفذ الوعد بسبب هذا الموقف، ولعلَّه كان يرى شخصياً صحة إصدار المنشور، واللَّه أعلم.

[35] والعجيب أنّ بعض الحزبيين حاول بعد وفاة الإمام الحكيم تسويغ هذا الموقف بأنّ الإمام الحكيم طلب منهم عدم القيام بهذا العمل وعدم التحرك للاحتجاج، مع أنّ الإمام الحكيم رحّب في ـ تلك الأحداث بتحرك طلاب العلوم الدينية الذين تظاهروا وتعرضوا للقمع، واستمرَّ هذا الموقف تجاه تحرك العشائر حيث استقبل وفداً من عشائر العباسية ومندوباً من مدينة السماوة وتحدَّثت إليهم شخصياً. ومع أنّ سفر الإمام الحكيم إلى بغداد والكاظمية له، بحدّ ذاته، دلالات واضحة على تصديه المباشر والعلني إلأ ـ ان الخوف لدى الناس من ناحية، وعدم وجود جهاز منظم لتعبئة الناس وتوجيههم من ناحية أخرى، وموقف قيادة الحزب من ناحية ثالثة، والتخلف في الوعي لدى بعض الأوساط من ناحية رابعة كانت أسباباً في ظهور الأمة بمظهر التخاذل.

[36] لقد قامت عشائر بني تميم في الكاظمية، وكذلك العشائر في المشخاب والقادسية والديوانية والصليجية وف«أبو صخير» والحيرة وغيرها، بتظاهرات ومسيرات واستعراضات ضخمة لتأييد المرجعية حتى قتل «عبد السلام عارف» في الحادث المعروف، وهو سقوط الطائرة في منطقة النشوة قرب البصرة.

[37] لقد كان لهذا الاختلاط والإيهام والإيحاء آثار سلبية على الشّهيد الصَّدر ومرجعيته، ولا سيما في أوساط الحوزة العلمية؛ حيث كان يواجه الشهيد الصدر بتحفظ عام في أوساط الحوزة المتدينة والمؤمنة بالموقع المتميز للحوزة والمرجعية، وكان يستغل ذلك بعض المنافسين أو الحاسدين أو الحاقدين على العمل الإسلامي والسياسي، الأمر الذي أدَّى إلى مضاعفات كبيرة انتبه إليها الشَّهيد الصَّدر أخيراً واتَّخذ عدة احتياطات لتداركها كما سوف أشير قريباً.

[38] الولاية المطلقة يراد بها الولاية التي يدلُّ عليها نصّ خاصّ له إطلاق ولو نسبي في دلالته عليها في مقابل القول الآخر بالولاية بدليل الحسبة؛ حيث يقتصر فيها على القدر اللازم، وإلا فإن الولاية المطلقة فيها تقييد وتفصيل بين المجتهدين أنفسهم أيضاً.

[39] لقد كان «علي رضا» شيعياً وكردياً فيلياً يعمل في العلاقات العامة لمجلس قيادة الثورة، وهو اسم لمؤسسة المخابرات العراقية في بداية تأسيسها، وكان المسؤول عنها صدام، ثم تم إعدام «علي رضا» بعد ذلك ضمن الإعدامات التي قام بها البعثيون في صفوفهم بعد ما يسمَّى بمؤامرة «ناظم كزار» مدير الأمن العام، وهي تصفيات طالت أكثر العناصر المتنفذة الشيعية في الحزب، وكذلك الخط السامرائي ـ الذي كان يقوده عبد الخالق السامرائي‏ف المنافس لصدام.

[40] لعلّ هذه البرقية هي آخر عمل قامت به الحوزة العلمية في النجف بشكل علني وواضح تجاه حزب البعث حتى كتابة هذه السطور.

[41] انتهت انتفاضة صفر 97هـ التي استمرَّت أربعة أيام إلى اعتقال أكثر من عشرة آلاف شخصٍ من الجماهير المؤمنة وتعذيبهم وإعدام أكثر من عشرة أشخاص والحكم بالسجن المؤبَّد على ستة عشر شخصاً، كان من ضمنهم كاتب هذه السطور، في مهزلة لم يعرف لها التاريخ الحديث للعراق مثيلاً، وذلك بعد أن تدخلت القوات الجوية والبرية، والقوات المدرَّعة في قمع الانتفاضة، وقد كانت لهذه الانتفاضة أصداء سياسية واسعة في العراق وخارجه، وحاول النظام أن يتَّهم سوريا والكويت بها على عادته في نسبة الأحداث الداخلية إلى العامل الخارجي، ولم ينسب الانتفاضة إلى إيران لأنه كان قد دخل في صلح مع حكومة الشاه، وكان يخاف منها خوفاً شديداً.

[42] لقد أدخل الشّهيد الصَّدر المستشفى في النجف قبل مجي‏ء رجال الأمن إلى بيته نتيجة لعارض مفاجى بسبب تناوله لبعض الحبوب التي كان يستعملها ضد ارتفاع ضغط الدم وبكمية أكبر من اللزوم؛ حيث انخفض عنده الضغط بدرجة خطيرة وحاول رجال الأمن اعتقاله في المستشفى إلاّ أنّ بعض الأطباء -ومنهم الدكتور موسى الأسدي الذي كان مختصاً بأمراض القلب ـ كان لهم موقف رافض ومشرِّف في هذا المجال، ولذا تم نقله إلى مستشفى الفرات الأوسط في الكوفة رهن الاعتقال، وهو في حالة إغماء حتى اليوم التالي، وقد حاول رجال الأمن أثناء التحقيق معي أن يفسِّروا هذا الحادث بأنه محاولة للانتحار.

[43] لقد قام الشيخ آل ياسين وجماعة من العلماء والطلبة بزيارة الشهيد الصدر في المستشفى صباحاً؛ حيث مُنِع الدخول عليه، الأمر الذي أدّى إلى تجمهر عدد كبير من الطلبة والناس ثم تم اقتحام أبواب المستشفى ووقف رجال الأمن في حيرة من أمرهم؛ حيث تمَّت الزيارة بسلام، ثم أرجع الشهيد الصدر إلى مستشفى النجف بعد الظهر عندما رفع الاعتقال عنه.

[44] لقد تمَّ نقلي، من بين جميع المعتقلين تلك الليلة، إلى بغداد فوراً، وتعرّضت للتعذيب حتى طلوع الشمس تقريباً وبأساليب مختلفة، وكان ـ الاتهام الرئيسي الذي يوجِّه إليَّ في التعذيب ويتم الضغط باتِّجاهه هو الانتماء إلى تنظيم سرّي هو حزب الدعوة الإسلامية والطلب بالاعتراف به وأنّ قائده هو الشهيد الصدر، بالإضافة إلى مقدار وافر من السب والشتم للعلماء والدين والإسلام والقذف بالطائفية على عادة الأنظمة التي توالت على حكم العراق باتهام كل من يطالب بحقوقه أو المساواة بين المسلمين بالطائفية. وتم بعد الظهر إطلاق سراحي لأسباب لا أعرفها، ولعلّ أهمها الخوف من تطوّر رد الفعل الجماهيري، وإن كنت قد توسَّلت بالإمام الكاظم‏(عليه السلام) ليشفع للَّه تعالى بالفرج عنّي، وعندما طلب منّي الخروج بعد الظهر والاعتذار عمّا حدث في الليل بعدما شاهد مدير الشعبة آثار التعذيب والورم في اليدين والرجلين، أصررت على عدم الخروج حتى يتم رفع الاعتقال عن الشَّهيد الصَّدر، الذي كان المجرمون في أثناء التعذيب يكيلون له التهم والسباب، ويدّعون أنه حاول الانتحار للتخلّص من نتائج التحقيق، ولم أخرج حتى تم الاتصال تلفونياً بالنجف وأبلغت برفع الاعتقال عن الشَّهيد الصَّدر (رض)

[45] في الحوزة العلمية تقسّم الدراسة إلى مستويات ثلاثة: أ ـ المقدمات، وهي دراسة العلوم المساعدة في الاستنباط، مثل العلوم العربية والمنطق والكلام وغيرها، وكذلك المعلومات الأولية الفقهية. ب ـ السطح، وهو دراسة النصوص الفقهية والأصولية المعقَّدة نسبياً وذات الطبيعة الاستدلالية. ج ـ – الخارج، وهو الدراسة المفتوحة للفقه والأصول ذات الطبيعة الاستدلالية والتي يتولى الأستاذ تهيئة الموضوع وطرحه للاستدلال والمناقشة والتي يتم تخريج المجتهدين على أساس هذا المستوى من الدراسة.

[46] لقد كان هذا الموقف يشبه موقف بعض الناس من تأسيس المدارس الحديثة أو مدارس البنات، ولكنه أكثر شدّة.

[47] بعد وفاة الإمام الحكيم وتعليقاً على مرجعيته ودورها في الأمَّة كان الشهيد الصدر يقول فعلى ما أتذكر- إنّ المسؤولية أصبحت كبيرة والمعركة أكثر ضراوة بسبب أنّ الأعداء قد فتحوا عيونهم على «المرجعية» وقدرتها والإمكانات الكبيرة الموجودة بالقوة فيها وما يمكن أن تقوم به من تعبئة للأمَّة في المواجهة مع الأعداء والدفاع عن الإسلام والأمَّة.

[48] كانت فكرة الشهيد الصدر، في «النظام الطبيعي»، هي الاحتفاظ بنظام الحوزة العام تغييره، ولكن إدخال إصلاحات أساسية فيه مثل تشخيص الأساتذة الجيدين أو الجديرين بلقب الأستاذية في وسط الحوزة العلمية وعلى جميع المستويات، ثمَّ الطلب من طلاب العلوم الدينية الدراسة عند واحد من هؤلاء الأساتذة، مع الطلب من الأساتذة أنفسهم بوضع تقييم للطلبة في دراستهم، ويكون ذلك هو الأساس في نظام الحقوق الماديَّة والرواتب وغيرها، والمعنوية من الدرجة العلمية والإرساليات والوكالات وغيرها التي يحصل عليها طلاَّب العلوم الدينية.

[49] كان ذلك في بداية سنة 1392هـ ـ 1972م.

[50] كان اعتذار هذا الأخ عن هذا الموضوع -كما حدَّثني الشهيد الصدر- هو أنه كان يعتقد أنه مشمول بالاستثناء الذي ذكرناه في الفقرة (4) آنفاً، وأنه لم تتهيأ له الفرصة لأن يبلغ بالقرار جميع المرتبطين وقد عاجلته الأحداث، ولكن الشهيد الصدر لم يكن مقتنعاً بكفاية هذا العذر لارتكاب هذا الخطأ الكبير كما صرّح بذلك، وكان يرى فعلى الأقل‏ف ضرورة إخباره بهذا الأمر، خصوصاً وأنّ الشهيد الصدر لم يكن على علم بانتساب هذا الأخ للتنظيم الخاص، ولم يكن يظهر عليه شي‏ء من ذلك، واستفاد عملياً وواقعياً من موقعه ومن اعتماد الشهيد الصدر عليه وكذلك اعتماد جهاز الشهيد الصدر وأصدقائه على هذا الأخ في الامتداد الواسع في أجهزة مرجعيته والحوزة ف لقد كان الأخ المذكور مشرفاً تربوياً على إحدى المدارس التي أسَّسها الإمام الحكيم، وكان يقوم بنشاط حزبي في هذه المدرسة؛ الأمر الذي أثار بعض أبناء الإمام الحكيم؛ حيث لم يكونوا يوافقون على ذلك، ولكن كاتب هذه السطور كان مسؤولاً عن المدرسة وكان يدافع عنه اعتقاداً بعدم صحة هذه الأخبار والاتهامات حتى تبيّن صحتها بعد ذلك-ولعلّ الأخ المذكور له عذر آخر واللَّه أعلم.

[51] لقد قمت بإبلاغ بيان الشَّهيد الصَّدر إلى المرحوم الشيخ عارف البصري، وذكر في حينه أننا لا نجد فرقاً بيننا وبين الشَّهيد الصَّدر ولا يمكن أن نختلف معه، ولكنَّ الأحداث تسارعت واعتقل الشهيد الشيخ عارف بعد ذلك بمدّة قصيرة، ثم كانت شهادته المباركة.

[52] كتابة الفتوى ونشرها وإن كانت تمثل موقفاً سياسياً، ولكنها، في الوقت نفسه، تعبّر عن خلفية فكرية ونظرية للشهيد الصدر أبلغها شفهياً قبل صدور الفتوى، وقد عارض بعض الطلبة فمع الأسف‏- البلاغ الشفهي، ولم يقبلوه بل تحدثوا عن الشَّهيد الصدر بحديث غير لائق، وصبر عليهم الشهيد الصدر حتى تطورت الأحداث فدوَّنها وأبلغها للأمَّة.

[53] وخلاصة القصّة، في موضوع انتفاضة 17 صفر: أنّ الدكتور السيد مصطفى جمال الدين -الأديب والشاعر المعروف‏- إلتقى بالشهيد الصدر عصر يوم السابع عشر من صفر بعد الأحداث الأليمة والعودة التي وقعت في «خان النص» والتي ذهب ضحيتها بعض الشهداء، وفيهم امرأة لبنانية، وطلب من الشهيد الصدر أن يتدخل في تهدئة الأوضاع قبل أن تنفجر في صراع دموي واسع يذهب ضحيته عدد كبير من الناس لا يعلمه إلاّ اللَّه. وقد كانت خطة الحكومة تعتمد على الخطوات الآتية: 1 ـ استفزاز الناس وأصحاب الشعائر ليقوموا بأعمال شغب عامة. 2 ـ الطلب من رجال الدين والوجهاء التدخُّل لتهدئة الأوضاع، وكانت تفترض أنّ الشعب سوف يرفض ذلك3 ـ القيام بتوجيه ضربة عسكرية واعتقال العناصر المؤثرة لمنعهم من الوصول إلى كربلاء. وكانت الحكومة تشعر بحرج كبير لهذا التحدِّي الجماهيري الكبير لها لأول مرة بعد مرجعية الإمام الحكيم (ره). وقد قامت الحكومة بالخطوة الأولى، ونجحت فيها، ثم قامت بالخطوة الثانية فأرسلت وفداً من كربلاء واجهته الجماهير بالرفض، وطلبت بعد ذلك إرسال وفد من قبل آية اللَّه السيد الخوئي وآية اللَّه الشهيد الصدر. ورأى الشَّهيد الصدر الاستجابة لهذا الطلب، وطلب مني أن أقوم بهذه المهمة فذكرت له بعض المخاوف من خطة الحكومة للخداع وتسويغ ضرب الجماهير، ولكنه(قده) كان يرى صحة هذا العمل واستخرت اللَّه مرَّتين للإصرار على الرفض ـ فجاءت الاستخارة نهي. فتوكلت على اللَّه تعالى -بعد أن وضعت خطة في ذهني للاحتياط للأمة وللقضية- وكانت المعركة التي يدور حولها الصراع هي استمرار الشعائر الحسينية كما تريد الجماهير أو منعها كما تريد الحكومة، فطلبت من الحكومة أن أتلقى الطلب رسمياً وأن تتعهد رسمياً بالانسحاب عن قرارها بالمنع لأنقل ذلك إلى الجمهور وأطلب منهم الهدوء بعد أن استجابت الحكومة لمطاليبهم. وعلى أساس ذلك، اجتمعت بالمحافظ، وهي أول مرة أجتمع فيها بالمحافظ، وهو «جاسم الركابي»، في داخل مركز النجف طوال حياتي، واستمعت إليه يعلن رسمياً التراجع عن موقف الحكومة، وذهبت إلى خال النخيلة في ليلة ظلماء مطيرة وعاصفة. وكان الجمهور متفرِّقاً في زوايا الخان وأواوينه والمكان مظلم، ولما عرف بعضهم بورودي اجتمع عدد منهم في حدود عشرين شخصاً وكان فيهم بعض المسؤولين عن إدارة المسيرة، وتحدثت إليهم أنّ موقفنا معهم ونحن نقف إلى جانبهم في هذه المطاليب والشعائر يجب أن تستمر، فأخذوا يتظلمون من العدوان والاستفزاز والقتل، وكانوا يشعرون بالحرج ويرحِّبون بأي حل لهذه المشكلة ويتخوفوَّن من الغدر.فاتفقت معهم على هذه الصيغة، وهي أن يلتزموا بالانضباط بالشعائر وتلتزم الحكومة علناً في خطاب جماهيري بالتراجع عن قرار المنع، على أن يتم هذا الخطاب صبيحة اليوم الثاني في «خان النخيلة»، ومن هناك تنطلق المسيرة إلى زيارة الإمام الحسين‏(عليه السلام) بصورة منظَّمة. وبعد هذا الاتفاق، رجعت إلى النجف واجتمعت مرة أخرى مع المحافظ، وكان الوقت متأخراً قريباً من منتصف الليل. ورأيت المحافظ كأنه قد فوجى بهذه النتائج والاتفاق، فقال: سوف أتصل بالقيادة البعثية في بغداد ويبلغني بالنتائج صباحاً لنذهب إلى خان النخيلة مرة أخرى. ولكنَّه لم يتصل إلى الساعة التاسعة صباحاً، واتصل السيد مصطفى جمال الدين في ذلك الوقت وأبلغته ما حدث وعدم اتصال المحافظ. ثم إنَّ المحافظ، بعد قليل، اتصل وقال: إنّ أصحاب الشعائر الحسينية قد قطعوا الشارع العام منتصف الليل (وكان ذلك كذباً) فاضطرّت (القيادة!) أن تستخدم الجيش والقوات المسلّحة لإقرار الأمن والنظام. وعرفت، بعد ذلك، أنّ النظام قد استخدم اللواء المدرع الموجود في معسكر مدينة المسيب، وأرسل عدة طائرات مقاتلة لتكسر حاجز الصوت وتحلّق بشكل منخفض لإرعاب الناس وحاولوا إيقاف المسيرة، وقاموا باعتقال أبناء الشعب بالجملة. ولكن أبناء الحسين‏(عليه السلام) استمروا في مسيرتهم وسلكوا طريق البساتين والنخيل حتى وصلوا إلى هدفهم في صحن الإمام الحسين‏(عليه السلام) والعباس سلام اللَّه عليه، وحققوا هدفهم رغماً عن أنف النظام وبالرغم من جميع هذه الإجراءات. وبدأت حملة اعتقالات وتعذيب واضطهاد واسعة بعد ذلك؛ حيث تمَّ اعتقالي بعد ثلاثة أيام، وكذلك اعتقال الشهيد الصدر وأخي الشهيد حجة الإسلام السيد علاء الدين وأحد عشر ألفاً من مختلف طبقات الشعب العراقي، وخصوصاً أبناء النجف الأشرف والمناطق المحيطة بها، وفيهم عدد كبير من طلبة الحوزة العلمية. وللاعتقال والتحقيق والتهمة حديث آخر، ولكن النظام حاول أن يلقي بالتهمة والمسؤولية على الخارج (سوريا) علناً والكويت في مراكز التحقيق، وعندما فشل في ذلك اعترف بالحقيقة واهتزّ الحزب من الداخل وطرد عضوين قياديين كانا من أعضاء المحكمة الثلاثة الذين تولوا مسؤولية المحاكمة لامتناعها عن المشاركة في الجريمة، وهما عزّت مصطفى وفليح جاسم الحسن، وتحمّل المسؤولية في المحاكمة كاملة العضو الثالث حسن العامري. وقتل النظام صبراً أكثر من عشرة، وحكم بالسجن المؤبَّد من دون محاكمة على ستة عشر شخصاً كنت أحدهم، والتهمة أنّي كنت قد شجَّعت الحسينيين على الاستمرار في المسيرة، وطالبت السلطة بالتراجع عن موقفها علناً، وأفشلت خطّة الحكومة.

[54] لقد كلِّفت بالقيام بهذه المهمة تجاه بعض هذه التنظيمات، وأظنُّ أن الشَّهيد عيَّن أحد طلاَّبه الفضلاء لذلك تجاه تنظيم آخر.

[55] لقد ذكرنا أنّ الشهيد الصدر ضغط على التنظيم الخاص لتأييد موقف مرجعيَّة الإمام الحكيم تجاه حكومة البعث في بداية مجيئها إلى السلطة، وعند سفر الإمام الحكيم إلى بغداد. ولكنه لاحظ الموقف المتردد والمتحفظ من التنظيم الخاص، ثمَّ أصبح هذا الموضوع واضحاً لديه عند سفره إلى بيروت في تلك السنة لغرض التعبئة؛ حيث كان موقف التنظيم الخاص هو التردُّد في التعاون المناسب في هذا المجال، ولولا حماسة بعض عناصر التنظيم كالشيخ علي الكوراني من جهة، والعلاقة الوطيدة بين الشهيد الصدر وبعض أفراده من طلابه ومريديه، وكذلك الموقف الإيجابي للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بقيادة آية اللَّه السيد موسى الصدر، والقاعدة العريضة للمرجعية في لبنان، لما أمكن للشَّهيد الصَّدر أن يحقق شيئاً في هذا المجال. وتوجد رسالة بخط الشهيد الصدر (ره) يتحدث فيها عن هذا الموضوع يشكو فيها هذا الهم والألم، كما كان حديثه حول (المحنة) يعبر عن هذا التصور.

[56] لقد كلفني الشهيد الصدر بذلك في سفر 1395هـ إلى بيروت، كما كلف آخرين بذلك.

[57] لا شك في أنّ خصوصيات الشعب الإيراني المتعددة وقوة جهاز المرجعية الدينية والعلماء وعمق وجودها وما يتمتع به الإمام الخميني من مواصفات كان لها أثر مهم أيضاً في هذه النتائج.

[58] الدروس الأساسية في مرحلة الخارج هي الفقه والأصول، والأول أهم من الثاني، ويدرَّسان عادة خمسة أيام في الأسبوع بخلاف التفسير فإنه لم يكن أساسياً، ولم يعرف على مستوى المراجع تدريسه في العصور المتأخرة إلاّ نادراً؛ حيث قام آية اللَّه السيد الخوئي بتدريسه لمدة محدودة ثم انقطع عنه.

[59] كما أخبرني (رضوان اللَّه عليه) بذلك شخصياً.

[60] لقد كلَّفني الشهيد الصدر بكتابة هذه الرسالة، وقد دوَّنتها ثم عرضتها عليه، وبعد إقرارها من قبله تم إرسالها إلى الخارج باسمه بعد أن استنسخها بخط يده. واطَّلعت على نشرها فبعد ذلك‏ف في صوت الدعوة، وهي النشرة السرِّية الخاصة لحزب الدعوة الإسلامية.

[61] تعطَّل نشاط هذه الحركة بسبب تحوُّل موقف حزب الدعوة منها من المشاركة إلى المعارضة، بعد أن قرَّر الحزب أن ينتقل إلى المرحلة السياسية والتصدي العلني وطرح اسمه في هذه المواجهة، ومن ثم فلم يكن يرى مسوِّغاً لوجود هذه الحركة، بل كان وجودها إلى جانب الحزب يعبر عن انشقاق في صف الحركة الإسلامية كما كانوا يفسرون بذلك موقفهم السلبي منها بعد ذلك.

[62] لم يكن في نية الشهيد الصدر الهجرة إلى الخارج في تلك المدة، ولكن جاء في البرقية الإشارة إلى ذلك، ولم أعرف حتى الآن السبب أو المغزى من هذه الإشارة، ومن المحتمل وصول أنباء إلى الإمام الخميني بذلك أو أنه أراد أن ينبه الشهيد الصدر إلى عدم صحة ذلك لو كان في نيته هذا الأمر بهذه الطريقة، أو أراد أن يعبّر عن دعمه للشهيد الصدر بهذه الطريقة؛ حيث لم يكن يتوقع الإمام أن يقوم النظام بهذه الجريمة الوحشية ضد الشهيد الصدر، وقد نقل هذا الاحتمال بعض الأشخاص لي أخيراً.

[63] هذه الأحداث هي المعروفة بانتفاضة صفر.

[64] تحدَّثنا عن هذه الفكرة في مقال مستقل نشر في جريدة لواء الصدر.

[65] يمكن ملاحظة هذا التقييم والتصور حول النجف والحركة الإسلامية في العراق في ما كتبه السيد حميد روحاني عنها في كتابه: «نهضة الإمام الخميني»، وهو شخص كان إلى آخر أيام الإمام على صلة وثيقة بمكتبه، وقد لمست ذلك أيضاً عند الهجرة إلى إيران من بعض هذه الأوساط، ولولا تدخل الإمام شخصياً وتكليف آية اللَّه السيد الخامنئي بمتابعة قضية العراق لاستمرَّت المأساة بحجمها الكبير.

[66] ذكرت بشكل مختصر هذه الملاحظات في بحث «القدوة في النظرية الإسلامية»، وفي بحث «القيادة النائبة».

[67] لقد تميَّزت هذه النداءات بطرح سياسي وحدوي يقوم على أساس وحدة الأمَّة في العراق بين الشيعة والسنَّة والعرب والأكراد والتركمان والمطالبة بالحقوق الأساسية للإنسان، ومنها: الحرية والعدالة والمساواة وأنّ الشعوب هي أقوى من الطغاة، فلا بد من أن يتحقق النصر على يدها إذا وظّفت طاقاتها في المعركة، إلى غير ذلك من المفاهيم المهمَّة.

[68] وهنا لا بدّ من أن أسجِّل للتاريخ أن الشهيد الصدر كان يشعر ببعض الإحباط تجاه بعض الأخبار والمواقف في إيران؛ حيث كان يسيطر على توجيه حركات التحرُّر أشخاص لا يثقون بالشهيد الصدر ولا بالحركة السياسية الإسلامية العراقية، كالسيد مهدي هاشمي، ويشجعهم بعض الأوساط السياسية العراقية المحيطة بهم ممن يرتبطون بالسيد محمد الشيرازي في ذلك الوقت، وذلك انطلاقاً مما ذكرته في الهامش 64.

[69] انتهت الجمهورية الإسلامية إلى هذا التصور بعد ذلك عندما تم تصوّر فصل الولاية السياسية عن المرجعية الدينية وإقرار تصدي المجتهد الجامع للشرائط لقيادة الأمة سياسياً وشرعياً (المرجعية السياسية الدينية) حتى لو لم يكن هذا المرجع الديني مرجعاً عاماً في الفتوى.

[70] تشخيص هذا الدور يرتبط بطبيعة ـ الظروف التي تمر بها الأمة والمنافسات السياسية والأوضاع التي تعيشها المرجعية الدينيَّة، ولكن مهما كانت هذه الأهمية كبيرة فلا يمكن تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها الإسلام والتصميم العام للمرجعيَّة من قبل الأئمة، وقد أُشير إليها في النقاط الأولى والثانية والثالثة. تشخيص هذا الدور يرتبط بطبيعة ـ الظروف التي تمر بها الأمة والمنافسات السياسية والأوضاع التي تعيشها المرجعية الدينيَّة، ولكن مهما كانت هذه الأهمية كبيرة فلا يمكن تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها الإسلام والتصميم العام للمرجعيَّة من قبل الأئمة، وقد أُشير إليها في النقاط الأولى والثانية والثالثة.

[71] ولذلك هانت التضحية العظيمة والخسارة الفادحة بفقد هذا العالم الربَّاني المؤيّد، وهو الشهيد الصدر (رض)، لأنه كان يرى أنّ هذه الجمهورية تمثِّل القاعدة القوية والضمانة الحقيقية لمستقبل الإسلام، وفي الوقت نفسه يمكن أن تتمركز آثار التضحيات في مسيرتها وحركتها فلا يضيع منها شي‏ء.