الصدر وصدام الانسانية في مواجهة الهمجية

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

يشكل الصدام النهائي الذي وقع عام 1980 بين صدام رئيس الجهاز الحاكم في العراق[1]، وبين المفكر الاسلامي الفذ الشهيد محمد باقر الصدر، الذي اعدم بموجبه واحد من ابرز مفكري الاسلام في القرن العشرين يشكل بمجمله حصيلة نهائية لتناقض ظل يشتد على الاعوام بين اثنين يقود كل منهما تجربة خاصة يؤمن بها ايماناً يملأ الكيان النفسي بأسره: ما كان منه شعورياً ام لا شعورياً.

لقد رأى كل منهما في الآخر عقبة مميتة في طرق تحقيق آماله التي يصبو اليها. رغم ان اشارتنا الى الاثنين معاً هي ضرورة اقتضتها طبيعة البحث العلمي، اذ ان ما بين الاثنين هو ما بين السماء والارض، بين الخير كله والشر كله، وهو امر يذّكر بقول الامام علي عليه السلام حين تمرّد عليه معاوية بن ابي سفيان وما جرى بينهما من حروب ووقائع، اذ اعلن عن اشمئزازه من قول القائلين ونقلة الاخبار: قال علي وقال معاوية، او: ما جرى بين علي ومعاوية، الخ، فقال: انزلني الدهر حتى قيل: علي ومعاوية!

آمن (صدام) ايماناً لا يدانيه ايمان بأي شيء آخر، بعبودية الانسان، وامكانية اذلاله الى اقصى الحدود وامتهانه في احط الاعمال، واتخاذه وسيلة تافهة مجردة من الشعور لتحقيق الهدف الذي يؤمّن اشباع رغبات وأهواء القائد الفرد الذي يحق له هو وحده فقط ان يتصرف في اعمار وأعراض وكرامات وممتلكات البشر.

بينما آمن (الصدر) ايماناً ملأ عليه كيانه كله بانسانية الانسان، وانه لا يحق له ان يستعبد الا لله سبحانه انطلاقاً من العقيدة الاسلامية التي اندكّ فيها بكل وجوده.

وبينما رأى (صدام) في تحقيق ذاته ومصالحه الخاصة المبدأ الذي لم يحد عنه اطلاقاً وسيظل متمسكاً به الى آخر عمره، وان ادى الى خراب البلاد وهلاك العباد، آمن الشهيد الصدر بأن «اخلاقية الانسان العامل، اول شروطها، هو ان يكون عند الانسان شعور واستعداد بالتضحية بالمصلحة الصغيرة في سبيل المصلحة الكبيرة. وهذا ما لابد لنا من ترويض انفسنا عليه»[2].

وبينما كان (صدام) يهوي بذاته بما حقق معه حلمه الكبير بتقنين الهمجية، اي صياغة الهمجية بقوانين ومقررات تطبع ويعلن عنها كما يعلن عن اي قانون بوصفه قانوناً لتنظيم العلاقات الاجتماعية، ظل (الصدر) يتسامى بذاته لجعلها النموذج الفدائي الذي يتخلى عن مصالحه الذاتية من اجل سعادة المجتمع البشري، حتى بلغ اشرف درجة يبلغها الانسان المبدئي، الا وهي الاستشهاد من اجل المبدأ. لنستمع اليه وهو يعلن:

«ان اقامة الحق والعدل، وتحمل مشاق البناء الصالح، بحاجة الى دوافع تنبع من الشعور بالمسؤولية والاحساس بالواجب. وهذه الدوافع تواجه دائماً عقبة تحول دون تكونها او نموها. وهذه العقبة هي الانشداد الى الدنيا وزينتها، والتعلق بالحياة على هذه الارض مهما كان شكلها. فان هذا الانشداد والتعلق يجمد الانسان في كثير من الاحيان ويوقف مساهمته في عملية البناء الصالح، لان المساهمة في كل بناء كبير تعني كثيراً من الوان الجهد والعطاء، واشكالا من التضحية والاذى في سبيل الواجب، وتحملا شجاعاً للحرمان من اجل سعادة الجماعة البشرية ورخائها. وليس بامكان الانسان المشدود الى زخارف الدنيا والمتعلق بأهداب الحياة الارضية ان يتنازل عن هذه الطيبات الرخيصة ويخرج عن نطاق همومه اليومية الصغيرة الى هموم البناء الكبيرة.

فلابد ـ لكي تجند طاقات كل فرد للبناء الكبير ـ من تركيب عقائدي له اخلاقية خاصة تربي الفرد على ان يكون سيداً للدنيا لا عبداً لها، ومالكاً للطيبات لا مملوكاً لها، ومتطلعاً الى حياة اوسع وأغنى من حياة الارض، ومؤمناً بأن التضحية بأي شيء على الارض، هي تحضير بالنسبة الى تلك الحياة التي اعدها الله للمتقين من عباده»[3].

وقبل ان نشرع في ذكر الخطوط العامة التي طبعت تفكير وسلوك كل واحد من الاثنين: (الصدر) و(صدام)، نشير الى نقطة هامة هي العلاقة بين التسلط والضعف. اذ يمكن القول ان ازدياد عنف الانسان السلطوي، يكشف عن ازدياد في مشاعر الضعف في داخله، هذا الضعف الذي يحاول جاهداً في شتى مظاهر القوة الجوفاء الزائفة. ونستعين هنا بهذا التلخيص المفيد لواحد من علماء التحليل النفسي، «نعني بيير داكو»، عن الانسان السلطوي:

«القيادة في نظر السلطوي غاية في ذاتها، وهي تمثل امناً داخلياً بالنسبة اليه. فهو يرفض اذاً اي نقاش لسيطرته، ويطالب الآخرين بكل شيء، ولكنه لا يعطي شيئاً.

السلطوي عدواني، فهو ضعيف بالتالي. قيادته هجوم متستر. انه يهاجم خوفاً من ان يهاجم وان ينال منه ويذل. فالسلطوية والسيطرة هما ـ بالنسبة الى الضعفاء ـ تعويضان يحتلان المقام الاول. ذلك ان اذلال الآخرين يمنحهم وهم السمو والقوة. يضاف الى ذلك انهم يشعرون بانهم انجزوا عملا، ولكن دون ان يتوجب عليهم صرف الطاقة الخلاقة الضرورية التي يقفون حيالها عاجزين».

ويفسر استمرار السلطويين في الحياة المعاشة بقوله:

«واستمرار السلطويين في هذه الحياة الجارية ذاتها ممكن بفضل عوامل عديدة. فهم يستمرون اولا: بسبب العوامل النفعية: مرؤوس ـ على سبيل المثال ـ يمسك عن الكلام خشية تسريحه، مرؤوس جبان.. الخ. ثم، ثانياً: بسبب اللبس الابدي بين القوة والعدوانية. في حين اننا قد رأينا في عدة مناسبات ان العدوانية نقيض القوة»[4].

في لحظة من لحظات الكشف غير المقصود، مما لا يمكن ـ في حالة صدام ـ ان يقوله حتى امام محلل نفسي عتيد، تحدث صدام عن اعدائه الذين اسماهم بالمرضى وقال بمباهاة انه يستطيع ان يكتشفهم بمجرد النظر في اعينهم:

«المرضى. انا اعرفهم من أعينهم. لو يصطفّون امامي خمسة آلاف واحد.

فأنا استطيع ان اكشف ما في قلبه من خلال عينه. الا حين يغطي عينيه بنظارة سوداء. عندها اطلب اليه ان يزيح النظارة عن عينيه»[5].

انها الحالة التي دعي فيها العصابيون (المرضى النفسيون) بانهم يحسون بتآمر الآخرين ضدهم، حيث تكون المسألة كما يلي:

بما ان الآخرين يتآمرون ضدي لتدميري.

وهم من ينفذون هذا التآمر في اي لحظة.

عليّ اذاً ان اهاجمهم قبل ان يهاجموني.

لقد عبّر صدام عن هذه الحالة اجلى تعبير في كلمة له في حفل وزّع فيه أوسمة وأنواطاً على ضباط وجنود من الحرس الجمهوري[6]، حين قال وهو يشرح معنى الضربة الوقائية:

«حين كنا صغاراً في الريف، كان اهلنا يوصوننا قائلين: لا تتشاجروا. اذ ان ذلك عيب. وان من يتشاجر بكثرة يدعى شريراً. الا انه حينما ترون احداً يريد ان يضربك، فلا تدعه يضربك. اضربه قبل ان يضربك. هذا المقياس الريفي البسيط، يصلح في الحياة في كل مراحل تطورها».

وفعلا، فقد استخدم صدام هذه القاعدة في شتى مراحل حياته وما يزال، رغم انه كان في اغلب الاحيان يوجه ضرباته على التهمة والشك، واحتمال ان يكون الضحية ينوي التآمر ضده. وبذلك قام بتصفية اخلص رفاقه في تموز 1979 امثال عدنان الحمداني، ومحمد عايش، ومحمد محجوب وغيرهم. كما قضى فيما بعد حتى على العاملين معه وذوي الفضل عليه كأحمد حسن البكر الذي كان صاحب الفضل الاول في وصول صدام الى الحكم حيث عزله عام 1979 وأجبره على التخلي علانية عن السلطة ثم احتجزه في بيته حتى وفاته بعد ان منعه من الالتقاء بأي احد، ومن السفر خارج العراق. وهو الذي دأب على تسميته بالاب القائد ابي هيثم. وكعدنان خير الله وزير دفاعه وابن خاله وشقيق زوجته الذي دبّر له حادثة اسقاط طائرته في شمال العراق، وعبد الكريم الشيخلي وحردان التكريتي وعبد الخالق السامرائي وفؤاد الركابي وغيرهم كثير.

وكما يرى سيغموند فرويد فانه لا ينبغي النظر الى انكار المريض نفسياً، بوصفه حقيقة صادمة دائماً، كما لا ينبغي اعتبار انكار المتهم في المحكمة، براءته من التهمة دائماً، نقول ايضا ان حديث شخص ما عن صفة ايجابية فيه كالعفة والمروءة والرحمة والرأفة لا يعني ايضاً وبصورة دائمة وجودها فيه. اذ طالما تكلم القتلة عن الرحمة. واللصوص عن الامانة، والجهلة عن العلم. فالتشريعات والقوانين الصادرة عن صدام بوصفه المشرّع الوحيد المطلق في هيكلية الحزب والدولة في العراق، تنزل اقسى العقوبات في كل من يوجه حتى كلمة اهانة او ما يستشف منه توجيه اهانة لشخص صدام (رئيس الجمهورية) او من يقوم مقامه او مجلس قيادة الثورة او حزب البعث العربي الاشتراكي او المجلس الوطني او الحكومة. كما هو في نص المادة (225) من قانون العقوبات العراقي المعدّلة. اذ نصت ان العقوبة هي السجن المؤبد ومصادرة الاموال المنقولة وغير المنقولة. وتكون العقوبة الاعدام اذا كانت الاهانة او التهجم بشكل سافر وبقصد اثارة الرأي العام ضد السلطة[7].

ومع ذلك يتحدث بكثرة عن الرأفة والرحمة والعفو عن اناس اساؤا اليه. قال في حفل لتوزيع الاوسمة عام 1982:

(أحنا عندنا شواهد بالعشرات عن ناس أساؤا النا. مو فقط عفينا عنهم وانما رعيناهم ورعينا عوائلهم).

ويقول ايضاً:

(ان اسلوب الرأفة غالباً ما يأخذ طابع العفو الكامل، بما في ذلك اخراج المعفي عنهم من زنزانة الاعدام الى الشارع فوراً، حتى تأخذ انسانيته الجديدة مداها.

اما اذا خفضنا حكمه من الاعدام الى المؤبد، قد لا تأخذ انسانيته الجديدة مداها كما نتمنى او نريد، وعند ذاك لن يطبق منهجنا التربوي.. لماذا اعفو عمن أذنب؟ اليس لأن لديّ اعتقاداً بأن هناك أملا بأن هذا العفو قد يجعل سلوكه وتفكيره باطار انساني جديد؟

لدى صدام حسين صلاحيات فيستطيع اذا اراد ان يلغي القرار او يخفضه. وتراني احياناً اقوم بالغاء حكم الاعدام بحق شخص، وآمر بأن يخرج الى الشارع ويعود الى بيته رأساً، منطلقاً من مفهوم هو أنه اردنا ان نعطي للعراقي فرصة ليمارس دوره الانساني والوطني بشرف بعيداً عن موطن الزلل، فعلينا بوجه عام ان لا نخفض الحكم وانما نلغيه)[8].

ان الكلام عن الرأفة والعفو لا يجد ولا مثالا واحداً في مجال التطبيق حيث ينتظر الموت كل من يفكر بتوجيه ما يفسر بالاهانة الموجهة الى رئيس الجمهورية او اي فرد او جهة تمت اليه بصلة، وحيث يلقى القبض على المواطنين بواسطة الكشف عما في قلوبهم من خلال التفرس في اعينهم ـ كما رأينا آنفاً ـ او كتابة التقارير التي تشكك بولائهم للقائد صدام او حزب البعث العربي الاشتراكى. وقد اثبتت الوقائع وخاصة الاخيرة منها (نعني عمليات قطع الايدي والآذان وكيّ الجباه) ان الرحمة والرأفة والانسانية لم تجد الى قلبه سبيلا في اي يوم، وليس هنا حالة واحدة تدل على عكس ذلك.

وهو في ذلك كل مرة يكتشف حالة جديدة من التآمر، لهذا فهو يلجأ الى ميكانزم (آلية) جديدة للدفاع تقيه الشر المحتمل. فيمارس المزيد من التسلط والقهر والعداونية. وحين يكون هذا العصابي شيخاً لقبيلة او حاكماً فان الامر يتخذ ابعاداً اكثر مأساوية حيث يكون عدد ضحاياه هائلا.

وبما انه ضعيف في داخله، منهار، يشعر بالدونيّة، فهو يحاول دائماً ان يستخدم كل مظاهر القوة والتسلط والتنكيل بالآخرين لاثبات قوته وهيمنته، اذ يرتبط الوجود لديه بالتسلط: انا متسلط، اذن فأنا موجود.

وهو حين يستخدم أجهزة قمعية وتجسسية وارهابية، يحقق أمرين اثنين كلاهما يشيع فيه الطمأنينة:

الاول: استخدام تلك الاجهزة درعا يحيط به، يقيه هجمات الاعداء الحقيقيين والوهميين.

الثاني: اشاعة القمع والتنكيل على ايدي اشخاص آخرين، مما يمكن معه القول: ان الآخرين يمارسون العنف ايضاً ولست وحدي. وهم انما يفعلون ذلك لصيانة المجتمع من الاعداء الذين لا يستهدفونه  فحسب بل المجتمع والوطن.

وهو يجنّد الآخرين لسحق الاعداء (المرضى) دون رحمة، من اجل مصلحة الوطن!!. وفي واحد من اوامره المعلنة لاعضاء المجلس الوطني قال: (اركضوا! حتى تطلّعون ـ يقصد تخرجون من بين الناس ـ الناس المرضى. ما نريد يبقى مريض لا بالدولة ولا بالحزب. (نريد) خطين: خط العراق، وخط المرضى، اللي لازم يكتسحون بلا رحمة[9].

ثم يقترح بعدها هذا العقاب المريع لذوي القلوب المريضة (يعني أعداءه):(اللي قلبه مريض. ينبغي ان يأخذ دفعة ويسدح على صدره الى ان يطخ راسه بالحائط)[10].

العقاب هو: ان يطرح اولئك الاعداء ارضا بحيث تكون صدورهم ملتصقة بالارض بما يمثله هذا الوضع من هوان، ثم يسحبوا بعد ذلك وهم على هذ ا الوضع حيث ستخدش الارض وجوههم ويكسوها التراب، لتضرب رؤوسهم بالحيطان وتتهشم، ويتخلص العراق منهم.

وحين يقول صدام (خط العراق) فانما يعني: (خط صدام). اذ انه قام بفرض فكرة ورسخها بمرور الايام في اجهزة الحزب والدولة مؤداها (ان صداماً هو الشعب والشعب هو صدام). نقرأ ذلك مثلا في كلمة القاها نائبه عزة الدوري في اجتماع قيادي قال فيها:

(اصبح الشعب هو صدام حسين، وصدام حسين هو الشعب. واصبح العراق هو الحزب، والحزب هو العراق. والعراق هو القيادة، والقيادة هي العراق)[11].

ونقرأ ما هو ام حيث يعلن صدام نفسه ان الشعب بأسره هو ملك لصدام وليس ثلث منه او ثلثان فقط، وهو يعزو ذلك الى الشعب نفسه، اي ان الشعب هو الذي اختار ان يهب نفسه لصدام:

(الشعب ردّد شعار: لا ثلث ولا ثلثين. كل الشعب لصدام حسين)[12].

بعد هذا التمهيد، ننتقل الى تطلعات كلا الاثنين: صدام والصدر:

صدام: انسان الماضي والتطلعات

يعطي التحليل السيكولوجي اهمية خاصة لدور تجارب الطفولة في تكوين شخصية البالغ فيما بعد، حتى يذهب بعضهم الى القول بأن البالغ هو طفل كبير.

وما من شريحة في المجتمع العراقي اولاها صدام من التركيز في التخطيط ووضع البرامج ومتابعة تنفيذها بدقة مثل شريحة الاطفال. وقبل ان نقدم نماذج من تلك البرامج علينا ان نقرر بأننا اولينا اهمية خاصة للجمل الصغيرة المكثفة التي تصدر عن صدام لا شعورياً لتستقر وسط الركام الضخم للعبارات المغلفة بالوطنية والقومية والمناقشات المتعلقة بالتخلي عن نظرية اقتصادية وتبني اخرى يجري التخلي عنها بعد سنتين او ثلاث، ومشاكل الحروب التي شنت على ايران والكويت. اذ ان هذه الجمل المكثفة تعطي دلالات عميقة جداً في كشف واقع النفس الذي يكمن خلفها. كل ذلك اضافة الى النصوص الصريحة والمطولة حول المواضيع ـ مدار البحث.

قال مرة: (نحن نتأمّل الطفل وهو نطف في بطن امه)[13].

كلمة (نتأمل) تعني بالعامية العراقية: نطمح او نتوقع او نرجو. وهي جميعها دالة على الانتظار وامل ان يقوم ذلك الطفل بعمل يعود بالنفع على المنتظر.

عاش صدام طفولة معذبة يكتنفها الحرمان. اول صدمة فيها كانت وفاة ابيه، ثم هذا البتر في العلاقة بينه وبين امه عندما تزوجت بعد وفاة ابيه وانصرفت الى حياتها الزوجية، حيث غادر صدام قريته في شرخ الصبا متوجهاً الى بغداد وهو يحمل بيده عصا، ـ علق الصحفي العراقي حسن العلوي على حمل العصا هذا بقوله: انه لم يعد يثق بأحد الا بها ولم يحب احداً غيرها (العراق، دولة المنظمة السرية ص 74). وهناك صدمة الفتى الريفي وهو يواجه تحديات المدينة الكبيرة (بغداد).

في محاولة منه لانكار تأثير انسان الماضي في اعماقه قال مرة:

(انسان الماضي لم يعد يعيش في عقولنا وفي قلوبنا وفي تصرفاتنا الا كذكريات لابد منها لكي تحفزنا اكثر على العطاء والعمل والاخلاص للشعب والوطن)[14].

والذي يهم التحليل النفسي ليس الحديث عن التحفيز للعمل اكثر في خدمة الوطن والشعب، بل هذه المفاجأة التي فاجأ بها مستمعيه في الحديث عن انسان الماضي دون مقدمات. الا يكشف ذلك عن عمق تأثير الماضي في نفسه.

سيعبر بتر الطفولة بينه وبين امه بالتمزيق الذي مارسه فيما بعد لكل العلاقات الاسرية وعلى رأسها العلاقة بين الابناء وامهاتهم وآبائهم، بل في اعدام الابناء والطلب الى عوائلهم ان يتبرأوا منهم امام الملأ ويلعنوهم. وبلغ الامر حد قيام الآباء بقتل ابنائهم ليمنحهم صدام بعدها الأوسمة والنياشين.

لقد عبّر في احدى المناسبات عن احساسه بالمرارة لحرمانه من توجيه الاب حتى لو كان ينتهره حين يكذب، اذ قال:

(اللي ما ينهره ابوه لمّا يكذب، يظل يكذب طوال عمره. اذا لم يجد له حزباً يربيه او حالة، مجتمع ينفصل بيه عن اهله بسبب الدراسة، بسبب المعيشة، ويدخل ضمن حالة مجتمع آخر يعلمه ان لا يكذب، والا يظل يكذب طوال عمره.

واللي يشتلغ ـ مثل ما يقول المثل الشعبي ـ يعني يحب ذاته، ويحب ان يسوق الامور كلها باتجاه ذاته واستغلال الآخرين، يظل يشتلغ طيلة حياته، خاصة حين يصل عمراً معيناً وليس هناك من يصحح له هذه المسيرة)[15].

وفي النصوص الآتية سنقرأ بامعان كيف سيستحوذ صدام تحت شتى المسميات على التربية وتوجيه المجتمع وفق ما يريده هو وليس ما تريده اية ايديولوجية اخرى سواء منها الاسلام ام غيره، حيث سيكون الحق لصدام وحده في ان يأمر فيطاع. وليس مهما بعده ان يقال ان حزب البعث او الدولة او الجهار التنفيذي الفلاني قد امر بذلك، فكل هذه الاجهزة تعني صداماً فحسب. فهو رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والقائد العام لحزب البعث والقائد العام للقوات المسلحة وهو مشّرع القوانين. فحين يقرّر مثلا:

(ان الطفل والفتى ليس لهما انتماء اجتماعي طبقي، وليس لهما اتجاه سياسي محدد ابتداءً. لذلك فان الحزب والدولة هما عائلة الطفل والفتى، فهما امهما وابوهما)[16]. فبامكان القارىء ان يضع اسم (صدام) بدلا من كلمتي (الحزب) و(الدولة) فلا يتغير المعنى اذ الشعب هو صدام، وصدام هو الشعب، والعراق هو الحزب، والحزب هو العراق، والعراق هو القيادة، والقيادة هي العراق كما يقول عزة الدوري ونقلناه آنفاً.

انه آسف لان الآباء قد افلتوا من قبضته حين كانوا اطفالا، الا ان ذلك لا يمنع من معاقبتهم وتطويقهم بالصغار الذي ينبغي ان يكون ولاؤهم له وللحزب فقط، وحتى حين يقول بأنه يحترم وحدة العائلة فهو يستدرك بانه اذا حدث تعارض بين القيم العائلية والقيم التي يريدها حزب البعث لبناء المجتمع فيجب ان يحلّ هذا التعارض لمصلحة قيم الحزب او الثورة. لماذا؟ لان الابوين متخلفان عن المفاهيم التي يطرحها هو. وعلى اجهزة الحزب ان تزرع في كل بيت جاسوساً على الابوين، وهو الابن: «اذاً، فمن اجل ان لا ندع الاب او الام هما اللذان يسيطران على البيت بالتخلف، يجب ان نجعل الصغير يشع في البيت لطرد التخلف. لان بعض الآباء قد افلتوا منا لاسباب وعوامل كثيرة. ولكن الابن الصغير ما زال بين ايدينا، ويجب ان نحوّله الى مركز اشعاع فاعل داخل العائلة طوال الساعات التي يمضيها معها، لتغيير حالها نحو الافضل، ونبعده عن الاقتباس الضار.

وهذا لا يتناقض مع الولاء الصحيح للعائلة واحترام الابوين، ومع وحدة العائلة التي نسعى اليها. غير ان وحدة العائلة يجب ان لا تقوم على اساس مفاهيم التخلف، وانما يجب ان تقوم وتقوى على اساس الانسجام مع السياقات المركزية لسياسات وتقاليد الثورة في بناء المجتمع الجديد. وفي كل مرة تتعارض وحدة العائلة مع السياقات المطروحة والمعمول بها لبناء المجتمع الجديد، يجب ان يحلّ هذا التعارض لصالح السياقات الجديدة مع السياسات والتقاليد لبناء المجتمع الجديد، وليس العكس. فمهمتنا اذاً كبيرة ومعقدة.

عليكم بتطويق الكبار عن طريق ابنائهم، بالاضافة الى الروافد والوسائل الاخرى.

علّموا الطالب والتلميذ ان يعترض على والديه اذا سمعهما يتحدثان في اسرار الدولة، وان ينبههما الى ان هذا غير صحيح.

علّموهم ان يوجهوا النقد الى آبائهم وامهاتهم وباحترام اذا سمعوهم يتحدثون عن اسرار منظماتهم الحزبية.

عليكم ان تضعوا في كل زاوية ابناً للثورة، وعيناً امينة وعقلا سديداً، يتسّلم تعليماته من مراكز الثورة المسؤولة ويبادر الى تطبيقها»[17].

لم يبق للآباء والامهات الا ان يستسلموا للواقع الذي يفرضه قائد المسيرة عبر تنظيمات حزب البعث التي ينبغي وبصورة الزامية ان ينضم اليها طلبة المدارس، لينقلوا تقارير عما يدور داخل المنزل. انه امر محتم لا مناص منه حين يكون الحزب هو قائد المجتمع، وصدام هو قائد الحزب والمجتمع، وهو ما يؤكده صدام بصورة لا لبس فيها:

« علينا ان نؤكد ان هذا المجتمع يقوده حزب. وان هذا الحزب هو حزب البعث العربي الاشتراكي. يقوده في قيمه، ويقوده في تنظيماته، ويقوده كذلك في افكاره وفي سياساته، ويقوده على مستوى الدولة والنشاطات الديمقراطية الجماهيرية»[18].

ويقول ايضاً ـ وكلامه يتضمن تطهير اجهزة التربية والتعليم من كل من لم يدرس ويؤمن بطبيعة الحال بافكار حزب البعث:

«اننا نحترم رأي الآخرين من اخواننا الوطنيين. ولكن ينبغي علينا نحن ان نقود التربية واتجاهاتها بوصفها جزءاً اساسياً في اعداد الجيل حاضراً ومستقبلا. ونأمل ان لا يكون من بين التربويين المعنيين في شؤون التربية الوطنية، وشؤون اعداد المناهج، وفي قيادة الجيل من خلال التربية، من لم يدرس دراسة مستفيضة افكار حزب البعث العربي الاشتراكي، لكونه قائد هذا المجتمع، وقائد هذه السلطة، وفي الوقت نفسه ينبغي على المواطن ان يستوعب افكار الحزب ويستنير بها»[19].

انه التطويق المريع والسيادة المطلقة لنظرية واحدة يقودها حزب واحد يقف على رأس كافة انشطته شخص واحد هو صدام. ولا مكان بعدها لأي توجيه او فكر صادر عن اية جهة سواء أكانت سياسية ام تربوية ام اقتصادية او دينية، ان يتدخل في عملية توجيه الافكار والقلوب. انها التجربة الدكتاتورية المدججة بأقسى اساليب الاجرام والارهاب.

قائد واحد (صدام) يقود كل شيء بصيغ جديدة يصنعها هو ويفرضها هو، شريطة ان يغلّف الكلام ولاغراض اعلامية بحتة بكلمات التفاعل والديمقراطية والثورية:

«وعندما يكون القائد ابا المجتمع، لا يعني ذلك ان يكون اباً عشائرياً متخلفاً، بمعنى ان يكون وصياً عليه. وانما تكون ابوته ضمن سياق العلاقة الديمقراطية الثورية وما تتطلبه من تفاعل، بالاضافة الى الاسس والشروط الديمقراطية الاخرى كما نفهمها»[20].

وحتى حينما تدرس مناهج وتيارات اقتصادية فينبغي اولا ان لا تكون متعارضة مع مباد ىء حزب البعث، وثانياً ان تتم دراستها منذ البداية بهدف نقدها وما يؤكد خطأها امام نظرية حزب البعث حيث يقول:

«علينا ان نتعمق في دراسة وتدريس التيارات والمذاهب الاقتصادية التي لا تتناقض او تتعارض مع مبادىء الحزب القائد.. وهذا لا يعني اننا لا نحترم رأي الآخرين من الذين تكون عندهم اجتهادات خاصة. ولكن المرحلة التاريخية التي صار حزبنا فيها قائداً للمسيرة تستلزم ان يكون فكرنا هو الفكر القائد.

علينا ان ندرس المناهج الاقتصادية من وجهة نظر نقدية، نسوق من خلالها اتجاهات الدراسة النقدية لصالح النظرية التي نؤمن بها، والمقصود بها نظرية الثورة العربية، نظرية حزب البعث العربي الاشتراكي»[21].

انه الموقف المسبق من كافة الاتجاهات بما يثبت صحة اقوال وآراء ـ وليس نظريات، اذ ان حزب البعث ليس فيه نظريات اقتصادية ـ حزب البعث.

لا بد لنا من التذكير هنا بأن حزب البعث عبارة عن تجمع قائم على اساس الرابطة القومية.

وللامام الصدر رأي موضوعي يتناقض تماماً مع الرأي الذي اورده صدام وهو يتحدث عن مناهج اقتصادية وفلسفية في حزب البعث، مما سنعود اليه فيما بعد، الا اننا نشير الى شيء منه وهو قوله:

«ان القومية ليست الا رابطة تاريخية ولغوية وليست فلسفة ذات مبادىء، ولا عقيدة ذات اسس، بل حيادية بطبيعتها تجاه الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والعقائدية والدينية. وهي لذلك بحاجة الى الاخذ بوجهة نظر معينة تجاه الكون والحياة، وفلسفة خاصة تصوغ على اساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي»[22].

والدليل على ذلك هو التخبط الهائل الذي جرى في العراق مثلا في ظل حكومة تقودها مبادىء حزب قومي، في مجال الاقتصاد حيث لم يعرف حتى الآن نوع الاشتراكية التي تأرجحت بين ملكية الدولة والقطاع الخاص لتستقر اخيراً على شراء القطاع الخاص وبالمزاد العلني لملكية الدولة وموارد القطاع العام، بل ولتحتكر من قبل عوائل معينة من مناطق وعشائر معينة، اي الاشتراكية العشائرية.

اما على الصعيد الفلسفي للنظرة الى الحياة والكون والعلاقات الاجتماعية فيقال للمجاملة ان حزب البعث يستلهم دروس الاسلام، ويفهم من كلمة (يستلهم) انه يطّلع او يقرأ مثلا. اما الذي يطبق على ارض الواقع فهو ما يقوله حزب البعث ولا شيء سواه. يقول صدام بهذا الصدد:

«نحن نستلهم دروس الامة العميقة والعادلة وفي المقدمة منها الاسلام، في التعبير عن مصلحة الامة وروحها ونزعتها في الثورة وفي التطور. وفي البناء الاجتماعي، وفي العدل الاجتماعي بنظرية جديدة اسمها حزب البعث العربي الاشتراكي»[23].

ويقول ايضاً:

«اننا غير قادرين على ان نتصور انه من الممكن لقاض ان يكون معادياً لنظرية حزب البعث العربي الاشتراكي او يستخفّ بالتراث وبقيمه الاساسية والجوهرية، وبامكانه ان يصبح قاضياً عادلا في هذا المجتمع»[24].

ان عبارة «او يستخفّ بالتراث وبقيمه..» قد حشرت في الكلام ولا معنى لها، اذ الاساس هو ان يلزم القضاة في المحاكم بتبني ما يقوله حزب البعث وليس اي فكر آخر. وبحسب هذا المنطق لا يقبل عدلا ولا شفاعة من القاضي حتى لو كان يحترم التراث وقيمه، اذا لم يكن مؤمناً بعقيدة حزب البعث.

وهو يضع شرطاً لقبوله بوجود الدين في المجتمع، الا وهو ان لا يصطدم مع ما يريد صدام تنفيذه في المجتمع بأسره:

«فلندع الجميع يمارسون طقوسهم الدينية الاعتيادية وفق اختياراتهم من دون ان نتدخل في شؤونهم. وشرطنا الاساس في ذلك هو ان يبتعدوا في ممارساتهم تلك عن التناقض او التصادم مع سياساتنا في تغيير وبناء المجتمع وفق اختيارات حزب البعث العربي الاشتراكي»[25].

فهو يضع شرطين اذاً للتعامل مع الدين بسلام: الاول ان يكون طقوساً فقط. الثاني: ان لا يصطدم اداء تلك الطقوس بسياسة حزب البعث في تغيير المجتمع وفق نظرته.

وخلاصة رأيه في الدين وكونه قادراً على ادارة الشؤون السياسية او الدولة هو:

«اذاً، فان المطلوب منا هو ان نكون ضد تسييس الدين من قبل الدولة وفي المجتمع، وضد اقحام الثورة في المسألة الدينية، وان نعود الى اصل عقيدتنا، وان نعتز بالدين بلا سياسات للدين»[26].

ويعلل ذلك بعدم صلاحية الاسلام لمعالجة قضايا العصر، وان الاخذ بنظريات الفقه سيؤدي الى ظهور خلافات نظراً لتعدد المذاهب. دون ان ينتبه ـ ربما عن عمد ـ الى ان وجود اجتهادات فقهية للمسألة الواحدة لا يستلزم بالضرورة الاخذ بها جميعاً وتطبيقها جميعاً ليقع الخلاف. اذ يكفي رأي واحد منها يصلح لمعالجة القضية المطروحة مع الاخذ بنظر الاعتبار لظروف التطور الحاصل في المجتمع. حيث يقول:

«ان من غير الممكن ان نحشر معالجتنا للشؤون الدنيوية للحياة الراهنة حشراً فقهياً دينياً. لان مشاكل المجتمع الحديث الذي نعيش فيه والمطلوب منا معالجتها والتعامل معها، مختلفة اختلافاً اساسياً عن المشاكل التي واجهتها العصور الاسلامية الاولى التي وضعت فيها قواعد الفقه، بحيث اصبح التشريع الاسلامي احد المصادر المركزية التي تستقي او تستلهم منه التشريعات القانونية وليس قانون الحياة الراهنة. اضافة الى ان الانسياق وراء الرجعية في اعتبار ان نظرية الحياة العصرية بما فيها من تطور، يجب ان تكون انعكاساً لتعاليم الفقه الذي يؤدي الى الفرقة، نظراً لاختلاف المذاهب والاعتبارات الاخرى»[27].

ويقول اخيراً وهو يشير الى الاسلام بكل تأكيد:

«لا بد من ادراك انه لا توجد نظرية للحياة تصلح لكل الامم. وانما نظريات كل الامم تصلح لان تكون نظرية الحياة الاممية لكل العالم)[28].

وفي الكلام اعلاه بعض الحذلقة الا ان مجمله يقول ان الاسلام لا يمكن ان يكون صالحاً لكل الشعوب. ولا يمكن ان يقود الحياة. وهو على النقيض تماماً من عقيدة السيد الشهيد الصدر التي سنعرضها فيما بعد عن الاسلام وقيادته للحياة والمجتمعات.

ولكن، الا يعني اصراره بالشكل الذي قرأناه آنفاً ـ على قيادة حزب البعث للحياة بكافة تفاصيلها، انه يطرح نظرية تصلح للتطبيق لما لم يصلح الاسلام له؟ وانه يفرض بالقوة برنامجاً واحداً على كافة شرائح المجتمع؟

انه يقول صراحه:

«ان على اي انسان مسؤول، وسواء اكان منظّماً في حزب او عاملا في القوات المسلحة، او موظفاً في الدولة، ان يتصرف بالشكل الذي ينسجم مع التخطيط المركزي. وهذه القضية لا تقبل التلاعب مطلقاً)[29].

والمقصود بالتخطيط المركزي، التخطيط الصادر عنه، اذ المعروف ان زمام الامور في الدولة والحزب والجيش بيده وحده لا ينازعه احد في ذلك. والتخطيط المركزي هو ما يصدر عن حزب البعث لا بوصفه حزباً مجرداً، بل بوصفه حزباً يديره ويشرف عليه صدام نفسه. وبهذه الصفة ولهذا السبب يعتبر صدام حزب البعث الحقيقة المطلقة الوحيدة التي ينبغي التسليم بها. على ان يبدأ التغيير في اذهان الصغار:

«فعندما نتحدث الى التلاميذ الصغار في السن، ومحدودي الادراك العلمي، يجب ان نتحدث عن بعض الامور السياسية او التاريخية التي نريد ادخالها في اذهانهم وفي تربيتهم الوطنية كشيء مطلق دون مبررات.

عندما نتحدث عن حزب البعث العربي الاشتراكي كحزب قائد، ينبغي ان نتحدث عنه للصغار كحقيقة مسلّم بها. اما لماذا اصبح قائداً وبشكل تفصيلي؟ فنبرز ذلك من خلال الحديث عن منجزات الحزب»[30].

صدام هو الحزب والحزب هو صدام، وبما ان العصابيين او المرضى النفسيين «يريدون لا شعورياً ان يصير العالم على صورتهم»[31]. فالحزب هو صورة صدام وينبغي للآخرين ان يذوبوا في الحزب ايماناً وتطبيقاً اي ان يذوبوا في صدام الى حد تنفيذ اي شيء يريد مهما كان شاقاً وقاسياً، دون نقاش ولا كلمة اعتراض واحدة. والدولة بكاملها ينبغي ان تتعامل باسلوب الحزب، وهو يسمي ذلك ارتقاءً بخواص اجهزة الدولة حيث يقول:

اننا مطالبون ان نرتقي بخواص اجهزة الدولة بما يقرّبها من خواص الحزب.. المطلوب ان ننقل تقاليد وأخلاص الحزب الى اجهزة الدولة سواء في سلوك الحزبيين او غير الحزبيين»[32].

ان ابرز ما في حزب البعث وما طبق بصورة صارمة على المنتمين اليه، هو مبدأ (نفذ ثم ناقش). وهو مبدأ مثير للسخرية، اذ ما معنى النقاش وما جدواه بعد ان يكون الامر الصادر قد نفّذ؟

فالحقائق النفسية تقول انه حين يكون في تنفيذ امر ما خطأ او خطيئة او عار، فان المنفّذ يحاول بشتى السبل الابتعاد عن كل ما يذكره بخطيئته فضلا عن ان يأتي لفتح نقاش حولها. وان العقول التي وضعت هذا المبدأ في حزب البعث وغيره تعلم ذلك جيداً. ولقد ارتكبت افظع الجرائم بأوامر صادرة عن الحزب من قتل واعتقال وتشريد وتجسس على الاهل والاقارب والاصدقاء، وما كان بمقدور اي عضو في الحزب ان يفتح فاه بكلمة. اما قبل التنفيذ فعليه ان يخضع لمبدأ (نفذ ثم ناقش). واما بعده، فلقد تم كل شيء وأسدل الستار.

من النصوص الممتازة ـ وهو النص الوحيد الذي ناقش مبدأ نفذ ثم ناقش، يفتتح صدام كلامه بمقدمة تتناقض مع التفسير الذي قدّمه له، وينتهي في آخره الى تثبيت هذا المبدأ. الذي تقول الحقائق المعاشة في العراق انه لولاه ولولا التهديد المرعب بالعذاب والموت وتشريد العوائل، لما سارت عجلة حزب البعث في العراق بالشكل الذي سارت عليه حيث انتهكت كافة الحرمات والمقدسات الدينية والشخصية وجميع الحقوق.

يقول صدام في تفسيره لمبدأ نفذ ثم ناقش السيئ الصيت:

«لكن نظامنا لم يأمر بالطاعة العمياء، ولم يؤكد على اطاعة الامر وتنفيذه فحسب، وانما استمد نظريته في الحكم من نظرية ثابتة في الحزب في هذا الميدان عنوانها: نفذ ثم ناقش. هذا هو المبدأ الاساس في نظام دولة البعث، مثلما هو قانون اساس في الحياة الداخلية للحزب.

اذاً، بموجب هذا المبدأ فانك لكي تناقش، ينبغي ان تكون على بينة بالامر الذي يقتضي مناقشته. ويضطر ولضرورات خاصة وبموجب ظرف معين ان يسبق القرار نقاش جماعي، وعندما يتخذ القرار، فعلى الجميع ان يطبقوه. واذا كانت لديهم ملاحظات عليه، عليهم ان يقولوها بعد التنفيذ، لكي لا تعطل القرارات على اساس الاجتهاد الشخصي للمنفذين، مما يخلق الارتباك وضياع الفرصة.

وفي الوقت نفسه، فان مناقشة القرارات قبل وبعد تنفيذها، من شأنها ان تهيئ ظروفاً مناسبة لبناء الكادر على اساس الدراية والتبصر، وتخلق ارضية مشتركة للاستفادة من الدروس المستنبطة.

والمسؤول الاعلى ـ عدا حالات معروفة، حالات القيادة الجماعية ـ اما ان يأخذ بأيّ من ملاحظاتهم او يهملها. ولكن في كل الاحوال ينبغي ان يمعن النظر بملاحظاتهم، لانه ربما يكون منها ما هو مفيد ويدخل تعديلا على قراراته وتوجيهاته وأوامره وسياق عمله اللاحق»[33].

فالمسؤول الاعلى اذاً ـ وفي حالة مناقشته من قبل اعضاء الحزب، وبعد التنفيذ بطبيعة الحال مخّير في ان يأخذ بملاحظاتهم او يهملها. وهو يأخذ بها اذا رآها نافعة ومفيدة لأوامره القادمة.

والحقيقة التي يعرفها البعثيون في العراق، ان مجرد الاشارة الى ما يدل على اعتراض او استفسار داخل الحلقات الحزبية مما قد يوجهه احد الاعضاء، يؤدي الى اثارة الشكوك حول ذلك العضو ومدى ايمانه بمبادىء حزب البعث التي هي مبادىء صدام وحده دون منازع. ولذا فان جميع اعضاء الحزب ـ سواء اقتنعوا ام لم يقتنعوا بالامر الصادر اليهم ـ ينبغي لهم ان يقولوا: نعم، وهم مطأطئوا الرؤوس وأعينهم الى الارض.

وللتدليل على طبيعة العلاقة القائمة بين صدام ورفاقه من قيادي حزب البعث ممن عملوا معه سنين طويلة، وكيف انها علاقة قائمة على الشك الابدي في نفسه من احتمال ان يكونوا متآمرين ضده، وهو ما يقدم ايضاً تطبيقاً عملياً على استحالة وجود حالة من النقاش او الاجواء الديمقراطية داخل الكادر المتقدم للحزب، فضلا عن الحلقات الحزبية الادنى، نقدم نموذج اكتشاف المؤامرة التي قيل ان صدام قد اكتشفها هو شخصياً وأعلن عنها في تموز 1979 اي انه دشّن بالاعلان عنها اول ايام حكمه بوصفه رئيساً للجمهورية بعد احد عشر عاماً من شغله منصب نائب للرئيس احمد حسن ابكر، الذي نحاه صدام عن الحكم. وسنستفيد من هذه المناسبة لعرض حالة من الحالات التي يعنى بها التحليل السيكولوجي، نعني حالة البارانويا.

ولقد دلت شواهد الامور على انه عندما بدأ صدام جهوده للاستيلاء على السلطة من احمد حسن البكر، بعد ان عيل صبره وعلى حد تعبيره: «اخّرت ظهور صدام من 1974 الى 1978»[34]، رغم ان امانيه بالرئاسة قد ملأت عليه وجدانه منذ نعومة اظفاره، قام بازاحة كل من رآه عقبة في طريقه، فجاء اكتشاف المؤامرة المزعومة التي جرى الحديث عنها في قاعة الخلد يوم 22 تموز 1979 اي منذ الايام الاولى لازاحة البكر عن السلطة بشكل قال عنه صدام انه لم يحدث في اي تجربة من تجارب العالم!

والذى يهمنا من هذه المؤامرة هي الطريقة التي اكتشف بها صدام وجودها في قلب محمد عايش من خلال نقطة سوداء رآها في قلبه، او هو ما يذكرنا بطريقته التي ذكرناها فيما مضى وهي قراءة ما في القلب من خلال التفرس في العيون. وهو ما اعلن عنه صدام في قاعة الخلد فيما سمي باعترافات محي عبد الحسين: «كنا نقرأ في قلوبنا صفحات التآمر قبل ان نمتلك المعلومات عن التآمر»[35].

نقطة سوداء في القلب: حالة بارانويا

بعد انتهاء محي عبد الحسين من حديثه الذي دعي بالاعترافات، واقتيد خارج القاعة، ارتقى صدام المنصة ليتحدث امام الكادر المتقدم لحزب البعث عن كيفية احساسه بالمؤامرة:

«من خمسة اشهر ـ على ما اعتقد ـ في اجتماع بالمجلس الوطني، كان موضوع الحديث العلاقات مع سوريا، كان الى جانبي الرفيق عزة ابراهيم، قلت له: اشوف نقطة سوداء في عقل وفي قلب محمد عايش. وهذه النقطة قطعاً لا يمكن ان اخطأ في انها موجودة. لكن فقط اريد منك معاونتي بملاحظاتك، في اي اتجاه يريد محمد عايش يفعل بها؟

وراح (اي عزة ابراهيم الدوري) والتقى به (بمحمد عايش) وقال له: لماذا انت غير مرتاح؟ هل يوجد شيء لا يريحك؟

حكى له عايش حكايات عن احد الرفاق. وادعى انه غير مرتاح من كلام احد الرفاق في الجلسة.

كنت افتش عن اي رفيق يحاول يهز قناعتي فيما اشوفه. (نحنحة). جاءني الرفيق عزة ابراهيم، قال لي: لا اعتقد بوجود شيء الا بهذه الحدود.

مرة ثانية ارسلت على الرفيق عزة فقلت له: النقطة السوداء بدأت تكبر امامي ولا يمكن ان اخطأ فيها. والنقطة السوداء ليست عدم ارتياح شخصي وانما هي نقطة متآمر. وشرحت له (لعزة الدوري) خطة التآمر[36]. قلت له: متآمرون. والخطة الاساسية هي تحطيم حزب البعث العربي الاشتراكي كتقاليد وكفكرة. الى آخره. الى اي حد اقتنع الرفيق عزة؟ هو طبعاً مقتنع بسوئهم[37]. ولكن عندما صار اللقاء الثالث والرابع والخامس، اقتنع معي ان العملية ليست عملية تكتل محض.

والمرة الاخرى مع الرفيق طارق عزيز ـ وكنت آخذ قناعتهم لصالحهم وليس ضدهم ـ افتش عن واحد يهز قناعتي.

اخذت الرفيق طارق عزيز وتكملت معه، وايضاً جاءني بعد فترة وقال: لا اظن الهواجس كما تتصور.

ثم اخذت رفيقاً ثالثاً، الى ان صارت القناعة مطلقة في نفسي وفي عقلي، ان هؤلاء متآمرون. وبالضبط مثلما كشف التحقيق.

طبعاً بدأ الرفاق يشاركونني نفس القناعة.

بدأنا طبعاً نتابع نشاطهم. حاولت ان انبههم في القيادة اكثر من مرة من طرف، اتحدث به عن اللقاءات بين اعضاء القيادة خارج الاجتماعات وبحث شؤون داخلية تخص القيادة[38]. ونبّهت حول خطورة هذا المسلك بدون ان اؤشر الى اي عضو من اعضاء القيادة.

كانوا (يقصد المتآمرين) زاروا ـ مرة او مرتين ـ مع برزان[39]، الرفيق نوري الحديثي مسؤول الفرع العسكري للشمال. كنت خايف على نوري من ناحية.

كنت خايف ان يتكلموا امامه ضد اعضاء القيادة وهو يسمع[40]. فأرسلت عليه ـ ربما قبل شهر ـ قلت له: يا نوري! اذا شفت اثنين من اعضاء القيادة يتكلمان حول شؤون داخلية بالقيادة. احمل كرسيك واجلس بعيداً.

لو كان اي واحد من هؤلاء الكواد[41]. في بداية الجلسات قبل ان تجرّ رجله نهائياً ويرتبط بهم، عندما يتكلمون امامه حول الحياة الداخلية للقيادة، لو كان رفع تقرير للقيادة، لو كان فعل ذلك لما اوصلوهم الى الدرك الاسفل»[42].

تحليل الحالة:

ينفعنا النص السابق في تبيان الرعب الذي يغلف الحياة الداخلية للكادر المتقدم في الحزب وحلقاته. فاذا كان هذا حال اعضاء بارزين في القيادة وانهم كانوا يساقون الى الموت لمجرد الشك بوجود نقطة سوداء في قلب احدهم، ترى كيف سيكون حال المواطن العادي اذا وقع بين براثن مسؤولين امنيين في دولة تدار مستوياتها العليا بهذا الشكل الذي يعاقب فيه على الشك واحتمال ان تكون النوايا سيئة؟

فلنبدأ التحليل السيكولوجي الذي نفترض فيه ـ وهذا ما سيؤكده تحليل الحالة ـ ان الحالة هي بارانويا اضطهادية Persecutry Paranoia وهو حالة عصاب تتسلط فيه على المريض اوهام تتعلق بتعقيب الناس له ومحاولتهم الحاق الاذى به.

نلاحظ في النص السابق كيف ان صداماً قد تصور وجود نقطة سوداء في قلب وعقل محمد عايش ـ موجهة ضده طبعاً ـ لمجرد ان محمد عايش بدا غير مرتاح في احدى جلسات القيادة. هذا التصور اسماه (قناعة)، واختار بعثياً مهزوزاً هو عزة ابراهيم الدوري لكي يشاركه (قناعته)، وأرسله كما يرسل شرطياً من جهاز الامن للتجسس على محمد عايش وتوريطه في حديث قد يفضي به الى ان يفتح له شيئاً من اسراره.

والذي يؤكد (القناعة) الراسخة في ذهن صدام عن وجود تآمر موجّه ضده لدى محمد عايش، هو ان (الدوري) عندما عاد اليه وذكر سبب عدم ارتياح عايش ـ بسبب انزعاجه من احد الرفاق ـ لم يغير هذا الخبر من (قناعة) صدام شيئاً، وأصرّ على أن عايش يحمل نقطة سوداء في عقله وقلبه.

ولكي يقنع (الدوري) بالتجسس مرة ثانية قال له: ان النقطة السوداء بدأت تتسع، ولا يمكن له ان يخطئ في ذلك.

وجملة (لا يمكن ان اخطئ) ذات دلالة على انه كان يبعث برفاقه للتجسس ليس لوجود احتمال ـ مهما كان ضعيفاً ـ في براءة محمد عايش من التآمر، وانما كان يبحث عن اكبر عدد ممكن من رفاقه ليشركهم معه في حمل نفس التصور عن عايش وبالتالي عن مجموعته لكي يخلق بالتالي (قناعة عامة) من حوله، بحيث تبدو الشكوك ضد (المجموعة) وكأنها صادرة عن الآخرين وليس عنه. وان ذلك يكشف عن وجود صراع ما داخل نفسه ربما كان يصدر عن بعض احساس بالذنب. فكثير من اولئك الذين سيقتلهم بعد قليل تحت التعذيب قد ساهم بشكل او اخر في صعوده هو الى المركز المتقدم في الحزب. وهو الآن يريد المركز القيادي الاول.

ومما يؤكد هذا التفسير، انه لم يكتف بارسال عزة الدوري للتجسس على محمد عايش، وانما ارسل ايضاً طارق عزيز ورفيقاً ثالثاً، وربما ارسل رابعاً وخامساً.

انه نوع من آليات (ميكانزمات) الدفاع عن النفس في مواجهة الشعور بالذنب تجاه رفاق الامس الذين اوصلوه الى المركز المتقدم في الحزب خلال صراعه مع الرئيس المنحّى احمد حسن البكر، وها هو اليوم ينقلب ضدهم.

وعملية من هذا النوع تبدأ عادة باسقاط Projection بسيط[43]. ناتج عن «مقدمة خاطئة خطأ مطلقاً لا يمكن زعزعته او تعديله والتشكيك فيه. ومن حيث المضمون، نجد ان فكرة الاضطهاد والريبة من نوايا الغير وأفعالهم تقوم بدور رئيسي في هذا المرض ـ البارانويا، اما من حيث الشكل فان المريض يستخدم الاسقاط استخداماً متصلا، فينسب الى الغير افكاره ومشاعره، ولا يفتأ يؤوّل حركات الآخرين وسكناتهم بما يتفق واعتقاده المرضي، بحيث يتحول الصراع الداخلي ـ في النهاية ـ الى صراع خارجي بين المريض والآخرين منقطع الصلة ـ بالنسبة للخبرة الشعورية للمريض ـ بأصله الذاتي»[44].

وانقطاع الصلة هذا في الشعور بين الصلة الواقعية لهذا الاسقاط ـ الذي انطلق من ذات الشخص ـ يؤدي به الى ان يعتقد اعتقاداً جازماً مع تطور الحالة بأن الآخرين هم الذين بدأوا العدوان، وهم الذين يكرهونه ويحاربونه، وبالتالي فان كل الاجراءات التي سيتخذها ضدهم ستكون من وجهة نظر مشروعة مهما بلغت قساوتها، لانها ستكون دفاعاً عن الذات. وغالباً ما يتخذ هذا الدفاع اسلوب حرب وقائية يفاجأ بها الخصوم المفترضون.

ونستطيع ان نتابع الحالة اعلاه وتطورها على الوجه التالي:

اولا: انا اكره الآخرين.

ثانياً: ربما كان الآخرون يكرهونني ايضاً.

ثالثاً: التصور يتخذ صفة اليقينية ليكون: يقيناً ان الآخرين يكرهونني.

رابعاً: انهم يتهامسون ضدي، وأستطيع قراءة ذلك في عيونهم، بل وأكشف ما في قلوبهم من خلال اعينهم. وكما رأينا فالحالة بدأت عند صدام باكتشاف نقطة سوداء في عقل وقلب محمد عايش.

خامساً: سأحاول العثور على من يؤكد لي هذا اليقين ـ ارسل بعض رفاقه للتجسس.

سادساً: عندما رأى ان عزة الدورى وطارق عزيز لم يؤكدا هواجسه، ونقلوا له ما يتعارض معها، قال: «ان النقطة السوداء بدأت تكبر ولا يمكن ان اخطئ فيها».

سابعاً: لكي يبعد عن تصور الآخرين ان الأمر بأسره لا يعدو كونه كرهاً شخصياً منه لاولئك، قال على شكل القطع واليقين: «انهم متآمرون ضد حزب البعث».

ثامناً: انقطعت الصلة بين الاصل الواقعي للمشكلة ـ الذي هو كرهه للآخرين ـ ليصبح: انهم متآمرون ضدي بوصفي ممثلا للحزب وقائداً محتملا له، وهم متآمرون بالتالي ضد الحزب. وعليه فقد خانوا العلاقة الرفاقية التي كانت تجمعني بهم. اذاً، فهو في حلّ من كل ما كان يربطه بهم. وهم بالتالي يستحقون ابشع انواع العقاب.

اما قوله: «كنت افتش عن رفيق يهزّ قناعتي في عدم تآمرهم». فقد قلنا فيما مضى: ان الانكار في المحكمة لتهمة ما، لا يعني دائماً براءة المتهم، فان (تفتيشه عن دليل يهز قناعته) يمكن تفسيره على العكس من ذلك. اي انه كان يفتش عن اكبر عدد من رفاقه يرسخون قناعته فيما يعتقده. وما اصراره على ارسال رفاقه الواحد تلو الآخر للتجسس على المتآمرين المزعومين الا دليل على انه كان محتاجاً لمن يثّبت قناعته.

اخيراً،لقد اصبحت عادة قراءة العيون هذه لمعرفة ما في القلوب، اسلوباً يستعين به العاملون مع صدام ايضاً في التعامل مع الآخرين. ففي «مناقشات دارت داخل القيادة العراقية (مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية) حول التغييرات المزمع اجراؤها في العراق بعدتوقف الحرب مع ايران ومطبوعة في كتاب داخلي يوزع على كبار المسؤولين في الدولة وفي الحزب فقط، جرت في الاشهر الاولى من العام 1989م ثم تلاحقت بعد ذلك. وكانت كلها برئاسة الرئيس صدام حسين وحضرها جميع اعضاء القيادة وتحدثوا فيها جميعاً»[45]. علق طه ياسين رمضان الذي يشغل منصب نائب لصدام، وهو يعلق على كلام صدام: «كل هذه المناقشة هي لتعزيز الدور التاريخي القيادي لحزب البعث»، قال «نعم سيدي الرئيس. ثبت لنا ان اكثر فترة استقرار وبناء ونهوض وشموخ لبلدنا، هي فترة حزب البعث. وهذا الدور التاريخي نقرأه في عيون الاغلبية بدون استفتاء»[46].

وقد عاد صدام مرة اخرى الى التفرس بالعيون في حديث له مع اعضاء شعبة المأمون (احد احياء بغداد السكنية) حيث اقترح احد اعضائها ان توضع في سجل قيد العضو او النصير او المؤيد البعثي صورة له. وهنا امتدح صدام هذا الاقتراح وعقّب قائلا: «كانوا يقدمون المعاملات (لي) يرشحون بها ضباطاً لمستويات، رفاقاً حزبيين لمستويات. انا اتذكر الاسم، لكن احياناً لا استطيع ان اطابق الصورة مع الاسم الذي اتذكره. الصورة توحي للواحد بذكريات وبأمور يتذكرها كثيرة.

فطلبت بعد الآن حين تقدم لي معاملة من اختصاصي، ان اعطي بها رأيي، او اصدر قراراً، ان تقدم صورة الشخص مع المعاملة، حتى تماماً استطيع ان اعطي رأيي مقترناً بالاسم والصورة»[47].

ان وجود صورة في الطلب المقدّم يتيح لصدام ممارسة هوايته في اختراق قلوب الآخرين من خلال التفرس في اعينهم. وبالتأكيد فان بعض اولئك سيحرمون من حقوقهم حتى المشروعة منها، اذ ربما اوحت الصورة، صورة شخص آخر يضمر له صدام في لا شعوره ذكرى سيئة او عقدة معينة.  اما عيون الاطفال فلها منزلة خاصة في قلبه. ففي حديث له في حفل توزيع انواط شجاعة على مجموعة من افراد القوات الخاصة. قال وهو يخاطبهم ويمنيّهم بنهاية الحرب وكيف ان السلام سيعم البلاد، ثم اطلق فجأة صورة غريبة بشعة عن عيون الاطفال، قال:

«عندنا من السلاح ما تقاتلون به ـ ان شاء الله ـ بعز. ترجعون بسلام، تعيشون بسلام في بلدكم اعزاء، لا احد يتطاول عليه او يحاول ان يطفئ عقب السيكارة في عيون الاطفال المشعة»[48].

من اين انطلقت هذه الصورة البشعة لعيون الاطفال تطفأ فيها اعقاب سكائر؟ هل شاهدها صدام في فلم سينمائي؟ هل شاهدها حقيقةً؟ هل مارسها هو بنفسه خاصة وان اقبية العذاب في دولة (ميشيل عفلق) كثيرة كقصر النهاية ومديرية المخابرات ومديرية الامن العام..؟ هل هي رغبة في اللاشعور انطلقت دون سابق انذار؟ ام انها واقعة قد وقعت وانطمرت! في ركام اللاشعور واندفعت في زلة لسان؟

علاقة غريبة بين صدام والعيون. فقد نقلت جريدة الجهاد العراقية المعارضة (العدد الصادر في 16/2/1987م) «ان جمعية الشعوب المهددة، وهي منظمة انسانية المانية غربية اسست عام 1972م قد اكدت في بيان لها حول الاعدامات التي طالت الاطفال والشبان الاكراد في العراق خلال كانون الثاني من عام 1986م ان الضحايا ينتمون الى محافظة السليمانية وان في حوزة الجمعية قائمة تضم 29 اسماً، وان الجثث التي تسلمها اقرباء الضحايا بعد سداد ضريبة الاعدام كانت منزوعة العيون. وذكرت الجمعية ان النظام الحاكم في العراق قد احتجز 300 طفل وشاب كردي على اثر مظاهرات قامت في مدينة السليمانية في شهري ايلول وتشرين الاول من عام 1985م وانه تم اختيار معظم الضحايا من بين اسر كردية رفضت الانضمام الى الجيش».

ويقول حسن العلوي ابن خال الوزير البعثي المعدوم عدنان الحمداني وزوج اخته، ان جثة الحمداني قد سلمت الى اهله وهي منزوعة العينين (العراق دولة المنظمة السرية، ص 181).

بتلك التطلعات والافكار وبهذا التطبيق الذي لا تكفي كل كلمات الجور والظلم والاستبداد والاجرام لوصفه، حكم صدام شعب العراق، شعب الحضارات العريقة وأنزل به افدح الخسائر وصب عليه وما زال الوان العذاب، حيث حوّل شعباً بأسره الى مشروع للموت، مستعد لأن يلقي بنفسه في النهر ليغرق ويموت دون ان يسأل لماذا او يناقش او يفتح فاه، وذلك بمجرد ان يقول له (السيد الرئيس القائد صدام) ذلك. انه ليس كلاماً انشائياً بل تصريح في اجتماع للكادر العمالي المتقدم. ولما كان قد اذيع من تلفزيون بغداد دون ذكر لاسماء المتحدثين فقد تعرفنا الى الاسماء الاولى ممن تحدثوا في ذلك اللقاء. قال من دعاه صدام بالرفيق عارف وهو يخاطب صداماً:

«احنا في بعض الاحاديث اللي تصير ضمن اطارات الرفاق، نقول لهم: الآن السيد الرئيس يقول (لأبناء) الشعب العراقي: ذبّوا انفسكم كلكم في الشط. (فانهم) يذبّوها.

سيدي. الآن العراقي اصبح مشروع استشهاد. الآن العراقي اصبح، كل انسان. العراقي وصل الى قناعة انه مشروع استشهادي»[49].

لقد عبّر المتكلم عما في ضمير صدام، وكان سكوت صدام دليلا على ايمانه بما قاله المتكلم. والا لكان اعترض عليه او استفسر منه، او تواضع ولو شكلياً ـ وهويعلم ان الحديث والمداخلات وكلمة: ذبّوا. هي من العامية العراقية وتعني: ألقوا، او ارموا.

ستذاع عبر الراديو والتلفزيون ـ وقال اي شيء يمكن ان يقال ولو للمجاملة في هذه المناسبة. انه لم يقل شيئاً. وكأن المتكلم يدغدغ امنية غالية على قلبه في ان يرى العراقيين مشاريع للموت.

انها الذات التي تتمحور حول نفسها، لتصبح صنماً تقدم له فروض الطاعة والقرابين، حتى القرابين البشرية.

وهو يأمل اخيراً في ان يمتد به العمر لأكثر من 120 عاماً، يمارس الحكم بل يمارس ما يحلو له هو وحده دون منازع. فهو متعلق بالدنيا الى الدرجة التي لا مانع لديه معها في ان يقضي على شعب بكامله ليظل هو حياً. انه حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة.

يقول عن البناء الذي شيّده او المنهج الذي انشأ عليه اجهزة ظلت تمارسه سنين طويلة عبر تنظيمات الحزب الذي هو مؤسسة صدام لتحقيق اماني صدام فحسب، وعبر اجهزة الامن والمخابرات:

«المنهج الذي بنيناه نحن، ليس منهجاً لعشر سنين او عشرين او ثلاثين سنة. من الممكن ان يصل عمر صدام حسين الى سبعين، ثمانين سنة، اكثر، اقل ـ وان كان لدينا واحد من أعمامنا عاش 125 سنة وهو يمتطي الفرس وظهره غير منحن.

اذا عاش (صدام) سبعين او ثمانين سنة، او عدنان خير الله، او طه الجزراوي، او عزة ابراهيم او فلان رفيق… فلن ينتهي هذا المنهج بانتهاء اعمارنا. اذا انتهى بانتهاء اعمارنا، فلا خير فينا.

هذا المنهج سيرفع عمله الذين لم يولدوا بعد في العراق.

هو الحالة المستخرجة من ضميرنا ومن عقلنا الانساني بكل عمقها عبر 6000 سنة ماضية، والى 6000 سنة قادمة»[50].

انها الرغبة اللاشعورية في ان يعيش 125 سنة. بل في مصادرة ماض يمتد 6000 سنة يتمنى لو كان قد اجتاحه وحكمه منذ ذلك الوقت، والى 6000 سنة قادمة.

محمد باقر الصدر: الآمال الكبيرة

سننطلق مع الشهيد الصدر من النقطة التي انتهينا بها مع صدام، اي مع حب الدنيا والتعلق المرضي بها، لنكتشف بعدها ان زهد الامام الصدر في الحياة وملذاتها كان ادل الدلالات على سعة اماله في تغيير الحياة وفق المنهج الذي آمن به واندكّ فيه وتسامى ليبلغ من خلاله شرف الاستشهاد. وسنقتطف مقاطع من احاديثه التي تساعدنا في فهم شخصيته واماله وتصوره لتحقيق تلك الآمال. اذ انه «رضوان الله عليه» قد انهمك في الدراسات العلمية من فلسفية واقتصادية وفقهية واصولية وتوسع فيها، بينما كان مقلا ـ قياساً لتلك الدراسات الضخمة ـ في الحديث عن عموم الشخصية الاسلامية. لذا سنغتنم فرص احاديثه القليلة ونختار منها مقاطع حتى لو كانت طويلة، فهي المفتاح الوحيد لمعرفة شخصيته.

فالشهيد حين يتحدث عن المحدّث الثقة محمد بن ابي عمير وعن صبره تحت سياط الجلادين، انما كان يتحدث عن نفسه في حقيقة الامر[51]. وحينما يتحدث عن التضحية بالمصالح الصغيرة في سبيل المصلحة الكبرى، انما كان يتحدث عن قناعة في نفسه راسخة. والدليل على ذلك انه لم يضحّ بمصالحه الصغيرة من اجل المصلحة الكبرى فحسب، بل ضحّى حتى بحياته في سبيل ذلك. وحين يتحدث عن قصر ايام الدنيا وانه لن يعيش اكثر مما عاش ابوه او اخوه، يعني انه قد اتخذ قراره بالرحيل عن هذه الدنيا، لانه يعلم ان الحاكم الذي يقف في مواجهته، هذا الحاكم الذي يريد ان يعيش 125 عاما لن يتركه يعيش في الدنيا بأمان ليدعو لعقيدة الاسلام وليهزم بالتالي عقيدته بل دينه الذي هو حزب البعث.

يقول الشهيد الصدر:

«حب الدنيا يتخذ درجتين:

الدرجة الاولى: ان يكون حب الدنيا محوراً للانسان، قاعدة للانسان في تصرفاته وسلوكه، يتحرك حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتحرك، ويسكن حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يسكن. يتعبد حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتعبد. وهكذا، الدنيا تكون هي القاعدة.

لكن احياناً ايضاً يمكن ان يفلت من الدنيا، يشتغل اشغالا اخرى نظيفة، طاهرة. قد يصلي لله سبحانه وتعالى. قد يصوم لله سبحانه وتعالى. لكن سرعان ما يرجع مرة اخرى الى ذلك المحور وينشد اليه. فلتات يخرج بها من اطار ذلك الشيطان، ثم يرجع الى الشيطان مرة اخرى. هذه درجة اولى من هذا المرض الوبيل، مرض حب الدنيا.

واما الدرجة الثانية من هذا المرض الوبيل، فهي الدرجة المهلكة. حينما يعمي حب الدنيا هذا الانسان، يسدّ عليه كل منافذ الرؤية، يكون بالنسبة الى الدنيا كما كان سيد الموحدين وأمير المؤمنين بالنسبة الى الله سبحانه وتعالى، انه لم يكن يرى شيئاً الا وكان يرى الله معه وقبله وبعده.

حب الدنيا في الدرجة الثانية يصل الى مستوى بحيث ان الانسان لا يرى شيئاً الا ويرى الدنيا فيه وقبله ومعه وبعده. حتى الاعمال الصالحة تتحول عنده وبمنظاره الى دنيا تتحول عنده الى متعة، الى مصلحة شخصية. حتى الصلاة، حتى الصيام، حتى البحث، حتى الدرس. هذه الالوان كلها تتحول الى دنيا لا يمكنه ان يرى شيئاً الا من خلال الدنيا، الا من خلال مقدار ما يمكن لهذا العمل ان يعطيه: يعطيه حفنة مال، او من كومة جاه لا يمكن ان يستمر معه الا بضعة ايام معدودة. هذه هي الدرجة الثانية.

وكل من الدرجتين مهلكة. والدرجة الثانية اشد هلكة من الدرجة الاولى. ولهذا قال رسول الله (ص): «حب الدنيا رأس كل خطيئة». قال الامام الصادق (ع): «الدنيا كماء البحر، من ازداد شرباً منه ازداد عطشاً». لا تقل: فلآخذ هذه الحفنة من الدنيا ثم انصرف الى الله.

ليس الامر كذلك. فان اي مقدار تحصل عليه من مال الدنيا، من مقامات هذه الدنيا الزائلة، سوف يزداد بك العطش والنهم الى المرتبة الاخرى: «الدنيا كماء البحر»، «حب الدنيا رأس كل خطيئة». الرسول (ص) يقول: «من اصبح وأكبر همه الدنيا، فليس له من الله شيء». هذا الكلام يعني قطع الصلة مع الله سبحانه وتعالى. يعني ان ولاءين لا يجتمعان في قلب واحد، «حب الدنيا رأس كل خطيئة».

لان حب الدنيا هو الذي يفرغ الصلاة، من معناها، ويفرغ الصيام من معناه، ويفرغ كل عبادة من معناها..

ماذا يبقى من معنى لهذه العبادات اذا استولى حب الدنيا على قلب الانسان؟

انا وأنتم نعرف ان اولئك الذين نؤاخذهم على ما عملوا مع امير المؤمنين عليه السلام. اولئك لم يتركوا صلاة، ولم يتركوا صياماً، ولم يشربوا خمراً ـ على الاقل عدد كبير منهم لو يقوموا بشيء من هذا القبيل ـ لكن مع هذا، ما هي قيمة هذه الصلاة؟ وما هي قيمة هذا الصيام؟ وما هي قيمة العفة عن شرب الخمر اذا كان حب الدنيا هو الذي يملأ القلب؟»[52].

كانا على خطين متناقضين مائة في المائة، فصدام كان يزداد مع كل ثانية يستنشق فيها الهواء، تعلقاً بالدنيا والتشبث بفكرة واحدة ملكت عليه كل كيانه، هي ان يحول كل شيء الى الصورة التي يريدها هو، وليس ما يريدها الدين او الاخلاق او ما يريده الفلاسفة والعلماء والقانونيون. اما الانسان، فليس له الا ان يكون نسخة طبق الاصل من صدام، فالعصابيون «يريدون لا شعورياً ان يصير العالم على صورته»[53]. ومظهر تلك الصورة اسمه (حزب البعث العربي الاشتراكي) اما المضمون فهو صدام وما يقوله وما يأمر به. وكان يزداد ذوباناً في احلامه التي هي ذاته اولا وآخراً. ولأجل تحقيق هذا الهدف كان يطوق من حوله بالجواسيس حتى ولو كانوا اطفالا داخل البيت: «عليكم بتطويق الكبار عن طريق ابنائهم بالاضافة الى الروافد والوسائل الاخرى.. عليكم ان تضعوا في كل زاوية ابناً للثورة وعيناً امينة وعقلا سديداً، يتسلّم تعليماته من مراكز الثورة المسؤولة ويبادر الى تطبيقها»[54].

وعلى النقيض من ذلك كان الامام الصدر يريد للعالم ان يصبح على صورة الاسلام، حيث يتحرر الانسان من الداخل من كل العبوديات، ويرفض الآلهة المزيفة سواء أكانت بشراً ام صنماً ام فئة ام طبقة، فهو يعلن بأعلى صوته:

«ان الاسلام ثورة لا تنفصل فيها الحياة عن العقيدة، ولا ينفصل فيها الوجه الاجتماعي عن المحتوى الروحي. ومن هنا كان ثورة فريدة على مر التاريخ.

فالتوحيد هو جوهر العقيدة الاسلامية، وبالتوحيد يحرر الاسلام الانسان من عبودية غير الله: «لا اله الا الله». ويرفض كل اشكال الالوهية المزيفة على مر التاريخ. وهذا هو تحرير الانسان من داخل. ثم يقرر كنتيجة طبيعية لذلك، تحرير الثروة والكون من اي مالك سوى الله تعالى. وهذا هو تحرير الانسان من خارج. وقد ربط الامام امير المؤمنين عليه السلام بين الحقيقتين حين قال: العباد عباد الله والمال مال الله.

وبذبك حطّم الاسلام كل القيود المصطنعة والحواجز التاريخية التي كانت تعوق تقدم الانسان وكدحه الى ربه، وسيره الحثيث نحوه، سواء تمثلت هذه القيود والحواجز على مستوى آلهة ومخاوف وأساطير وتحجيم للانسانية بين يدي قوى اسطورية، او تمثلت على مستوى ملكيات تكرس على الارض لطاغوت، فرداً كان اوفئة او طبقة على حساب الناس وتحول دون نموهم الطبيعي وتفرض عليهم بالتالي علاقات التبعية والاستعباد.

ومن هنا كان الاسلام الذي كافح من اجله الانبياء، ثورة اجتماعية على الظلم والطغيان وعلى الوان الاستغلال والاستعباد.

ومن هنا ايضاً كان الانبياء وهم يحملون هذا المشعل يستقطبون دائماً المعذّبين في الارض والجماهير البائسة التي مزقتها اساطير الآلهة المزيفة روحياً، وشتتها الجاهلية فكرياً، ووقعت فريسة اشكال مختلفة من الاستغلال والظلم الاجتماعي»[55].

بامكان القارىء ان يعود لقراءة النصوص التي نقلناها عن صدام في تعامله مع الانسان وكيف انه يريد منه ان يكون محجماً باطار البعث فقط، هذا الحزب الذي هو صورة صدام فقط، ومن ثم يطالع النص اعلاه للشهيد الصدر، ليجد وطبقاً لهذ ا النص ايضاً، ان صداماً وحزبه هما نموذجان ـ او نموذج واحد ـ لتلك الآلهة المزيفة التي تحجّم انسانية الانسان.

أكان يقصد اذاً بكلامه هذا صداماً وحزبه؟

لابد ان يكون الجواب: نعم. سواء أكان قصدهما شعورياً ام لا شعورياً. فالنص اعلاه هو من مجموعة نصوص كتبها بعد العام 1979م، اي بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران التي رأى فيها تحقق الحلم الذي سعى اليه طويلا، رآه على ارض الواقع بكل ما فيه من اندفاع جماهيري هائل ادى الى اسقاط امبراطور عات، والى ظهور اسئلة ما يزال بعضها قائماً الى اليوم عن امكانية تطبيق الاسلام في القرن العشرين لادارة دولة بكامل مؤسساتها، وبالشكل الذي انصهرت فيه كافة الاعراق والامم كما كان عليه الحال في صدر الاسلام. فلا فرق بين ابيض وأسود وأعجمي وعربي الا بالتقوى والا بما يقدمه الفرد لخدمة المجتمع.

كما ان كلام الشهيد الصدر قد قيل ايضاً مباشرة بعد تموز 1979م اي بعد مجيء صدام للحكم ليطبق بصورة مباشرة ما كان يدعو اليه خلال لقاءاته وأحاديثه وعبر اجهزته الامنية التي ظل يبني بها منذ ان عين نائباً للرئيس المنحّى احمد حسن البكر، ونعني به: اعادة صياغة الانسان العراقي ـ والعربي ايضاً اذا سمحت الظروف ـ وفق اختيارات منهج واحد هو منهج حزب البعث الذي يدير بصورة مركزية صارمة دفة الحكم في العراق لاعادة بناء الانسان الذي عليه (ان يستوعب افكار الحزب ويستنير بها) وعلى التربويين المعنيين بشؤون التربية الوطنية وقيادة الجيل من خلال التربية ان يدرسوا (دراسة مستفيضة افكار حزب البعث العربي الاشتراكي لكونه قائد هذا المجتمع، وقائد هذه السلطة) و(ان الحزب والدولة هما عائلة الطفل والفتى، فهما أمهما وأبوهما) ـ كما نقلنا عن صدام آنفاً ـ [56].

عفلق، صدام، الصدر، وتجربة واحدة

التجربة المشتركة هي المحنة، محنة مواجهة الحرمان والسجن والعذاب بل وحتى الموت. وقد واجه الثلاثة هذا الاختبار فكانت ردود افعالهم تجاهه معروفة ومدونة لذا سنقوم برصدها.

اولا: اما ميشيل عفلق. فقد كان اصدر مع اعضاء اللجنة التنفيذية لحزب البعث بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الكولونيل حسني الزعيم في مارس عام 1949م، بياناً شرحوا فيه الوضع القائم آنذاك وجددوا مطاليب البلاد ودلّوا على الانحرافات التي ظهرت على العهد الجديد[57] 57. ـ اي عهد حسني الزعيم.

ولما كان حسني الزعيم دكتاتوراً صارماً فقد امر باعتقال «اعضاء اللجنة التنفيذية لحزب البعث العربي الموقعين على البيان كما اعتقل عدداً كبيراً من اعضاء الحزب الكبار والصغار وأودعهم في سجن «المزّة» وكان ذلك في شهر حزيران 1949م»[58].

وكان اعضاء اللجنة التنفيذية آنذاك هم ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار والدكتور وهيب الغانم وجلال السيد.

وللخلاص من السجن بادر ميشيل عفلق لكتابة رسالة استعطاف واعتذار الى حسيني الزعيم. وقد لخص جلال السيد وهو رفيق ميشيل عفلق في اللجنة التنفيذية اسباب كتابة عفلق لتلك الرسالة وقال انها تمثل وجهة نظر عفلق بما يلي:

1ـ صدمة لم يكن يتوقعها من الاهانات والازدراء وحلق الشعر والحبس المنفرد.

2ـ حرمان من التدخين وكل وسائل التخفيف عن السجين.

3ـ حرب اعصاب مستمرة وارهاق ومنع للنوم بدخول جمعي عسكري مفاجىء خلال الليالي بقصد الاخلال بالراحة الى الزنزانات.

4ـ اطلاق الاشاعات والتحذيرات من قبل ضباط كانوا يعتبرون اصدقاء للحزب ويسمح لهم بلقاء القيادة في السجن، وقد تصل التحذيرات الى حد نية المتسلط القيام باعدام عدد كبير من الحزبيين.

5ـ شاهد (السيد) عفلق اثناء مروره في الباحة عضواً حزبياً صغيراً في الزنزانة فاعتبر ان كل اعضاء الحزب هم قيد الاعتقال.

… ولم يمض اكثر من ثلاثة اسابيع حتى افرج عن السجناء كافة. وكان افرج عن الاستاذ عفلق قبل ذلك بما يقرب من عشرة ايام»[59].

ان العراقيين الذين يقرأون هذه الاسباب التي دعت عفلق الى الانهيار وكتابة رسالة الاستعطاف والاعتذار يرون في ظروف سجن عفلق وما رافقها من منغصات، نزهة ترويحية اذا قارنوها بظروف الاعتقال التي سادت وتسود المعتقلات والسجون العراقية في عهد حكومتين اقيمتا بمباركة من ميشيل عفلق، الاولى عام 1963م حين جاءت المخابرات الاميركية بحزب البعث الى السلطة[60]. وما ارتكب خلال حكم هذا الحزب من فضائع يندى لها جبين كل شريف[61]. والثانية في 17 تموز 1968م حين جاء الحزب على ظهر الدبابة البريطانية ـ كما هو وارد في تصريح شهير لعلي صالح السعدي الامين العام السابق لحزب البعث في العراق.يلخص الباحث القومي مطاع صفدي واقعة رسالة عفلق لحسني الزعيم بقوله: «فسيق عفلق الى سجن المزّة ثم لم يلبث ان خرج من السجن بعد فترة وجيزة، وكان جواز خروجه اول فضيحة كبرى وصمت قيادة البعث. انها الوثيقة التي كتبها عفلق الى حسني الزعيم يستجديه العفو والسماح متراجعاً امامه عن مطامح شباب الحزب واصفاً نفسه وحزبه بأنه غرّ لا يدري من شؤون السياسة شيئاً بعد.

وان الحزب الذي «بلع» تلك الوصمة الكبرى فى ريعان شبابه قد قبل الى النهاية باستعباد عفلق له بوسائله (الصوفية) المختلفة»[62].

لقد تركت رسالة الاستجداء اثرها السيىء والمدمر في صفوف قيادي وكوادر الحزب آنذاك وهو ما فصّله جلال السيد الذي وقف مدافعاً عن موقف ميشيل عفلق (الصوفي الاول في الحزب) ـ كما يسميه في ص 64 من كتابه: حزب البعث ـ حيث يقول متحدثاً عن الحالة النفسية للبعثيين الذين كانوا من مريدي عفلق بالذات ومحبيه:

«وقد انكسرت اخيلة هؤلاء وتحطم اعتزازهم. فاذا كان الصوفي الاول في الحزب ينحدر الى مثل هذا الانهزام فما عسى ان يفعل سائر الاعضاء وهم ليسوا على درجة من التصوف في نظر الاعضاء تضاهي صوفية عفلق لان بعضاً من اعضاء القيادة يأخذون حظهم من الدنيا ولو على نطاق محدود. واذا كان قائد من ابرز القواد في الحزب يصنع مثل هذا، والحزب كان كما قلت في مناسبة سابقة «مغروراً»، وهو يزعم انه يناطح الجبال ويتصدى لكل القوى البشرية في العالم ويصرعها، فاي بادرة هذه بدرت من قيادة الحزب»[63].

اما رأي عفلق فكان: «ان المسألة لا تقبل الحل الوسط، فاما فصل من الحزب واما سدل الستار على الرسالة واعتبارها كأن لم تكن».

لم يكن امام عفلق سوى هذين الطريقين. وقد اختارت قيادة الحزب ان يبقى ميشيل في صفوفه اذ لا يمكن لحزب البعث ان يقوم من غير ميشيل. يقول جلال السيد عضو اللجنة التنفيذية لحزب البعث موضحاً ذلك ومهوّناً لأمر تلك الرسالة التي هزت اركان الحزب:

«ان في الرسالة ضعفاً في المناعة وقلة في المقاومة. وان فيها ضجراً ووساوس واوهاماً ضخمت القضايا القصيرة فجعلتها قضايا كبرى. ويمكن تلخيص ذلك بالقول: ان الرسالة قد نمّت عن مزاج عاطفي وبنيان رخو. فهل المصابون بالبنيان الرخو وبالمزاج العاطفي يصنّفون مع الخونة والعملاء ويفصلون عن احزابهم؟ لقد كان العقل والمنطق وربما عاطفة الود المخزونة للاستاذ عفلق كلها مجتمعة قد مالت بنا الى التخفيف من الحادثة والتهوين من شأنها ومن آثارها، وبالتالي فانا قد قررنا سدل الستار عليها، واعتبار ان لكل نفس حدوداً معينة من المناعة والمقاومة ومن الممكن ان يتعرض كل انسان في حالات خاصة من الضعف النفسي والوهن العقلي الى مثل ما تعرض له الاستاذ عفلق»[64].

وعلل ذلك الاصرار من قبل المنادين ببقاء عفلق في الحزب بأنه كان يشكل دعامة اذا تقلقلت، انهار الحزب:

«كنت اتساءل واسأل زميلا لي. هل يمكن ان يكون هناك حزب بعث عربي بدون ميشيل عفلق؟ انا لا اتصور ان ذلك ممكن. اذاً فان وجود ميشيل عفلق في الحزب هو امر لابد منه ولا يمكن الاستغناء عنه. وهذه الضرورة كفيلة بالغاء كل الاتجاهات الاخرى التي يمكن ان تجري ضد ميشيل عفلق.

حقاً ان هناك دعامات في حزب البعث لا يتم وجوده الا بها. فاذا تقلقلت دعامة منها اختل البناء وتحطم مع الزمن»[65].

لكن الآثار النفسية العميقة التي خلفها الاحساس بالهوان والضعة بعد تلك الفضيحة ظلت تملأ كيان قائد الحزب ومؤسسه الى آخر حياته. وكان لا بد من رد  فعل تقوم به نفس عفلق ذات البنيان الرخو ـ كما قال جلال السيد. وان القول بأنه تعرض (للضعف النفسي والوهن العقلي) فكتب تلك الرسالة يمكن قبوله من شخص عادي وليس من قائد مسيرة انضوى تحت لوائها مجاميع من الشباب والمناضلين لتحقيق آمال الامة في مقارعة الاعداء وضرب الامثلة العليا في الثبات على المبدأ والصلابة في سبيل تحقيق الاهداف المشروعة. والحقيقة فان قرار الابقاء على ميشيل عفلق في الحزب كان قراراً من قيادة الحزب ولم يكن امام القواعد سوى الرضوخ بسبب ما قدم من تفسيرات تركز على العفو والتسامح وبسبب الصراعات التي عصفت بالحزب في الفترة اللاحقة سواء في صفوفه ام في معاركه ضد الاطراف الاخرى في الساحة العربية من قوميين وشيوعيين.

لقد حطم ميشيل عفلق بوصفه القيادي البارز والمنظّر الاول لحزب البعث حطّم والى الابد الصورة التي ينبغي للمناضل العتيد والقائد المغوار الذي يقدم القدوة الحسنة للمؤمنين بخطه ومن يليهم من الاجيال اللاحقة. لذا ظل اتباع الخط العفلقي في حزب البعث والى يومنا هذا شخصيات نفعية ينسحبون من المواجهات حين تكون ساخنة ويعودون حين يكون هناك دعم خارجي للعودة بهم الى كرسي الحكم حيث يقيمون حكومة مخابراتية تفرض هيمنتها بالحديد والنار والمشانق وانتهاك الحرمات.

اشرف عفلق مرتين على تجربة تسلم حزب البعث (الجناح الموالي له) للسلطة في العراق عام 1963م، وأقام في كلا التجربتين حكماً دكتاتورياً قل ان تجد البشرية له مثيلا في القسوة والاجرام حيث اختيرت عناصره بدقة متناهية من ضعاف النفس والمتعطشين للمال والشهرة وبريق الاضواء واشباع الرغبات النفسية التي لا ترتوي. وكان عفلق يرعى كل تلك الممارسات.

ان عفلق الذي اختزن مرارة الهوان والهزيمة في ذاته منذ تجربته الاولى مع السجن والمحنة عام 1949م قد عوّض عن كل ذلك تعويضاً مريعاً، بل قد انتقم انتقاماً فظيعاً. والذين يراجعون الصحف الحزبية والحكومية التي كان يصدرها حزب البعث خلال تسعة أشهر من حكمه عام 1963م يجدون عشرات الرسائل الموجهة من قبل شيوعيين او متهمين بالشيوعية يعلنون فيها توبتهم وبراءتهم من الحزب وعدم معارضة السلطة الوطنية!

ان ما اراد عفلق ان يقوله عبر اجهزة (الحرس القومي) التي قادت السلطة البعثية في العراق خلال تسعة اشهر عام 1963م ومارست التعذيب والقتل والتنكيل والاذلال، وما اراد قوله في الفترة الثانية لحكم البعث عام 1968م وما بعدها، هو انه ليس ميشيل عفلق الذي انهار لوحده في مواجهة السجن ـ رغم ان ظروف سجنه آنذاك ليس فيها سوى الحرمان من التدخين او منع زيارة العائلة او الاشاعات التي قالت ان حسني الزعيم ينوي اعدام مجموعة من البعثيين المعتقلين ـ ليس عفلق وحده اذاً، بل هناك المئات ممن مروا بهذه التجربة التي فرضتها عليهم دكتاتورية البعث قد كتبوا رسائل مماثلة للرسالة التي وجهها عفلق من سجن المزة في 11 حزيران 1949م ومما قال فيها:

«اننا على استعداد لاتباع خط نزيه وللجم السنتنا ان كانت هذه رغبتكم. اما بالنسبة لي فقد قررت اعتزال السياسة نهائياً.. اعتقد ان مهمتي وصلت الى نهايتها وان طريقتي لا تتلاءم والعهد الجديد»[66].

اما التجربة الثانية لحزب البعث في الحكم التي ظل عفلق يرعاها حتى وفاته، والتي بدأت في 17 تموز 1968م فقد اتخذت أقصى ابعادها الدموية والارهابية حيث مارس ويمارس الحزب بقيادة اداته التنفيذية صدام وأجهزته ابشع ما عرفته البشرية من ظلم وجور في تاريخها الطويل في ظل دولة المنظمة السرية[67]. وهي دولة شبيهة الى حد كبير بالدولة التي تنبأ الكاتب الانكليزي جورج اورويل في روايته الشهيرة التي اسماها باسم (1984)[68] ، بها حيث يحكمها حزب واحد ويقف على رأس الدولة والحزب رجل واحد يدعى الأخ الاكبر الذي تملأ صوره وتماثيله بشتى الاحجام كافة الشوارع والميادين والساحات العامة وتعرض دور السينما ووسائل الاعلام المرئية صوره على الدوام، وحيث عيون الحزب وجواسيسه يملأون كل مكان وتتولى شرطة التفكير القاء القبض على  المشكوك بولائهم للحزب والاخ الاكبر. وحتى الاطفال كانوا يحولون بشكل منظم بواسطة المنظمة الحزبية الى وحوش وجواسيس على جيرانهم وآبائهم وامهاتم، وحيث يزيف التاريخ دائماً من اجل مصلحة الاخ الاكبر. ويلخص احد محققي جهاز المخابرات وضع تلك الدولة وهو يخاطب ونستون بطل الرواية بعد الانتهاء من تعذيبه لاشهر طويلة وتحويله الى مخلوق بائس لا يملك من ارادته شيئاً بقوله:

«لن يكون هناك أي ولاء غير الولاء للحزب. ولن يكون هناك حب غير الحب للأخ الاكبر. ان كل ما يعتبره الحزب. تلك هي الحقيقة التي يتعين عليك ان تتعلمها يا ونستون. انها تستلزم فعلا انتحارياً. تصميماً واعياً. ان عليك ان تهزم نفسك قبل ان يصبح بامكانك ان تكون سليم العقل»[69].

انه الوضع الذي سيصوره الشهيد محمد باقر الصدر فيما بعد  في لحظة المواجهة المكشوفة مع عفلق والصليبية الغربية التي ظلت امينة له ولحكومته. حيث يقول السيد الشهيد في احد النداءات الموجهة للشعب العراقي:

«ايها الشعب العظيم! انك تتعرض اليوم لمحنة هائلة على يد السفاكين والجزارين الذين هالهم غضب الشعب وتململ الجماهير بعد ان قيدوها بسلاسل من الحديد ومن الرعب والارهاب، وخيّل للسفاكين انهم بذلك انتزعوا من الجماهير  شعورها بالعزة والكرامة وجردوها من صلتها بعقيدتها وبمحمدها العظيم لكي يحولوا هذه الملايين الشجاعة المؤمنة من ابناء العراق الأبي الى دمى وآلات يحركونها كيف يشاؤون ويذيقونها ولاء عفلق وامثاله من عملاء التبشير والاستعمار بدلا من ولاء محمد وعلي صلوات الله عليهما»[70].

ان اشارة الشهيد الصدر لكون عفلق عميلا للتبشير والاستعمار لا تندرج ضمن فورة عارمة هدرت على لسانه وهو يقف مع الجماهير التي يراها قد ظلمت ظلماً فادحاً بواسطة اجهزة عفلق بقدر ما هو تقرير لحالة واقعة ظل حزب البعث عبر اجهزته القمعية يلاحق الى حد الحكم بالاعدام كل من ينوه او يشير فضلا عن الحديث الصريح عن كون عفلق دعامة من دعائم الغرب في قلب العالمين العربي والاسلامي، وركيزة مهمة للاتجاه الصليبي في المنطقة. ان هذا هو الكفيل بتفسير اصرار قيادة البعث عام 1949م بعد فضيحة رسالة عفلق الاستعطافية الى حسني الزعيم التي هزت الحزب الناشئ آنذاك، على بقاء عفلق في القيادة حيث كان جلال السيد يتساءل هو وزميل آخر له من قيادة حزب البعث: «هل يمكن ان يكون هناك حزب بعث عربي بدون ميشيل عفلق؟ ويجيب: انا لا اتصور ان ذلك ممكن» ـ كما نقلنا عنه انفاً. ولا عجب اذاً ان تسمي تعليقات الصحف وصول عفلق من البرازيل الى بغداد في 25/5/1969م بدرع التثبيت للنظام البعثي في العراق[71].

نعم، لا وجود لحزب البعث من غير عفلق الموثوق به غربياً وصليبياً، كما ان وجوده يعني وصول الحزب الى كرسي الحكم وهو امر يهم الغرب كثيراً فضلا عن الدوائر الصليبية.

بعد ان يقرر الصحفي العراقي حسن العلوي صاحب التجربة الطويلة في صفوف حزب البعث حقيقة انتصار خط عفلق في العراق بقوله: «ان خط ميشيل عفلق انتصر كالعادة! وقوة صدام حسين في القيادة مستمدة من ولائه التام لميشيل عفلق. ولكن ممن يستمد ميشيل عفلق قوته؟»، يفسر تشكيل حزب البعث تاريخياً كما يلي:

«يبدو لي ان الحلفاء قبيل او اثناء الحرب الثانية كانوا وهم يخططون الى مرحلة ما بعد النازية، وجدوا من المناسب لاستمرار مصالحهم في المنطقة العربية تأييد او خلق تشكيلات سياسية لركوب الموجة القومية التي كانت تتقدم الى السواحل العربية بسرعة، وتأييد او خلق مضادات لها في الوقت نفسه.

فبينما كان الشعار القومي يستقطب احلام الشباب العربي، ظهر ميشيل عفلق التلميذ الاستشراقي القادم من باريس، ليجيّر حركة الانبعاث القومي له شخصياً وينجح في ذلك نجاحات هائلة في الوقت الذي بدأ تيار آخر يقوده «سعادة» بالدعوة الى القومية السورية! اما بيار الجميل فقد اسس الكتائب اللبنانية.

الذي اعتقده ان ميشيل عفلق لا يفهم بسهولة ما لم يوضع في هذالصورة وعلى يمينه بيار الجميل وعلى يساره انطون سعادة وسياسي ثالث هو كميل شمعون الذي اخفق في بناء هيكل حزبي يضارع ما بناه الثلاثة الآخرون».

ثم ينقل بعد ذلك هذا التصريح المنقول عن زكي الارسوزي:

«حدثني المحامي السوري منير عبد الله تلميذ زكي الارسوزي وروايته المعروفة ان الارسوزي كان مستاء ومندهشاً من منح بابا الفاتيكان لميشيل عفلق وسام الفاتيكان لجهوده في خدمة المسيحية، بينما كان شائعاً ان الكنيسة لم تكن راضية عن اتجاهات عفلق القومية فضلا عن كونه من اتباع الكنيسة الارثوذكسية»[72].

عندما انتهت المهمة التي اوكلت لحزب البعث عام 1963م حيث اتمّ تسعة اشهر في الحكم، قام العقيد عبد السلام عارف بانقلاب عسكري مع مجموعة من الضباط التكريتيين ضد رفاقه بالامس وذلك في 18 تشرين الثاني 1963م حيث بدأت ملاحقة افراد حزب البعث والزج بهم في السجون. وكانت هنا تجربة صدام الذي كان واحداً من العناصر النشطة في جهاز التعذيب الذي اداره الحزب عبر ما سمي بتشكيلات الحرس القومي[73]، فهو اما أن يظل في صفوف رفاقه ليناله ما ينالهم من السجن والتحقيق وقد يحكم عليه بالسجن مدة طويلة، واما ان يركب الموجة (العارفية) الجديدة ريثما يتخلص من احراج الايام الاولى ولينتظر ما تؤدي اليه مجربات الامور. وقد (شوهد صدام حسين الى جانب رجال الامن وأشخاص آخرين من مؤيدي الانقلاب يهاجمون مقرات الحزب. فأصدر البعثيون تعليمات بالقبض عليه، لكن الانتصار السريع لرجال الانقلاب على حزب البعث انقذ صدام التكريتي من العقاب الحزبي المنتظر. وفي موقف صدام هذا يبدو ولاؤه القروي ورابطته التكريتية قد طغت على ميوله الحزبية، فكلفه الحاكم العسكري العام رشيد مصلح التكريتي[74] بمهمة خاصة لكشف تنظيمات البعثيين. وكان ذلك التكليف سبباً يعزو اليه بعثيون سابقون اقدام صدام على اعدام رشيد مصلح ليقطع دابر اي اعتراف قد يصدر عنه ضده.

نشير هنا الى ان حزبياً آخر يدعى محسن الشعلان كان يحمل رشاشاً آلياً مع صدام حسين في الهجوم على مقرات الحزب، قد اعدمه صدام هو الآخر بتهمة استمرار علاقة قديمة له مع شقيق احد المحكومين بالاعدام في وقت سابق خلافاً للتعليمات التي تقضي بمقاطعة عوائل المعدومين»[75].

هذا الانهيار امام التجربة ـ رغم عدم مرارة التجربة او ضخامتها ـ لدى عفلق وصدام، اقام بين الاثنين عهداً موقّعاً بصمت على اتخاذ رد فعل ينتقم من كل الراسخين في مواجهة التجارب سواء أكانوا مناضلين ام علماء وأدباء ام اناساً ناجحين في اي ميدان من ميادين الحياة العملية. وهذا ما يؤيده واقع التجربة المرعبة في العراق التي أقامها الاثنان معاً. كان هناك اعجاب متبادل بين الاثنين، حيث ظل كل واحد منهما يشعر بالامتنان للدور الذي قام به الآخر في تسلم جهاز الحكم لتقوم التجربة المرعبة التي حلم بها الاثنان معاً.

عفلق يقول: «اشعر بتقدير لا حدود له للعلاقة المتميزة التي خصّني بها الرفيق العزيز صدام حسين والتي جسدت الوفاء الصادق والخلق الرفيع في التعامل الرفاقي والانساني»[76]. ويقول: «ان قيادة الرفيق صدام حسين قيادة متفردة في كفاءتها الفكرية وقدراتها التنظيمية وحكمتها العملية وصلتها الحميمة بالشعب ونظرتها الحضارية وممارساتها البطولية»[77].

ويقول صدام عن عفلق: «كان على رأس مقاتلي البعث في فلسطين عام 1948م، وعلى رأس قيادة النضال الوطني ضد الدكتاتورية العسكرية في سوريا، وضد الاحلاف الاستعمارية، وكان البطل الوحدوي رائد الوحدة.. وان في ذمة كل بعثي دين شخصي للاستاذ ميشيل عفلق»[78].

وحين مات عفلق حمله صدام «على كتفه وذرف عليه دمعة حارة قلما تجود بها عينه. وصلى عليه شيوخ الدين الاسلامي، وصار ضريحه بأمر السلطة مقاماً من مقامات الائمة الى جانب موسى الكاظم وأبي حنيفة والشيخ عبد القادر الكيلاني»[79].

وهكذا تتجسد القيم الروحية والمعنوية للامة العربية في قبر ميشيل عفلق الذي اصبح قبره مجسداً لوحدة الامة والحزب!! وتصادر اسماء وأضرحة رموز الايمان والجهاد والتضحية في سبيل المبدأ الذين ملأوا الدنيا بدوىّ امجادهم ومواقفهم النبيلة!

أقام الاعلام العفلقي في العراق مجالس العزاء والتأبين واستعار شعراء الحزب وأدباؤه في قصائدهم وكلماتهم حشداً من الفاظ القداسة مما هو لله سبحانه وللأنبياء حيث تستعار الفاظ الهجرة النبوية الشريفة الى المدينة وهجرة المسلمين الى الحبشة وظلم العشيرة الاقربين وآيات مثل «يا ايها الكافرون لا اعبد ما تعبدون» و«الله احد» للتأكيد على عبادة الاله المزيف (عفلق) وللقول ان ذهاب عفلق الى باريس كان الهجرة الاولى والى العراق كان الهجرة الثانية، وللقول بأن شعارات حزب البعث هي القرآن الذي يتعبد به اتباعه. نقرأ مثلا لمحمد راضي جعفر:

«الدعوة

آه من قلة الزاد آه

ووحشة هذا الطريق الطويل

وظلم العشيرة

آه من غربة الهجرتين

وآه من الصبر والامنيات العسيرة

ايها الكافرون

لست اعبد ما تعبدون

ان هو الله الا أحد

ولأمتكم هذه امة واحدة

ورسالتها خالدة»[80].

ويستعير حميد سعيد اسم (الفادي) وهو الاسم الشهير للسيد المسيح عليه السلام، ليخاطب عفلق به ويضيف اليه كونه المنار الهادي. ولما كان (الصعود) في الديانات السماوية يمثل الاتجاه نحو الذات الالهية لطلب العون او لتقديم الشكر، يستخدم الشاعر كلمة (صعدنا)، لنقرأ من قصيدة بعنوان (الفادي) لحميد سعيد:

«يا ايها الفادي

لأنت منارنا الهادي

وأنت ضميرنا وأميرنا والماء ان ظمئت بوادينا

صعدنا باتجاهك كنت حادينا)[81].

الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد يختم قصيدته وهو يرثي (الرسول عفلق) الذي ادى الرسالة وعاد الى صفوف الملأ الاعلى، وكلمة (عاد) تدل على انه كان واحداً من افراد ذلك الملأ الاعلى ثم هبط الى الارض فأدى الرسالة ثم عاد مرة اخرى الى مكانه الاول حيث كان الله في لقائه، والسبب في هذه العلاقة بينه وبين الله هو شعاع يصل بين نور الله ونور ميشيل عفلق!!:

سبحان ربك أعطى جدّه سمةً***عليه منها شعاع جلّ واصلهُ

فنم معلم هذا نوم مؤتمن***أدّى الرسالة وانبتّت سلاسلهُ

فعاد للملأ الأعلى تحفّ به***ملائك الله والرحمن قابلهُ»[82].

الشاعر كمال الحديثي استخدم عنواناً لقصيدته هو: «ايهذا البشير». بينما كان عنوان قصيدة عبد المطلب محمود هو: «الرجل الكوكب»[83].

رئيس تحرير صفحة الثورة كتب مقالا بعد ثلاثة ايام على وفاة عفلق اجرى فيه تحويراً على مفردات الدعاء الذي يتوجه به المسلمون الى الله وخاطب به عفلق، بل رأى في عفلق، الاله الذي يمنح اليقين وينقذ من الحيرة والضلال:

«يا مهندس روحي وسيد فكري ودليلي في دروب حياتي.

في ذروة الحيرة وقلة زاد الوعي، وحيث يصعب على المرء ان يتبين الخيط الابيض من الاسود، كنت الجأ اليك، فأختار المكان الذي اخترت والموقف الذي وقفت فتخرجني من حيرتي وتضيء ظلمات شكّي وتمنحني من الفيض ما يضعني على الطريق الصواب، ويقودني الى ارض اليقين.

ايها الدليل الامين.

منذ نصف قرن وفكرك يسبق الدنيا الى الحقيقة، فنم مطمئناً ايها المعلم الهادي. يا من كلماتك المنار الذي نهتدي به والظل الذي نستظل بأفيائه والضمانة التي تعصمنا من الزلل والانحراف»[84].

ان الحبل السري الذي ربط بين الاثنين هو الرغبة العارمة في التدمير انتقاماً من الاخفاق في الامتحان. امتحان المحنة. وقد تمثل هذا الانتقام في اقامة مراكز للمحنة في انحاء الوطن المنكوب، العراق حيث يعرض فيه المعتقلون لعمليات تمزيق ابدانهم وتشويهها. لا عجب اذاً ان يتهامس العراقيون حين اذيع نبأ وفاة عفلق: فطس القرد. ولا عجب انهم سيبادرون لدى اول بادرة تدل على ضعف السلطة في العراق الى نبش قبره واحراق جثته ـ هكذا يتناقلون في احاديثهم الخاصة[85].

ان جثث خيرة شباب العراق ورجاله ونسائه ممن ماتوا تحت التعذيب كانت تسلم الى العوائل المفجوعة وهي ممزقة دامية من الرأس حتى القدم. لقد تم كل ذلك بناء على اوامر من صدام وعفلق.

سنكتفي هنا بنقل نموذج واحد من صور العذاب اليومي الذي يعيشه العراقيون في ظل حكومة جمعت اسوأ ما في التجارب النازية والفاشية والصهيونية وصهرتها في بوتقة حزب البعث لتخرج منها بهذه التجربة الاجرامية التي لم يشهد العالم لها مثيلا.

النموذج هو تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية (فرع كندا) وموضوعه هو «التعذيب في العراق «1982 ـ 1985» منقول عن نشرة المجموعة الطبية الصادرة في تموز 1985. واخترنا هذا النموذج رغم كثرة التقارير والبيانات حول التعذيب في العراق، بسبب ان التقرير يتضمن دراسة وفحصاً لخمس عشرة حالة جرى الاطلاع عليها بين ايلول 1976 وآب 1979. اي ان الدول التي ساندت نظام حزب البعث الحاكم في العراق وجهازه القومي، وهي دول تشمل مساحة كبيرة من غربية وشرقية واخرى عربية كانت على علم ـ منذ ذلك التاريخ على الاقل ـ بما يرتكب من جرائم في هذا البلد وكانت تصر في نفس الوقت على دعمه وقد قدم التقرير الى الحكومة العراقية ايضاً التي نفت كعادتها وجود عمليات تعذيب في السجون والمعتقلات العراقية.

نص التقرير:

التعذيب في العراق 1982 ـ 1985

في نيسان 1981، نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً بعنوان «العراق ادلة على التعذيب»، يستند على الفحوص الطبية التي اجريت ل ـ 15 مهاجراً عراقياً من الذين تعرضوا للتعذيب. وأكد التقرير بأن منظمة العفو الدولية كانت تتسلم بانتظام ولمدة عدة سنوات، ادعاءات عن تعذيب روتيني في اكثر الحالات، كان الهدف من التعذيب، كما قيل انتزاع الاعترافات للاستفادة منها كدليل اثبات عند المحكمة، او لاجبار المعتقلين على نبذ انتماءاتهم السياسية غير القانونية، والانتماء لحزب البعث الحاكم. وكانت طرق التحقيق قد وصفت بانها وحشية، ينتج عنها في الغالب عاهات جسمية او عقلية دائمة.

تسلمت منظمة العفو الدولية عدة تقارير عن اشخاص يموتون تحت التعذيب. جثث المعتقلين السياسيين تعاد الى عوائلهم وهي تحمل آثار تعذيب ظاهرة، بينما القي بالجثث المشوهة في الشارع خارج بيوت الضحايا، والمعتقلون السياسيون الذين «اختفوا» بينما كانوا في السجن، كانوا قد توفوا تحت التعذيب.

بين شهر ايلول 1976 وآب 1979 اجريت ل ـ 15 مهاجراً عراقياً، من الذين ادعوا انهم تعرضوا للتعذيب، فحوص طبية من قبل لجنة من الاطباء تابعة لمنظمة العفو. وقد قالت منظمة العفو بان نتائج الفحوص الطبية كانت مطابقة لادعاءات المهاجرين، وان ذلك يعني بان هذه الادعاءات التي تسلمتها المنظمة منذ شهر آب 1979، ومطابقتها للواقع تدل على ان التعذيب يمكن ان يكون مستمراً وعلى نطاق واسع في العراق، وان المعتقلين السياسيين يفتقرون الى حماية اي ضمانات قانونية فعالة ضد التعذيب.

وقد قدم التقرير توصيات الى الحكومة العراقية، الهدف منها ـ بشكل اساس ـ زيادة الضمانات القانونية من اجل منع التعذيب، وكان رد الحكومة العراقية، ان وصفت تقرير منظمة العفو الدولية بانه «لا اساس له» وبعد الاتصال بالحكومة العراقية، زار وفد يمثل منظمة العفو العراق  في كانون الثاني 1983 للقاء مسؤولي الحكومة. وقد اكدت الحكومة العراقية لمنظمة العفو بانها قلقة بشأن التعذيب وانها تحاربه، وان الضمانات القانونية موجودة فعلا، وبالرغم من تأكيد الحكومة هذا، الا ان منظمة العفو ما زالت قلقة بسبب التناقض بين ما ورد في رد الحكومة، والوثائق التي وصلتها.

وقدمت المنظمة توصيات اخرى للحكومة العراقية في كانون الثاني 1983، ومنظمة العفو ما زالت تتسلم شكاوى بشأن تعذيب المعتقلين داخل سجون الامن في العراق هذه الادعاءات تشتمل على التعذيب والمعاملة السيئة، وضرب المعتقلين في جميع أجزاء الجسم، وطرق مختلفة، ينتج عنها الم جسماني، ايصال التيار الكهربائي الى الاجزاء الحساسة من الجسم، حرق اجزاء من الجسم، تشويه الجسم، الاعتداءات والتجاوزات الجنسية، تعريض المعتقلين لأعلى درجات الحرارة، او البرودة، الاعدامات المزيفة، اذلال المعتقلين، والتعذيب النفسي.

ويحوي تقرير: «التعذيب في العراق 1982 ـ 1984» مقتطفات من خمس  شهادات مختارة تدور حول التعذيب استلمتها منظمة العفو بين عامي 1982 ـ 1984 ولم تتمكن منظمة العفو الدولية، ان تتحقق بشكل كامل من صحة الادعاءات التي وردت في هذه الشهادات، شأنها شأن اكثر الشهادات المقدمة اليها. ومع ذلك، فان شهادتين من شهادات اثنين من المعتقلين سابقاً كانت موضع اهتمام الاطباء وقد ظهر بان ما جاء فيهما حول التعذيب كان صحيحاً.

احد هذين الشاهدين كانت امرأة، هي ام لطالب عراقي في الكلية الطبية، السنة الرابعة، من مدينة البصرة وكان هذا الطالب قد اعتقل في شهر كانون الاول 1981، مع عدد آخر من الطلاب وقد القي به في السجن دون محاكمة، ودون ان توجه اليه تهمة وعرض للتعذيب الوحشي.

وفي ايلول 1982 تلقت امه اشعاراً بتسلم جثة ولدها من الطب العدلي في بغداد، لغرض دفنه في اليوم التالي، ذهبت الام الى الطب العدلي، حيث احتشد هناك حوالي 150 شخصاً آخر لتسلم جثث اقاربهم. تقول الام في جزء من شهادتها: «نظرت ما حوالي، فرأيت 9 جثث ممددة على الارض مع ولدي. كانت جثة ولدي مغطاة بالدماء وكان جسده ينزف، وكان متآكلا، نظرت الى الجثث الاخرى الممددة على الارض الى جانبه، كلها محروقة ولم اكن اعرف بماذا احرقوها.. بينما كانت جثة اخرى تحمل آثار مكواة كهربائية منزلية من اعلى الرأس حتى اخمص القدم، فيما كانت جثة محروقة بشكل كامل، حتى الشعر كان محروقاً. كان صدر احدهم قد قطع الى ثلاثة اقسام بشكل طولي، آخر قطعت رجلاه بفأس.. وكذلك ذراعاه. وآخر اقتلعت عيناه وبترت اذناه وانفه. كان هناك ثلاثة اشخاص مع ولدي. سلخ جلدهم من العنق حتى القدمين وكان الجلد متقيحاً.

في نفس ذلك اليوم كان احد جيراننا قد جاء لتسلم جثة حفيده الذي كان طالباً في الكلية الطبية السنة الرابعة، رأى جارنا في احدى الغرف 20 جثة فتاة كلهن عاريات وقد قطعت اثداؤهن وشوهت اجسادهن.

الآن توقفت السلطات عن تسليم الجثث لذويها واكتفت بتسليمهن شهادات بالوفاة. والعائلة التي تستلم شهادات الوفاة هذه تهدد بعقوبات صارمة، اذا ما هي تكلمت او احدثت ضجة، او بكت على الموتى.. يجب على العوائل فقط تسلم شهادات الوفاة».

وقد اخبر الشخص الذي دفن هذا الشاب، الام بانه دفن خلال الاسبوع الماضي 300 جثة، لاشخاص ماتوا تحت التعذيب.

سحب الدم من السجناء: شهد طبيب عراقي امام منظمة العفو الدولية بانه في عام 1984، شاهد وأجبر على المشاركة في سحب الدم من عدد من السجناء، مما ادى ذلك الى وفاتهم وقد ذكر بأنه في الفترة من 1982 ـ 1983 كررت هذه العملية حوالى 1000 مرة وفي كل مرة كانت حصيلة العملية 3 – 5 باينتات من الدم «الباينت يساوي ثمن الغالون» وتجري هذه العمليات ـ كما تحدثت عن ذلك التقارير ـ بايعاز من رئاسة المخابرات في بغداد مباشرة وبالتعاون مع مدير السجن، وموظفي بنك الدم في بغداد، وبعد ان ينزف السجين، يصاب ـ بشكل حاد ـ بفقر الدم، ويفقد عادة وعيه، ولكن تغذيته بالماء المالح يمنع الموت المفاجىء وذلك لانه يعوض عن السوائل المفقودة ولكن نسبة الهيموغلوبين في كل 100 ملم «ليست كافية بحيث تبقي على فعالية اعضاء الجسم الحيوية وتحدث الوفاة خلال 3 – 5 ايام ويظهر التشخيص ان الوفاة حدثت بالسكتة القلبية وتخبر عوائل السجناء رسمياً عن وفاتهم لهذا السبب.

يقول الطبيب «اخذني طبيب السجن الى مستشفى السجن رأيت هناك شخصين مصابين بصدمة ساكنين يلتقطان بالكاد انفاسهما، ونبضهما سريع، اما بشرتهما فباردة رطبة. واخبرني طبيب السجن بان هذين السجينين «مجرمان» وبانهما سحب منهما دمهما باستخدام ادوية منومة، لغرض الاستفادة من دمهما قبل اعدامها، واخبرني الطبيب كذلك بان لديه اوامر من رئاسة المخابرات باستخدام هذه الطريقة مع الاشخاص السياسيين البارزين، وذلك لتحقيق الموت بـ «السكتة القلبية» وتنطبق هذه الاوامر ايضاً على «المجرمين» المحكوم عليهم بالاعدام».

وفي مناسبة اخرى «اخبرني طبيب السجن بانه ينوي سحب دم ثلاثة اشخاص وقد طلب مني ان اساعده وعندما رفضت اخبرني بان رئاسة المخابرات امرت ان تجري هذه العملية باشرافي، وبانني سوف اسجن، اذا رفضت ذلك». هاتان الحادثتان وقعتا في سجن ابو غريب ببغداد.

وقال الطبيب ايضاً «في كل مرة يحدث فيها «نقص في الدم» وخاصة في فترة الحرب، تقوم وحدات بنك الدم المتنقلة بجمع الدم من المدارس الثانوية، والكليات، ـ المصانع ـ والسجون وكان جمع الدم خلال السنوات الثلاثة الماضية اجبارياً في كثير من الحالات، وبدون فحص طبي كامل، وخاصة في المصانع والسجون وفي هذه الحالات، تؤخذ كميات مناسبة من الدم حسب القوانين وأخذ الدم اجبارياً يتناقض ومقررات منظمة الصحة العالمية»[86].

ان بعض العاملين في الاجهزة الامنية للنظام من الذين تمكنوا من الهرب والتخلي عن العمل وهم قليلون جداً، يتحدثون عن اشرطة فيديو تسجل في غرف تعذيب معتقلات مديريات المخابرات والامن العامة لرجال ونساء وأطفال وشيوخ وهم تحت ابشع انواع التعذيب ثم تؤخذ الى القصر الجمهوري. ويؤكد بعضهم انه علم بطريقة ما انها تؤخذ الى صدام ليشاهدها. ان هذه الانباء تؤكد وجود المرض النفسي الذي لدى صدام، مرض الانهيار امام المحنة، ولهذا فهو يلحّ دوماً على ان يشاهد الآخرين منهارين مسحوقين ممزقي الاوصال. وهي نفس عقدة ميشيل عفلق التي ظلت تسحقه حتى وفاته، عقدة الانهيار امام حسني الزعيم، ولذا لا مانع من الاحتمال في ان يكون صدام يرسل اليه نسخاً من تسجيلات افلام الفيديو التي تصور تعذيب المعتقلين وتمزيقهم، بل ان من الممكن ان يكون عفلق قد شاهد الفيلم الذي صور في المخابرات العامة وفيه مشاهد من تعذيب الامام الشهيد محمد باقر الصدر واخته الشهيدة بنت الهدى الذي ادى الى وفاتهما بين ايدي الجلادين[87]. نقول ذلك معتمدين على ما شاهده او سمعه بعض من قدر لهم الهروب من جحيم سجون ومعتقلات حزب البعث في العراق.

لقد اتخذت الرغبة في تمزيق اوصال الرافضين لصدام وعفلق وحزب البعث ـ ثالوث الآلهة المزيفة ـ اتخذت في التسعينات شكلا يشهّر فيه بالضحايا الأحياء، حيث اصدر صدام قرارات تنص على قطع ايدي من يعاقبون بجرائم قال نص القرار انها مما يعاقب عليها بقطع اليد، كما نصت تلك القرارات على قطع صوان الاذن لكل من تخلف عن الخدمة العسكرية او هرب منها او آوى متخلفاً عنها او هارباً منها او تستّر عليه. وعلى قطع صوان الاذن الاخرى في (حالة العودة الى ارتكاب احدى الجرائم المذكورة) ـ حسب تعبير القرار ـ ونص القرار المذكور على معاقبة كل من تم قطع صوان اذنه بوشم جبهته بخط افقي مستقيم بطول لا يقل عن ثلاثة سنتيمترات ولا يزيد على خمسة وبعرض مليمتر واحد. ومعاقبة كل من تم قطع يده بوشم جبهته بعلامة ضرب (X) يكون طول كل خط من خطيها المتقاطعين سنتيمتراً واحداً وعرضه مليمتراً واحداً[88].

نشرت القرارات في الصحف العراقية الحكومية ومنها صحيفة العراق الصادرة في 10/9/1994 المصادف 30 ربيع الاول 1415 هـ:

بسم الله الرحمن الرحيم

جمهورية العراق

مجلس قيادة الثورة

رقم القرار 93

تاريخ القرار 14/صفر/1414ه ـ

23/7/1994م

قرار

استناداً الى احكام الفقرة (أ) من المادة الثانية والاربعين من الدستور قرر مجلس قيادة الثورة ما يأتي:

اولا: يمنع الهاربون من الخدمة العسكرية والمتخلفون عنها من:

1ـ التعاقد على الاراضي الزراعية او الاراضي المخصصة للاغراض الصناعية.

2ـ الاشتراك بالمزايدات العلنية لشراء اموال الدولة او استئجارها او التعاقد عليها وفق أية صيغة كانت.

3ـ الاشتغال بالتجارة.

4ـ الاستفادة من الاراضي والوحدات السكنية العائدة للدولة والقطاع الاشتراكي ويستثنى من ذلك الدور السكنية المشغولة او الجاهزة للسكن قبل نفاذ هذا القرار.

ثانياً: تنهى العقود التي ابرمها المشمولون باحكام البند الاول من هذا القرار.

ثالثاً: ينفذ هذا القرار من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.

صدام حسين

رئيس مجلس قيادة الثورة

بسم الله الرحمن الرحيم

جمهورية العراق

مجلس قيادة الثورة

رقم القرار 116

تاريخ القرار 18/ ربيع الاول/ 1415ه ـ

25/8/1994م

قرار

استناداً الى احكام الفقرة (أ) من المادة الثانية والاربعين من الدستور قرر مجلس قيادة الثورة ما يأتي:

اولا: تضاف الفقرة التالية الى البند (اولا) من قرار مجلس قيادة الثورة ذي الرقم (93) في 23/7/1994 ويكون تسلسلها (5).

5ـ تملك العقار بأي سبب من اسباب كسب الملكية.

ثانياً: ينفذ هذا القرار من تاريخ صدوره.

صدام حسين

رئيس مجلس قيادة الثورة

كما اصدر مجلس قيادة الثورة قراراً برقم (115) في 25/8/1994 يقضي بقطع صوان الاذن لكل من ارتكب جريمة التخلف عن اداء الخدمة العسكرية او الهرب فيها او ايواء المتخلف او الهارب والتستر عليه.. وقطع صوان الاذن الاخرى في حالة العودة الى ارتكاب احدى الجرائم الذكورة.. ونص القرار بمعاقبة كل من قطع صوان اذنه بوشم جبهته بخط افقي مستقيم بطول لا يقل عن ثلاثة سنتيمترات ولا يزيد على خمسة سنتيمترات وبعرض ملمتر واحد. ونص ايضاً على تطبيق عقوبة الاعدام رمياً بالرصاص لكل من هرب من الخدمة العسكرية ثلاث مرات او تخلف عنها ثم هرب مرتين او اوى وتستر ثلاث مرات على متخلف او هارب من الخدمة العسكرية. ولاغراض تطبيق احكام القرار يعد من غاب عن وحدته بدون عذر مشروع مدة لا تزيد على (15) يوماً هارباً من الخدمة العسكرية فيما تضمن القرار ايقاف الاجراءات القانونية بحق كل من سلم نفسه خلال سبعة ايام من تاريخ صدور القرار داخل العراق وثلاثين يوماً خارجه وتسري احكامه على مرتكبي جرائم التخلف والهروب السابقة على تاريخ نفاذه ممن لم يسلموا انفسهم خلال المدة المذكورة اعلاه. (واع).

صدام حسين

رئيس مجلس قيادة الثورة

بسم الله الرحمن الرحيم

جمهورية العراق

مجلس قيادة الثورة

رقم القرار 109

تاريخ القرار 11/ ربيع الاول/ 1415هجرية 18/8/1994 ميلادية

قرار

استناداً الى احكام الفقرة (أ) من المادة الثانية والاربعين من الدستور قرار مجلس قيادة الثورة ما يأتي:

اولا: يوشم بين حاجبي كل من قطعت يده عن جريمة يعاقب عليها القانون بقطع اليد بعلامة ضرب يكون طول كل خط من خطيها المتقاطعين سنتيمتراً واحداً وعرضه ملمتراً واحداً.

ثانياً: ينفذ الوشم في المستشفى العام الذي تم فيه قطع اليد.

ثالثاً: يهيئ المستشفى العام المستلزمات الطبية والفنية لتسهيل تنفيذ عملية الوشم..

رابعاً: ينفذ هذا القرار من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية حتى اشعار آخر ويسري على من نفذت فيه عقوبة قطع اليد السابقة على نفاذه.

صدام حسين

رئيس مجلس قيادة الثورة

بسم الله الرحمن الرحيم

جمهورية العراق

رقم القرار 117

تاريخ القرار 18/ ربيع الاول/ 1415ه ـ 25/8/1984م

قرار

اولا: 1 ـ يمنع ازالة الوشم الذي تم نتيجة ارتكاب جريمة معاقب عليها بقطع اليد او الاذن.

2 ـ يعاقب كل من قام او ساعد على ازالة علامة الوشم او اجرى عملية تجميل لليد او الاذن المقطوعة بعقوبة قطع اليد او الاذن مع الوشم حسب الاحوال.

ثانياً: تدون عقوبة كل من عوقب بقطع اليد او الاذن وعلامة الوشم في هوية الاحوال المدنية وشهادة الجنسية ودفتر الخدمة العسكرية والوثائق الرسمية الاخرى المتعلقة باثبات الشخصية.

ثالثاً: تمحى الآثار المدنية والجزائية المترتبة على عقوبة قطع اليد او الاذن والوشم اذا قام المعاقب بها بعمل وطني او بطولي مشهود.

رابعاً: ينفذ هذا القرار من تاريخ صدوره وحتى اشعار آخر.

صدام حسين

رئيس مجلس قيادة الثورة

ان قساوة ووحشية هذا القرارات تكشف عن وجود ظاهرة رفض عامة لدى العراقيين لثالوث: صدام، عفلق، البعث، وخاصة رفض الخدمة في صفوف الجيش الذي اتخذ منه صدام وسيلة لشن حروب لا تنتهي على البلدان المجاورة او في الداخل ضد المدن والقرى والاهوار والجبال في العراق، وتكليف هذه القوات بالمهمات القذرة كالقتل بالاسلحة الكيميائية والجرثومية والقنابل الحارقة واستخدام النساء والاطفال دروعاً بشرية او احتجازهم رهائن في السجون والمعتقلات مما لا يوجد له مثيل الا في عقليات تحترف الاجرام وتتفنن فيه.

وتتضمن القرارات التي نثبتها في هامش هذا البحث تمزيقاً لوحدة العائلة في العراق حيث المجتمع يقوم على التشديد من اواصر صلة الارحام واكرام الضيف وايواء المضطر، وذلك من خلال توجيه عقوبات لكل من تستّر او آوى هارباً من الخدمة العسكرية او متخلفاً منها. ترى كيف ستكون عقوبة من تستر او اوى شخصاً له نشاط سياسي ضد صدام وحزبه؟

وبهذا القرار وأمثاله من القرارات الجائرة منع الاب والأخ والابن والعم والخال والجد من ايواء ابنائهم او اخوانهم او آبائهم او ابناء اخوانهم او ابناء اخواتهم وغيرهم من الارحام اذا كانوا رافضين لصدام وحزبه وزعيمه عفلق، وهو تطبيق حي لمبدأ الحرية! ـ الركن الثاني لمبادىء الحزب: وحدة، حرية، اشتراكية.

ان هذا التمزيق لوحدة العوائل العراقية يشكل رد فعل (البالغ) صدام على (البتر) الذي قامت به الأم ضد (الطفل) صدام حين تزوجت رجلا آخر وقطعت علاقتها بصدام وانصرفت لحياتها الزوجية. ان هذا التمزيق هو الانتقام المروع من (الاب) و (الام) من خلال الانتقام من كل الآباء والامهات والاخوة والاخوات والاخوال والاعمام.

كما يتضمن رد فعل ايضاً على الشعور بالانكسار في مواجهة المحنة في تشرين عام 1963 حينما خذل رفاقه وتعاون مع السلطات الامنية في القبض على البعثيين من خلال تحويل اكبر عدد ممكن من الناس الى متعاونين مع السلطات الامنية حتى لو ادى الى تسليم فلذات اكبادهم واحبائهم للجلادين ليشوّهوا وجوههم ويقطعوا اوصالهم.

ثالثاً: محمد باقر الصدر

قاسى الامام الشهيد المحن الكثيرة في ظل الحكم الدكتاتوري لثالوث: صدام ـ عفلق ـ حزب البعث. وكانت اولى محاولات اعتقاله قد تمت بعد ان حضر الى النجف الاشرف، زيد حيدر عضو القيادة القومية لحزب البعث لزيارته برفقة محافظ كربلاء، في محاولة للقضاء على جماهيريته والحد من نفوذه من خلال توجيه دعوة له لزيارة صدام في القصر الجمهوري، وهو امر يستحيل صدوره من الامام الصدر كما اثبتت الوقائع التالية هذا الامر بصورة جلية. فقد قال له زيد حيدر: «لماذا لا تزور القيادة؟ فأجابه السيد الصدر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذا رأيتم الملوك على ابواب العلماء، فنعم العلماء ونعم الملوك. واذا رأيتم العلماء على ابواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك»[89].

وقد جرت بعد هذه الواقعة مباشرة اولى محاولات اعتقاله في الاول من رجب 1392 هـ  (12/8/1972) وكان قد اصيب بتسمم او حالة تشبه التسمم وتردت صحته بصورة خطيرة فطلب نقله الى المستشفى بمدينة النجف، وكانت قوات الأمن قد قررت اعتقاله مساء ذلك اليوم وحين وصلوا ولم يجدوه جن جنونهم ثم بدأوا بضرب الخادم ليعترف اين هو السيد ولما لم يجبهم واصلوا الضرب رغم معرفته بمكانه. وهنا خرجت السيدة بنت الهدى شقيقته وقالت لهم ان السيد بحالة خطرة وقد نقل لمستشفى النجف فانتقل افراد جهاز الامن الذين يطلق عليهم العراقيون اسم (خنازير صدام) الى المستشفى وطوقوه ثم اقتحموه وبعد ان اخبرهم الاطباء بخطورة حالته وانه ان مات بين ايديهم فالمسؤولية ستقع عليهم، قام افراد الامن بنقل السيد الصدر الى مستشفى الكوفة بعد ان قيدوا يديه حيث وضعوه هناك في غرفة السجن الموجودة داخل المستشفى[90]. الا ان توافد الجماهير وطلبة العلوم الدينية وبعض العلماء لزيارته وممانعة قوات الامن قد ادى الى خلق حالة من الاضطراب في المدينة ادى الى فك القيود من يديه واطلاق سراحه فيما بعد. وقد علق السيد الصدر على هذا الاعتقال وما آل اليه قائلا: «ان هذا الاعتقال قد اثّر في انشداد الامة الينا اكثر من ذي قبل وتصاعد تعاطفها معنا»[91].

وفى شهر صفر عام 1397 (22/1/1977) كان الاعتقال الثاني للسيد الصدر عقب انتفاضة صفر الجماهيرية. وقد سيق الى بغداد ضمن حراسة مشددة بعد ان قيل له ان عزة اراهيم الدوري ـ وكان وزيراً للداخلية انذاك ـ يود لقاءك ببغداد. وقد أخذ الى مديرية الامن العامة حيث اعلمته السلطات بموقفها منه عبر مدير الامن العام ـ وهو شخص تابع لصدام مباشرة ولا يتصرف دون اذن صريح منه ـ بما في ذلك اصداره الاوامر بتعذيب المعتقلين ـ الذي خاطبه قائلا:

«اننا نعلم انك وراء هذه الاعمال العدوانية[92] ونعلم انك قدمت لهم الاموال، لكننا نعرف كيف ننتقم منك في الوقت المناسب. ولولا انشغالنا بالقضاء على هؤلاء المشاغبين لنفذنا الاعدام بك الآن ولكن سترى بعد حين مصيرك»[93].

«وفي هذه المرة عذب السيد الشهيد وضرب وبقيت آثار (ذلك الضرب) عليه بعد الافراج عنه حتى انه كان لا يقوى على صعود السلّم الا بصعوبة كان يخفيها. وكان يقول: كنت احرص على كتمان ذلك كي لا يؤدي الى انهيار او خوف البعض ممن لم يوطّن نفسه على الصمود والثبات»[94].

كانت التجربة عذاباً حقيقياً وقف امامها السيد الصدر بشموخ وصبر، بل انه كان قد اعدّ نفسه لها قبل هذا التاريخ بسنين، حيث نقرأ له محاضرات القاها في صفر عام 1389 هـ  اي قبل تسع سنوات من محنته حين اعتقل وعذب، تحدث فيها عن المحنة وكيفية مواجهتها. كان النظام العفلقي قد قام بتسفير المئات من طلبة العلوم الدينية بحجة انهم لا يحملون الجنسية العراقية. وهي حجة سخيفة اذ ان العراق ومنذ قرون كان محط رجال طلبة العلوم الدينية القادمين من شتى بقاع العالم ممن يحملون جنسيات مختلفة، الا ان القرار كان سياسياً ذا علاقة ببرنامج حزب البعث الذي يريد فرض سياسة التبعيث على كافة ابناء الشعب العراقي. وهو يتعارض تعارضاً تاماً مع كيان الحوزة العلمية في المدن المقدسة العراقية حيث يرى اساتذتها وطلابها على السواء انهم ورثة أمانة علمية ظلت طوال قرون محمولة على اكتاف هؤلاء الذين يعيشون عيشة الكفاف ويسهرون الليالي من اجل اغناء فكر هذه الامانة والتبشير بها، خلافاً لسياسة صدام التي اطلعنا على شيء من النصوص الواضحة المتعلقة بها التي تنادي بتدمير كافة الافكار سوى افكار حزب البعث.

في محاضرتين القاهما السيد الصدر في 26،27 من شهر صفر عام 1389ه ـ تحدث عن المحنة، كانت المناسبة كما قلنا تسفير مئات من طلبة الحوزة العلمية وبينهم العشرات من تلاميذه ممن احبهم وأحبوه. وهو امر قد آلمه كثيراً وبالتأكيد فان اكبر اسباب ألمه هو ان تلاميذه المسفّرين خارج الحدود وكانوا امله في احداث التغيير الاجتماعي، فبوصفه مرجعاً دينياً، كان يرسل وكلاء عنه الى المحافظات العراقية وهو امر لا يروق للسلطات العفلقية، هذا بالاضافة الى مشاعره ـ وهو الرقيق الاحاسيس الممتلىء عاطفة وحباً ـ حيث نستمع اليه وهو يوجه رسالة على شريط كاسيت الى احد تلاميذه يخاطب من خلاله بقية التلاميذ، فنلمس التهدج في صوته والحرقة والتأثر حيث يغلبه فيصمت في فترة الصمت الموجودة وسط الكاسيت ـ كما نرجح انه قد بكى، يقول في جزء من هذه الرسالة الصوتية:

«يا من بنيتهم ذرة فذرة وواكبت نموهم الطاهر قطرة فقطرة، وعشت معهم السراء والضراء واليسر والبلاء، ولم ينفصلوا عني في اي لحظة من لحظات الليل العبوس او النهار المشرق، يا من اجدهم رغم ابتعادهم، وأجدهم في كل ما حولي رغم خلوّ الديار منهم»[95].

نعود للمحاضرتين اللتين تحدث بهما عن المحنة التي عصفت بكيان الحوزة العلمية، حيث يتحدث اولا عن بديهية انه لا حياة دعة واستقرار يعيشها العامل في سبيل الله خاصة اعضاء الحوزة العلمية، ولذلك فهو حين يقع في تجربة المحنة لا يخسر دعة واستقراراً لانه لم يمتلكهما. وانما الخوف هو من خسارة كيان الحوزة، هذا الكيان الذي يراه السيد الصدر القائد الوحيد للامة وليست الآلهة المزيفة. فهو يقول:

«امتحنّا في كيان، امتحنا في هذا الكيان الذي ورثناه منذ مئات السنين. هذا الكيان الذي بذل في سبيله من جهود سلفنا الصالح الطاهر من اصحاب الائمة عليهم الصلاة والسلام ومن اجيال الفقهاء بعد ذلك جيلا بعد جيل. بذل في سبيل هذا الكيان وتدعيمه وتطويره وتنميته وجعله مشعلا للاسلام في كل ارجاء العالم الاسلامي. بذل في سبيل ذلك من الدم الطاهر والوقت الطاهر والعمر الطاهر ما امتلأ به تاريخ سلفنا الطاهر. المشكلة هي مشكلة هذا الكيان.

اذاً فليست المشكلة مشكلة هذا الفرد او هذا الفرد، وانما هي مشكلة هذا الوجود الكلي لكل هؤلاء الافراد. وهذا الكيان ـ كما قلت ـ ليس كياناً قد وصل الينا مجاناً حتى نستطيع او حتى يجوز لنا ـ بمبررات الهزيمة النفسية ـ ان نسلمه بسهولة، أن ننسحب عنه باختيار، ان نضيّعه بأنفسنا. وانما هو كيان وصل الينا عبر تاريخ مليء بالتضحيات، بالعمل الصالح والجهاد الصالح. هذا هو الكيان الذي تسربت في كل ارجائه الآلام التي عاشها (محمد بن ابي عمير) في سبيل انشاء هذا الكيان ومئات من امثال محمد بن ابي عمير من اصحاب الائمة عليهم الصلاة والسلام الذين عاشوا الوان المحنة والاضطهاد وألوان البلاء في سبيل ترسيخ بذور هذا الكيان»[96].

كان ذلكم تمهيداً للدرس الذي سيفصله السيد الصدر لتلاميذه والمحيطين به قبل ان يخوضوا تجربة المحنة والعذاب في معتقلات الآلهة المزيفة ليكونوا على وعي بما هم مقدمون عليه. انه يقدم لهم تفاصيل ما سيطلب منهم في مديريات اجهزة الامن والمخابرات، ويعلمهم كيف ينبغي ان يكون جوابهم، وذلك من خلال تجربة محمد بن ابي عمير[97]. بل لقد حوّل السيد الصدر النص التاريخي الى حوار حي نابض بالحركة بين المعتقل والجلاد وكأنه كان يحتفظ في ذهنه بسيناريو دونت فيه الحركة مع الكلام مع الصورة:

«أليس محمد بن ابي عمير ـ على سبيل المثال ـ هو ذاك الشخص الذي استطاع ان يصمد لا امام خوف نفسي بل امام تعذيب خارجي وجهّه عليه اعظم سلاطين العالم في ذلك الوقت؟

استدعي من قبل جهاز ذلك السلطان وكلّف ان يشي بالشيعة لأنه كان من مشاهير فقهاء الشيعة.

قيل له: انت تعرف اسماء الشيعة. اذكرهم لنا وانت بخير.

امتنع محمد بن ابي عمير. وبقي يكرر بأني اعرف من الشيعة محمد بن ابي عمير ومحمد بن ابي عمير.

قالوا: وبعد؟ من؟

قال: ومحمد بن ابي عمير.

قالوا: وبعد؟

قال: ومحمد بن ابي عمير.

فأمر به فضرب حتى اغمي عليه.

قال ـ عليه رضوان الله: انه في حالة هذا الضرب صارت عندي لحظة ضعف، حاولت ان انطق، حاولت ان اذكر اسماء جملة من الاصحاب ومن الاخوان من تلامذة مدرسة الامام جعفر بن محمد الصادق. فتمثّل امامي شيخي حمران ـ وكان حمران ميتاً وقتئذ ـ تمثل امامي وفي مخيلتي شيخي وهو يقول لي: يا محمد! اياك وان تنطق بكلمة ولو مت تحت السياط.

يقول: فاستعدت رباطة جأشي وقوتي وحولي وطولي وصممّت على ان لا انطق مهما كلف الامر.

حمل هكذا الى بيته بعد ان عجز الآخرون عن استنطاقه. ثم صودرت املاكه، صودرت امواله. كان بزّازاً، تاجراً واسع النطاق في الثراء والمال، وأصبح بين عشية وضحاها انساناً فقيراً لا يملك شيئاً من الاموال. يجلس في شرفة بيته يشتغل برواياته وأحاديثه.

قصة نهب داره هي القصة التي جعلتنا نخسر كثيراً من اسانيد روايات ابن ابي عمير. يقولون: ان السبب في ان اكثر روايات هذا الرجل العظيم كانت مراسيل[98]. هو ان كتب هذا الرجل العظيم كانت في جملة الاموال التي نهبت وصودرت من بيته من قبل الآخرين. ولهذا بقي ينقل ما علق بذهنه، وكان لا يحفظ الاسانيد في كثير من الاحيان فكان يرسل. ولهذا كانت روايات ابن ابي عمير اكثرها مراسيل.

يجلس في الشرفة ويتلهى ويشتغل بالروايات التي عرفها. وهو لم يشعر بنوع من الانهيار، وكان لا يزال اقوى ما يكون صموداً وثباتاً واستبسالا واعتقاداً بأن خط الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) هو الخط الصالح الذي يجب على الانسان ـ لكي يكون انساناً صالحاً ـ ان يواصل الاستمرار فيه والبذل له والعطاء له بقدر ما يمكنه.

لم تجعله هذه المحنة يتململ، يتزعزع، ينحرف قيد أنملة عن وصايا وتعليمات الامام جعفر بن محمد الصادق (ع). جاءه شخص عميل له من عملائه الذين كانوا يشترون منه الاقمشة حينما كان تاجراً. وكان عليه دين قد بقي في ذمته لمحمد بن ابي عمير، وكان يتقاعس عن الوفاء. حينما بلغه ان محمد بن ابي عمير وقع في محنة مصادرة امواله وأملاكه، جاء اليه ليقدم اليه المبلغ من المال ـ ولا اتذكر كم كان ـ قدّم بين يديه المبلغ وقال له: اعذرني يا شيخي ان كنت قد تأخرت حتي الآن في تقديم هذا المبلغ لأني كنت معسراً، ولما سمعت انك قد صودرت املاكك ووقعت في ضائقة، قررت ان ابيع داري ثم اقدم بين يديك حقك لكي تستعين به على امور ديناك.ماذا قال هذا الفقيه الصالح؟ ماذا قال هذا الانسان الذي يمثل نتاج مدرسة الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) قال له: سمعت من اشياخي عن الامام جعفر (ع) انه يقول: «لا يباع دار سكن في وفاء دين». خذ هذ ا المال اليك والله خير الرازقين.

اذاً فهو في قمة المحنة، لم يشأ ان ينحرف قيد أنملة حتى عن التعاليم والوصايا الاخلاقية التي ذكرها الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) فان قوله «لا يباع دار سكن في وفاء دين» انما يعني: انه لا يجبر الدائن المدين على بيع دار سكن. اما اذا تبرع المدين بأن يبيع دار سكنه، فيجوز شرعاً للدائن ان يأخذ مال الوفاء، ولكنه مكروه. هذا المفهوم الشرعي للكراهة جعل هذا الانسان الممتحن يقف في هذه اللحظة موقف الاباء والتمنع، لانه لا يريد الحياة الا لكي يضرب المثل الاعلى للانسان المسلم في اخلاقه وسلوكه وسيرته.

هذا الكيان الذي تمتلكه الحوزة العلمية اليوم، هو الكيان الذي انبثت فيه آلام محمد بن ابي عمير ومئات من امثال محمد بن ابي عمير»[99].

سايكولوجياً: من هو محمد بن ابي عمير؟ انه السيد الصدر نفسه. فقد استعار الصدر تلك الواقعة التاريخية ووضع نفسه مكان محمد بن ابي عمير، وهو يواجه اعتى فاشية اتفق الغرب والشرق على تدعيمها في زمنه هو، ترى ماذا سيكون موقف السيد الصدر لو وضع مكان محمد بن ابي عمير؟ وبالتأكيد فانه قد وضع نفسه مكانه حين كان يجلس وحيداً يفكر في هذه الموجة العاتية من الظلم والجور التي تخيم على العراق، وبالتأكيد فانه كان قد اجاب: نعم سأكون محمد بن ابي عمير.

نقول ذلك اعتماداً على الحوارية الحية التي اعاد بها السيد الصدر كتابة الواقعة التاريخية التي اختير فيها ابن ابي عمير. اذ ان هذا يعني ان تلك الواقعة قد عاشت معه في عقله وقلبه وعجنت بدمه الى الدرجة التي كان يتحدث بها في انسيابية وهو يضغط بقوة على مفردات الصبر والمقاومة في مواجهة العذاب، واعتماداً على ثباته وبسالته هو في مواجهة محنة مماثلة لمحنة ابن ابي عمير.

لو لم يكن السيد الصدر يتبنى موقف ابن ابي عمير، لاختلفت روايته للواقعة التاريخية، ولكان رواها ـ في افضل الاحوال ـ كما هي في التاريخ ولختمها بالقول ان المحن قد تمر علينا وان علينا الصبر في مواجهتها متأسين بابن ابي عمير وأمثاله..، ثم يواصل الكلام على هذا المنوال، وليس بالشكل المتفجر الحيّ الذي تدفق فيه الكلام من لبه معرباً عن قناعة راسخة بصحة موقف الثبات في مواجهة المحنة.

انه يضع نفسه امام تلاميذه وأمام محبيه ومعتنقي افكاره قائلا: انني سأكون في المحنة كمحمد بن ابي عمير، فلتكونوا انتم كذلك.

وهكذا كان، فقد خرج السيد الصدر من محنة الاعتقال والتعذيب التي وقعت له بعد ثماني سنوات من حديثه عن محنة  محمد بن ابي عمير، مظفراً صابراً محتسباً يكتم جراحه عمن حوله مخافة ان يؤثر ذلك في ثبات بعضهم ممن لم يأخذ اهبته لتجربة مماثلة. وخرج مظفراً ايضاً في المحنة التي وقع فيها بعد ثلاث سنوات على تاريخ حديثه هذا حين اعتقل عام 1980 وعذّب حتى الموت ولم يطأطئ رأسه او يتنازل قيد أنملة عن عقيدته وروحه الجهادية باعتراف احد جلاديه ـ سننقل نص حديثه فيما بعد.

بل لقد وفق حتى في جعل تلاميذه الذين اعتقلتهم السلطات العفلقية واخضعتهم لمحنة التعذيب، جعلهم مثله ومثل محمد بن ابي عمير، وقد استشهد اغلبهم تحت التعذيب او على اعواد المشانق.

ومثل ابن ابي عمير، خرج السيد الصدر من الاعتقال ليعود الى كرسي التدريس يحاور تلاميذه ويبث فيهم روح الاستمرارية في الدرس الاكاديمي بنفس الهمة التي ينبغي لهم ان يواجهوا بها تحديات السلطان الجائر. اذ ان المحافظة على كيان (الحوزة العلمية) الذي انبثت فيه آلام المئات من امثال محمد بن ابي عمير، يشكل بحد ذاته تحدياً للسلطان الجائر الذي يريد صياغة الحياة بأسرها وفق خياراته وخيارات حزب البعث العربي الاشتراكي. ألم يقل صدام بوضوح:

«علينا ان نؤكد ان هذا المجتمع يقوده حزب. وان هذا الحزب هو حزب البعث العربي الاشتراكي. يقوده في قيمه، ويقوده في تنظيماته، ويقوده كذلك في افكاره وفي سياساته، ويقوده في مستوى الدولة والنشاطات الديمقراطية الجماهيرية»[100].

ان وجود الحوزة العلمية مع وجود قيادات واعية امثال السيد الصدر وتلاميذه، اضافة لقواعد جماهيرية شملت قطاعات واسعة من الطبقة المثقفة والطبقات الكادحة على السواء[101] يتعارض مع هذا المخطط مخطط (التبعيث) الذي يصادر شخصية الامة وتاريخها وحاضرها فلا يبقى الا الثالوث: صدام، عفلق، حزب البعث.

1979 عام التحدي والمواجهة

كان امام المخططين الذين جاءوا بحزب البعث الى السلطة في 17 تموز 1968 تحديات ينبغي التعامل معها بحسم والا ذهبت ادراج الرياح جهودهم التي بذلوها طوال سنوات، الاول: خطر الوحدة العربية بين العراق وسوريا التي وقّع ميثاقها بين البلدين عام 1978. والثاني: خطر الثورة الاسلامية التي اطاحت بصورة مفاجئة العرش الملكي المدعوم بكل ثقل الغرب واسرائيل في ايران. وقد تمت مواجهة التحديين من خلال دفع صدام الى الواجهة الاولى في المنطقة. اذ كان الامر يتطلب شخصاً ينوء بأطنان الحساسيات تجاه الافراد والامم، وبمشاعر العظمة والتفوق والغرور والتجبر والقساوة، وفوق كل هذا بطفولة معذبة ترك فيها فريداً ليس له من رفيق سوى عصاه التي ظل يكن لها وحدها حتى اليوم الاحترام ولا يطمئن الا لها في التعامل مع الافراد والامم، الطفولة المعذبة بعقدة (البتر) التي فصل فيها عن امه.

تم القضاء على مشروع الوحدة العربية من خلال دفع صدام الى الموقع الامامي بعد ازاحة الرئيبس الضعيف او (الشايب) ـ كما يحلو لصدام ان يسميه[102] حيث سلّم صدام مهام رئيس الجمهورية، اذ كان هناك تيار في القيادة البعثية لا يحبذ تنصيب صدام رئيساً للجمهورية او اعطاءه مناصب حزبية رفيعة، ربما لخوفهم منه ولأنه سيقوم بتصفيتهم لما عرفوه عنه من دموية في التعامل. وكان ابرز الناشطين في ذلك التيار، الخمسة من اعضاء مجلس قيادة الثورة الذين اعدموا دون محاكمة اثناء التعذيب الذي شوهد على جثثهم عند دفنها، حتى ان احدهم وهو عدنان الحمداني كان منزوع العينين من محجريهما[103]. وقد اختير محي عبد الحسين ـ سكرتير احمد حسن البكر ـ للادلاء باعترافات داخل قاعة الخلد عن اشتراكه هو مع اولئك المتآمرين في استبعاد صدام عن رئاسة الجمهورية. حيث تم ذلك يوم 22/7/1979 بحضور صدام داخل القاعة مع مجموعة ضخمة من الكادر المتقدم. وما ان كان محي عبد الحسين يذكر اسم احد الحاضرين او يلمح له حتى ينقض مرافقو صدام عليه ويقتادوه خارج القاعة ليعدم فوراً. رغم احتجاجه او صراخه وسط القاعة بأنه لا علم له بأي شيء عن التآمر. بل ان تقديم مساعدة مالية من قبل احد المتآمرين المزعومين (محمد عايش) الى عائلة عبد الخالق السامرائي امين سر قطر العراق لحزب البعث الذي كان سجيناً آنذاك بسبب مؤامرة دبرها صدام نفسه ثم قيل ان ناظم كزار مدير الامن العام السابق قد دبرها لوحده في تموز 1973، حيث اتهم السامرائي بانه كان على علم بنوايا ناظم كزار ولم يخبر القيادة بأمرها حيث حكم عليه بالاعدام الا ان وساطات عربية والخوف من وجود متعاطفين او انصار له غير مكشوفين في صفوف الحزب اديا الى تخفيف تلك العقوبة الى عقوبة السجن المؤبد، حتى جاء تموز 1979 فاقتيد من الزنزانة الى حيث التعذيب ومات هناك بمرأى ومسمع من انظار صدام الذي وقف على تعذيب البقية من افراد المجموعة المتهمة الى ان لفظوا انفاسهم الاخيرة. وقد نقلت الجثث بعد ذلك الى باحة في قصر النهاية الرهيب السيء الصيت، حيث استدعي بقية اعضاء الكادر المتقدم في الحزب ممن هم في بغداد او المحافظات الاخرى، وأعطي كل واحد منهم مسدساً، فكان عليه ان يأتي امام الجثث المكومة فيبصق عليها ثم يطلق ما يتمكن من اطلاقه من رصاص مسدسه.

كما اعتبر البعثي القيادي طاهر محمد امين مدير عام السياحة والمصايف، متآمراً ايضاً حيث ذكر الشاهد الوحيد في اجتماع قاعة الخلد وهو محي عبد الحسين ان محمد عايش كان يذهب الى بيته فيحتسيان الخمرة سوية.

وقد ربطت تلك المؤامرة بطرف من وراء الحدود ـ كما جرت العادة في ربط كافة المؤامرات في العالم العربي ـ حيث اختير ضابط سوري يعمل في السفارة السورية ببغداد، وقيل انه ضابط الارتباط بين المتآمرين والقيادة السورية، لقاء مبالغ تافهة. فقد ذكر محي عبد الحسين اثناء كلامه الذي اورد فيه اسمي المتهمين مؤيد عبد الله وطالب صويلح، ان محمد عايش كان يعطيهما (200) او (300) دينار لكل منهما ليقوم بدوره بتوزيع قسم منها على المتآمرين العاملين معه. وهنا ادرك صدام ان اللعبة على وشك الانكشاف، فسارع الى تنبيه محي عبد الحسين ليعدل قليلا من اعترافه ـ الذي املي عليه بطبيعة الحال ـ حيث قال: ان المبلغ هو 200 او 300 دينار، ترى ما هي كمية ما يحتفظون به لأنفسهم، وما يعطونه للعاملين معهم؟ فأجاب محي وقد انتبه الى خطأه: ان المبالغ قد ازدادت فيما بعد!!

والحقيقة فان اختيار سوريا كان الهدف منه القضاء على اي امكانية لتحقيق وحدة بين البلدين وهو الهدف الذي كان حزب البعث في العراق يقرع طبوله لسنين طويلة، فقد جرى الحديث عن علاقة سوريا بتلك المؤامرة بعد ستة اشهر تقريباً من توقيع ميثاق الوحدة بين الرئيسين حافظ الاسد واحمد حسن البكر في دمشق ثم زيارة الاسد لبغداد، وكان كل ذلك يعني اجراء انتخابات مشتركة بين القيادتين في البلدين لادارة دولة الوحدة، ويعني بالتالي صعود شخصيات بعثية عراقية غير صدام الى المراكز القيادية. اضافة الى ان تلك الوحدة تشكل تهديداً محتملا لدولة اسرائيل حين نقل آنذاك عن احصائيات دولية ان الطاقة العسكرية السورية ـ العراقية تتألف من 440 الف جندي و 830 طائرة و 4500 دبابة. وقد عقبت وكالة رويتر على ذلك بالقول: ان فعالية المعارضة التي تزعمها العراق ضد معاهدة الصلح المصرية ـ الاسرائيلية، ستعتمد في المدى البعيد على نجاح الوحدة بين سوريا والعراق[104].

اما التعامل مع التحدي الثاني، الثورة الاسلامية في ايران، فقد كان يتطلب اجتياحاً عسكرياً لحدودها والتوغل في اراضيها لاستنزاف طاقاتها التي يمكن ان ترسخ بها جذورها من خلال تحقيقها مكاسب لجماهيرها التي اندفعت معها املا في التغيير نحو الافضل، وبالتالي تقديم نموذج في المنطقة لامكانية نجاح التجربة الاسلامية على مستوى الحكم. الا ان ذلك تطلب من الدوائر التي جاءت بحزب البعث وصدام للسلطة ان تصفي التيار الاسلامي الواسع في العراق قيادات وقواعد، فكان قرار اعدام كافة المنتمين لحزب الدعوة الاسلامية الذي صدر في آذار 1980 قد سبق اعلان الحرب على ايران في نفس العام. نص القرار الذي يحمل الرقم (461) على ما يلي[105]:

استناداً الى احكام الفقرة (أ) من المادة الثانية والاربعين من الدستور المؤقت قرر مجلس قيادة الثورة في جلسته المنعقدة بتاريخ 31/3/1980 ما يلي:

«لما كانت وقائع التحقيق والمحاكمات قد اثبتت بأدلة قاطعة ان حزب الدعوة هو حزب عميل مرتبط بالاجنبي وخائن لتربة الوطن ولأهداف ومصالح الامة العربية، ويسعى بكل الوسائل الى تفويض نظام حكم الشعب ومجابهة ثورة 17 تموز مجابهة مسلحة، لذلك قرر مجلس قيادة الثورة تطبيق احكام المادة (156) من قانون العقوبات بحق المنتسبين الى الحزب المذكور مباشرة او العاملين لتحقيق اهدافه العميلة تحت واجهات او مسميات اخرى.

ينفذ هذا القرار على الجرائم المرتكبة قبل صدوره التي لم يصدر قرار باحالتها على المحكمة المختصة.

صدام حسين

رئيس مجلس قيادة الثورة

ويذكر ان المادة 156 من قانون العقوبات تنص على ما يلي:

يعاقب بالاعدام من ارتكب عمداً فعلا بقصد المساس باستقلال البلاد او وحدتها او سلامة اراضيها وكان الفعل من شأنه ان يؤدي الى ذلك».

ان الامين العام لحلف شمال الاطلسي دعا في اوائل 1995 الى اجراء اتصالات وتعاون بين الحلف والدول المطلة على البحر المتوسط خشية حدوث عدم استقرار عند الجناح الجنوبي للحلف حيث اعلن صراحة «ان خطر التطرف الاسلامي على الغرب يعادل الخطر الذي كانت تشكله الشيوعية في فترة ما»[106]، الا ان الحقيقة هي ان الجولة الجديدة لحرب الغرب على الصحوة الاسلامية ـ التي يصر سياسيو ومفكرو الغرب على تسميتها بالتطرف الاسلامي ـ قد بدأت قبل هذا التاريخ بكثير. فقرار حل جمعية الاخوان المسلمين بمصر قد اتخذ في اجتماع عقد بفايد في 10/11/1948 بحضور سفراء بريطانيا واميركا وفرنسا. وتوجد وثيقتان سريتان تتعلقان بهذا الامر مرسلتان من السفارة البريطانية في القاهرة الى وزراء الخارجية البريطانية وهما وثيقتان اصبحتا شهيرتين جداً لكثرة ما نشرتا[107].

كما ان مجزرة سجن سركاجي الجزائري التي نفذتها الحكومة العسكرية في الجزائر يوم 22/2/1995 التي قتل فيها اكثر من 150 معتقلا اكثرهم من الاسلاميين قد جاءت بعد اربعة عشر يوماً فقط من اعلان مجلس حلف شمال الاطلسي من انه اتخذ قراراً في 8/2/1995 ببدء حوار مباشر مع مصر والمغرب وموريتانيا وتونس واسرائيل لمواجهة التطرف الديني، وبعد اقل من شهر على ما اعلنته صحيفة يديعوت احرونوت في اوائل شباط 1995 من «ان السلطات العسكرية في الجزائر في النمسا هو الذي عرض ذلك على نظيره الاسرائيلي هناك. وان طلب السلطات العسكرية الجزائرية قد تضمن تشكيل مجموعة مشتركة من الطرفين للتدريب على مواجهة الاصوليين». وبعد الدعم المنتظم المالي والعسكري والتقني والامني الذي تتلقاه الحكومة العسكرية في الجزائر من الحكومة الفرنسية بوصفها الفصيل الغربي المتقدم في حرب الاسلاميين اضافة لخبرتها الطويلة في حرب الشعب الجزائري اثناء حرب الاستقلال بواسطة قوات المظليين الذين عرفوا باجرامهم وقذاراتهم ـ وهو امر يعترف به حتى الفرنسيون[108]، خاصة وان وزير الدفاع الفرنسي فرانسوا ليوتار قد تقدم باقتراح نهاية عام 1994 الى اجتماع لحلف شمال الاطلسي يهدف الى مساعدة الانظمة في المغرب العربي على مواجهة المد الاصولي الاسلامي، وقد وافق الحلف على ذلك الاقتراح[109].

يضاف الى ذلك مجازر جمال عبد الناصر بحق الاخوان المسلمين، اذ ان كل ذلك ليس بعيداً عن الغرب واسرائيل ومصالحهم في المنطقة. وعليه فان قرار اعدام الدعاة الذي اصدره صد امن عام 1980 ليس غريباً على اوساط الاسلاميين في العراق وغيره، وان الصاق تهمة العمالة لطرف اجنبي هو اسلوب معتاد في هذه الحرب العقائدية، وان التقرير المركزي لحزب البعث الحاكم في العراق يعترف بقدم الظاهرة الدينية السياسية ويشير الى الاحزاب الدينية وانها قد اصطدمت مع الشيوعيين وخاصة بعد ثورة 14 تموز 1958 ويضيف: «الا ان الخصم الاساس الذي استهدفته هذه الاحزاب والحركات والتيارات كان دائماً الحركة القومية العربية وطليعتها الثورية الباسلة، حزب البعث العربي الاشتراكي»[110].

ثم يشير التقرير الى نشاط تلك التيارات والاحزاب بعد انقلاب 17 تموز 1968 فيقول: «كان من بين انشط هذه المجموعات في هذه المرحلة حزب يدعى (حزب الدعوة) ذو صبغة طائفية معروفة وذو اتجاهات مشبوهة صارت معروفة تفصيلياً لأغلب اوساط الشعب. ولكن هذا الحزب وغيره من الحركات والتيارات الدينية لم يصل في اي وقت من الاوقات الى مستوى يمكن ان يشكل تهديداً جدياً للحزب والثورة. ولكن بعد الثورة الايرانية تغيرت الامور»[111].

ان (تغير الامور) هذا الذي يشير اليه تقرير حزب البعث هو انتعاش آمال العاملين في الحركات والاحزاب الاسلامية في العراق عقب نجاح الثورة الاسلامية في ايران وهو ما عبرت عنه برقيات السيد الصدر الى الامام الخميني التي امتلأت بالأمل والبشر، ومنها برقيته التي ارسلها له حينما كان في باريس والتي ركز فيها على نقطة مهمة جداً هي نفسها التي ركز عليها تقرير حزب البعث فيما بعد ولكن على طرف نقيض منه. فتقرير حزب البعث اشار الى بروز التيارات والاحزاب الاسلامية في الصدمات مع الشيوعيين. وكأن التقرير يشير الى شبهة ترى ان التيار الاسلامي قد هادن نقيض الماركسية اي الاتجاه الرأسمالي. وهو امر لا يعدو كونه تشويشاً وذراً للرماد في العيون فكتابات المفكرين الاسلاميين قد نقدت الاتجاهين. وهو امر واضح في كتاب «الاسلام والرأسمالية» للمفكر الاسلامي سيد قطب، وكتاب «اقتصادنا» للسيد الصدر وغيره من مؤلفاته اللاحقة.

يقول السيد الصدر في شطر من برقيته تلك[112]:

«ان المبارزة الشريفة[113] قد حققت مكسباً كبيراً حينما افهمت العالم كله بخطأ ما كان يتصوره البعض من ان الاسلام لا يبرز على الساحة الا كمبارز للماركسية وليس من همه بعد ذلك ان يبارز الطرف الآخر. فان هذا التصور كان يستغله البعض في سبيل اسباغ طابع التخلف والتبعية على المبارزة الاسلامية. وقد تمزق هذا التصور من خلال المبارزة الشريفة التي برزت على الساحة الايرانية باسم الاسلام وبقوة الاسلام وبقيادة المرجعية الدينية الرشيدة لتقاوم كياناً ابعد ما يكون عن الماركسية والماركسيين[114]. وقد اثبت ذلك ان الاسلام له رسالته وأصالته في المبارزة، وان الاسلام الذي يقاوم الماركسية هو نفسه الاسلام الذي يقاوم كل الوان الظلم والطغيان».

كما قال السيد الصدر ما هو اخطر من ذلك في اجابته على سؤال ورده من لبنان بعث به جماعة من علماء المسلمين يستوضحون فيه فقهياً عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية في ايران الذي كان الامام الخميني قد طرحه آنذاك في ايران[115]، حيث ذكر الاسس التالية لأي مشروع اسلامي، فيذكر اول ما يذكر مبدأ الحاكمية لله وأنه لا يجوز اسعباد الانسان لانسان آخر او طبقة اخرى او مجموعة بشرية وانما السيادة لله وحده. وهو كلام يجن له جنون عفلق وصدام ومقررات حزب البعث القائمة على ان حزب البعث هو المصدر الوحيد للتشريع وعلى حد تعبير دام انه «النظرية التي نؤمن بها، والمقصود بها نظرية الثورة العربية، نظرية حزب البعث العربي الاشتراكي)[116]. وان حزب البعث هو المصدر الوحيد لقيادة المجتمع في قيمه وأفكاره وسياساته وعلى مستوى قيادة الدولة والنشاطات الجماهيرية.[117]

يقول السيد الصدر:

«1ـ ان الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعاً.

وهذه الحقيقة الكبرى تعتبر اعظم ثورة شنها الانبياء ومارسوها في معركتهم من اجل تحرير الانسان من عبودية الانسان.

وتعني هذه الحقيقة ان الانسان حر، ولا سيادة لانسان آخر او لطبقة او لأي مجموعة بشرية عليه، وانما السيادة لله وحده. وبهذا يوضع حد نهائي لكل الوان التحكم وأشكال الاستغلال وسيطرة الانسان على الانسان.

وهذه السيادة لله تعالى التي دعا اليها الانبياء تحت شعار «لا اله الا الله» تختلف اختلافاً اساسياً عن الحق الالهي الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة قروناً من الزمن للتحكم والسيطرة على الآخرين. فان هؤلاء وضعوا السيادة اسمياً لله لكي يحتكروها واقعياً وينصّبوا من انفسهم خلفاء الله على الارض.

وأما الانبياء والسائرون في موكب التحرير الذي قاده هؤلاء الانبياء والامناء من خلفائهم وقواعدهم، فقد امنوا بهذه السيادة وحرروا بها انفسهم والانسانية من الواهية الانسان بكل اشكالها المزورة عل يمر التاريخ لأنهم اعطوا لهذه الحقيقة مدلولها الموضوعي المحدد المتمثل في الشريعة النازلة بالوحي من المساء. فلم يعد بالامكان ان تستغل لتكريس سلطة فرد او عائلة او طبقة بوصفها سلطة اليهية.

وما دام الله تعالى هو مصدر السلطات وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدد عن الله تعالى، فمن الطبيعي ان تحدد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الاسلامية»[118].

ضمن النظام الذي اقامه ثالوث الآلهة المزيفة ببغداد، فان هذا الكلام عقوبته الموت، اذ انه يقف على النقيض تماماً من ارادة الثالوث، ليس بالايمان به ـ اي بالحاكمية لله ـ فحسب، بل بالدعوة الى ذلك. وهو يعني التحريض ضمناً ضد الثالوث.

تصعيد المجابهة

سجل عام 1979 تصعيداً للمجابهة من قبل سلطات حزب البعث ببغداد ضد الاسلاميين سواء العاملين منهم ضمن الحركات والاحزاب الاسلامية او الذين يشتبه بهم في كونهم من العاملين معهم. كما شددت الاجراءات الامنية في كافة الجوامع والمساجد الصغيرة والحسينيات والمراقد المقدسة، بحيث كان امراً مألوفاً ان يدخل المومنون اي مسجد ليجدوا داخله مجموعة من افراد اجهزة الامن والمخابرات وهم ينتشرون داخل حرم المسجد او في باحته الخارجية يحملون حقائب دبلوماسية توضع فيها عادة المسدسات وأجهزة التنصب والتسجيل، كما كانت اشكالهم تدل عليهم بسهولة. والحقيقة فان مطاردة الاسلاميين قد بدأت مع مطلع السبعينات وهي تشكل حجر زاوية مهم في تفكير وممارسات القيادة البعثية، الا انها تصاعدت حتى بلغت شكلها الواسع بداية 1979 وما تلاه حيث تمثلت في اعتقال الآلاف منهم، ثم اعدام المئات فيما بعد بموجب قرار اعدام الدعاة الذي اصدره صدام في آذار 1980، وكان من بين من اعدموا بموجب هذا القرار، السيد الصدر كما سننقل ذلك عن تصريح لفاضل برّاك مدير الامن العام السابق الذي قال عن السيد الصدر انه المسؤول الاول في قيادة حزب الدعوة. هذا اذا كان صدام قد اخذ بهذا السبب ذريعة لتنفيذ حكم الاعدام بالسيد الشهيد[119]، اذ يمكن ان يضاف لذلك قصة البرقية التي رواها صدام في حديث له فيما يسمى بالمجلس الوطني العراقي يوم 23/11/1981 من ان الامام الخميني قد ارسل برقية عبر الاجهزة الرسمية للسيد الصدر قال فيها:

سمعت انك تريد ان تغادر العراق. لا تغادر، ابق هناك حتى تقود العمل ضد الحكومة العراقية»[120].

ان نص البرقية المرسلة من الامام الخميني لا تشتمل على هذه العبارة وسوف ننقلها بكاملها. الا اننا نشير اولا الى سبب ارسالها. حيث يقول محمد الحسيني في كتابه «الامام الشهيد»:

«ان احد الاشخاص المقربين من السيد الامام الخمينى ذهب لزيارة الامام فسأله الامام عن اوضاع العراق وخاصة اوضاع السيد الصدر رضوان الله عليه، فأجابه ان اوضاع العراق مضطربة ويعتزم السيد الصدر على مغادرة العراق. فتعجب السيد الامام لذلك فأشار هذا الشخص على الامام ان يكتب للسيد الصدر رسالة بذلك»[121].

اما نص البرقية فهو:

«سماحة حجة الاسلام والمسلمين الحاج السيد محمد باقر الصدر دامت بركاته.

علمنا ان سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث. انني لا ارى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الاشرف مركز العلوم الاسلامية. وانني قلق من هذا الامر. آمل ان شاء الله ازالة قلق سماحتكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.روح الله الموسوي الخميني»[122]

وقد عقب مؤلف كتاب «الامام الشهيد» على ذلك بقوله:

«هذه البرقية لم تصل للسيد الشهيد الصدر، بل سمعها نفسه رضوان الله عليه من اذاعة طهران ـ باللغة العربية ـ بعد تسجيلها واطلاع السيد الهيد على مضمونها. وقد تأثر السيد الشهيد لذلك وانزعج من الامر لانه لم يكن ينوي الخروج من العراق وهو الذي عاهد الشعب العراقي على مشاركته الآمال والآلام. وكان يقول: كيف علم الامام الخميني بذلك؟»[123].

وقد رد السيد الصدر ببرقية جوابية مع معرفته بخطورة الاوضاع على حياته عبر فيها عن فرحه بالانتصارات التي يحققها الشعب الايراني، اضافة الى امله في ان يكون نور الاسلام المشرق من جديد هادياً للعالم كله، من اجل ضرب الاستعمار وخاصة الاميركي، ثم اشار الى القضية المركزية قضية اغتصاب فلسطين التي عبر عنها بـ (ارضنا المقدسة):

«بسم الله الرحمن الرحيم»

سماحة آية الله العظمى الامام المجاهد السيد روح الله الخميني دام ظله

تلقيت برقيتكم الكريمة التي جسّدت ابوتكم ورعايتكم الروحية للنجف الاشرف الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة. واني استمد من توجيهكم[124] الشريف نفحة روحية، كما اشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الاشرف. وأود ان اعبر لكم بهذه المناسبة عن تحيات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز الذي وجد في نور الاسلام الذي اشرق من جديد على يدكم ضوءاً هادياً للعالم كله وطاقة روحية لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الامريكي خاصة، ولتحرير العالم من كل اشكاله الاجرامية وفي مقدمتها جريمة اغتصاب ارضنا المقدسة فلسطين. ونسأل المولى سبحانه وتعالى ان يمتعنا بدوام وجودكم الغالي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد باقر الصدر

النجف الاشرف

5 رجب 1399 ـ المصادف 1/6/1979

بالتأكيد فان اشد ما في البرقية خطورة هو الاشارة الى فرح الشعب العراقي بنجاح الثورة في ايران وهو يعني ضمناً ان الملايين في العراق يمكن ان تساند ثورة مماثلة تتفجر فيه ضد نظام حكم جاءت به المخابرات الغربية للسلطة في العراق، وعليه فالحكم في العراق شكل من اشكال الاستعمار الكافر والاميركي. وهو ما يقدم عليه الاسلاميون دليلا مضافاً من الاحداث القريبة، ففي فورة حماس اعلامي رافقت وأعقبت حرب الخليج الثانية طالبت ماررغريت ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة اثناء فترة رئاستها بمحاكمة صدام بوصفه مجرم حرب بعد غزوة الكويت بأيام. وطالب بعدها جون ميجر باجراء محاكمة له. ثم قام وزير الخارجية البريطاني دوغلاس هيرد باستحصال موافقة وزراء خارجة مجموعة دول السوق الاوروبية المشتركة في 15/4/1991 المجتمعين في لوكسمبورغ لتقديم صدام لمحكمة دولية لارتكابه جرائم حرب وعمليات ابادة جماعية. كما دعت المجموعة الاوروبية في مذكرتها الرسمية للسكرتير العام للامم المتحدة السابق بيريز ديكويلار في 16/4/1991 الى تبني الامم المتحدة مسألة تقديم صدام وأركان نظامه الى المحكمة الدولية. وفي اول خطاب لجورج بورش رئيس الولايات المتحدة الاميركية، القاه في الكونغرس الاميركي بعد انتهاء حرب الخليج في آذار 1991، اعلن ان صداماً وأعوانه سوف لا يتركون من دون حساب جراء ما ارتكبوه من جرائم بحق العالم والمنطقة والشعب العراقي. وفي 19/4/1991 وافقت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الاميركي بالاجماع على اقتراح يدعو جورج بوش الى التقدم بطلب المحاكمة صدام ومسؤولين عراقيين امام محكمة دولية. كما نص الاقتراح على انشاء مكتب خاص في وزارة الخارجة الاميركية لمتابعة تشكيل المحكمة ولجمع الوثائق لهذه المحكمة[125]. الا ان القوم قد أهملوا كل ما طالبوا به وتركوا صد اما في كرسي الحكم وان كانوا قد اضعفوه دولياً وأخافوه وجعلوه مخلوقاً مرتجفاً ينتظر قرارات الرحمة التي يصدرونها من خلال منبر الامم المتحدة ومجلس الامن[126].

وفي غمرة الاحداث التي ازدادت سخونة انطلقت مواكب التأكيد لقياد ة السيد الصدر من شتى انحاء العراق متجهة الى بيته الصغير المتواضع في النجف الاشرف، وكان من بينها وفد مدينة الثورة ببغداد حيث وقف احد رجاله مخاطباً السيد الصدر: ايها الصدر الكريم! لن نقول لك كما قال اصحاب موسى: اذهب انت وربك فقاتلا انّا ها هنا قاعدون. فوالله، نجن جنود امناء رهن اشارتكم. فتبسم السيد الصدر قائلا: انتم اخوتي وابنائي ولن ابرح مكاني حتى اجاهد معكم حتى النفس الاخير.

اما وفد كربلاء الذي وصل يوم 10 رجب 1399 وكان حاشداً تقدمه مجموعة من علماء الدين وكبار الشخصيات فقد  اثار في نفس السيد الصدر شجون الجهاد والتضحية في سبيل المبدأ وهم قادمون من مدينة سيد الشهداء فانبرى خطيباً في تلك الجموع المبايعة ثم قال:

«ارحب بكم يا ابنائي واخوتي وعشيرتي! اني اشم فيكم رائحة تراب كربلاء ـ حتى اجهش الحاضرون بالبكاء. ثم ختم كلمته قائلا: اضمكم الى قلبي، يا ابناء مدينة الحسين، مدينة حوت تلك الدماء الطاهرة التي اراد السلطان ان يستميلها بالمال والجاه فأبت لأنها رأت مسألة الحق اكبر من ذلك. دماء من؟ انها دماء اقدس انسان على وجه الارض. اني اغبطكم يا ابنائي على مجاورتكم لقبر ريحانة رسول الله. فالانسان حينما يمسك تفاحة يبقى شذاها في يده، فكيف وأنتم اقرب الناس الى قبر الحسين بن فاطمة؟ اني اشم منكم رائحة الحسين. كربلاء الصغيرة بحجمها الا انها كبيرة بعطائها. فحدودها العقائدية كبيرة تمتد مع حدود الانسان الرسالي. ما من انسان تكلم عن الانسانية الا وكانت كربلاء في ضميره. وأعاهدكم احبتي انني سأحذو حذو جدي الحسين).

كانت الهتافات تتعالى من الوفود:«عاش، عاش، عاش الصدر. الاسلام دوماً منتصر» او «بالروح بالدم نفاديك يا امام».

من جانبها بادرت السلطات وقد اغضبها هذا التحرك الى شن حملة اعتقالات طالت الآلاف من الشباب الجامعي وكبار الشخصيات في المجتمع. وجماهير غفيرة من شتى الطبقات تمهيداً لاعتقال السيد الصدر. (وقد شعر السيد الصدر وكل المؤمنين بذلك، فتم الاتفاق مع حزب الدعوة على تنظيم التظاهرات فيما لو حدث اعتقال السيد الصدر»[127]. كان الشهيد الصدر قد واصل القاء محاضراته التي تركزت على الجانب العقائدي وتحصين الشخصية الاسلامية في مواجهة مغريات الدنيا والسلطة او ارهابها. وكانت آخر محاضرة مسجلة له في 5 رجب 1399. الا انه حدث يوم 16 رجب 1399 (12/6/1979) ان كثفت قوات الامن من دورياتها ومراقبتها لمنزل السيد الصدر والازقة القريبة منه ثم منعت المارد من التجول في الزقاق تمهيداً لاعتقال السيد الصدر.

«وفي صباح 13/6/1979 جاء مدير امن النجف وطلب مقابلة السيد الصدر وقال له: ان السادة المسؤولين يريدون الاجتماع بكم في بغداد. فأجابه السيد الصدر بانفعال شديد: ان كنت تحمل أمراً باعتقالي، فنعم أذهب. وان كانت مجرد زايرة، فلا. وأضاف: انكم كممتم الافواه وصادرتم الحريات وخنقتم الشعب. تريدون شعباً ميتاً يعيش بلا ارادة ولا كرامة. وحين يعبر شعبنا عن رأيه او يتخذ موقفاً من قضية ما، حين تأتي الالوف لتعبر عن ولائها للمرجعية والاسلام، لا تحترمون شعباً ولا ديناً ولا قيماً، بل تلجأون الى القوة لتكمموا الافواه وتصادروا الحريات وتسحقوا كرامة الشعب. اين الحرية التي تدعونها؟ وظل السيد الشهيد يصرخ في وجه الظالم وكانت مفاجئة عظيمة اذهلته وجعلته يلوذ بالصمت ولم يردّ ولو بحرف واحد.

ثم قال له السيد الصدر: هيا لنذهب الى حيث تريد.

خرج السيد الصدر وكانت قوات الامن اكثر من مائتي شخص وكلهم مدججون بالسلاح والذخائر. فوقفت اخته الشهيدة تصيح في وجوههم وتسخر منهم وتقول: علام هذه الحشود؟ انكم تخافون منه. لماذا تأتون والناس نيام؟»[128].

حين بلغ الناس خبر اعتقال السيد الصدر، تجمعوا في صحن الامام علي (ع) بعد اعداد الترتيبات اللازمة لها. وانطلقت من هناك الساعة العاشرة صباحاً. كما انطلقت تظاهرات اخرى في بعض المدن العراقية وقد جوبهت جميعها باطلاق الرصاص على المتظاهرين مما ادى الى مقتل وجرح اعداد غفيرة منهم، اضافة الى تكثيف عمليات الاعتقال في صفوف الاسلاميين ممن تظاهروا او لم يتظاهروا وشملت الاعتقالات كافة الشبان الذين كانوا يدخلون المساجد لأداء الصلاة[129].

وخشية ان يستفحل امر الانتفاضة الجماهيرية ـ والسلطات بعد لم تستكمل كافة احتياطاتها الامنية او لأن الاشارة لم تأت بالاستمرار في الاجراءات المشددة ـ فقد اطلق سراح السيد الصدر بعد ظهر نفس ذلك اليوم.

بعد ثلاثة ايام من اطلاق سراحه سجّل بصوته على شريط كاسيت اول نداءاته الموجهة للشعب العراقي في 20 رجب 1399 وفيه اشار الى نماذج من قمع النظام ومما ورد فيه:

«الى متى؟ الى متى تستمر فترة الانتقال؟

اذا كانت فترة عشر سنين من الحكم لا تكفي لايجاد الجو المناسب لكي يختار الشعب العراقي طريقه، فأي فترة تنتظرون؟

واذا كانت فترة عشر سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم ايها المسؤولون اقناع الناس بالانتماء ال يحزبكم الا عن طريق الاكراه، فماذا تأملون؟

واذا كانت السلطة تريد ان تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجتنب اجهزتها القمعية اسبوعاً واحداً فقط ولتسمح للناس بأن يعبّروا خلال اسبوع عما يريدون»[130].

ومنذ هذا التاريخ فرضت الاقامة الجبرية على السيد الصدر في منزله بمن فيه من زوجة وأطفال وشقيقة، حيث استمر ثمانية اشهر كان البيت والزقاق محاصراً بقوات الأمن ولم يسمح الا لشخص واحد كان يشتري لهم الطعام من السوق.

«نقلت احدى المؤمنات عن الشهيدة بنت الهدى ـ بعد الافراج المؤقت عنها قبيل استشهادهما ـ انها تقول: ان ما لاقيناه في ايام الحجز من زمرة البعث الكافر لا يعلمه الا الله. ان السيد اوصانا بكتمان ما حدث، وان نشتكي الى الله ممن ظلمنا.

وكانت تقول رضوان الله عليها: كنت اظن في فترة الحجز اننا قد انقطنا عن العالم، وكأأنا وحدنا في مكان مقفر، ولكن حين يصل بوق السيارة الى مسامعي كنت آنس بهذا الصوت لأني اشعر حينها اننا لسنا منعزلين عن الأحياء وان هنالك اناساً مازالوا قريبين منا. وقبل قرأت بيتاً من الشعر معناه ان الشاعر يقول: انه لوحدته يأنس بصوت الذئب[131]، فعجبت وقلت: وأنى للانسان ان يأنس بعواء الذئب؟ وهذا ما حدث لي فعلا. فاني كنت آنس بصوت بوق السيارة لأنه يشعرني بأننا ما زلنا نعيش وسط الناس ولسنا منعزلين عن المجتمع.

وكانت الشهيدة تخرج بعض الاحيان بحجة اخراج النفايات من البيت تنظر الزقاق علّها تجد احداً من الأحبة ماراً، ولكنها دائماً تجد الزقاق خالياً من المارة الا من زمر الجلاوزة المحدقين بالبيت ليل نهار.

كان اطفال الشهيد الصدر يتطلعون صباح كل يوم الى الباب بلهفة على امل وصول احد الاشخاص المكلف بنقل الغذاء الى بيت الامام الصدر خضية عدم وصوله. وكانت نزهة الاطفال الوحيدة هي الصعود الى سطح الدار والنظر الى الفضاء الواسع وخصوصاً في الليالي المقمرة.

اما الامام الصدر رضوان الله عليه فكان يحدث ابناءه حينما يسألونه عن سبب حجزهم فيذكر لهم الاحاديث الطوال عن معاناة رسول الله صلى الله عليه وآله والحصار الذي فرضته قريش عليه وعلى اصحابه في شعب ابي طالب»[132].

رفعت الاقامة الجبرية لمدة اسبوع واحد فقط. وفي 5/4/1980 استدعي الى بغداد مع شقيقته حيث استشهدا تحت التعذيب بحضور صدام نفسه الذي اراد ان يشهد بنفسه وعلى يديه موت قائد الثورة الاسلامية في العراق الرافض لألوهيته وألوهية ميشيل عفلق. وبالتأكيد فانه اراد ان يشهد انهياره او انهيار اخته، ولكن هيهات فقد قاومهم وردّ عليهم ولم يخش شيئاً. وذلك في الثامن او التاسع من شهر نيسان 1980، جرى بعد ذلك تسليم جثتيهما الطاهرتين الى اهلهما وأمروا ان تتم مراسم الدفن بصمت وفي المساء وان لا يقام مجلس فاتحة على روحيهما الطاهرتين.

لقدوفى بوعده يوم قال في ندائه الثاني الموجه للشعب العراقي في 10 شعبان 1399:

«انا اعلن لكم يا ابنائي بأني قد صممت على الشهادة. ولعل هذا آخر ما تسمعونه مني. وان ابواب الجنة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتى يكتب الله لكم النصر. وما ألذّ الشهادة التي قال عنها رسول الله (ص) انها حسنة لا تضر معها سيئة، والشهيد بشهادته يغسل كل ذنوبه مهما بلغت».

ارتفع الى الله في عليين وصوته يدوي (من النداء الثاني):

«الجماهير دائماً هي اقوى من الطغاة مهما تفرعن الطغاة، وقد تصبر ولكنها لا تستسلم. وهكذا فوجىء الطغاة بأن الشعب لا يزال ينبض بالحياة. ولا تزال لديه القدرة على ان يقول كلمته. وهذا هو الذي جعلهم يبادرون الى القيام بهذه الحملات الهائلة على عشرات الآلآف من المؤمنين الشرفاء من ابناء هذا البلد الكريم، حملات السجن والاعتقال والتعذيب والاعدام وفي طليعتهم العلماء المجاهدون الذين يبلغني انهم يستشهدون الواحد بعد الأخر تحت سياط التعذيب.

واني في الوقت الذي ادرك فيه عمق هذه المحنة التي تمر بك يا شعبي، يا شعب آبائي واجدادي، اؤمن بأن استشهاد هؤلاء العلماء واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين وابنائك الغيارى تحت سياط العفالقة، لن يزيدك الا صموداً وتصميماً على المضي في هذا الطريق حتى الشهادة او النصر».

ثم وصيته الاخيرة (نفس النداء):

«فعلى كل مسلم في العراق، وعلى كل عراقي في خارج العراق ان يعمل ما بوسعه ـ ولو كلّفه ذلك حياته ـ من اجل ادانة هذا الجهاز والنظام، لازالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب وتحريره م العصابة اللاانسانية وتوفير حكم صالح فذّ شريف يقوم على اساس الاسلام».

وقبل هذا التاريخ، قبل عشرة اشهر من استشهاده كان قد تحدث في اخر محاضرة له في حياته اي في 5 رجب 1399 عن نهايته المشرّفة وهو ينعى نفسه:

«فليكن همّنا ان نعمل للآخرة، ان نعيش في قلوبنا حب الله سبحانه وتعالى بدلا من حب الدنيا، لأنه لا دنيا معتداً بها عندنا.

الائمة عليهم السلام علّمونا بأن تذكر الموت دائماً يكون من العلاجات المفيدة لحب الدنيا. ان يتذكر الانسان الموت. كل واحد منا يعتقد بأن «كل من عليها فان». لكن القضية دائماً وابداً لا يجسّدها بالنسبة الى نفسه. من العلاجات المفيدة ان يجسدها بالنسبة الى نفسه. دائماً يتصور بأنه يمكن ان يموت بين لخظة واخرى. كل واحد منا يوجد لديه اصدقاء ماتوا، اخوان انتقلوا من هذه الدار الى دار اخرى.

ابي لم يعش في الحياة اكثر مما عشت حتى الآن. انا الآن استوفيت هذا العمر. من المعقول جداً ان اموت في السن الذي مات فيه اخي[133]. كل واحد منا لابد وان يكون له قدوة من هذا القبيل، لابد وان احباباً له قد رحلو. اعزة قد انتقلوا. لم يبق من طموحاتهم شيء، لمى بق من آمالهم شيء. ان كانوا قد عملوا للآخرة فقد رحلوا الى مليك مقتدر، الى مقعد صدق عند مليك مقتدر. واذا كانوا قد عملوا للدنيا فقد انتهى كل شيء بالنسبة اليهم.

هذه عبر. هذه العبر التي علمنا الائمة عليهم السلام ان نستحضرها دائماً، تكسر فينا شره الحياة.

ما هي هذه الحياة؟ لعلها ايام فقط. لعلها اشهر فقط. لعلها سنوات. لماذا نعمل دائماً ونحرص دائماً على اساس انها حياة طويلة؟ لعلنا لا ندافع الا عن عشرة ايام، الا عن شهر، الا عن شهرين. لا ندري عن ماذا ندافع. لا ندري اننا نحتمل هذا القدر من الخطايا، هذا القدر من الآثام، هذا القدر من التقصير امام الله سبحانه وتعالى وأمام ديننا. نتحمله في سبيل الدفاع عن ماذا؟ عن عشرة ايام؟ عن شهر؟ عن اشهر؟ هذه بضاعة رخيصة نسأل الله سبحانه وتعالى ان يطهر قلوبنا وينقي ارواحنا، ويجعل الله اكثر همنا، ويملأها حباً له، وخشية منه، وتصديقاً به، وعملا بكتابه»[134].

لقد تم اعدام السيد الصدر في شهر نيسان، الشهر الذي شهد في السابع منه مولد حزب البعث العربي الاشتراكي، وفي نفس اليوم الذي ولد فيه هذا الحزب. واختيار اليوم الذي قتل فيه قد تم بدقة، حيث سجل هذا الحزب اعظم انتصار له في تاريخه منسجماً مع الهدف الذي انشأ من اجله هذا الحزب ونعني به سيادة الهيمنة الصليبية الغربية في العالم الالامي، يوم قتل اعظم مفكر اسلامي في القرن العشرين، وواحد ممن اندكّ في العمل من اجل تحرير الانسان في كل مكان من قيود العبودية والاستعمار سواء كان للشرق ام الغرب، وعالم فذّ وعبقري ليس في عمله الذي تشهد له مؤلفاته الحافلة بالابداع التي سمحت بها ظروفه على كثرة مشاغله في التدريس وفي قيادة التيار الاسلامي في العراق فحسب، بل وفي اخلاقه حيث عرف بتواضع جمّ قل ان نجد له مثيلا لدى امثاله وزهد في الدنيا قد لا نجد له نظيراً لدى امثاله ايضاً. زهد في مأكله وفي ملبسه البسيطين، وزهد في مسكنه المتواضع جداً الذي كان يعجب له زواره الذين يأتون من شتى بقاع العالم. ونكرات للذات، حتى انه لم يشأ ان يضع اسمه على كتابه6 «فلسفتنا» وأراد طبعه باسم (جماعة العلماء) في النجف الاشرف التي كان واحداً من ابرز اعضائها رضوان الله عليه، رغم جهده الهائل في كتابته. يقول آية الله السيد كاظم الحائري احد تلاميذه المعروفين: «الا ان الذي منعه ان جماعة العلماء ارادت اجراء بعض التعديلات في الكتاب، وكانت تلك التعديلات غير صحيحة في رأي استاذنا الشهيد ولم يكن يقبل باجرائها فيه فاضطر الى ان يطبعه باسمه»[135].

ينقل خادمه عن ملبسه ومأكله فيول: «دخلت عليه صباح احد الايام لآتيه بفطوره فرأيته يأكل صمونة يابسة كنت قد جلبتها منذ اسبوع، فلما رآني استحي وأراد وجهه الشريف. واما اثاث البيت وفراشه فلا يوجد شيء جديد الا ما كان موجوداً في ايام زواجه رضي الله عنه. وتلاحظ عباءته فهي الاخرى قديمة مضت عليها السنون»[136].

كما ينقل خادمه ايضاً: «انه حضر في يوم زفافه ومعه تلاميذه فتكلم الامام بالمدعوين قائلا: انني مبتهج بهذا الزواج وكأنه زواج ابني»[137].

وحدث ان رحل هذا الخادم الذي كان يشرف على غرفة البرّاني ـ وهي الغرفة التي يستقبل فيها الضيوف وزوار البيت في العراق ـ بحجة انه لا يحمل الجنسية العراقية. وقد كتب الى السيد الصدر رسالة مليئة بالشوق اليه فأجابه السيد الشهيد برسالة تطفح حباً وحناناً وتكريماً واحتراماً وشوقاً وثناءاً مما يجعل الاعين تفيض بالدموع عند قراءتها لما حوت من نبل وودّ طاهرين[138].

كما روى احد المقربين منه انه جاءه وأخبره ان في المدرسة الشبرية ـ من مدارس العلوم الدينية في النجف الاشرف ـ طالباً لم يذق طعاماً منذ يومين. فعلت وجه السيد الصدر كآبة وارتعدت فرائصه وتساءل: أصحيح انه يوجد هنا في النجف من الطلبة من هو جائع لم يذق طعاماً منذ يومين وأنا شبعان؟ ماذا اقول للامام الحجة؟ بماذا اجيب ربي يوم القيامة؟[139]

الوثيقة الفريدة

نظراً للصمت المطبق الذي احاط به صدام وعفلق وحزبهما، الجريمة المروعة بقتل السيد الصدر والذي استمر حتى يومنا هذا، فقد ظلت كل المعلومات المتعلقة باستشهاده محاطة بالكتمان الا ما ندر منها. والسبب الرئيس في عدم الحديث عنها، هو الخوف من الثالوث الحاكم: صدام وعفلق وحزب البعث حيث حرّم اي ذكر للسيد الصدر كما طوردت مؤلفاته وصودرت، انظر الوثيقة المرفقة بهذا البحث وتعومل معها بوصفها اداة جرمية تجلب الويل والدمار على كل من توجد لديه. نظراً لكل ذلك فان الوثيقة التي نعرضها هنا تلقي شيواً من الضوء على التهم الموجهة لهذا العملاق وهي جميعها ليست تهماً بل هي اوسمة شرف يعتز بها ليس الشهيد الصدر وحده بل كل الذين وقفوا بوجه الفاشية العفلقية. الوثيقة عبارة عن محاضرة القاها فاضل برّاك مدير الامن العام السابق على مجموعة من الكادر العسكري البعثي بعنوان 0تهديدات الامن الداخلي ومستلزمات استتابه» نشرت في مجلة «الامن والجماهير» وهي مجلة محدودة التداول خاصة بأفراد چهاز مديرية الامن العامة وفروعها في المحافظات[140]. وبعد ان يردد نفس الجمل والعبارات التي دأبت صحيفة الحزب الناطقة باسمه «الثورة» ونشرات الحزب على تكراره بشكل يثير الغثيان عن وجود مخططات امبريالية صهيونية تستهدف حزب الجماهير الكادحة حزب البعث!! ورئيسه صدام القائد الفذ!! وبعد ان هاجم سوريا، انتقل للهجوم على حزب الدعوة الاسلامية حيث خصص له مساحة واسعة، حيث ربطه بنظام الشاه والامبريالية واخيراً بالثورة الاسلامية!! وادعى ان المنتمين اليه في الاوساط الدينية هم من التبعيات الفارسية والعناصر غير العربية بشكل خاص. وهو كلام يقصد به التشويش خاصة بعد قوله ان الحزب قد ضم في صفوفه طلاباً ومثقفين وكسبة ورجال دين وطلبة علوم دينية واصبحت له قواعد في معظم محافظات القطر.

ثم يركز على وجود دعم بالمال والسلاح مقدم من حكومة الثورة الاسلامية في ايران لحزب الدعوة. وهو امر يهدف من ورائه الى ربط الحزب بما وراء الحدود اي بالاجنبي لكي يمكن تطبيق عقوبة الاعدام بحق من يتهمون بالانتماء اليه، اذ ان القرار (461) الذي نقلناه آنفاً قد قال بوجود ادلة قاطعة!! بين حزب الدعوة وبين الاجنبي. ولما ربط القرار 461) بين حزب الدعوة ومعاداة اهداف ومصالح الامة العربية، فلابد من اتهام بعض عناصره بانهم غير عرب.

اما عن الاوامر الصادرة للحزب من وراء الحدود فالقصد منها التضليل. ويتهافت كذلك موضوع الاسلحة والاموال التي قيل ان ايران كانت ترسلها، اذ ان فاضل البراك قد اعترف بوجود منتمين لحزب الدعوة في كافة قطاعات الشعب العراقي ومنها القطاع العسكري، وان حزباً له كل هذا الامتداد في صفوف الجماهير غير عاجز عن توفير المال والسلاح من داخل الوطن، ولا داعي بأن يخاطر بعناصره لطلب العون من وراء الحدود. اضافة الى قدرته على اتخاذ قرار خاص به من داخل الحدود، خلافاً لما يقوله مدير الامن العام السابق من ان اوامر قد صدرت للحزب من ايران ببدء الجهاد والقيام بعمليات عسكرية. ژ

فلننقل الآن نص حديث مدير الامن العام السابق، خاصة فيما يلقي الضوء على عملية اعتقال واستشهاد السيد الصدر، حيث يقول فاضل براك:

«وفي مثل هذه الاجواء الملائمة لحزب الدعوة، استطاع ان يضم في صفوفه عدداً من الطلاب والمثقفين والكسبة ورجال الدين وطلبة العلوم الدينية، وأصبحت له قواعد في معظم محافظات القطر ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وفي الجامعات والمعاهد والمدارس وفي الاوساط الدينية كذلك وبشكل خاص التبعيات الفارسية والعناصر غير العربية.

واذا لم يظهر حزب الدعوة قبل مجيء خميني الى السلطة في ايران كقوة صدامية، لأن قيادته لم تتلقّ آنذاك اشعاراً بالعمل على الاستيلاء على السلطة واقامة حكم تابع لايران. ولكن حينما جاءت الإمام الخميني الى الحكم ورفعت شعارها العنصري التوسعي (تصدير الثورة) الى العراق اولا ثم الى اقطار الخليج العربي والى الاقطار العربية والاسلامية المجاورة بعد ذاك[141]، كان لابد ان تحتضن حزب الدعوة بكامل تنظيمه السري، وان تعتمد عليه ـ كقوة فاعلة ـ في اسناد تحركها العسكري المرتقب على القطر لاحضاعه اليها وضم العراق الى ايران كبلد تابع.

وهكذا بدأت الاموال والاسلحة تتدفق على حزب الدعوة من الإمام الخميني عن طريق السفارة الايرانية في بغداد وعن طريق المدارس الايرانية في بغداد وكربلاء والبصرة[142]. لقد اغلقت السفارة وهذه المادرس منذ عام 1980 بأمر من الحكومة العراقية مومع ذلك ظل النظام ببغداد يتحدث عن عمليات عسكرية لحزب الدعوة وغيره من الاحزاب والحركات الاسلامية والوطنية.

كما اصبحت قيادة حزب الدعوة بشخص مسؤولها الاول (محمد باقر الصدر) مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحكام ايران الجدد، يتلقى منهم التعليمات وأساليب العمل وينسق معهم الفعاليات التخريبية التآمرية ضد الحزب والثورة.

جاءت الاشارة الاولى الى حزب الدعوة بالتحرك حينما طلب خميني من (محمد باقر الصدر) ان يتوجه الى ايران، ثم اعقبها ببرقية اخرى يطلب فيها من (الصدر) البقاء في العراق.

بدأت فعاليات حزب الدعوة التخريبية بمظاهرات واعتصامات واغتيالات وصدامات مسلحة وتفجيرات في الجامعات والمدارس.. الخ. ولم ينف (محمد باقر الصدر) في التحقيق معه هذه الفعاليات باعتبارها من «مهمات المؤمنين المجاهدين» وأكد ان برقية خميني كانت ايذاناً ببدء (الجهاد) و(النضال) في وقت اعتبر الفرصة[143] لتسلم السلطة بعد طول انتظار منذ عام 1958. وأضاف (محمد باقر الصدر) قوله: «اذا لم نستخدم قوانا اليوم فمتى نستخدمها بعد ان تم تعبئتها تنظيماً ودعائياً وتدريباً عسكرياً؟

ان واحداً من التهم اعلاه كافية لتكون جريمة يعاقب عليها بالموت في عرف مشرّعي البعث: صدام وعفلق. سواء أكانت كون السيد الصدر المسؤول الاول لحزب الدعوة، او في عدم نفيه لعمليات الكفاح المسلح ضد النظام، او في تفكير حزب الدعوة بانتزاع السلطة من صدام. وهي جرائم لا تغتفر وردت في نص القرار (461) الصادر عن صدام نفسه. وبالتأكيد عن ميشيل عفلق ايضاً الذي عشق البقاء في بغداد ليشهد لسنين طويلة عمليات قتل وتمطيق أوصال العراقييين الذين رفضوا ألوهيته. وقد قلنا ان اختيار نيسان موعداً لقتل السيد الصدر انما هو لتكتمل الفرحة بذكرى ميلاد حزب البعث (7 نيسان) وقتل اعظم مفكري الاسلام في القرن العشرين، في نفس المناسبة، حيث سارت الامور على الوتيرة التالية:

31/3/1980 أصدر صدام وعفلق القرار (461)

5/4/1980 أخذ السيد الصدر واخته بنت الهدى معتقلين الى بغداد.

8 أو 9/4/1980 أعدم السيد الصدر واخته تحت التعذيب.

ان من يعرف صداماً وعفلق وظمأهما الذي لا ينطفيء للانتقام سيتساءل: كم شربا ليلتها من كؤوس الخمر نخب ذلك الانتصار الذي لم يحققاه لنفسيهما فحسب بل لمن بأيديهم قرار المجيء بحزب البعث الى السلطة على مر السنين؟

* مقدمة

* صدام: انسان الماضي والتطلعات

* تحلي الحالة

* محمد باقر الصدر: الآمال الكبيرة

* عفلق، صدام، الصدر، وتجربة واحدة

* التجربة الثانية

* نص التقرير

* ثالثاً: محمد باقر الصدر

* 1979 عام التحدي والمواجهة

* تصعيد المجابهة

* الوثيقة الفريدة

نبيل عبد الهادي

* من مواليد الديوانية ـ العراق 1948.

* باحث اسلامي وأديب عراقي يعيش في المهجر.

* متخصص في المجال التاريخي والدراسات الوثائقية.

* حقق عدة كتب ودراسات في التراث الاسلامي منها:

– الرحلة المدرسية بحوث في التوراة والانجيل.

* نشرت له عدة دراسات في المجلات العربية والاسلامية.

* ترجم الى العربية مجموعة من الكتب والدراسات التأريخية.

* اشرف على اعداد اعمال مسرحية وبرامج اذاعية وتلفزيونية حول الوضع السياسي في العراق.

* كتب عدة مقالات حول سيكولوجية رأس النظام العراقي صدام.

نبيل عبد الهادي

[1] منذ انقلاب 17 تموز 1968 اخذت السلطات تتركز بيد صدام بصورة تدريجية الى ان تسلمها رسمياً بعد ازاحة البكر في 17 تموز 1979. وكان سبب التأخر في تسلم السلطات هو انتظاره الى ان استكمل تشكيل جهاز امنه الخاص الذي سيعتمد عليه في ازاحة كل من يظن فيه المعارضة او عدم الاخلاص له. قال عزة الدوري في حفل ما سمي بتقليد وسام الشعب لصدام في 28/4/1988 مخاطباً صدام: «وعندما تسلمت في 17 تموز 1979 مقاليد المسؤولية في الموقع الاول من الحزب والدولة، لم يكن ذلك الحدث مفاجأة للعراقيين الذين اعتبروا الامر قد وضع في نصابه شكلا بعد ان كان مضموناً». تلفزيون بغداد في نفس الليلة.

[2] كتاب المحنة ص 74. محاضرة مسجلة على شريط كاسيت القاها السيد الصدر في 26 صفر 1389 هـ. طبعت مع محاضرة اخرى بمدينة قم الايرانية من قبل «مؤسسة الرسالة الاسلامية» بدون تاريخ.

[3] الشهيد الصدر: الاسلام يقود الحياة، ص 180، طهران 1403.

[4] الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث: بيير داكو، ترجمة وجيه أسعد، بيروت، مؤسسة الرسالة، من غير تاريخ، ص 197.

[5] كلمة في المجلس الوطني العراقي بتاريخ 5/1/1982. والكلام اعلاه في الاصل باللغة العامية العراقية.

[6] اذيع الخطاب من تلفزيون بغداد في 21/4/1987.

[7] نص القرار منشور مع القرار (226) الذي يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات او بالحبس والغرامة من أهان باحدى طرق العلانية، المحاكم او القوات المسلحة او غير ذلك من السلطات العامة او الدوائر او المؤسسات الحكومية. في جريدة الوقائع العراقية العدد 3124 في 17/11/1986.

انظر تفصيلات اخرى في مقال «العنف اللامضاد» في مجلة الفكر الجديد (لندن) العدد السابع، السنة الثانية (ص 133 ـ 164).

[8] انصات: راديو بغداد: كلمة الى وزير العدل بمناسبة ادائه اليمين الدستورية اذيعت في 19/1/1982.

[9] انصات: راديو بغداد: كلمة امام اعضاء المجلس الوطني العراقي بتاريخ 5/1/1982.

[10] نفس المصدر.

[11] انصات: كلمة مذاعة من راديو بغداد في 30/1/1988.

وفي كلمة لعزة الدوري بحضور صدام الذي منحه ومجموعة من رفاقه البعثيين اوسمة وسيوفاً وأنواط شجاعة لدورهم فيما سمي بام المعارك، قال: «اننا نقول لكل اعداء صدام حسين عرباً وأعاجم، صهيونيين واستعماريين وامبرياليين، ان صدام حسين هو البعث، وصدام حسين هو العراق، وصدام حسين هو اصل العرب وأصل العراق وأصل البعث. وسيجدون هذه الحقيقة ناصعة امامهم بعد اليوم». انظر صحيفتي القادسية الحكومية الصادرة ببغداد في 22/10/1991 وصحيفة الثورة الناطقة بلسان حزب البعث في العراق بنفس التاريخ.

[12] انصات: راديو بغداد في 18/1/1988 حيث قال الراديو انه ينقل مقتطفات نشرتها صحيفة الثورة (لسان حال حزب البعث في العراق) من مقابلة صحفية اجراها رئيسا تحرير صحيفتي اليوم والمدينة، ونائب رئيس تحرير صحيفة الجزيرة بتاريخ 10/1/1988 مع صدام.

[13] انصات: راديو بغداد: كلمة لصدام في اعضاء المجلس الوطني العراقي في 5/12/1982 لمناسبة تقديمهم له عريضة موقعة بالدم.

[14] انصات: راديو بغداد: كلمة في لقاء مع وفد نسوي في تشرين الثاني 1981.

[15] انصات: راديو وتلفزيون بغداد: كلمة في حفل توزيع اوسمة وأنواط على مجموعة عسكريين في 10/6/1987. وكلمة (يشتلغ) تعني الاحتيال والعيش عن طريق ابتزاز الآخرين.

[16] صدام: حديث مع منتسبي وزارة الشباب في 31/1/1979 نشر ضمن كراس: الشباب الصحيح طريق الثورة الصحيحة، عن دار الحرية ببغداد 1980، الصفحة 3.

[17] صدام، حديث في وزارة الشباب. ص 12 ـ 13، 17 ـ 18. نشرت ضمن كراس: الديمقراطية مصدر قوة للفرد والمجتمع، طباعة دار الحرية ببغداد 1980.

[18] صدام: ص 8 من محاضرة بعنوان «الموازنة بين الحقوق والواجبات: حديث في لجان دراسة شؤون التعليم لتعديل المناهج، بتاريخ 13/11/1973. نشرت ضمن كراس: الثورة والتربية الوطنية. دار الحرية ببغداد، الطبعة الثانية 1980.

[19] نفس المصدر، ص 20.

[20] صدام: كيف يكتب التاريخ؟ حديث في مناقشة تقرير لجنة التاريخ لاصلاح المناهج بتاريخ 19/2/1975 منشور في كراس: الثورة والتربية الوطنية، ص 31.

[21] صدام: حديث الموازنة بين الحقوق والواجبات: مصدر سابق، ص 21، 24.

[22] الشهيد الصدر: الاسلام يقود الحياة، ص 200.

[23] صدام: حديث في الاجتماع الموسع لمكتب الاعلام بتاريخ 1/12/1977 منشور ضمن كراس التراث العربي والمعاصرة الصادر عن دار الحرية ببغداد عام 1980، ص 28.

[24] صدام: حديث في الندوة الموسعة لرجال القضاء بتاريخ 11/8/1979 منشور ضمن كراس «المفهوم البعثي للقانون والعدالة» الصادر عن دار الحرية ببغداد عام 1979، ص 24.

[25] صدام: نظرة في الدين والتراث. حديث في اجتماع مكتب الاعلام بتاريخ 11/7/1977 منشور ضمن كراس التراث العربي والمعاصرة الصادر عن دار الحرية ببغداد عام 1980، ص 14 – 15.

[26] نفس المصدر، ص 9.

[27] نفس المصدر، ص 10 ـ 11.

[28] صدام: حديث في الاجتماع الموسع لمكتب الاعلام: مصدر سابق، ص 25

[29] صدام: حديث في اجتماع اللجنة العليا للجبهة الوطنية لجميع لجان الجبهات في المحافظات بتاريخ 25/4/1974 منشور ضمن كتاب: احاديث في القضايا الراهنة، مطابع دار الثورة ببغداد عام 1974، ص 110.

[30] صدام: حديث بعنوان: يجب ان لا نتحدث عن التاريخ بصورة معزولة عن الزمن وتفاعلات الاحداث. في مناقشة تقرير لجنة التربية الوطنية والقومية لاصلاح المناهج الدراسية بتاريخ 3/6/1975 منشور ضمن كتيب: الثورة والتربية الوطنية الصادر عن دار الحرية ببغداد عام 1980، ص 52 ـ 53.

[31] بيير داكو: الانتصارات المذهلة  لعلم النفس الحديث، ص 305.

[32] انصات: صدام: كلمة خلال اداء محافظي بغداد وأربيل اليمين الدستورية بتاريخ 4/6/1985. وأذيعت من راديو وتلفزيون بغداد مساء 25/11/1985.

[33] نفس المصدر.

[34] انصات: مقابلة مع صدام لمجموعة صحفيين كويتيين اذيعت من راديو بغداد مساء 10/9/1982.

[35] شريط فيديو كاسيت مسجل في قاعة الخلد ببغداد يوم 22/7/1979 ضم اعترافات سكرتير الرئيس المنحّى احمد حسن البكر، وهو محي عبد الحسين الذي كان يبدو مرتجفاً يسيطر عليه الهلع لمعرفته بأنه سيموت بعد الخروج من القاعة، اضافة الى ما لقيه من تعذيب.

[36] كان هذا الحديث قبل خمسة اشهر من اكتشاف المؤامرة المزعومة. فكيف يا ترى شرح صدام لعزة الدوري خطة التآمر؟ ألا يعني ذلك ان صداماً كانت لديه تصورات وشكوك مسبقة حاول ان يجرّ اليها ويفسر بموجبها تحركات المجموعة التي قال انها تآمرت ضده؟ كان هذا الحديث قبل خمسة اشهر من اكتشاف المؤامرة المزعومة. فكيف يا ترى شرح صدام لعزة الدوري خطة التآمر؟ ألا يعني ذلك ان صداماً كانت لديه تصورات وشكوك مسبقة حاول ان يجرّ اليها ويفسر بموجبها تحركات المجموعة التي قال انها تآمرت ضده؟

[37] يبدو ان صداماً قد اقنع مجموعة داخل القيادة ـ ومنهم عزة الدوري ـ بما اقنع به نفسه من ان المجموعة المذكورة متآمرة.

[38] اي انه طلب اليهم من طرف خفي ان لا يتحدثوا عن شؤون القيادة ومن يصلح لها في اجتماعاتهم الخاصة التي تتم خارج الاجتماعات الرسمية. وبذلك منعهم من التحدث نهائياً بهذا الموضوع، اذ انهم لا يجرؤون حتماً على مناقشة موضوع القيادة ومن يصلح لها في الاجتماعات الرسمية التي يحضرها صدام عادة.

[39] هو شقيق صدام لأمه وقد عيّنه بمنصب مدير المخابرات العام.

[40] من وجهة نظر صدام، فالحديث عن القيادة وما يتصل بها ومن يصلح لها، هو المحرّم (التابو) الذي ينبغي تجنبه بحزم، وحتى الاستماع اليه محرّم. لذا قدّم نصيحته الذهبية للحاضرين عبر قوله لنوري الحديثي: اذا تكلم اثنان عن شؤون القيادة فاحمل كرسيك واجلس بعيداً.

[41] يقصد المحيطين بالمتآمرين الذين اعتقلوا معهم فيما بعد وأعدموا او سجنوا.

[42] نصيحة ثمينة اخرى يقدمها للحاضرين في ان عليهم من الآن فصاعداً ان يقدموا تقارير الى القائد (صدام) فور سماعهم اثنين او اكثر يتحدثون في شؤون الحزب الداخلية، ويقصد القيادة. وقد قال ذلك صراحة في نهاية الجلسة ايضاً حيث طلب ان تكتب تلك الامور في مظروف ملصق ثم يكتب عليه اسمه ويبعث اليه بصورة مباشرة او غير مباشرة.

[43] من النماذج البسيطة للاسقاط، ان يسقط الطالب الفاشل في دراسته، كراهيته على المعلم، ويدعي: ان المعلم هو الذي يكرهني. وفي الحالة اعلاه فان صداماً قد أسقط (او حوّل) النقطة السودائ التي في لاشعوره تجاه محمد عايش، اسقطها عليه وقال انه هو الذي يحمل نقطة سوداء في عقله وقلبه.

[44] تعليق الدكتور سامي محمود على الترجمة العربية لكتاب «موجز في التحليل النفسي» لسيغموند فرويد، ص 79، ط دار المعارف بالقاهرة 1970.

[45] ما بين قوسين هو المقدمة التي قدمت بها مجلة اليوم السابع (عدد يوم 22 كانون الثاني 1990)، ذلك الكتاب وقالت انها نقلت اهم ما فيه.

[46] مجلة اليوم السابع عدد 12 شباط 1990.

[47] انصات: حديث في شعبة المأمون لحزب البعث العربي الاشتراكي بث من تلفزيون بغداد مساء 20/10/1986. وما بين قوسين كبيرين هكذا اضافة من كاتب هذه السطور لربط الجملة.

[48] انصات: راديو بغداد: حديث في حفل توزيع انواع شجاعة مذاع في 19/6/1984.

[49] انصات: حديث في شعبة المأمون لحزب البعث العربي الاشتراكي بث من تلفزيون بغداد مساء 20/10/1986. وما بين قوسين كبيرين هكذا اضافة لربط الجمل، اذ ان اغلب المتحدثين كانوا يتكلمون بنبرات خائفة، مرتجفة وجمل يضيع الربط بينها احياناً. اما بقية المتحدثين فهم عبد الحسين راهي الفرعون ـ عضو القيادة القطرية للحزب. وآخر دعاه صدام بالرفيق فاضل، وآخر باسم الرفيق عبد المجيد.

[50] كلمة في حفل تقليد اوسمة لمجموعة من ضباط وأفراد القوة الجوية، بثت من تلفزيون بغداد مساء 22/4/1987.

[51] سنعود لحديثه هذا فيما بعد.

[52] المدرسة القرآنية: محاضرات سماحة الامام محمد باقر الصدر، محاضرة بتاريخ 5 رجب 1399، ص 244 ـ 247. الكتاب مطبوع ببيروت عام 1400 هـ  (1980م).

[53] الانتصارات المذهلة. مصدر سابق، ص 305.

[54] صدام: حديث في وزارة الشباب. مصدر سابق، ص 17 ـ 18.

[55] الشهيد الصدر: الاسلام يقود الحياة، مصدر سابق، ص 26 ـ 27.

[56] كنا قد نقلنا المقاطع الموضوعة بين اقواس من نصوص اثبتناها في هذه الدراسة قبل قليل، فلتراجع.

[57] حزب البعث العربي الاشتراكي لجلال السيد، ص 60.

[58] نفس المصدر، ص 61.

[59] نفس المصدر، ص 62 ـ 63.

[60] في مقابلة بين محمد حسنين هيكل والملك حسين نشرتها صحيفة الاهرام في 27 ايلول 1963 اي في الفترة التي كان فيها حزب البعث يحكم في العراق، قال الملك حسين: «ان ما جرى في العراق في 8 شباط 1963 قد حظي بدعم الاستخبارات الاميركية. ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الامر. ولكني اعرف الحقيقة. لقد عقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والمخابرات الاميركية، وعقد اهمها في الكويت. اتعرف ان محطة اذاعة سرية تبث الى العراق كانت تزود يوم 8 شباط رجال الانقلاب بأسماء وعناوين الشيوعيين هناك للتمكن من اعتقالهم واعدامهم». انظر:  The Old Social Classes and theRevolution

Movements of Iraq. Hanna Batatu/ New Jersey 1978. P985- 9867.

وانظر ايضاً ما نشره الباحث البريطاني المعروف فرد هوليداي بمجلة نيو ستيتمنت في عدد الاول من حزيران 184 وقال فيه: «ان وكالة المخابرات المركزية الاميركية السي. آي. أي، هي التي ساعدت حزب البعث في انقلاب عام 1963 الذي قتل فيه مئات الشيوعيين». (نقلت التصريح صحيفة التيار الجديد/ لندن العدد الاول في 27 حزيران 1984).

وتصريحات فؤاد الركابي امين السر العام لحزب البعث في العراق المنشورة في صحيفة صوت العروبة (لبنان) في 25 حزيران 1961، التي قال فيها «القيادة القومية لحزب البعث منحرفة خائنة. وفي القيادة القومية عملاء للجاسوسية البريطانية. وان عفلق يتعاون مع الاستعمار».

وتصريح وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس الذي بثه راديو لندن بالعربية يوم 6/3/1988 الذي قال فيه ان الرئيس جمال عبد الناصر كان قد اخبره عن ارتباط صدام بالمخابرات الاميركية منذ ايام دراسته في القاهرة.

[61] اصدرت الحكومة العراقية بعد الاطاحة بالحكم البعثي كتاباً بعنوان «المنحرفون من الحرس القومي في المد الشعوبي تحت اشعة 18 تشرين الثاني 1963» وذلك في العام 1964. يقع في 229 صفحة فيه نزر يسير من جرائم الرشوة والاغتصاب والقتل ومصادرة الاموال والاعتداء على حريات المواطنين وعمليات تعذيب المعتقلين السياسيين وغير السياسيين.

[62] حزب البعث: مأساة المولد، مأساة النهاية: مطاع صفدي. بيروت، اكتوبر 1964، ص 5.

[63] حزب البعث، ص64.

[64] نفس المصدر، ص 65 ـ 66.

[65] نفس المصدر، ص 66.

[66] The Old Social Classes..P727

[67] عن هذه الدولة واجهزتها القمعية انظر كتاب الصحفي العراقي حسن العلوي: العراق دولة المنظمة السرية لمعرفة شيء عن اجهزتها المخابراتية وأساليبها في التعامل مع المنتمين لحزب البعث او مع المعارضين والمواطنين العاديين.

[68] طبعت هذه الرواية ببيروت ثم بعد سنوات ببغداد عام 1990 بترجمة احمد عجيل.

[69] ص269و289 من رواية 1984 (طبعة بغداد 1990). وللمقارنة بين نظام دولة اوقيانيا اللت تصورها اورويل وبين دولة ميشيل عفلق في العراق على عهد صدام، انظر مقال عماد عباس: جورج اورويل، أربعون عاماً منذ النبوءة، المنشور في مجلة الفكر الجديد (لندن) العدد؟؟؟ في ؟؟؟

[70] النداء الثاني المؤرخ في 10 شعبان 1399 من النداءات الثلاثة الموجهة الى الشعب العراقي، مسجل على شريط كاسيت.

[71] انظر صحيفة النهار (لبنان) 27/5/1969 مقال: «عفلق يعطي البعث العراقي درع التثبيت». وصحيفة الحياة (لبنان) 29/2/1969 مقال: «هكذا اقتنع عفلق بالعودة الى بغداد». النصوص منقولة عن ص 193 من سجل العالم العربي الصادر عن دار الابحاث والنشر ببيروت.

يقول الدكتور مجيد خدوري رئيس معهد دراسات الشرق الاوسط في جامعة جونز هوبكنز بواشنطن (عرب معاصرون، ص 390) الصادر ببيروت عام 1973، «في شهر حزيران (يونيو) سنة 1968 وخلال زيارتي للعراق اسعدني الاجتماع الى بعض الزعماء البعثيين بمن فيهم احمد حسن البكر الذي كانوا حينذاك منهمكين في الاعداد لانقلاب عسكري اوصلهم الى الحكم في الشهر التالي. وقد ذكرت اسم عفلق خلال حديث لي مع البكر فقال انه يأمل ان يوجه اليه قريبا دعوة لزيارة بغداد».

[72] العراق، دولة المنظمة السرية، ص 68067.

[73] في كتاب «المنحرفون» الذي صدر عقيب ازاحة حزب البعث عن الحكم صور لأماكن تعذيب المعتقلين الذي مارسته مكاتب الحزب التحقيقية، وفيها تظهر بعض قناني السموم وسوائل لحرق الجسم واسلاك كهربائية فيها كلاليب تربط في الاذن والرجلين واليدين وتفتح بها دورة كهربائية لحرق الجسم، اضافة الى خشبة غرزت فيها مسامير يلقى بالمعذّب عليها عارياً لتنغرز المسامير في جسمه، وصورة آلة لقطع اليد او اصابع اليد وجدت آثار الاصابع المقطوعة عليها في مقر التحقيق الخاص، وقضبان من حديد (خوازيق) يجبر المتهم على الجلوس عليها وقد ظهر عليها آثار الدماء وفوقها علقت ملابس نسائية ورجالي ملطخة بالدماء. انظر مثلا الصفحات 30 ـ 32، 39 ـ 41و50 ـ 51.

[74] كان حاكماً عسكرياً عاماً للبعثيين خلال انقلاب 8 شباط 1963 وحين جاء عبد السلام عارف للحكم في انقلاب 18 تشرين الثاني 1963، اصبح الزعيم رشيد مصلح وزيراً للداخلية في حكومته. وعندما جاء حزب البعث مرة اخرى للحكم في 17 تموز 1968 نقذ حكم الاعدام برشيد مصلح بعد ان أعلن انه تمت محاكمته.

[75] العراق دولة المنظمة السرية، ص 29.

[76] صحيفة الثورة البغدادية في 23/6/1992 مقال محمد ياسين المشهداني: سجايا القائد الرمز صدام حسين كما يراها القائد المؤسس. كتب المقال لمناسبة الذكرى الثالثة لوفاة ميشيل عفلق.

[77] نفس المقال.

[78] نفس المقال. اما دوره في قيادة النضال الوطني ضد الدكتاتورية العسكرية في سوريا، فقد رأيناه في رسالة الاستعطاف التي بعثها لحسني الزعيم وما اثارته من احساس بالخزي داخل صفوف المنتمين لحزب البعث. وقد حاولت نشرات الحزب السرية والعلنية فيما بعد التغطية على هذه الواقعة بالادعاء بأن لعفلق دوراً في حرب تحرير فلسطين عام 1948. واما الوحدة العربية فكان اخر ما اجهضه مشروع الوحدة بين العراق وسوريا اواخر السبعينات عند استيلاء صدام على الحكم في تموز 1979.

[79] من الاماكن التي اسقطت عليها قذائف الحلفاء في حرب الخليج ودمرت، مبنى القيادة القومية ببغداد الذي يضم ايضاً قبر ميشيل عفلق. وفي نفس تلك الفترة شنت قوات الحرس الجمهوري هجومها الوحشي على مدينتي النجف وكربلاء لاخماد انتفاضة الشعب العراقي التي اندلعت عقب مغامرة صدام الفاشلة في الكويت والتدمير الذي اصاب البلاد بعد تلك المغامرة، حيث اصابت قذائف الحرس الجمهوري ضريحي الامامين الحسين واخيه العباس في كربلاء وضريح الامام علي في النجف اصابات مباشرة واختلطت دماء وعظام الضحايا الذين لجأوا الى هذين الحرمين. وما زالت آثار التدمير والدمار التي تلطخ الجدران الداخلية للحرمين موجودة حتى الأن. بينما بادرت سلطات حزب البعث اول ما بادرت الى بناء مقر القيادة القومية وقبر ميشيل عفلق. وتفسر صحيفة الثورة الناطقة بلسان حزب البعث في العراق ذلك في تعليق لمناسبة اعمار المقر والقبر بقولها:

«فلا غرابة مطلقاً ان تكون بناية مقر الحزب اي مبنى القيادة القومية للحزب هدفاً لطائرات وقاذفات دول العدوان التي راحت منذ الايام الاولى لهذا العدوان تصب جام غضبها وحقدها الدفين على بناية مقر القيادة وكأنها تريد ان تقول ان هذه البناية وبما تضم من قيم روحية ومعنوية وبما تحوي من معالم في مقدمتها ضريح فقيد الامة الذي يجسد وحدة هذه الامة والحزب، القائد المؤسس ميشيل عفلق هي الرمز الذي يجسد هذه الامة ووحدة نضالها التي تهدد كل مخططات وأهداف اعدائها.. واليوم ها هي سواعد العراقيين الاصلاء تعيد بناء مبنى القيادة القومية للحزب اذ تقوم بهذا العمل الكبير شركة المعتصم للمقاولات احدى تشكيلات وزارة الاسكان والتعمير، فيما انجز تصميم ضريح فقيد الحزب والامة القائد المؤسس ميشيل عفلق) «الثورة 4/2/1992).

[80] من قصيدة بعنوان نقطة البداية منشورة في صحيفة الثورة البغدادية 23/6/1993 لمناسبة الذكرى الثالثة لوفاة عفلق.

[81] نفس المصدر والتاريخ.

[82] نفس المصدر والتاريخ.

[83] نفس المصدر والتاريخ.

[84] العراق دولة المنظمة السرية، ص 14، نقلا عن الثورة البغدادية في 26/6/1989.

[85] يرى الدكتور مجيد خدوري رئيس معهد دراسات الشرق الاوسط في جامعة جونز هوبكنز بواشنطن، في كتابه (عرب معاصرون) المطبوع ببيروت عام 1973 في ص 378 سبباً وجيهاً لايمان عفلق بالعنف ذلك هو فشله في تحقيق اهدافه عن طريق خوضه تجربة الانتخابات البرلمانية لثلاث مرات وفشله فيهن جميعاً رغم انه قد استخدم التزوير اكثر من مرة في تلك الانتخابات. يقول الدكتور خدوري: «وهكذا فان فشله ثلاث مرات في الانتخابات البرلمانية اثبت له عقم الوسائل الديمقراطية بتحقيق اهدافه، مع ان سبب هزيمته في مرة او اثنتين كان تلاعبه بالانتخابات. وبعدها لم يرشح نفسه قط لأي مركز انتخابي، بل راح يحبذ استخدام العنف من اجل تحقيق تغيير اجتماعي وسياسي».

[86] ترجمت التقرير صحيفة الجهاد العراقية المعارضة ونشرته في عددها الصادر في 30 ايلول 1985 مع صورة بالفوتوكوبي للصفحتين الاولى والثانية من الاصل الانكليزي للتقرير.

[87] المعروف ان الامام محمد باقر الصدر واخته العالمة والاديبة والمفكرة بنت الهدى قد استشهدا تحت التعذيب بحضور صدام الذي شارك شخصياً بتعذيبهما في واحدة من شعب مديرية المخابرات العامة ببغداد بتاريخ 8 أو 9 نيسان (ابريل) عام 1980. انظر مثلا: العراق، الواقع وآفاق المستقبل للدكتور وليد الحلي، لندن، تموز 1992، ص 263 حيث يذكر ان صداماً قد اعدم الصدر بيده.

[88] تكشف هذه التفصيلات الدقيقة لما ينبغي للجلاد ان يحدثه في وجوه الضحايا من تشويه، عن تلذذ سادي ينم عن روح انتقامية لدى مشرّع هذه القرارات. وبدورنا ننقل نصوص هذه القرارات ليطلع العالم المتحضر وهو ينطلق من أواخر سنوات القرن العشرين ـ قرن الاقمار الصناعية والكومبيتر ومعادلاتهما الرياضية القائمة على المقاييس الدقيقة بالمليمترات والسنتمترات ـ الى القرن الحادي والعشرين، ليشهد معادلات ومقاييس تتحدث عن تشويه الانسان اكرم ما خلق الله على الارض، باستخدام المقاييس الدقيقة ايضاً!! والقرارات تبدأ بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» مبالغة في الاستهانة بايمان المؤمنين بالرحمة الالهية التي تعبر عنها هذه الآية الكريمة.

[89] الامام الشهيد محمد باقر الصدر، دراسة في سيرته ومنهجه، تأليف محمد الحسيني. بيروت 1410/1989، ص 306.

[90] استحدثت حكومة البعث داخل المستشفيات الكبرى في العاصمة وفي المحافظات سجناً هو عبارة عن ردهة محكمة الاغلاق وبابها عبارة عن قضيان كقضبان السجون ليوضع فيها المرضى الذين يؤتى بهم من المعتقلات ـ في حالة الاشراف على الموت فقط ـ ليسجنوا هناك ولتتم معالجتهم اذا رغبت ادارة السجن والا فالغالب هو ان يترك السجين المعذّب ليموت في احدى الزنزانات.

[91] الامام الشهيد محمد باقر الصدر، مصدر سابق، ص 307 ـ 308.

[92] المقصود بالاعمال العدوانية انتفاض الجماهير الغفيرة التي كانت متوجهة من النجف الى كربلاء لزيارة الامام الحسين (ع) وهتفت بالموت للفاشستيين وأعداء الاسلام. وقد قام النظام على الفور بتطويق مدينتي كربلاء والنجف والطريق الموصل بينهما بعشرات الدبابات اضافة الى تحليق طائرات الهليوكوبتر حيث اعتقل الآلاف من المواطنين وعذبوا عذاباً شديداً اعاد الى الاذهان جرائم آل امية وبني العباس بحق زوار الامام الحسين. وشكلت محكمة صورية كلف بعثيون مدنيون بادارتها. فأصدرت احكام الاعدام بحق ثمانية من المتهمين وحكم بالسجن المؤبد على خمسة آخرين بينما افرج عن الباقي.

[93] الامام الشهيد محمد باقر الصدر، مصدر سابق، ص 309.

[94] نفس المصدر والصفحة.

[95] رسالة على شريط كاسيت موجهة الى احد الطلبة الذي اسماه بـ «السيد أخلاقي» وكناه بـ (أبي احمد).

[96] المحنة: آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سّره). طبع في مدينة قم، دون تاريخ، ص 33 ـ 34.

[97] محمد بن زياد بن عيسى الازدي المعروف بمحمد بن ابي عمير من اصحاب الامامين موسى الكاظم وعلي الرضا (ع). ترجم له النجاشي ص 326 وقال ان الجاحظ كان ينقل عن مؤلفاته وذكره في بعضها ونقل عنه قوله انه كان وجهاً من وجوه الرافضة. وأضاف النجاشي: انه حبس ايام الخليفة هارون الرشيد ليتولى القضاء، وقيل: بل ليدلّ على مواضع الشيعة واصحاب موسى ابن جعفر عليه السلام. وروي انه ضرب اسواطاً بلغت منه فكاد ان يقرّ لعظم الألم، فسمع محمد بن يونس بن عبد الرحمن وهو يقول: اتق الله يا محمد بن ابي عمير! فصبر، ففرّج الله ـ في رواية السيد الصدر اعلاه ان النداء جاء لابن ابي عمير من حمران، والمقصود حمران بن اعين من اصحاب الامام الصادق (ع)، وهي رواية اخرى في الخبر.

وأردف النجاشي: وروي انه حبسه الخليفة المأمون حتى ولاه قضاء بعض البلاد. وقيل ان اخته دفنت كتبه في حال استتاره وكونه في الحبس اربع سنين، فهلكت الكتب. وقيل: بل تركتها في غرفة فسال عليها المطر فهلكت. فحدّث من حفظه ومما كان سلف له في ايدي الناس. فلهذا اصحابنا يسكنون الى مراسيله. صنف محمد بن ابي عمير اربعة وتسعين كتاباً. ثم ذكر بعضها. وقال انه توفي عام 217ه ـ (رجال النجاشي،: لأحمد بن علي النجاشي الاسدي الكوفي. ط قم 1407).

وفي مجتمع الرجال 5: 117 ـ 122 انه وشي به الى السلطان بأنه يعرف اسماء الشيعة في العراق، فأمره السلطان ان يسمّيهم فامتنع، فجرّد من ملابسه وعلّق على آلة العذاب وضرب بالسياط وكان الذي تولى ضربه السندي بن شاهك الجلاد الشهير ايام الرشيد. وقد افرج عنه بعد ان ادى فدية قدرها مائة وواحد وعشرون الف درهم. وكان تاجراً غنياً تزيد ملكيته على 500 الف درهم. وحدث عن نفسه انه لما وصل الضرب الى مائة سوط بلغ منه الالم مبلغه فكاد ان يعترف باسماء من يعرف، فسمع النداء. (مجمع الرجال: عناية الله القهبائي. قم 1985).

[98] الرواية المرسلة في اصطلاح الفقهاء هي الرواية التي لم يذكر فيها اسماء جميع رجال سندها المتصل بالمصدر الاول للرواية.

[99] المحنة، مصدر سابق، ص 34 ـ 38.

[100] راجع الهامش رقم 18 من هذا البحث للاطلاع على المصدر.

[101] في مقابلة اجرتها مجلة الوطن العربي مع صدام (العدد 326 في 13 ـ 19 ايار 1983) سئل هذا السؤال:

«في حديث لكم نشر في مقدمة التقرير المركزي للمؤتمر القطري التاسع للحزب (قلتم) ان بعض القوى العميلة استطاعت التأثير في بعض الاوساط الكادحة المحسوبة على الثورة، فهل يمكن تسليط الضوء على هذه النقطة؟».

اجاب صدام: «انا اقصد بالتحديد حزب (الدعوة) العميل الذي استطاع ان يكسب بعض العناصر التي نعتبر انها يجب ان تكون جزءاً من الثورة».

[102] وردت هذه التسمية مثلا في شريط الفيديو ـ كاسيت الذي سجل عليه ما سمي باعترافات محي عبد الحسين المسجلة يوم 22/7/1979. وقد حاول صدام في هذه الجلسة التي ضمت الكادر المتقدم لحزب البعث بأسره ان يفسر ازاحة البكر عن منصبه بأنها تمت ضمن التقاليد والقيم العربية الاصيلة! والديمقراطية! وانه كان يتمنى لو يظل هو ورفاقه يحملون البكر على اكتافهم عندما يكبر، الا ان زلّة لسان وقع فيها صدام اوضحت حقيقة العلاقة بينه وبين البكر، حيث قال:

«وكان هذا اساس في ضمان استمرار ثورتكم حتى الآن بقائدين في قيادة واحدة. وهذا الاساس الخلقي هو اللي خلّه الرفيق ابو هيثم رغم رغبتنا في ان نظل نحمله على اكتافه، أ، اكتافنا الى الابد. اجبرنا في صيغته في التخلي مضطرين».

كان صدام اذن يتخذ من اكتاف البكر وسيلة يحمله البكر عليها والى الابد ـ اي يحمل اخطاءه على اكتاف شخص آخر ـ «زلة اللسان: نحمله على اكتافه ـ ثم استدرك ـ على اكتافنا).

[103] ذكر ذلك ابن خاله وزوج شقيقته الصحفي العراقي حسن العلوي. انظر ص 181 من كتابه العراق دولة المنظمة السرية.

[104] مقال لمجلة الاسبوع العربي (لبنان) بتاريخ 6/8/1979.

وينقل حسن العلوي (في كتابه، العراق دولة المنظمة السرية) تحريضاً لفسخ الوحدة بين العراق وسوريا، قام به جورج براون وزير خارجية حزب العمال البريطاني خلال زيارته للعراق في آذار 1979، (وكان جورج براون يقدم دائماً، استشارات شخصية لصدام حسين حيث يتحدثان في اجتماع مغلق في اغلب الاحيان وقد يحضر الاجتماع طارق عزيز فقط) (ص 93 من كتاب العلوي). ويضيف العلوي ان صداماً قد نقل ملاحظات جورج براون حول الوحدة مع سوريا، وقد سمعها هو وسمعها آخرون حيث يقول صدام ناقلا ملاحظات براون: (اذا كنتم تسعون للوحدة العربية فقد أخطأتم البداية. ان اتفاقكم مع سورية اكبر خطأ ارتكبته السياسة العراقية. لان سورية متورطة بلبنان وهي في حالة حرب دائمة مع اسرائيل، واقتصادها ضعيف. ومعنى هذا ان على العراق ان يرسل بقوات الى جانب قوات الردع السورية وان يتحمل مشكلات وجوده في لبنان، وان يكون في حالة الانذار الدائم لمواجهة اسرائيل وان يخصص نصف ميزانيته لانعاش الاقتصاد السوري وعشره الآخر رشاوى للسوريين.

قلت له ـ والكلام لصدام: وكيف ترى البداية اذن؟

قال براون: من الكويت). (العلوي: نفس الصفحة) ـ

[105] القرار ذو اثر رجعي كما هو واضح من قوله (ينفذ هذا القرار على الجرائم المرتكبة قبل صدوره..) وهو مخالفة صريحة للمادة (11) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تنص على (ان كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً الى ان تثبت ادانته قانوناً في محاكم علنية تكون قد وفرت له جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه). ومخالف حتى للفقرة (ب) من المادة (21) من الدستور العراقي المؤقت التي نصت على (لا جريمة ولا عقوبة ألا بناء على قانون، ولا تجوز العقوبة الا على الفعل الذي يعتبره القانون جريمة اثناء اقترافه) وهذا القرار ايضاً مخالف للمادة (15) من الاتفاقية الدولية الخاصة بالحقوق المدنية السياسية لعام 1966 التي وقعها النظام العراقي في 25/1/1971. انظر: الدكتور وليد الحلي، العراق، مصدر سابق، ص 287.

[106] كرر راديو صوت اميركا الناطق بالعربية نقل هذه التصريحات في 24/2/1995. (انظر: صحيفة الجهاد العراقية المعارضة 6/3/1995).

[107] انظر نص الوثيقتين في كتاب: مذابح الاخوان في سجون مصر، لجابر رزق، دار الاعتصام بمصر، الطبعة الاولى 1977، ص 13 – 14.

[108] عن التشابه الدقيق بين غارات قوات المظليين الفرنسيين على الجزائريين وبين غارات قوات الامن الجزائري في عهاد الحكومة العسكرية الحالية انظر مثلا مقال: حلف الناتو ينزع ورقة التوت في حربه ضد الاسلاميين المنشور في جريدة الجهاد العراقية المعارضة (6/3/1995) حيث نقلت عن صحيفة اللوموند الفرنسية (عدد 21/12/1994) مقطعاً من مقال بيقلم كاترين سيمون تحدثت فيه عن (المذابح الجماعية في الجزائر على مستوى واسع في دائرة مغلقة وصمت) قالت فيه: ان السلطات الجزائرية القت القبض على 36 شخصاً من قرية مستغنم كان من بينهم امرأة واعدمتهم وسط الشارع العام ورمت بجثثهم في حفرة چماعية. واضافت الصحيفة: ان السلطات قامت في شهر نوفمبر من العام نفسه بعرض 59 جثة على الطريق العام في مدينة البليدة لتحذير السكان الذين اعتبروا متعاطفين مع المتمردين الاسلاميين).

[109] مرر راديو لندن الناطق بالعربية في 10/2/1995، الحديث عن هذا الاقتراح (انظر: صحيفة الجهاد العراقية المعارضة 6/3/1995)

[110] حزب البعث العربي الاشتراكي: التقرير المركزي للمؤتمر القطري التاسع (حزيران 1982)، الصادر عن دار الحرية للطباعة ببغداد عام 1983، ص 291 ـ 292.

[111] نفس المصدر ص 292. بغض النظر عن الشتائم التي وجهها التقرير لحزب الدعوة مثل كونه (ذا صبغة طائفية وذا اتجاهات مشبوهة) فان الادعاء بضعف دور هذا الحزب في اوساط الشعب يتناقض مع تصريح صدام نفسه الذي نقلناه عن مجلة الوطن العربي (انظر الهامش 101 من هذا البحث) الذي اعترف فيه ان حزب الدعوة قد استطاع ان يكسب بعض العناصر في بعض الاوساط الكادحة.

[112] انظر النص الكامل للبرقية في كتاب (الامام الشهيد محمد باقر الصدر)، مصدر سابق، ص 376 ـ 379.

[113] يقصد نضال الثورة الاسلامية في ايران.

[114] كان النظام الملكي في ايران نظاماً رأسمالياً.

[115] انظر نص جواب السيد الصدر في كتاب الاسلام يقود الحياة الذي تضمن مجموعة بحوث له منها: لمحة تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية الذي ننشر مقطعاً منه هنا. وقد استغرق الصفحات 3 ـ 19 من الكتاب المذكور المطبوع بطهران عام 1403.

[116] قد ذكرنا النص بكامله فيما مضى. راجع عن مصدره الهامش (21) من هذا البحث.

[117] عن مصدر هذا النص، راجع الهامش (18) من هذا البحث.

[118] الاسلام يقود الحياة، مصدر سابق، ص 9 ـ 10.

[119] قلنا فيما مضى ان المعروف ـ وهو ما سرّب من بعض افراد الامنوالمخابرات ـ ان السيد الصدر واخته العلوية بنت الهدى قد استشهدوا تحت التعذيب بحضور صدام نفسه.

[120] نشرت نص حديثه صحيفة الثورة البغدادية في 24/11/1981. وعند ذكره للشهيد الصر قال: (المقبور الصدر).

[121] الامام الشهيد، مصدر سابق، ص 311.

[122] نفس المصدر ص 310.

[123] نفس المصدر ص 310.

[124] علق السيد محمد الحسيني مؤلف (الامام الشهيد) على هذه الروح الخلقية العالية المتجسدة في هذه العبارة بقوله: (هذا من اعلى درجات التفاني والاخلاص ونسيان الذات الذي لا يقدم عليه فاضل من علماء الدين فضلا عن ابرز مراجع الدين). (انظر ص 311 من كتابه).

[125] الدكتور وليد الحلي، العراق، مصدر سابق، ص 397 ـ 398 نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط (لنذن) في 20/4/1991.

[126] يرى البعض ان تقديم صدام للمحاكمة سيشكل ادانة ضمنية للدول الغربية التي دأبت على المجيء بحزب البعث الى السلطة في العراق بوصفه رأس حربه في مقاومة الشيوعية في الخمسينات وما بعدها، وفي مواجهة الاسلاميين الواسعة في السبعينات وما تلاها. ويرون ان وقوفه بوجه الاسلاميين هو السبب الذي يجعل الغرب حريصاً على ابقاء هذا الحزب وقائده صدام في السلطة، اضافة الى استخدامه وسيلة تهديد للدول العربية المجاورة لتواصل شراء الاسلحة من الدول الغربية وتطلب حمايتها مما يعزز وجود حلف شمال الاطلسي في المنطقة مما يعزز بالتالي وجود د ولة اسرائيل التي لا تخفى اهميتها الحيوية جداً بوصفها القاعدة الدائمة لحلف شمال الاطلسي في قلب المنطقة التي اريد لها ان تظل ملتهبة والى الابد.

[127] اعتمدنا في تلخيص الوقائع اعلاه على كتاب الامام الشهيد ص 312 ـ 317.

[128] نفس المصدر ص 318.

[129] انظر تفاصيل اوسع عن هذه الاحداث في كتاب الامام الشهيد 317 ـ 321.

[130] ما يزال استخدام القمع والتهديد بالاعتقال او الحرمان من الدراسة او الوظيفة هو الاسلوب المتبع لاجبار المواطنين على الانتماء لحزب البعث في العراق. بل ان العقوبات تطال الفرد البعثي الذي يبعث به الحزب الى موطن يحمل قناعة مخالفة لقناعات حزب البعث ثم لا يتمكن من اقناعه بالرأي الذي يتبناه الحزب وبالتالي ضمه الى صفوف حزب البعث. يقول صدام بهذا الصدد:

(في كل الحزب، من عضو فرقة فما فوق، ينبغي للحزب ان يرفع شعاراً بوضوح ودون خجل، تقول لجنة التنظيم: كل من نأتي له بمواطن يحمل قناعة مخالفة، ولا يستطيع ان يقنعه، لو كان هذا «البعثي» عضو شعبة او عضو فرقة، ينزل يصير عضو عادي «بالحزب». اي بمعنى ان يكون له «شخصى» واحد حتى يقنعه، حتى يقوده).

(من حديث له في شعبة منطقة المأمون لحزب البعث العربي الاشتراكي في 23/10/1987) وما بين اقواس «» اضافة لتوضيح المعنى اذ ان الحديث في الاصل هو بالعامية العراقية. ومجمل الكلام: ان كل عضو في حزب البعث يكلف بمسؤولية ضم مواطن عراقي غير مؤمن بحزب البعث، الى الحزب ثم يخفق في هذه المهمة، ينقل من درجته الحزبية الى عيز مؤمن بحزب البعث، الى الحزب ثم يخفق في هذه المهمة، ينقل من درجته الحزبية الى درجة اوطأ في الحزب. وعادة ما يصاحب هذه العقوبة الحزبية اجراءات مثل وضعه تحت المراقبة ومثل تكليفه بمهام قذرة كالقتل او القيام بتعذيب الموقوفين والسجناء في شعب مديريات الامن والمخابرات ليثبت اخلاصه وبالتالي ترضى عنه القيادة الحزبية فترقيه مرة اخرى الى درجة حزبية اعلى.

[131] بيت الشعر هو لأحيمر السعدي، من مخضرمي الدولتين الاموية والعباسية من قصيدة شهيرة مطلعها:

لئن طال ليلي بالعراق لربما***أتى لي ليل بالشآم قصير

ومنها البيت المقصود الذي اشارت اليه الشهيدة:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب أو عوى

وصوّت انسان فكدت أطير

[132] الامام الشهيد، مصدر سابق، ص 325 ـ 326 وذكر انه اعتمد في كتابة هذه المعلومات على كتاب (بطلة النجف) للسيدة ام فرقان ص 67و 72.

[133] توفي والده المغفور له السيد حيدر الصدر (1309 ـ 1356ه) وعمره 47 سنة.

كما استشهدت اخته بنت الهدى (1356 ـ 1400ه) معه في نفس اليوم وعمرها 44 سنة.

اما الشهيد الصدر (1353 ـ 1400ه) فكان له يوم استشهاده 47 سنة.

[134] المدرسة القرآنية: محاضرات سماحة الامام محمد باقر الصدر. بيروت 1400 ـ 1980 ص 257 ـ 258. والكتاب مجموعة محاضرات مسجلة على اشرطة كاسيت دونت بعد استشهاده وطبعت في كتاب مجموعها اربع عشرة محاضرة القاها بين 17 جمادى الاولى 1399 و 5 رجب 1399 هـ. المدرسة القرآنية: محاضرات سماحة الامام محمد باقر الصدر. بيروت 1400 ـ 1980 ص 257 ـ 258. والكتاب مجموعة محاضرات مسجلة على اشرطة كاسيت دونت بعد استشهاده وطبعت في كتاب مجموعها اربع عشرة محاضرة القاها بين 17 جمادى الاولى 1399 و 5 رجب 1399 هـ.

[135] الامام الشهيد ص 75.

[136] نفس المصدر، ص 72.

[137] نفس المصدر، ص 80.

[138] انظر نص الرسالة في كتاب الامام الشهيد ص 80-81.

[139] نفس المصدر، ص 80.

[140] انظر مجلة الامن والجماهير، مجلة فصلية علمية يصدرها مركز التطوير الامني، العدد (5) الصادر في كانون الاول 1981. وفي آخرها صفحة من المجلة وهي الصفحة 144 كتب: اشرف على الاصدار مكتب العلوم الاعلامية. وفي اسفل الصفحة: مطبعة مديرية الامن العامة.

[141] منذ اجتياح القات العراقية المأمورة بصورة مباشرة من صدام لاراضي الكويت في اب 1990، ثبت بالبرهان مدى حرص النظام العفلقي ببغداد على حماية البلدان العربية والاسلامية.

[142] لقد اغلقت السفارة وهذه المادرس منذ عام 1980 بأمر من الحكومة العراقية مومع ذلك ظل النظام ببغداد يتحدث عن عمليات عسكرية لحزب الدعوة وغيره من الاحزاب والحركات الاسلامية والوطنية.

[143] يبدو ان كلمة مثل (سانحة) قد سقطت من المقال عند طباعته، حيث الانسب هو (اعتبر الفرصة سانحة).